التاريخ

ليس هناك كبير أو صغير،
عند الروح التي تصنع كل شيء،
والتي حيثما تحل، تكون جميع الأشياء،
وإنها لتحل في كل مكان.

•••

أنا مالك الكرة الأرضية،
ومالك النجوم السبعة والسنة الشمسية،
ومالك يد قيصر، وذهن أفلاطون،
ومالك قلب السيد المسيح، ولحن شكسبير.

للناس جميعًا عقل واحد مشترك. وكل فرد مَنْفَذ لهذا العقل، وله كله. ومَنْ يُعطَ القدرة على التفكير يصبح مالكًا حرًّا لضيعة العقل كلها. فما فكَّر فيه أفلاطون يستطيع أن يفكر فيه، وما أحس به أي قديس يستطيع أن يحس به. وما حدث لأي إنسان في أي وقت يستطيع أن يدركه. مَنْ يصل إلى هذا العقل العالمي يكن شريكًا في كل ما يُعمل أو يمكن أن يُعمل؛ لأن ذلك هو العامل الوحيد الذي يسود.

والتاريخ سجل لأعمال هذا العقل. ولا تظهر قيمته إلا من سلسلة الأيام كلها. ولا يمكن تفسير الإنسان بأقل من التاريخ بأسره. إن الروح الإنسان تسير قدمًا في غير عجلة وغير ركود من البداية لكي تضم إليها كل موهبة وكل فكرة وعاطفة تخصها، في حوادث ملائمة. غير أن الفكرة تسبق الواقع دائمًا، وكل وقائع التاريخ سبق وجودها في العقل على صورة قوانين. وكل قانون بدوره تجعله الظروف سائدًا، وحدود الطبيعة لا تُعطي القوة إلا لقانون واحد في الوقت الواحد. والإنسان هو موسوعة المعارف كلها. وإنك لواجد خلْق ألف غابة في ثمرة واحدة من ثمار البلوط. وقد كانت مصر واليونان وروما وبلاد الغال وبريطانيا وأمريكا مطوية في الإنسان الأوَّل.

هذا العقل البشري دوَّن التاريخ، وهو الذي لا بد أن يقرأه، وعلى أبي الهول أن يحل لغز نفسه. وإذا كان التاريخ كله في إنسان واحد فإن التجربة الفردية تفسِّره كله. وهناك علاقة بين ساعات حياتنا وقرون الزمان. وكما أن الهواء الذي أستنشقه ينسحب من مستودعات الطبيعة العظمى، وكما أن الضوء الذي يسطع فوق كتابي يصدر عن نجمٍ يبعُد ألف مليون من الأميال، وكما أن وضع جسمي يعتمد على اتزان القوى الطاردة والقوة الجاذبة، فكذلك الساعات ينبغي أن تتعلم من العصور، والعصور تفسِّرها الساعات. وكل فرد صورة مجسدة جديدة للعقل العالمي. تتركز فيه كل خواص هذا العقل. وكل حقيقة جديدة في خبرته الخاصة تلقي ضوءًا على ما قامت به جماعات كبرى من الناس. وأزمات حياته تشير إلى الأزمات القومية. وقد كانت كل ثورة في مبدأ أمرها فكرة في عقل فرد واحد، فإذا ما طرأت الفكرة عينها لفرد آخر فهي مفتاح ذلك العصر. وكل إصلاح كان فيما سبق فكرة خاصة، فإذا ما أصبح فكرة خاصة مرة أخرى، فإنه يحل مشكلة العصر. والحقيقة التي تُروى ينبغي أن تقابل في نفسي شيئًا لكي يمكن تصديقها وفهمها. وينبغي لنا حين نقرأ أن نصبح من اليونان أو الرومان أو الأتراك، وأن نصبح من القسيسين والملوك، ومن الشهداء والقاتلين. ينبغي لنا أن نربط هذه الصور بحقيقة من الحقائق في خبرتنا الخفية، وإلا ما تعلمنا شيئًا حق العلم. إن ما حل بأسدربال أو قيصر بورجيا، يفسر قوى العقل وفساده كما يفسرهما ما حل بنا. كل قانون جديد وكل حركة سياسية، لها لديك معنًى. قف أمام كل لوحة من لوحاتها وقل: «تحت هذا القناع أخفت طبيعتي المتغيرة نفسها.» وفي ذلك علاج للنقص الذي نعانيه من اقترابنا الشديد من أنفسنا، وهو يلقي بأعمالنا في حدود المنظور. وكما أن السرطان والحَمَل والعقارب والميزان ووعاء الماء تفقد وضاعتها عندما تُعلَّق بدائرة البروج، فإني كذلك أستطيع أن أرى آثامي بغير حرارة في أشخاص سليمان والسبيادس وكاتلاين الأقدمين.

