العالِم الأمريكي

(هذا هو خطاب في «بيتاكبا» الذي ألقاه أمرسن في هارفارد عام ١٨٣٧م، وقد قُوبل بحماسة شديدة.)

سيدي الرئيس، سادتي:

أحييكم في بداية عامنا الأدبي مرة أخرى. إن عيدنا السنوي عيدُ أمل، وربما لا يكون عيد عمل كافٍ. إننا لا نجتمع لاستعراض حذقنا لألعاب القوة وإثبات مهارتنا، أو لرواية التاريخ والمآسي والأناشيد كما كان قدماء الإغريق يفعلون، أو لمجالس الحب والشعر كما كان يفعل التروبادور، ولم نجتمع لدراسة تقدُّم العلوم مثل معاصرينا في العواصم البريطانية والأوروبية. لقد كانت عطلتنا حتى اليوم مجرد علامة ودية على بقاء حب الأدب في شعبٍ أكثرَ انشغالًا من أن يعطي الأدب أكثر من ذلك. ومِنْ ثَمَّ فإن للعطلة قيمتها كعلامة على مَيل لا يمكن القضاء عليه. وربما حان الوقت لوجوب تغيير هذا الميل، ولسوف يتغير. ربما حان الوقت لكي يتطلع العقل المتبلد في هذه القارة من تحت غطائه الحديدي ويحقق أمل العالم المنتظر بشيء أحسن من ممارسة المهارة الآلية. إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على عِلمٍ بلادٍ أخرى، يقترب من نهايته. إن الملايين من حولنا التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع دائمًا أن تعيش على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي؛ فهناك أحداث وأعمال تنشأ وينبغي أن نتغنَّى بها. ولربما أنشدت بنفسها. من ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الشعر سوف ينتعش وتكون له الصدارة في عصر جديد، كالنجم في مجموعة «هارب» الذي يشتعل الآن فوق سمت الرأس، والذي يصرِّح الفلكيون بأنه سوف يصبح النجم القطبي ذات يوم ويبقى كذلك ألف عام؟

بهذا الأمل أقبَلُ الموضوع الذي يبدو أن العادة، بل وطبيعة اجتماعنا هذا، قد كرست له هذا اليوم، وأعني بهذا الموضوع «العالِم الأمريكي». إننا نؤم هذا المكان عامًا بعد عام لكي نقرأ فصلًا جديدًا من تاريخ حياته، ولنبحثَ عن الضوء الذي ألقته الحوادث والأيام الجديدة على شخصيته وآماله.

من الأساطير القديمة التي تَنقِلُ إلينا من عهدٍ قديم غير معروف حكمةً غير منظورة أن الآلهة في بداية الأمر قد قسمت الإنسان إلى أناسي كي يكون أكثر عونًا لنفسه، كما انقسمت اليد إلى أصابع لكي تحسن أداء الغرض منها.

وهذه الأسطورة القديمة تشتمل على مبدأ دائم الجدة والسمو، وهو أن هناك «إنسانًا واحدًا» يوجد في كل فرد على حدة، إمَّا وجودًا جزئيًّا أو في إحدى كفاياته العقلية، ولا بد لك أن تأخذ الجماعة كلها لكي تجد هذا الإنسان كاملًا. ليس «الإنسان» مزارعًا أو أستاذًا أو مهندسًا، إنما هو كل ذلك. الإنسان قسيس وعالم ورجل دولة ومنتج وجندي. وفي حالة الاجتماع — أو حالة الانقسام — تتوزع هذه الوظائف على الأفراد، ويهدف كل منهم إلى أداء نصيبه من العمل المشترك، ويؤدي كلٌّ من الآخرين نصيبه كذلك. وترمي الأسطورة إلى أن الفرد لكي يملك نفسه يجب أحيانًا أن يعود من عمله الخاص لكي يحتضن كل الأعمال الأخرى. ولكن — لسوء الحظ — هذه الوحدة الأصيلة، هذا الينبوع من القوة، قد توزعت بين الجماهير، وانقسمت أجزاءً صغيرة وانتثرت، حتى باتت تتساقط قطرات لا يمكن جمعها. إن التجمع حالة يكابد فيها الأفراد البتر من الجذع، ويخطرون في مشيتهم مخلوقات شائهة، أصبع جيدة، أو رقبة، أو معدة، أو مرفق، ولكنه ليس البتة إنسانًا.

وهكذا يتحول الإنسان إلى شيء، أو إلى عدة أشياء؛ فالزارع — وهو الإنسان الذي يخرج إلى الحقول ليجمع الطعام — قلما يبتهج لأية فكرة عن كرامة مهنته. إنه يرى مكياله وعربته، ولا يرى غير ذلك، ثم يرتد فلاحًا، بدلًا من أن يرتد إنسانًا فوق الحقل. والتاجر قلما يقدِّر عمله قدْرًا رفيعًا، وإنما يخضع لسياق مهنته، كما تخضع روحه للمال. ويصبح القسيس صورة، ووكيل النيابة كتابًا من كتب القانون، والميكانيكي آلة، والبحَّار حبلًا من حبال السفينة.

وفي هذا التقسيم للوظائف يكون العالِم هو العقل المبعوث، وهو في وضعه الصحيح «الإنسان المفكر»، أمَّا في حالة التدهور حينما يكون فريسة للمجتمع، فإنه يميل إلى أن يتحول إلى مجرد مفكر، بل إلى أسوأ من ذلك، فقد يتحول إلى ببغاء يردد تفكيرَ غيره من الناس.

وفي وصفه ﺑ «الإنسان المفكر» تنحصر نظرية وظيفته. الطبيعة تحرِّكه بكل صورها الهادئة والصاخبة، والماضي يعلِّمه، والمستقبل يدعوه. أفليس كل إنسان حقًّا طالبَ علم، وهلا توجد الأشياء لفائدة طالب العلم؟ وأخيرًا، أليس العالِم الحق هو وحده السيد الحق؟ غير أن كاهنًا قديمًا قد قال: «لكل شيء يَدان، وحذارِ من اليد الخاطئة.» وفي الحياة كثيرًا ما يخطئ العالم مع البشر ويفقد ميزته. دعنا نشاهده في مدرسته، ونتدبر أمره بالإشارة إلى المؤثرات الرئيسية التي تؤثر فيه:

  • (١)

    إن أول هذه المؤثرات في العقل من حيث الزمن والأهمية هو الطبيعة، الشمس تشرق كل يوم، ثم بعد غروب الشمس يُقبِل الليل ونجومه. والريح لا ينقطع هبوبها، والعشب لا يتوقف نموه، وحديث الرجال والنساء يستمر كل يوم، يَشهدون ويُشاهدون. والعالِم من بين الناس جميعًا هو الذي يشغله هذا المنظر، ولا بد له من تقدير قيمته في عقله. ماذا تكون الطبيعة بالنسبة إليه؟ ليس لنسيج الله هذا المتصل المبهم أول ولا آخر، وإنما هو قوة دائرية تعود إلى نفسها دائمًا. وهو في هذا يشبه روح العالِم نفسه، التي لا يجد لها أوَّلًا أو آخرًا، فهي شاملة جِدًّا، ليس لها حدود. تسارع الطبيعة إلى أن تعرض نفسها على العقل كلما أشرق سناؤها، على نظام في إثر نظام، ينطلق كالأشعة إلى أعلى وإلى أسفل، ليس له مركز أو محيط، كتلة واحدة أو جزءًا جزءًا. ويبدأ التقسيم، فيرى العقل الصغير كل شيء مفردًا قائمًا بذاته. ثم يعرف بعد فترة كيف يصل بين شيئَين ويرى فيهما طبيعةً واحدة. ثم يصل بين ثلاثة أشياء، فثلاثة آلاف. وهكذا تتحكم فيه غريزة التوحيد، فيواصل ربط الأشياء بعضها ببعض، ويقلل مما بينها من فروق، ويكشف عن الجذور تمتد تحت الأرض فتربط بين الأشياء المتنافرة المتباعدة، وتزهر من ساق واحدة. وسرعان ما يعلم أنه كان هناك منذ فجر التاريخ استجماع وتصنيف دائم للحقائق. ولكن التصنيف ليس سوى الإدراك بأن هذه الأشياء ليست مشوشة وليس بعضها غريبًا عن بعض، وإنما لها قانون، هو كذلك قانون العقل البشري. يكتشف الفلكي أن الهندسة، وهي تجريد مطلق للعقل البشري، هي قياس حركة الكواكب. ويكتشف الكيمائي النِّسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العِلم سوى كشف التشابه والتطابق في أكثر الأجزاء تباعدًا. وتقف الروح الطموحة أمام كل حقيقة منفصلة، فتُخضع كل المركَّبات الغريبة وجميع القوى الجديدة، واحدة بعد الأخرى، إلى أصنافها وإلى قانونها، وتستمر كذلك إلى الأبد تبعث بالبصيرة الحياة في آخر خيط من خيوط النظام العام، في أطراف الطبيعة.

    وهكذا يلمح هذا الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة، أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، الصلة والتعاطف بينهما تهتزان في كل عِرق. وماذا عسى أن يكون الجذر؟ أليس هو روح روحه؟ يا لها من فكرة جريئة، وحلم شارد! ومع ذلك فإنه عندما يكشف هذا الضوءُ الروحاني قانونَ طبائع أرضية أخرى، أي بعدما يتعلم أن يعبد الروح وأن يرى أن الفلسفة الطبيعية الكائنة الآن ليست سوى تحسس الروح الأولى بيدها الضخمة، حينئذٍ يتطلع أمامه إلى معرفة دائمة التوسُّع كأنه يتطلع إلى خالق آتٍ. سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءًا بجزء، أحدهما الخاتم والآخر المختوم، جمالها جمال عقله. عندئذٍ تصبح الطبيعة لديه مقدار ما يحصله، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدْر من عقله الذي لا يملكه، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم «اعرف نفسك» والمبدأ الحديث «ادرس الطبيعة» في النهاية مبدأً واحدًا.

  • (٢)

    والمؤثر الكبير الثاني في روح العالم هو عقل الماضي، في أية صورة ينطبع هذا العقل، سواء في الأدب أو الفن أو النظم. والكتب خيرُ مثال لأثر الماضي، وربما أدركنا الحقيقة، وعرفنا مقدار هذا الأثر في سهولة أكثر، إذا تدبرنا قيمة الكتب وحدها.

    نظرية الكتب نظرية نبيلة. كان العالِم في العصر الأوَّل يتلقى في نفسه العالَم الذي حوله، ويتدبره، ثم يضفي عليه ترتيبًا جديدًا من عقله، ويعبِّر عنه ثانية. كان العالَم يَدخل في نفسه حياةً ويَخرج منه صدقًا، كان العالَم يأتيه حركات قصيرة المدى ويخرج منه أفكارًا خالدة، يأتيه عملًا ويصدر عنه شعرًا. كان حقيقة ميتة ثم أصبح فكرًا خاطفًا يستطيع أن يظهر ويستطيع أن يختفي. وهو مرة يثبت وأخرى يتبدد وثالثة يوحي. ويتناسب عمق العقل الذي تصدر عنه الأفكار تناسبًا دقيقًا والارتفاع الذي تحلق فيه هذه الأفكار وطول النغم الذي ترنمه.

    ولعلني أستطيع أن أقول إن الفكرة تتوقف على مدى ما تصل إليه عملية تحويل الحياة إلى صدق. وعلى قدْر كمال عملية التقطير يكون نقاء الإنتاج وصلابته. غير أنك لن تجد أحدًا كاملًا كل الكمال. وكما أن مضخة الهواء لا تستطيع البتة أن تخلق فراغًا كاملًا، فكذلك لا يستطيع الفنان حينما يكتب أن يستبعد البتة التقاليد المرعية أو اللون المحلي أو ما هو زائل، وهو أيضًا لا يستطيع أن يكتب كتابًا من الفكر الخالص، يكون له — من كل نواحيه — من الأثر على الأجيال البعيدة ما له على المعاصرين أو حتى على الجيل التالي. ولقد تبين أنه لا بد لكل عصر من أن يكتب كتبه، أو قل إن كل جيل يكتب للجيل التالي، فكُتُب العهد القديم لا تلائم هذا العهد.

    ومِنْ ثَمَّ ينشأ ضرر بليغ، فإن القداسة التي تتصل بعملية الإبداع وعملية التفكير تنتقل إلى ما يدوَّن. كان الشاعر ينشد فيشعر الناس أنه رجل مقدس، ومِنْ ثَمَّ كان إنشاده مقدَّسًا كذلك. وكان الكاتب روحًا عادلة حكيمة، ومِنْ ثَمَّ يتقرر كمال الكِتاب، ذلك لأن حب البطل يَفسد فيصبح عبادة تمثاله. ثم سرعان ما يصبح الكِتاب شرًّا وبيلًا، والكاتب مستبدًّا. إن فكر الجماهير خامل معوج، لا يغزوه العقل في يسر. فإن غزاه مرة واستقبل كتابًا من الكتب، تراه يتشبث به، ويصيح إذا أُسيء إليه. وعلى هذا الكِتاب تقوم الكليات الجامعة، وعليه يضع المفكرون الكتب، ولا أقول «الإنسان المفكر»، وإنما أقصد ذوي المواهب الذين يبدءون بداية خاطئة، وينطلقون من المذاهب الثابتة، لا من رأيهم الخاص في المبادئ العامة. وينشأ الشباب الذليل في المكتبات، وهم يعتقدون أن من واجبهم أن يقبلوا الآراء التي أدلى بها شيشرون ولوك وباكون، ناسين أن شيشرون ولوك وباكون إنما كانوا شبابًا في المكتبات عندما ألَّفوا هذه الكتب.

    ومِنْ ثَمَّ فبدلًا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قُرَّاء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب الذين يقيمون للكتب وزنًا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان، ولكن لأنها تكوِّن مع العالَم والروح ثالوثًا متباعد الأطراف. ومِنْ ثَمَّ يظهر أولئك الذين يردُّون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم.