هي الطبيعة المطلقة التي تُكسِب الأفراد والأشياء قيمتها. والحياة الإنسانية التي تحتوي على ذلك لغز ولا يمكن اقتحامها، ونحن نحيطها بالعقوبات والقوانين. ومن ذلك تستمد جميع القوانين السبب في وجودها، وكلها تعبِّر بدرجات مختلفة من الوضوح عن سلطانها على هذه الأرواح العليا التي لا تُحد. والمِلْكية كذلك تستولي على الروح، وتشمل حقائق روحية عظمى، ونحن بالغريزة في مبدأ الأمر نتمسك بها بحد السيف والقانون وباتحادات واسعة معقدة. والإحساس الغامض بهذه الحقيقة هو ضياء يومنا كله، وأقصى أمانينا. هو ذريعتنا للتربية والعدالة والإحسان، وأساس الصداقة والمحبة، والبطولة والعظمة التي تتعلق بالأعمال التي تتصل بالاعتماد على النفس. ومما يستلفت النظر أننا — رغم إرادتنا — نطالع دائمًا باعتبارنا كائنات عليا؛ فالتاريخ العالمي، والشعراء، وكتَّاب القصص الخيالية، في أفخم صورة لهم — في الكهنوت وفي قصور الملوك، وفي انتصار الإرادة أو العبقرية — لا تعدِم مِنَّا آذانًا مصغية في أي مكان، ولا تجعلنا في أي مكان نحس أننا دخلاء، وإن ذلك من شأن رجالٍ أحسن مِنَّا، بل إنه لمن الحق أننا نحس بأقصى الطمأنينة إزاء أعظم ما أبدعت قرائحهم. كل ما يقوله شكسبير عن ملك من الملوك يحس مدى صدقه على نفسه ذلك الصبي المغمور الذي يقرأ في إحدى الزوايا. وإننا لنعطف على لحظات التاريخ الكبرى، والكشوف العظمى، وكل مقاومة عنيفة، والخصائص الكبرى للرجال؛ لأنه — في هذه الحالة أو تلك — قد نفذ قانون، أو جرى البحث في محيط، أو وُجدت أرض، أو ضُربت من أجلنا ضربة، كما لو كُنَّا نحن أنفسنا — أو شجعنا على ذلك — في هذا الموقف.

وإنَّا لنهتم هذا الاهتمام عينه بالأحوال والأشخاص. نكرِّم الغَني؛ لأنه يملك في ظاهره الحرية والنفوذ والجلال التي نشعر بملاءمتها للإنسان وملاءمتها لنا أيضًا. ولذا فإن كل ما يضفيه رواقي أو كاتب مقال شرقي أو حديث على «الرجل الحكيم» إنما يصف لكل قارئ آراءه الخاصة، ويصف له نفسه التي يمكن تحقيقها ولكنه لم يحققها بعد. والأدب كله إنما يكتب شخصية الرجل الحكيم. وليست الكتب والآثار والصور والأحاديث سوى رسوم يجد فيها القارئ الملامح التي تكوِّن نفسه. الصامت والمفصح يثني عليه ويناديه، وحيثما انتقل تنبهه الإشارات الشخصية. ولذا فإن الطَّموح الصادق ليس بحاجة إلى التماس الإشارات الشخصية التي تتضمن التمجيد في الحديث؛ فهو يستمع إلى الثناء المستطاب على تلك الشخصية التي يبحث عنها — لا على نفسه — في كل كلمة تُقال بشأن الشخصية، بل أكثر من ذلك في كل حقيقة وكل ظرف، في النهر الجاري وفي حفيف نبات القمح. من الطبيعة الصامتة، ومن الجبال ومن أنوار السموات يُشاهد الثناء، ويُقدم الولاء، ويفيض الحب.

هذه الإشارات، التي كأنها تساقطت من النوم ومن الليل، دعنا نستخدمها في وضح النهار. ينبغي للطالب أن يقرأ التاريخ قراءة إيجابية لا سلبية، وينبغي له أن يقدر حياته متنًا، والكتب شرحًا. فتجد آلهة التاريخ نفسها مرغمة على النطق بالكلام المقدس، وهي لا تفعل ذلك البتة لأولئك الذين لا يقدِّرون أنفسهم. ولست آمل أن يَقرأ التاريخ قراءة صحيحة رجلٌ يحسِب أن ما فعله في عصرٍ بعيد رجالٌ رَنَّ صيتهم في الآفاق له معنًى أعمق مما يفعل هو اليوم.

إنما الدنيا قائمة لتعليم كل إنسان، وليس هناك عصر أو حالة من حالات المجتمع أو أسلوب من أساليب العمل في التاريخ، لا يناظره شيء في حياته. كل شيء يميل بشكل عجيب أن يختصر نفسه ويقدم فضيلته إليه. وعليه أن يدرك أنه يستطيع أن يعيش التاريخ كله في شخصه. وينبغي له أن يبقى في وطنه صلبًا، ولا يجشم نفسه مشقة التعرض لاستبداد الملوك والإمبراطوريات، وإنما يعرف أنه أعظم من بلدان الدنيا كلها وحكوماتها. يجب أن ينقل وجهة النظر التي منها يُقرأ التاريخ عادة، من روما وأثينا ولندن إلى نفسه، ولا ينكر اعتقاده أنه الحَكَم، وإذا كانت إنجلترا أو مصر لتقول له شيئًا، فليتدبره، وإذا لما تذكرا له شيئًا، فليبقيا إلى الأبد صامتَين. يجب أن يَبلُغ ذلك المشهد المرتفع حيث تقدم الحقائق مغزاها الخفي، وحيث يكون الشعر والتاريخ سواء، ثم يَثبُت هناك. هذه الغريزة من غرائز العقل، وهي الهدف الذي ترمي إليه الطبيعة، تكشف عن نفسها في انتفاعنا بروايات التاريخ الأساسية. إن الزمن يحوِّل الحقائق ذات الاتجاه الواحد الثابت إلى أثير مشرق. ولا تجدي المراسي والحبال والأسوار في إبقاء الحقائق حقائق؛ فها هي ذي بابل وطروادة وصور وفلسطين بل وروما في عهدها الأوَّل تتحول إلى خيال. وجنة عدن، والشمس الساكنة في جبيون، هي منذ اليوم شِعر عند جميع الأمم. من ذا الذي يهمه ما كانت الحقيقة عليه، بعد أن جعلنا منها مجموعة نجمية معلقة في السماء شارة خالدة؟ ولا بد أن تسير لندن وباريس ونيويورك في نفس الطريق. قال نابليون: «ليس التاريخ سوى أسطورة اتفقنا عليها.» إن حياتنا الراهنة لتلتصق بمصر واليونان وبلاد الغال وإنجلترا، وبالحروب والاستعمار والكنيسة والبلاط والتجارة، كما تلتصق بكثير من الزهور وزخارف الطبيعة الرزينة والمرحة. ولن أبسطها أكثر من ذلك؛ فإني أعتقد في الخلود، وإني لأستطيع أن أجد في ذهني اليونان وآسيا وإيطاليا وإسبانيا والجُزُر، وأن أجد فيه عبقرية كل عصر (بل وجميع العصور)، وما يتميز به من أسس الخلق والإبداع.

إننا نلتقي دائمًا بحقائق التاريخ المؤكدة في تجاربنا الخاصة، ونتحقق من صدقها هنا. ويصبح التاريخ كله ذاتيًّا، أو بعبارة أخرى ليس هناك تاريخ ثابت، إنما هناك سِيَر فحسب. وكل عقل ينبغي له أن يعرف الدرس كله لنفسه، وينبغي له أن يطوف الأرض كلها. ما لا يراه وما لا يحياه لا يعرفه. وما لخصه العصر السابق في صيغة أو قاعدة لسهولة التناول، يفقد العقل ميزة تحقيقه لنفسه بسبب الحائل الذي تقيمه هذه القاعدة. وفي مكانٍ ما وفي وقتٍ ما يتطلب العقل، ويجد عوضًا عن هذه الخسارة بأدائه العمل بنفسه. لقد اكتشف فرجوسن في الفلك أشياء كثيرة كانت معروفة من زمان قديم، وأفاد من ذلك.