    الكتب خيرُ الأشياء إذا أُحسن استعمالها، أمَّا إذا أُسيء فهي من شر الأمور. ما هو الاستعمال الصحيح؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخيرٌ لي ألا أرى كتابًا من أن تضللني جاذبيته عن مجالي ضلالًا مبينًا، أو أن أصبح تابعًا بدلًا من أن أكون صاحب رأي مستقل. إن الشيء الوحيد الذي له قيمة في العالم هو الروح الفعالة، وكل إنسان جدير بها، وكل إنسان يضمها في دخيلته، وإن قامت أمامها العقبات فلم تُولد عند أكثر الناس. الروح الفعالة ترى الحق المطلق وتنطق الحق، أو تبتدع. وهي في هذا العمل موهبة، وليست ميزة يختص بها هذا الرجل المعزز أو ذاك، ولكنها ملك خالص لكل إنسان، وهي في صميمها تقدمية. والكتاب والكلية ومدرسة الفن وأي نوع من أنواع النُّظم، كل هذا ينتمي إلى ما تفوَّه به قديمًا نابغةٌ من النوابغ. يقولون: هذا حسن، دعنا نتمسك به، إنهم بذلك يحنقونني، لأنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام. ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فإن عينَي الإنسان في مقدمة رأسه وليستا في مؤخرته. الإنسان يأمل، والعبقرية تخلق. ومهما تكن المواهب فإن الإنسان إذا لم يخلق لا يكون النور الإلهي الخالص ملكًا له. وقد يكون لديه رماد ودخان، ولكن لن تكون لديه شعلة النار. وهناك آداب خالقة، وأعمال خالقة، وكلمات خالقة، أي هناك آداب وأعمال وكلمات لا تدل على عادة أو سلطان، ولكنها تنبع تلقائيًّا من إحساس العقل نفسه بالخير والعدل.

    ومن ناحية أخرى، فبدلًا من أن يرى العقل بنفسه، تراه يتقبل الصدق من عقل آخر، كأنه في فيض من النور، بغير فترات من العزلة أو البحث أو استجمام النفس، وحينئذٍ يتحقق ضرر قاتل؛ ففي عبقرية الفرد دائمًا عداءٌ كافٍ لعبقرية فرد آخر، وذلك بتأثيرها الزائد. ويؤيدني في ذلك الأدب في جميع الأمم، فإن شعراء الدراما الإنجليز قد ترسموا أثر شكسبير حتى اليوم مائتَي عام.

    وليس من شك في أن هناك طريقة صحيحة للقراءة بحيث تصبح خاضعة للقارئ خضوعًا شديدًا. ولا ينبغي «للإنسان المفكر» أن يخضع لأدواته. إنما الكتب لتزجية فراغ العالِم؛ فإنه إن استطاع أن يطالع الله رأسًا عزَّ وقته فلا ينبغي أن يُنفَق فيما دوَّنه الآخرون من مطالعاتهم. ولكن إذا ما حان حين الظلام، ولا بد أن يحين — عندما تختفي الشمس وتسحب النجوم ضياءها — نعود إلى المصابيح التي أُشعلت من أشعتها لكي نرشد خطانا صوب «الشرق» مرة أخرى حيث مطلع الفجر. ونتسمع لكي نستطيع أن ننطق. وفي ذلك يقول المثل العربي ما معناه: «إن شجرة التين إذا أطلت على شجرة للتين أخرى أثمرت.»

    ما أعجب لون السرور الذي نستمده من خير الكتب. إنها تحملنا على أن نعتقد أن الكاتب والقارئ من طبيعة واحدة؛ فنحن نقرأ ما نظَمه أحد كبار شعراء الإنجليز، مثل شوسر، أو مارفل، أو دريدن، بأحدث سرور، أقصد إننا نقرؤه باستمتاعٍ ينشأ إلى حد كبير عن تجريد «الزمان» كله من نَظمهم. ويمتزج سرور الدهشة بشيء من الرهبة حينما نجد أن هذا الشاعر الذي عاش في عالم قديم منذ مائتَي أو ثلاثمائة عام يعبِّر عما يقع قريبًا من روحي، أو عما فكرت فيه وعبَّرت عنه أنا كذلك منذ وقت قريب. ولولا ما قدمنا من دليل على المذهب الفلسفي الذي يقول بوحدة جميع العقول لافترضنا ثبوت نوع من أنواع الانسجام بين الأرواح قديم، أو لون من الألوان بعد النظر عند الأرواح من عهد بعيد، وضرب من ضروب إعداد المؤن لحاجات المستقبل، كالذي نشاهد بين الحشرات التي توفر الطعام قبل موتها للديدان الصغيرة التي لن تراها.

    ولن يعجل بي حب أي نظام عام، أو المبالغة في الغرائز، إلى الحط من قيمة «الكِتاب»؛ فكلنا يعلم أنه كما يتغذى جسم الإنسان بأي طعام حتى إن كان عُشبًا مغليًّا ومرق الأحذية، فكذلك عقل الإنسان يتغذى بأي لون من ألوان المعرفة. وقد ظهر رجال عظماء أبطال لم تكد تبلغهم معرفة إلا عن طريق الصحف المطبوعة. إنما أقول إن استساغة هذا الطعام تتطلب عقلًا قويًّا؛ فلكي تحسن القراءة يجب أن تكون منشئًا، أو كما يقول المثل: «من يريد أن يجلب لبيته ثروة جزر الهند لا بد أن يبذل جهدًا للحصول على ثروة جزر الهند.» فهنالك إذن قراءة منشئة، كما أن هناك كتابة منشئة. حينما يقوى العقل بالعمل والاختراع تصبح صفحة أي كتاب نقرأ مضيئة بالإشارات العديدة. وتتضاعف دلالة العبارة الواحدة، ويتسع فهم المؤلف اتساع العالَم. حينئذٍ نرى ما هو حق دائمًا، نرى أنه كما أن الساعة من رؤيا الرائي قصيرة نادرة في خضم الأيام والشهور، فكذلك تدوينها ربما كان أقل جزء من أجزاء مجلده. وبعيد النظر هو الذي يقرأ في أفلاطون أو شكسبير ذلك الجزء القليل فقط، أي تلك الكلمات الأصيلة التي ينطق بها المُلهَمون، أمَّا ما عدا ذلك فإنه ينبذه، حتى إن كان لأمثال أفلاطون وشكسبير.

    وهناك جانب من القراءة بطبيعة الحال لا غنَى عنه البتة للرجل الحكيم. لا بد له من دراسة التاريخ والعلوم الدقيقة عن طريق القراءة الشاقة. وللكليات كذلك وظيفتها التي لا غنَى عنها، وهي أن تعلِّم المبادئ، ولكنها لا تؤدي لنا خدمة رفيعة إلا إذا لم يكن هدفها التدريب وإنما الإنشاء، وذلك حينما تجمع من بعيد كل شعاع من أشعة العبقرية المتنوعة إلى موئلها الذي يحسن استقبالها، ثم تشعل قلوب الشباب من هذه النيران المتجمعة. فالفكر والمعرفة من الطبائع التي لا يجديها جهاز أو ادعاء. وثياب العلماء والأسس المالية، حتى إن كانت مدائن من ذهب، لا تعوِّض أقل عبارة أو كلمة ينم عنها الذكاء. فإذا ما نسينا ذلك تأخرت جامعاتنا الأمريكية في أهميتها العامة، مع ازدياد ثروتها عامًا بعد عام.

  • (٣)

    تسود الجميع فكرة تقول بأن العالِم ينبغي أن يكون ناسكًا، أو كأنه مريض في دور النقاهة، لا يصلح لأشغال يدوية أو أعمال عامة، كما لا تصلح المِبْراة أن تكون فأسًا. إن مَن نسميهم «رجالًا عمليين» يهزءون بالرجال المتأملين، كأنهم — لأنهم يتأملون أو ينظرون — لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا. ولقد نمى إليَّ أن رجال الدين، وهم دائمًا أكثرُ من أي طبقة أخرى في العالَم، علماء يومهم، يحبون الخطاب الرقيق، ولا يستمعون إلى حديث الرجال الجاف التلقائي، وإنما يستمعون إلى الحديث الأنيق الخفيف، إنهم كثيرًا ما يُحرمون فعلًا من حقهم في الانتخاب، وهناك في الواقع مَن يدافع عن عزوبتهم. وليس من العدل والحكمة أن يَصْدُق ذلك على الطبقات المولعة بالدرس. وإن كان العمل للعالِم ثانويًّا فهو ضروري، وبدونه لا يكون رجلًا، وبدونه لا ينضج الفكر فيثمر الحق. وما دامت الدنيا تبدو للعين كأنها سحابة من الجمال، فإننا لا نستطيع أن نرى حتى جمال الدنيا. إن عدم العمل جبن، ولا يمكن أن يكون هناك عالِم بغير العقل العامل الجريء. إن مقدمة التفكير، أو التحول الذي يمر به الفكر من اللاشعور إلى الشعور، هو العمل؛ فالمرء لا يعرف إلا بمقدار ما يعيش. وبذلك تعرف في الحال من الذي كلماته محملة بالحياة، ومن الذي كلماته فارغة.

    إن الدنيا — أو هذا الظل للروح، أو نفسي الأخرى — واسعة حولي، ومفاتنها هي المفاتيح التي تفتح أفكاري وتعرِّفني بنفسي. وإنني لأعدو بشغف في هذا الضجيج الذي يرن صداه، وإني لأمسك بأيدي جيراني وأتخذ مكاني في حلقة الناس لكي أكابد ولكي أعمل، وقد علمتني غريزتي أن الهوة الصامتة يمكن أن يرن في أرجائها الكلام. إنني أخترق نظام العالم، وأبدِّد مخاوفه، وأتصرف فيه في حدود دائرة حياتي الممتدة. وعلى قدْر ما أعرف عن الحياة بالخبرة فقط، يكون مدى القفر الذي أغزوه وأستنبته، أو يكون مدى وجودي أو مجال نفوذي. ولست أفهم كيف يستطيع أي إنسان، من أجل أعصابه وراحته، أن يتخلى عن أي عمل يستطيع أن يسهم فيه. العمل هو اللؤلؤ والعقيق في حديث المرء. وإن الكد والكوارث والسخط والحاجة لَتُعَلِّم الإنسان شيئًا من الفصاحة والحكمة. والعالِم الحقيقي هو الذي يحقد على كل فرصة للعمل لا يستغلها كأنها نقص في نفوذه؛ فالعمل هو المادة الخام التي يصوغ العقل منها إنتاجه العظيم. وإنها لعملية غريبة أيضًا، تلك التي تتحول بها الخبرة إلى فكرة، كما تتحول ورقة التوت إلى الحرير الأطلس. وإنها لصناعةٌ تطَّرد في سيرها في كل حين.

    إن الأعمال والحوادث في طفولتنا وشبابنا هي اليوم موضوعات للتأمل العميق، وإنها لتبدو كالصور الحسناء في الهواء. وليس الأمر كذلك في أعمالنا التي تمت من عهد قريب، أي في العمل الذي نشغل به اليوم أيدينا، فإننا في هذا العمل عاجزون كل العجز عن التأمل؛ لأن عواطفنا ما برحت تتخلله، فلا نحسه أو نعرفه أكثر مما نحس بالقدمَين أو اليدَين أو الذهن في أجسامنا. العمل الجديد لا يزال جزءًا من حياتنا، وهو يبقى فترة غائصًا في حياتنا اللاشعورية. وفي ساعة من ساعات التأمل ينفصل هذا العمل عن الحياة كما تنفصل الثمرة الناضجة، لكي يصبح فكرة في العقل. فالعمل يرتفع في لحظة وتتغير صورته، وما كان عرضة للفساد يصبح شيئًا لا يقبل الفساد، ويصير بعدئذٍ شيئًا جميلًا مَهْمَا يكن منشؤه وبيته. ثم لاحظ كذلك استحالة وقوع ذلك قبل الأوان. إن تحوُّل العمل إلى الفكرة يمر بمرحلة كالتي تمر بها الدودة، التي لا تستطيع الطيران ولا تستطيع الإضاءة، إنما هي دودة ثقيلة، ولكنها فجأة، ودون أن نلحظ عليها ذلك، تتفتح عن أجنحة جميلة، وتصبح ملاكًا من ملائكة الحكمة. وكذلك ليست هناك واقعة، وليس هناك حادث، في تاريخنا الخاص، لا يفقد — إن عاجلًا أو آجلًا — صورته المائعة الساكنة، ويذهلنا بالانفصال عن حياتنا ليصبح ذكرى. لقد ولَّى المهد وولَّت الطفولة والمدرسة واللعب وخوف الصبية، والكلاب والمقرعة، وحب الفتيات والتوت، وحقائقُ أخرى كثيرة كانت في وقتٍ من الأوقات تملأ السماء كلها. وكذلك الصديق والقريب، والمهنة والحزب، والمدينة والريف، والأمة والعالم، كل ذلك لا بد أن يمضي ويتلاشى ثم يستحيل نشيدًا.

    وإن من يضع كل قوَّته في أعمالٍ مناسبة تعود إليه الحكمة — بطبيعة الحال — كأغلى ما تكون. إنني لن أحبس نفسي بعيدًا عن دنيا العمل هذه، وأنقل السنديانة إلى آنية الزهر، لتجف فيها وتذبل. ولن أثق فيما تجلبه لي موهبة وحيدة، وأرهق وترًا واحدًا من أوتار الفكر، فأكون أشبه بأهل سافوي الذين كانوا يحصلون على عيشهم بنحت تماثيل الرعاة والراعيات والهولانديين وهم يدخنون لكل أنحاء أوروبا، فلما قصدوا الجبل ذات يوم للبحث عن الخشب اكتشفوا أنهم قد قطعوا آخر شجرة من أشجار الصنوبر ليحرقوها. لدينا مؤلفون عديدون استنفدوا قدرتهم على الكتابة، ثم دفعتهم حكمة حميدة فأقلعوا إلى بلاد اليونان وفلسطين، أو اقتفَوا أثر الصائد في المروج، أو تجولوا حول بلاد الجزائر؛ لكي يزودوا أنفسهم بالبضاعة الرائجة.

    لو أن العالِم لا يقصد إلا التعابير فإنه لا بد يتشوق إلى العمل؛ فالحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق السنين لو أنفقتها في العمل بالريف، أو بالمدينة، أو في تبصُّر الحِرَف والصناعات، أو في الاتصال الخالص بالرجال والنساء، أو في العلم، أو الفن، وذلك لغرض واحد هو إتقان لغة نوضح بها ونصوغ فيها آراءنا في حقائق هذه الأشياء جميعًا. وإنني لأعرف في الحال مِنَ المتكلم مقدار ما أصاب من معيشة، وذلك من خلال حديثه التافه أو العظيم. إن الحياة تكمن خلفنا كأنها المحجر الذي نحصل منه على الآجر والحجارة لما نشيده اليوم. وبذلك نتعلم قواعد اللغة. أمَّا الكليات والكتب فهي تكتفي بأن تحاكي اللغة التي صنعها الحقل وميدان العمل.

    بَيْدَ أن قيمة العمل النهائية — شأنها في ذلك شأن قيمة الكتب بل أكثر من قيمة الكتب — هي أن العمل مورد من الموارد. إن القانون العظيم للتراوح في الطبيعة، الذي يتبدى في شهيق الأنفاس وزفيرها، وفي الاشتهاء والاكتفاء، وفي مد البحر وجزره، وفي الليل والنهار، وفي الحرارة والبرودة، ذلك القانون الذي يكون أشد انطباعًا في كل ذرة وكل سائل، إنما نَعرِفه باسم «الاستقطاب»، وهذه «النوبات من الانتقال السهل والانعكاس اليسير» — كما عبَّر عنها نيوتن — هي قانون الطبيعة، لأنها قانون الروح.