التاريخ إمَّا أن يكون ذلك أو لا يكون شيئًا. كل قانون تنفذه الدولة يشير إلى حقيقة في الطبيعة البشرية، وهذا هو كل شيء. يجب أن نرى في أنفسنا الباعث الحقيقي لكل واقعة، نرى كيف يمكن أن تكون وكيف ينبغي أن تكون. هكذا يجب أن نجابه كل عمل عام أو خاص، وأن نجابه خطابة بيرك، وانتصار نابليون، واستشهاد سير توماس مور، وسدني، ومار مديوك روبنسن، وأن نجابه حكم الإرهاب في فرنسا، وشنق الساحرات في سالم، وتعصُّب حركة الإحياء، والتنويم المغناطيسي في باريس، أو في أمريكا. إننا نفرض أننا تحت تأثير مشابه لهذا نتأثر تأثيرًا مشابهًا، ونقوم بعمل مشابه، ونهدف إلى أن نسيطر على الخطوات التي خطاها زميل أو قريب لنا، ونبلغ ما بلغ من رفعة أو انحطاط.

كل بحث في القديم، كل تشوُّق إلى معرفة الأهرام، وحفريات المدن، وستونهنج، ودوائر أوهيو والمكسيك وممفيس، ينبغي أن ينتهي بالاستغناء عن المكان والزمان البعيدَين بما يتصفان به من همجية وتوحش واستحالة، ليحل محلهما المكان والزمان القريبان. إن بلزوني يحفر ويقيس قبور المومياء والأهرام في طيبة حتى يرى غاية الفرق بين هذا العمل الهائل وبين نفسه، فإذا ما أقنع نفسه عمومًا وتفصيلًا أن ذلك العمل العظيم قام به شخص مثله، بمثل سلاحه ودوافعه، ولأغراض كان ينبغي له هو نفسه كذلك أن يعمل لها، حُلت المشكلة، فتعيش أفكاره بين صفوف المعابد وآباء الهول والسراديب جميعًا، وتمر بهم كلهم راضية مرضية، وهذه الأشياء تحيا مرة أخرى في العقل، أو تصبح حاضرًا بعد ماضيها.

إن الكاتدرائية الغوطية لتؤكد أننا نحن الذين شيدناها، ونحن الذين كذلك لم نشيدها، لا شك أنها من صنع الإنسان، ولكنا لا نجدها في إنساننا. ولكنا نطابق بين أنفسنا وبين تاريخ إنشائها، ونضع أنفسنا مكان منشئها وفي حالته. إننا نذكر ساكني الغابات، والمعابد الأولى، وكيف كان النموذج الأولي، وزخرفته، كلما زادت ثروة الأمة. إن القيمة التي يكتسبها الخشب بالنقش أدت إلى نحت كتدرائية في جبلٍ بأسره من الحجر. وبعدما نمر بهذه العملية، ونضيف إليها الكنيسة الكاثوليكية، بصليبها، وموسيقاها، ومواكبها، وأعياد قديسيها وعبادتها الصور، نمسي كأننا الرجل الذي نصَّب القسيس، وندرك كيف يمكن أن تكون الأمور وكيف ينبغي أن تكون، ويصبح لدينا الإدراك الكافي.

وإنما يفترق إنسان عن إنسان في القاعدة التي يسير عليها في ربط الأشياء. بعض الناس يصنفون الأشياء بلونها وحجمها وغير ذلك من العرض الظاهر. وبعضهم الآخر يصنفها بما بينها من تشابه ذاتي، أو بالعلاقة بين الأسباب والنتائج. ويتقدم الذهن نحو زيادة الوضوح في رؤيا الأسباب، بحيث تُهمل الفوارق السطحية؛ فالأشياء كلها ودية ومقدِّسة، والأحداث كلها نافعة، والأيام كلها مقدسة، والرجال كلهم قديسون، في نظر الشاعر والفيلسوف والقديس؛ لأن العين تحدق في الحياة، وتهمل الأعراض. إن كل مادة كيمائية وكل نبات، وكل حيوان في نموه، يعلمنا وحدة الجوهر، وتنوع المظهر.

ولما كانت هذه الطبيعة التي تبتدع كل شيء تحملنا وتحيط بنا، فتسبغ علينا لينًا وسيولةً تجعلنا كالسحاب أو كالهواء، فلماذا نكون متحذلقين جامدين، فنكبِّر صورًا محدودة؟ ولماذا نأبه للزمان، أو للعظمة أو لأي شكل من الأشكال؟! إن الروح لا تعرف هذه الأشياء، والعبقرية التي تخضع لقانونها الذاتي تعرف كيف تتلاعب بها كما يلعب الطفل بالأواني الخزفية وفي الكنائس. العبقرية تدرس الفكر المسبِّب، وترى — في أصول الأشياء السحيقة — الأشعةَ التي تصدر عن أحد الأجرام الشمسية، فتتفرق إلى خطوطٍ لا حصر لها قبل سقوطها. العبقرية ترقب الجوهر الفردي الحي في كل صورة يتقنع فيها. العبقرية تكشف في الذبابة وفي الفراشة وفي الدودة وفي البيضة الفرد الثابت. وترى خلال الأفراد العديدين النوع الثابت، وخلال الأنواع الكثيرة الأجناس، وخلال جميع الأجناس الأصل الثابت، وخلال جميع ممالك الحياة المنظمة الوحدة الخالدة. الطبيعة سحابة متقلبة، هي دائمًا نفسها — وليست بعينها — إنها تصب الفكرة الواحدة في صور عديدة، كما يخلق الشاعر عشرين أسطورة لها مغزًى واحد. إن الروح الرقيقة تُخضِع كل شيء لإرادتها خلال المادة الجامدة، والحجر الصلب يتشكل أمام الروح في صورة لينة ولكنها محددة، غير أن شكله وتكوينه يتغيران مرة أخرى أثناء نظري إليه. ليس هناك شيء سريع الزوال كالصورة، وهي مع ذلك لا تنكر نفسها أبدًا كل الإنكار. وفي الإنسان ما زلنا نتلمس البقايا والإشارات لكلِّ ما نحسبه من سمات العبودية في الأجناس الدنيا. ومع ذلك فهذه البقايا وتلك الإشارات تحفز ما لديه من نبل وجلال، كقصة أيو عند أيسكلس التي تحولت إلى بقرة فأساءت إلى الخيال، ولكن كيف تبدلت الحال عندما اتخذت شكل إيزيس في مصر والتقت بأوزيريس-جوف، على هيئة امرأة جميلة، ولم تبقَ لديها من دلائل التحول سوى القرون القمرية تزين جبينها زينة فاخرة!

إن تشابه حوادث التاريخ هو — كهذه القصة — من طبيعة التاريخ، وكذلك تنوعها واضح وضوحه فيها. هناك في الظاهر تنوُّع للأشياء لا حصر له، وفي الجوهر بساطة في الأسباب. كم من أعمال الرجل الواحد ما تتبين فيها نفس شخصيته! لاحظ مظاهر علمنا بالعبقرية اليونانية. لدينا التاريخ المدني لهذا الشعب، كما قدمه لنا هيرودوت، وثيوسيديد، وزنفون، وفلوطارخس. وهو دليل كافٍ على نوع أفراد هذا الشعب وعلى ما فعلوا. ولدينا كذلك عقلهم القومي عينه كما عبَّرت عنه آدابهم مرة أخرى، في شعر الملاحم والشعر الغنائي، والتمثيليات، والفلسفة، وإنها لصورة كاملة. وهو لدينا مرة أخرى كذلك في فن النحت، وهو «لسان يوشك أن ينطق». صور متعددة في أقصى حرية للحركة، ولا تجاوز البتة الهدوء المثالي، كأنها أصحاب نذور يؤدون رقصة دينية أمام الآلهة، وبرغم ما يكابدون من ألمٍ مُمِضٍّ أو قتال مميت، لا يجرءون بتاتًا أن يخرجوا على شكل الرقص وذوقه. وهكذا فإن لدينا أربعة أشكال تتمثل فيها عبقرية شعب واحد مجيد، وما أبعد التشابه لدى الحواس بين أنشودة لبندار، أو تمثال مرمري لقنطروس الحيوان الخرافي، ودهليز في البارثنون، وآخر عمل من أعمال فوسيون؟

كلٌّ مِنَّا شاهدَ وجوهًا وأشكالًا تترك في الرائي أثرًا متشابهًا دون أي تشابه في ملامحها. إن صورة من الصور، أو مقطوعة من الشعر المنظوم، قد لا يبعثان نفس السلسلة من الخيالات التي تبعثها مشية وحشية جبلية، ولكنهما تبعثان ما تبعثها المشية من عاطفة، بالرغم من أن التشابه لا يتجلى للحواس على أية صورة من الصور، ولكنه خفي لا تدركه الأفهام. الطبيعة مزيج وتكرار لا حصر له لبضعة قوانين. وهي تتغنى بالأنشودة القديمة المعروفة، في أنغامٍ لا يحصرها العد.