    يفكر العقل مرة، ويعمل مرة أخرى، وكل نوبة تبعث الأخرى. عندما يستنفد الفنان أدواته، فلا يصور خياله، وعندما يكفُّ عن فهم الأفكار وتصبح الكتب مملولة، فإن لديه دائمًا مورد «الحياة». والشخصية أسمى من العقل. التفكير هو الوظيفة، والعيش هو صاحب الوظيفة، والتيار يتراجع إلى منبعه، والروح العظمى تقوى على العيش كما تقوى على التفكير. وهل تنقصها الأداة أو الوسيط لإذاعة ما لديها من حقائق؟ إنها تستطيع أن تركن إلى هذه القوة المبدئية، وهي قوة العيش وفقًا لهذه الحقائق. وإن هذا لعمل كلي، في حين أن التفكير عمل جزئي. حينئذٍ يشرق على الروح جلال العدالة. ويبهج جمال المحبة مأواها، فإن أولئك «البعيدين عن الشهرة» الذين يقطنون ويعملون معها، سوف يحسون قوة بنائها في أعمال يومها وما يمر بها فيه، وذلك خير من أن يُقاس هذا البناء بالتظاهر أمام الجمهور تظاهرًا مقصودًا. إن الوقت سوف يُعلم صاحب هذه الروح. إن العالِم لا يضيع الساعة التي يحياها كرجل؛ ففي هذه الساعة يكشف عن غرائزه التي تشبه الجواهر المقدسة، ويبعدها عن المؤثرات، وما يفقده في التظاهر يكسبه في القوة. إن أولئك الذين أرهقت نُظم التربية ثقافتهم لا يظهر من بينهم ذلك العملاق الذي يعين على هدم القديم وبناء الجديد، وإنما يخرج هذا العملاق من الطبيعة الوحشية التي لم تُلوَّث قط، إنما يخرج ألْفرَد وشكسبير في النهاية من المحارب النوردي الهمجي المتهور، ومن الكاهن الكلتي في بلاد الغال القديمة وبريطانيا.

    ولذا فإني أستمع بسرور إلى كلِّ ما بدأ الناس يذكرون عن كرامة العمل وضرورته لكل مواطن. فلا تزال للفأس والمِعول فضيلتهما لأيدي المتعلمين وغير المتعلمين على السواء. مرحبًا بالعمل في كل مكان، إننا دائمًا نُدعى إليه، ولكن علينا أن نلاحظ هذا الشرط: وهو أن الرجل لا ينبغي له من أجل اتساع نطاق العمل أن يضحي بأية فكرة في سبيل أحكام العامة وأساليب العمل.

تحدثت الآن عن تربية العالِم عن طريق الطبيعة، وعن طريق الكُتب، والعمل، وبقي أن أقول شيئًا عن واجباته.

إنها الواجبات التي تلائم «الإنسان المفكر»، ويمكن أن تشملها كلها الثقة في النفس. وظيفة العالِم هي أن يُدخِل البهجة في نفوس الناس، ويعلو بهم، ويرشدهم، وذلك بأن يوضح لهم الرشد من الغي. إنه يثابر على القيام بالملاحظة البطيئة التي لا تجلب شرفًا ولا مالًا. إن فلامستيد وهرشل في مراصدهما البلورية يستطيعان أن يقرآ النجوم بما يسر الناس جميعًا، وهذه النتائج العظيمة النافعة تكفل لهما الشرف الرفيع. ولكن العالِم في مرصده الخاص، وهو يحسب نجوم العقل البشري المعتمة المظلمة التي لم يفكر فيها قبل اليوم إنسان، وهو يرقب بضع حقائق أيامًا وشهورًا في بعض الأحيان، مصححًا سجلاته القديمة، هذا العالِم لا بد له من نبذ التظاهر والشهرة المباشرة. وفي خلال فترة استعداده الطويلة لا بد له غالبًا من أن يفضح جهلًا وجمودًا في الفنون الشعبية، فيجلب على نفسه ازدراء القادرين الذين ينحونه جانبًا. ولا بد له من التعثر طويلًا في كلامه، وكثيرًا ما يهجر الأحياء إلى الأموات. وأسوأ من هذا، أنه لا مناص له من قبول الفقر والعزلة، وما أكثر ما يفعل ذلك! وإنه ليستعيض عن السهولة والمتعة في طَرْق الطريق القديم، وقَبول الطراز السائد وما تتبعه الجماعة في التربية والدين، يستعيض عن ذلك بما ينشئه لنفسه، وإنه ليصبح من أجل ذلك هدفًا بطبيعة الحال لاتهام النفس وضعف القلب، والشك في قيمة الوقت وضياعه في كثير من الأحيان، وهي أمور كالحشائش والكروم المعقدة تعترض سبيل الاعتماد على النفس والتوجيه الذاتي، كما يستهدف لخصومة حقيقية يبدو فيها عدو المجتمع وبخاصة المتعلمون منه. وماذا يقابل كل هذا الخسران والازدراء؟ إنه يجد عزاءه في ممارسة أعلى وظائف الطبيعة البشرية. إنه رجلٌ يسمو بنفسه عن الاعتبارات الخاصة ويتنفس ويعيش على الآراء المشرقة العامة. هو عين العالَم، وقلبه. إنه يقاوم الرفاهية الدنيئة التي تعود بنا دائمًا نحو البربرية، وذلك بنقله مشاعرَ البطولة والسِّيَر النبيلة، وعذب الشعر، وعبْر التاريخ، وكل حكمة عبَّر عنها قلب الإنسان في كل ظرف طارئ وكل ساعة رهيبة، تعليقًا على عالم الأعمال، كل حكمة من هذا القبيل يتلقاها العالِم ويُعلِّمها غيره، وكل حكم جديد ينطق به العقل من كرسيه الحصين على ما يمر اليوم من رجال وأحداث، كل حكم من هذا القبيل يصغى إليه ويصوره.

ولما كانت هذه هي وظائف العالم، فجدير به أن يستشعر كل الثقة في نفسه، وألا يذعن أبدًا لصوت الجماهير؛ فهو وحده الذي يعرف العالَم. والعالَم في أية لحظة من اللحظات ليس إلا مظهرًا. والعمل الذي يكون له بريق، أو الحكومة التي يقدسها الشعب على غير أساس، أو الصناعة الزائلة، أو الحرب، أو الإنسان، هذه أمور قد يؤيدها نصف البشر وقد يعترض عليها النصف الآخر، كأن كل شيء يتوقف على هذا التأييد أو ذاك الاعتراض. والأرجح أن الموضوع كله لا يستحق أدنى تفكير ينفقه العالِم في الإصغاء إلى الجدل. وعلى العالِم ألا يتخلى عن عقيدته في أن البندقية الفارغة لا تعدو أن تكون بندقية فارغة، حتى إن أكد لنا القدامى والأشراف في هذه الأرض أنها تنطلق فتقضي على الدنيا. ليثق العالِم في نفسه، في صمت وثبات وتجرُّد مطلق، وليضم ملاحظة إلى أخرى، صبورًا على إهمال الناس له، وعلى لومهم إياه، ويترقب الوقت لنفسه، ويكفيه سعادة أنه يستطيع أن يقنع نفسه وحده أنه في هذا اليوم قد شاهد شيئًا ما على حقيقته. وإن النجاح ليحدو خطوة صحيحة؛ لأن الغريزة التي تدفعه إلى أن يخبر أخاه بما يرى غريزة صادقة، وسوف يدرك بعد ذلك أنه حينما يغوص في أسرار عقله إنما يهبط إلى أسرار العقول جميعًا. وإنه حينما يتحكم في أي قانون من قوانين فكره الخاص، إنما يتحكم في جميع الناس الذين يتحدث بلغتهم، وفي جميع من يتكلمون لغة يمكن أن تُترجم إليها لغته؛ فالشاعر الذي يذكر في عزلته التامة أفكاره التلقائية فيدونها، إنما يدوِّن ما يجده الناس في المدائن المزدحمة حقًّا لديهم كذلك. والخطيب يرتاب أول الأمر في صلاحية اعترافاته الصريحة، وفي نقص علمه بالأشخاص الذين يخطبهم، حتى يجد أنه متمم لسامعيه، وأنهم يستقون من كلماته لأنه يعبِّر عن طبيعتهم نيابة عنهم. وكلما اشتد غوصه في خوالجه الخاصة الدفينة يشتد عجبه حينما يجد أن ذلك هو أشد الأمور قبولًا، وأكثرها شيوعًا، وأصدقها عند الناس أجمعين؛ فالناس يسرون منها، ويشعر الجانب الطيب في كل إنسان أن هذه هي موسيقاه وتلك هي نفسه.