الطبيعة ملأى بالتشابه العائلي السامي في كل عمل من أعمالها، ويسرها أن تَفْجَأنا بالتشابه في نَواحٍ لا نتوقع فيها التشابه بتاتًا. رأيت رأس شيخ كبير لإحدى القبائل الهندية الأمريكية في الغابات، فذكرني في الحال بقمة جبلية جرداء، وذكرتني أخاديد الجبهة بطبقات الصخر، وهناك أناس لآدابهم نفس الأبهة التي تظهر على التمثال البسيط الرائع القائم على أفريز البارثنون، وعلى آثار الفن الإغريقي القديم. وهناك من المؤلفات ما له نفس القوة التي كانت في كتب العصور السالفة جميعًا. ليس رسبجليوزي أورورا لجيدو سوى فكرة صباحية، وليس الخيل فيها سوى سحابة من سُحب الصباح. ولو أن أي إنسان جشم نفسه مشقة ملاحظة الأعمال المتنوعة التي يميل إليها في بعض حالات العقل، وتلك الأعمال التي ينفر منها بنفس الدرجة؛ لأدرك عمق صلة القرابة بينهما.

قال لي مصور إن أحدًا لا يستطيع أن يرسم شجرة دون أن يصبح شجرة في صورةٍ ما، أو أن يرسم طفلًا بمجرد دراسة تخطيط هيئته، أمَّا إذا لاحظ لفترةٍ ما حركاته وألعابه فإنه يدخل طبيعته، ويستطيع عندئذٍ أن يرسمه إن أراد في كل موقف. هكذا دخل روس «أعمق أغوار طبيعة الأغنام». وقد عرفت رسامًا يشتغل بمساحة الأرض يقول إنه لم يستطع تخطيط الصخور إلا بعد أن شُرح له أوَّلًا تكوينها الجيولوجي. وفي حالة واحدة من حالات التفكير يكون الأصل المشترك لأعمال غاية في التنوع؛ فالروح هي التي تتكرر على صورة واحدة وليست الوقائع. ويستطيع الفنان أن يبلغ القدرة على إيقاظ الأرواح الأخرى كي تقوم بعمل معين بسعة إدراكه، لا بمعرفته المضنية بكثير من المهارات اليدوية.

ولقد قيل: «إن أرواح العامة تستوفي حقها وفقًا لما تعمل. أمَّا الأرواح الأنبل فتستوفي حقها وفقًا لما تكون عليه.» لماذا؟ لأن الطبيعة العميقة توقظ فينا بفعالها وكلماتها وبنظراتها وسلوكها النفوذ والجمال عينهما اللذين يوجههما إلينا متحف للنحت أو للتصوير.

ينبغي أن نفسر التاريخ المدني والتاريخ الطبيعي، وتاريخ الفن، وتاريخ الأدب، بتاريخ الفرد، أو تبقى هذه التواريخ كلمات مجردة. ليس هناك شيء لا يتصل بنا، أو لا يهمنا، من المَلَكية إلى الكلية، والشجرة، والجواد، والحدوة الحديدية، فإن جذور كل شيء في الإنسان. وليس سانتا كروتشي وقبة القديس بطرس سوى نسخٍ عرجاء من نماذج مقدسة. وكتدرائية ستراسبورج صورة مادية لروح أروين الاستنباخي. والقصيدة الصادقة هي عقل الشاعر، والسفينة الصادقة هي بنَّاء السفينة. ولو استطعنا أن نكشف عن الإنسان، رأينا علة آخر زهرة أو ثمرة من عمله، كما أن كل شوكة أو لون في القوقعة المائية قد سبق وجوده في أعضاء السمكة المفرِزة. وفي آداب المجاملة تجد كل فنون الدروع والفروسية. والرجل ذو الآداب الرفيعة ينطق باسمك بكل الزخرفة التي تستطيع أن تضيفها إليه ألقاب الشرف.

إن التجربة التافهة التي تمر بنا كل يوم تحقق دائمًا لنا قولًا سابقًا، وتحوِّل إلى الأشياء الكلمات والإشارات التي سمعناها أو رأيناها دون أن نلقي إليها بالًا. قالت لي سيدة كنت أركب معها في الغابة إن الغابات تبدو لها دائمًا كأنها «على انتظار» كأن الجن الذي يقطنها قد أوقف أعماله حتى يمر بها عابر السبيل ويمضي. وهي فكرةٌ حفل بها الشعر في رقص الجنيات اللائي يتوقفن عن الرقص عند اقتراب أقدام بشرية. والرجل الذي يرى القمر المشرق يشق السحاب في منتصف الليل يشبه في هذا رئيس الملائكة الذي شهد خلق الضياء وخلق الدنيا. أذكر ذات يوم صائف في الحقول أن رفيقي قد وجَّه التفاتي إلى سحابةٍ ربما امتدت ربع ميل بحذاء الأفق، وهي على هيئة الملاك الصغير تمامًا كما يُصوَّر في الكنائس، كتلة مستديرة في الوسط، من السهل أن تبعث فيها الحياة بثغر وعينَين، وأن نسندها من الجانبَين بجناحَين متماثلَين منتشرَين. وما يظهر مرة في الجو قد يظهر مرارًا. ولقد كان ذلك المنظر بغير شك النموذج المثالي لذلك الزخرف المألوف. وشهدت في السماء سلسلة من برق الصيف، فتذكرت في الحال أن الإغريق رسموا من الطبيعة عندما صوروا الصاعقة في يد جوف. ورأيت كومة ثلجية على جوانب الحاجز الحجري هي التي قطعًا أوحت بفكرة بناء البروج.