وتشتمل الثقة في النفس على جميع الفضائل؛ فالعالِم يجب أن يكون حُرًّا وجريئًا. يجب أن يكون حرًّا على حد تعريف الحرية «دون عائق لا يصدر عن نفسه»، وجريئًا لأن الخوف شيء يخلفه العالِم وراءه بحكم وظيفته؛ لأن الخوف دائمًا ينشأ عن الجهل. وعار عليه إذا كان هدوءُه، في الأوقات العصيبة، ناشئًا عن افتراضه أنه من الطبقات المحمية، كالأطفال والنساء، أو إذا كان يبحث عن السلام المؤقت بتحويل أفكاره من السياسة أو الموضوعات الشائكة، مخفيًا رأسه كالنعامة في الشجيرات المثمرة، ناظرًا في مناظيره المكبرة، أو ناظمًا للشعر، كما يصفر الطفل لكي يحتفظ بشجاعته. فالخطر لا يزال هو الخطر، والخوف أسوأ. وإنما يجب عليه أن يلتفت إليه ويجابهه كما يفعل الرجال. وليحدق في عين الخطر ويبحث عن طبيعته، ويفحص أصله — ويرى منبت هذا الأسد — الذي لا يبعد وراءه كثيرًا. سوف يجد في نفسه حينئذٍ إدراكًا كاملًا لطبيعته ومداه، ولسوف تلتقي يداه في الناحية الأخرى. ومِنْ ثَمَّ يستطيع أن يتحداه ويمر به في استعلاء. إنما الدنيا لمن يستطيع أن يخترق مزاعمها بالنظر. وما ترى من صمم ومن عادة عمياء ومن خطأ متفاقم إنما مرده إلى رضا المرء باحتماله، فإن نظرت إلى ذلك على أنه أكذوبة، فقد قضيت عليه بضربة لازب.

أجل، إنما نحن الأذلاء، نحن الذين لا نثق في أنفسنا، وإنها لفكرة شريرة تلك التي تزعم أننا قد قَدِمنا إلى الطبيعة متأخرين، وأن العالم قد تم منذ زمان بعيد. وكما أن الدنيا كانت مرنة سائلة في أيدي الله، فهي كذلك دائمة في كثير من الصفات التي نجلبها لها، إنها كحجر الصوان عند الجاهلين والخاطئين، فأولئك ينصاعون لها ما أمكنهم ذلك، ولكن بمقدارِ ما في المرء من قداسة يخضع الكون له، ويتخذ طابعه وصورته. وليس عظيمًا من يستطيع أن يغير المادة، وإنما العظيم من يستطيع أن يغير حالتي العقلية: إنما عظماء العالم هم الذين يُضفون لون تفكيرهم الراهن على الطبيعة كلها وعلى الفن كله، ويحملون الناس بمعالجتهم الأمر في جد وانشراح على أن هذا الذي يعملون هو بمثابة التفاحة التي كانت العصور الماضية تتوق إلى قطفها، والآن تم نضجها، وهي تدعو الأمم إلى جنيها؛ فالرجل العظيم هو من يحقق الأمر العظيم. فأينما يجلس «ماكدونالد» يكون رأس المائدة. ولقد جَعل «لِنَاوُس» عِلم النبات أكثر الدراسات تشويقًا، واكتسب ذلك من الفلاح والمرأة التي تجمع العشب، وكذلك فعل «ديفي» بالكيمياء، و«كوفير» بالحفريات. إنما يكسب اليوم من يعمل فيه بجد ولأغراض سامية، ويظفر بتقدير الناس — الذي لا يستقر على حال — من امتلأ عقله بالصدق، ويتراكم له التقدير كما تتراكم أمواج الأطلانطي في إثر القمر.

والسبب في دعوتنا إلى الثقة بالنفس أعمق من أن يسبر غوره، وأظلم من أن يستنير. وربما لا أستطيع أن أظفر بمشاعر المستمعين إليَّ عندما أصرِّح لهم بعقيدتي. ولكني قد أبنت لكم أساس آمالي، وذلك عندما نبهت إلى المذهب القائل بوحدة الإنسان. وإني أعتقد بأن الإنسان قد أُسيء إليه، أو أنه قد أساء إلى نفسه، وكاد أن يفقد النور الذي يمكن أن يرده إلى ما تميز به. ولم يعد للناس وزن؛ فهم في التاريخ، وهم في عالم اليوم كالهوام أو بيض السمك، ويُسمون «الجموع» أو «القطيع». وفي كل قرن، أو في كل ألف عام، يظهر رجل واحد أو رجلان، أعني واحدًا أو اثنين، يقربان من الحالة الصحية التي ينبغي أن يكون عليها كل إنسان، وكل من عداه أو عداهما يرى في البطل أو في الشاعر وجوده الساذج البدائي في حالة النضوج. أجل، وإنه ليرضى أن يكون أقل من ذلك، لكي يتم لذلك البطل نموه. ويا له من دليل، ينم عن المجد ويدعو إلى الحسرة، ذلك الدليل الذي يقدمه — ليلبي حاجة نفسه — الرجلُ الفقير في القبيلة، أو العضو المعدِم في الجماعة، حينما يبتهج للمجد يظفر به زعيمه. في ذلك يجد الفقير والوضيع شيئًا من العِوض لكفايتهما المعنوية الهائلة، عوضًا عن هبوطهم إلى الحضيض في معترك السياسة والاجتماع. لقد رضوا لأنفسهم أن يُزالوا كالذباب من طريق الرجل العظيم كي يمكِّنوا له من إقامة العدل لتلك الطبيعة المشتركة التي يتوق الناس جميعًا إلى أن يروها معظمة ممجدة. إنهم يستدفئون بالحرارة المنبعثة من الرجل العظيم، ويشعرون بأن هذه الحرارة أو ذلك الضوء من إشعاع أنفسهم. إنهم ينبذون كرامة الإنسان من نفوسهم الذليلة ليضعوها على أكتاف البطل، وإنهم ليقضون نحبهم لكي يضيفوا قطرة من دماءٍ ينبض بها ذلك القلب الكبير، وتجعل تلك الأعصاب الجبارة تقاتل وتنتصر. هذا الرجل العظيم يعيش لنا، ونعيش فيه.