إذا أحطنا أنفسنا بالظروف الأصلية اخترعنا من جديد قواعد فن البناء وزخرفته، كما كان كل قوم يزينون مساكنهم الأولية وحدهم. إن المعبد الدوري يحتفظ بالشبه بينه وبين الكوخ الخشبي الذي كان يقطنه الرجل الدوري. وليس المعبد الصيني إلا مجرد سرادق تَتَرِي. والمعابد الهندية والمصرية ما زالت تنم عن الأكمات والبيوت المنحوتة تحت الأرض التي كان يقيم فيها آباؤهم. ويقول هيرن في بحوثه عن الإثيوبيين: «إن عادة إنشاء البيوت والمقابر في الصخر الحي عينت بطريقة طبيعية جِدًّا الصفة الأساسية في فن البناء النوبي المصري، فاتصف بضخامة الشكل التي عُرفت عنه. في هذه الكهوف التي أعدتها الطبيعة تعودت العين أن تحدق في أشكال وكتل ضخمة، حتى إذا ما جاء الفن لمعونة الطبيعة لم يستطع أن يسير في نطاق صغير دون أن يحط من شأن نفسه. وماذا تكون التماثيل ذات الحجم العادي، وماذا تكون السقوف والأجنحة البسيطة إذا قِيست بتلك الأبهاء الهائلة التي لا تستطيع أن تحرسها — أو أن تستند إلى عمدانها الداخلية — سوى التماثيل التي تفوق الحجم الطبيعي؟»

ومن الجلي أن الكنيسة القوطية نشأت من اقتباس أشجار الغابة بكل أغصانها اقتباسًا ساذجًا، ورسم الممرات ذات الأعمدة التي تُستخدم في الاحتفالات والمناسبات الدينية على صورتها. ولا زالت الأطواق حول الأعمدة المشقوقة تدل على فروع الصفصاف الخضراء التي كانت تطوِّق الأشجار. ولا يستطيع أحد أن يسير في طريقٍ شُقَّ في غابات الصنوبر دون أن يذهله مظهر الغابة الذي يوحي بفن البناء، وبخاصة في الشتاء، حينما تدل تعرية جميع الأشجار الأخرى على الأقواس السكسونية المنخفضة. وإذا سرت في الغابات في أصيل يوم من أيام الشتاء رأيت كذلك لتوِّك منشأ النافذة الزجاجية الملونة التي تتحلى بها الكاتدرائيات الغوطية في ألوان السماء الغربية التي نشاهدها خلال أغصان الغابة المتشابكة الجرداء. ولا يستطيع إنسان يحب الطبيعة أن يدخل خلال الأعمدة الخشبية القديمة في كاتدرائية أكسفورد والكاتدرائيات الإنجليزية دون أن يحس أن الغابة قد تسلطت على عقل البنَّاء، وأن إزميله ومنشاره ومسحجه ما برحت تحاكي نباتها، وأشواك زهورها، وخرنوبها، وأشجار الدردار والبلوط والصنوبر والشوح والتنوب الفضي فيها.

الكاتدرائية الغوطية حجر مزهر خاضع إلى الرغبة الملحة في الانسجام عند الإنسان، تلك الرغبة التي لا تقنع. إن جبل الجرانيت يتفتح عن زهر خالد، فيه من جمال الخضرة الخفة ودقة الإبداع، كما فيه النِّسب السماوية والمنظر السماوي.