والناس — كما هم — من الطبيعي جِدًّا أن يطلبوا المال والنفوذ، وإنما يطلبون النفوذ لأنه بمثابة المال، أو غنيمة الوظيفة كما يُقال. ولمَ لا؟ فهم يتطلعون إلى ذروة العلا، وهذا في أحلام يقظتهم ما يعتقدون أنه ذروة العلا. أيقظهم يتخلوا عن هذا الخير الزائف ويقفزوا إلى الحقيقة، ويتركوا الحلم للكَتَبة والمكاتب. ويمكن إشعال هذه الثورة بترويض فكرة الثقافة تدريجًا. إن أهم ما يصبو إليه العالَم لبلوغ المجد واتساع الأفق هو بناء الإنسان. وها هي ذي مواد البناء ملقاة على الأرض. إن الحياة الخاصة لرجل واحد سوف تكون مملكةً أبهى سناءً وأشد ذعرًا للعدو، وأحلى وأجدى نفوذًا للصديق، من أية مملكة في التاريخ؛ لأنك إن أنعمت النظر إلى الرجل ألفيته ينطوي على الطبائع الموزَّعة على الناس جميعًا. وكل فيلسوف وكل شاعر وكل ممثل قد أدى لي نيابة عني ما أستطيع ذات يؤم أن أؤديه لنفسي. والكتب التي كُنَّا فيما مضى نقوِّمها كما نقوم إنسان العين قد استوعبناها تمامًا. ولا يختلف ذلك عن قولنا إننا قد التقينا في وجهة النظر التي طبعها العقل العالمي في عينَي الكاتب. لقد كُنَّا ذلك الرجل، ثم انصرفنا، إننا ننزح مستودعات الماء جميعًا واحدًا بعد الآخر، ولما كُنَّا ننمو من كل هذا المدد، فإننا نشتهي طعامًا أحسن وأوفر. إن الرجل الذي لا يطعمنا البتة لم يعش قط. والعقل الإنساني لا يمكن أن يُدَّخر في شخصٍ يضع سدًّا في أي جانب من جوانب هذه الإمبراطورية التي لا تحد. إنها نار واحدة مركزية، تشتعل مرة بين شفتَي أتنا فتضيء رءوس صقلية، ومرة أخرى من حلق فيزوف فتبعث الضوء إلى بروج نابلس وكرومها. إنه ضوء واحد يشع من ألف نجم. إنها روح واحدة تبعث الحياة في جميع الناس.

ولكني ربما أكون قد أسهبت إلى حد الإملال في الحديث عن العالِم كموضوع مجرد، ولا ينبغي لي أن أتلكأ أكثر من ذلك في ذكر ما أريد التنويه عنه من الإشارة القريبة إلى هذا العصر وهذا البلد.

إننا نحسب — من الناحية التاريخية — أن هناك فارقًا في الآراء التي تسود في العصور المتعاقبة، وأن هناك من الحقائق ما يميز العقلية الكلاسيكية من العقلية الرومانتيكية، ومن عقلية العصر الحديث، عصر التفكير أو الفلسفة. وبعد الآراء التي قدمتها عن وحدة العقل أو مماثلته في جميع الأفراد، لن آبه كثيرًا بهذه الفوارق، بل إني لأعتقد أن كل فرد يمر بالمراحل الثلاث؛ فالصبي يوناني، والشاب رومانتيكي، والراشد مفكر. ومع ذلك فإني لا أنكر أننا نستطيع أن نتتبع في جلاء تطورًا في الفكرة الرئيسية.

إننا نندب عصرنا لأنه عصر «انطواء»، ولكن هل هذا شر؟ يبدو أننا ناقدون، تحيرنا أفكار الآخرين، ولا نستطيع أن نستمتع بشيء لأننا نتلهف على معرفة مصدر السرور. نحن مبطَّنون بالعيون، حتى إنا لنرى بأقدامنا، وعصرنا مُصاب بما أصاب هاملت من شقاء.

مرضى بألوانٍ من التفكير شاحبة.

وهل هذا شر؟ إن النظر هو آخر ما يتحسر عليه الإنسان، هل نرضى لأنفسنا العمى؟ هل نخشى أن نرى أبعد من الطبيعة ومن الله، ونشرب الحقيقة على جفاف؟ إنني لأنظر إلى سخط طبقة الأدباء على أنه إقرار منهم بأنهم لا يجدون أنفسهم في الحالة العقلية التي كان عليها آباؤهم، ويأسفون لأنهم لم يجربوا حالة المستقبل، كما يخشى الغلام الماء قبل أن يعلم أنه يستطيع السباحة. ولو أن هناك عصرًا يودُّ الإنسان أن يُولد فيه فهو ألا يكون عصر «الثورة» حينما يقف القديم والجديد وجهًا لوجه، ويتعرضان للمقارنة، حينما يتأثر نشاط الناس جميعًا بالخوف والأمل، حينما يُستعاض عن أمجاد الماضي التاريخية بإمكانيات العصر الجديد الغنية. إن هذا الوقت، كغيره من الأوقات جميعًا، وقتٌ طيب جِدًّا، لو عرفنا كيف نستغله.

إنني أقرأ بشيء من السرور عن علامات الأيام المقبلة التي تبشر بالخير، وهي تتلألأ خلال الشعر والفن، وخلال الفلسفة والعلم، وخلال الكنيسة والدولة.

وإحدى هذه العلامات هي أن الحركة عينها التي أدت إلى رفع مستوى ما كان يُسَمَّى بأحط الطبقات في الدولة، اتخذت في الأدب صورة واضحة جِدًّا تشبهها رفقًا ورأفةً. فبدلًا من السامي والجميل بحث الأدباء عن القريب والوضيع والمألوف، ونظموا فيه الشعر. وما كان يدوسه بالأقدام ويهمله أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم ويتزودون للرحلات البعيدة في الأقطار النائية، وُجد فجأة أنه أغنى من كل بلد أجنبي؛ فموضوعات اليوم هي أدب الفقير، ومشاعر الطفل، وفلسفة الشارع، ومعنى الحياة المنزلية. وإنها لخطوة عظيمة. أليس من علامات القوة أن يدب النشاط في الأطراف، وأن تجري تيارات من الحياة الدافئة في الأيدي والأقدام؟ إنني لا أبحث عن العظيم والبعيد والخيالي، ولا أسأل عما يجري في إيطاليا أو بلاد العرب، أو على الفن الإغريقي أو أناشيد «بروفنسال»، وإنما أنا أحتضن الأمر العادي، وأكتشف الشيء المألوف والشيء الوضيع وأجلس عند قدميه. بصِّرني باليوم، أعطِك العالَم القديم وعالَم المستقبل. ماذا عسانا حقًّا نحب أن نعرف له معنًى؟ الطعام في الإناء، واللبن في الوعاء، والقصة المنظومة في الشارع، وأنباء الزورق، ولمحة العين، وهيئة الجسم ومشيته. أرني الأسباب البعيدة لهذه الأمور، وأرني الوجود السامي للأسباب الروحية العليا كامنة — كما تكمن دائمًا — في هذه الضواحي وهذه الأطراف من الطبيعة، ودعني أرى التوافه وهي تتطاول إلى الاستقطاب الذي يردها توًّا إلا القانون الأبدي، دعني أرى الحانوت، والمحراث، ودفتر الحسابات الذي يصدر عن نفس السبب الذي تنشأ عنه ذبذبة الضوء وغناء الشعراء. دعني أرى كل ذلك، ولن تكون الدنيا بعد ذلك خليطًا مملًّا كالحجرة يتراكم فيها سَقَطُ المتاع، بل تكون على صورة ونظام. ليس هناك أمر تافه، أو لغز، وإنما هناك خطة واحدة توحِّد بين أعلى القمم وأسفل الأخاديد وتبعث فيها الحياة.

هذه الفكرة ألهمت عبقرية جولد سمث وبرنز وكوبر، وفي عصرٍ أحدث، ألهمت جيته ووردزورث وكارليل. هؤلاء تابعوا هذه الفكرة على صور مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح. وتتباين كتابتهم مع أسلوب بوب وجونسن وجُبن الذي يبدو باردًا متكلفًا. أمَّا كتابتهم ففيها دفء الدماء. وإن الإنسان ليدهشه أن يرى أن الأشياء القريبة ليست أقل جمالًا وعجبًا من الأشياء البعيدة. القريب يفسر البعيد. وليست القطرة إلا محيطًا صغيرًا، والإنسان متصل بالطبيعة كلها. وهذه الفكرة عن قيمة الشيء الشائع تنفع في كشفِ ما استتر. ولقد كان جيته في ذلك أحدث المحدثين، ومع ذلك فقد أطلعنا — كما لم يُطلعنا أحد من قبل — على عبقرية القدماء.

هناك رجل عبقري واحد أدى خدمة كبرى لفلسفة الحياة هذه، ولم تُقدَّر بعدُ تقديرًا صحيحًا القيمة الأديبة لهذا الرجل، ذلك هو عمانويل سودنبرج.١ كان أبعد الناس خيالًا، ومع ذلك فقد كان يكتب بدقة العالم الرياضي، محاولًا أن يطبع المسيحية الشائعة في عصره بطابع قواعد الأخلاق الفلسفية الخالصة. ومثل هذه المحاولة لا بد لها — بطبيعة الحال — من أن تلقى صعوبة لا يستطيع التغلب عليها أي عبقري. ولكنه رأى العلاقة بين الطبيعة وصلات النفس وأطلعنا عليها. لقد اخترق الصفة الرمزية أو الصفة الروحية للكلمة المرئية والمسموعة والمحسوسة. وكان شيطانه في الشعر الذي يحب الظلال، يحلِّق خاصة فوق أجزاء الطبيعة السفلى ويفسِّرها. وأظهر الرابطة العجيبة التي تصل ما بين الشر الخلقي والصور المادية الدنيئة. وقدم لنا في تشبيهات من شعره القصصي نظريةً عن ضعف العقل، وعن الوحوش، وعن الأشياء الدنيئة المفزعة.

وعلامة أخرى من علامات العصر الذي نعيش فيه، تتميز كذلك بحركة سياسية مشابهة، هي الأهمية الجديدة التي أُعطيت للفرد، وكل ما يرمي إلى عزلة الفرد، وإحاطته بحواجز الاحترام الطبيعي، حتى يحس كل فرد أن الدنيا له، ويعامل الإنسان أخاه الإنسان كما تعامل الدولة ذات السيادة دولة أخرى ذات سيادة، يرمي كذلك إلى الوحدة الحقيقية، وإلى العظمة. يقول بستالوزي ذلك الرجل المكتئب: «عرفت أن ليس هناك إنسان في دنيا الله الواسعة هذه يحب أو يستطيع أن يعين إنسانًا آخر.» إن العون لا بد أن يأتي من صميم القلب وحده. والعالِم هو ذلك الرجل الذي يجب عليه أن يتقمص في شخصه كلَّ ما في عصره من قدرة، وكل ما وهبه لنا الماضي، وآمال المستقبل. يجب أن يكون جامعة من المعارف. وإن كان هناك درس يجب أن يطرق أذنه أكثر من غيره فذلك هو: «إن الدنيا لا شيء، والإنسان كل شيء.» ففي نفس الإنسان قانون الطبيعة كلها، وأنتم لا تدركون بعد كيف ترتفع فقاعة الماء، وفي نفس الإنسان يرقد العقل كله، فعليكم أن تعرفوا كل شيء، وعليكم أن تقتحموا كل شيء.

سيدي الرئيس، سادتي:

إن هذه الثقة في قوة الإنسان التي لم تُبحث بعدُ تخص العالِم الأمريكي، بكل دوافعها وكل ما تبشر به وكل استعداد لديها. لقد استمعنا طويلًا إلى آلهة الشعر الأوروبية الظريفة، ووصمنا روح الرجل الحر الأمريكي بالجبن والتقليد والاستئناس. إن الشراهة العامة والخاصة لتجعل الهواء الذي نتنفسه كثيفًا غليظًا. والعالِم رقيقٌ متراخٍ لطيف. فانظر إلى العواقب الوخيمة. إن عقل هذا البلد — الذي تعلَّم أن يهدف إلى الوضيع من الأمور — ليأكل بعضه بعضًا. ليس هناك عمل إلا للخانع القانع. أمَّا الشبان الذين نتوقع منهم أحسن الرجال، والذين يبدءون الحياة على شواطئنا منتفخين برياح الجبال، تسطع عليهم كل نجوم الآلهة، فإنهم لا يجدون الأرض تحتهم متفقة مع هذه الأشياء، فيعوقهم عن العمل نفور من المبادئ التي تسير عليها الأعمال، فينقلبون عُمَّالًا كادحين، أو يموتون من النفور، وبعضهم يقضي نحبه انتحارًا. وماذا عسى أن يكون العلاج؟ إنهم لم يروا بعدُ، ولا يرى كذلك ألوف الشباب المتفائلين مثلهم والمتزاحمين الآن حول الحواجز التي تقف في سبيل مستقبلهم، لم يروا أن الفرد إذا ركن إلى غرائزه ركونًا راسخًا، وتمسك بها، فإن الدنيا العريضة سوف تنقاد له. صبرًا، صبرًا، والتمسوا الصحبة في ظلال الخير والعظمة، والعزاء فيما يتراءى أمام حياتكم التي لا تنتهي، والعمل في دراسة المبادئ ونقلها إلى الناس، وفي سيادة هذه الغرائز، وفي هداية العالَم. أليس أكبر عار في الدنيا ألا يكون الفرد وحدة، وألا يُعد شخصًا، وألا يُثمر تلك الثمرة الخاصة التي خُلق كل إنسان ليثمرها، إنما يُحسب في المجموع، في المئات، أو الآلاف أو الحزب أو الفريق الذي ينتمي إليه، وإن يمكن التنبؤ برأي الفرد مِنَّا جغرافيًّا، فيُقال إنه من الشمال أو من الجنوب؟ لا تكونوا كذلك، إخواني وأصدقائي، اللهم لا تجعلنا كذلك. إنما نريد أن نمشي على أقدامنا، وأن نعمل بأيدينا، وأن نعبِّر عما يجول في خواطرنا. ولن تكون دراسة الآداب بعد اليوم مدعاة للإشفاق، وللشك، ولمتعة الحواس. ولسوف تكون رهبة الإنسان ومحبته سورًا للدفاع وإكليلًا من البهجة يكلل هامات الجميع. ولسوف توجد لأول مرة أمة من الرجال؛ لأن كل فرد يعتقد أنه مُلهَم من الروح المقدس الذي يلهم كذلك الناس جميعًا.

١  فيلسوف سويدي، وُلد في عام ١٦٨٨م في استكهلم بالسويد، ومات عام ١٧٧٢، واشتهر بفلسفته الطبيعية المجردة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