وكذلك يمكن إفراد جميع الحقائق العامة، وتعميم جميع الحقائق الخاصة. عندئذٍ يصبح التاريخ في الحال مستساغًا وصادقًا، وعلم الحياة عميقًا وساميًا. وكما أن الفُرس حاكوا في فروع بنائهم وأصوله ساق اللوتس والنخلة وثمارها، فكذلك البلاط الفارسي في أعظم عهوده لم يتخلَّ البتة عن بداوة القبائل البربرية، بل تنقَّل من أكباتانا حيث كان يُقضى الربيع إلى سوزا في الصيف وبابل في الشتاء.

وفي تاريخ آسيا وأفريقيا القديم كانت البداوة والزراعة حقيقتَين متعارضتَين. كانت طبيعة البلاد في آسيا وفي أفريقيا تتطلب حياة بدوية. غير أن البدو كانوا سببًا لفزع أولئك الذين دعتهم إلى بناء المدن طبيعة التربة أو مزايا السوق؛ ومِنْ ثَمَّ كانت الزراعة مما يوصي به الدين بسبب المخاطر التي تتعرض لها الدولة من البداوة. وفي إنجلترا وأمريكا، هذَين القطرَين المتمدنَين اللذين جاءا مؤخرًا في التاريخ، ما زالت هذه الاتجاهات تقاتل المعركة القديمة في الأمة وفي الفرد. كان هجوم ذباب المواشي الذي تجن له الماشية يُرغِم البدو في أفريقيا على التجول، فتضطر القبيلة إلى الهجرة في موسم الأمطار وإلى سَوْق الماشية إلى المناطق الرملية العليا. وكان البدو في آسيا يتابعون المراعي من شهر إلى شهر. وفي أمريكا وأوروبا تتخذ البداوة صورة التجارة وحب الاستطلاع، وهو تقدُّم بالتأكيد من ذباب سطابوراس إلى الجنون الإنجليزي والإيطالي بخليج بوسطن. والمدن المقدسة التي كان يتحتم الحج إليها في فتراتٍ معينة، والقوانين والعادات الصارمة التي كانت تميل إلى تقوية الرابطة القومية، كانت توقف المتجولين القدماء عند حد، والقيم التي تُجمِّعها الإقامة الطويلة هي الأغلال التي تقيد حب التجول في العصر الحاضر. وليس العداء بين الاتجاهَين بأقل نشاطًا في الأفراد؛ فقد يسود حب المغامرة أو حب الحياة الوادعة. والرجل ذو الصحة القوية والروح الفياضة يميل إلى سرعة التنقل في إقامته؛ فهو يعيش في عربته، ويطوف خلال الأرض من شمالها إلى جنوبها في سهولة، وفي البحر أو في الغابة أو فوق الثلوج ينام في دفء ويأكل في شهية طيبة ويعاشر في سعادة، كأنه إلى جوار مدخنته. وربما كانت حياته أشد يسرًا كلما اتسع الأفق أمام قدْرته على الملاحظة، تلك القدرة التي تعطيه موضوعات يهتم بها كلما وقعت عيناه على شيء جديد. كانت الأمم الرعوية محتاجة جائعة إلى حد اليأس، وهذه البداوة العقلية — إذا بُولغ فيها — تفلس العقل بتبديدها القُوَى على موضوعات متنوعة، في حين أن العقل الذي يلزم موطنه يتصف بالزهد أو بالقناعة التي تجد كل عناصر الحياة فوق تربته، ويجد مخاطره في الملل والانهيار إذا لم يحفزه باعث من الخارج.

كل ما يراه الفرد خارج نفسه يقابل حالاته العقلية، وكل شيء بدوره يكون مفهومًا له بمقدار ما يسوقه تفكيره الجريء إلى الحقيقة التي تنتمي إليها تلك الواقعة أو تلك المجموعة من الوقائع.

إنني أستطيع أن أغوص إلى العالم الأولي — أو العالم السابق كما يقول الألمان — في نفسي، كما أستطيع أن أتحسسه بأصابع باحثة في سراديب الموتى، وفي المكتبات، وفي الجدران والأجزاء البارزة المنهارة من خرائب البيوت التي كانت تقوم وسط الحدائق. تُرى ما أساس ذلك الاهتمام الذي يحسه الناس جميعًا بتاريخ اليونان وآدابهم وفنونهم وشعرهم في جميع عصورهم من عصر البطولة أو عصر هومر حتى الحياة العائلية، حياة الأثينيين والإسبرطيين بعد ذلك بأربعة أو خمسة قرون؟ ما هو الأساس؟ أليس هو ذلك: إن كل إنسان يمر شخصيًّا بعصر يوناني. الحالة اليونانية هي عصر الطبيعة الجسدية، عصر كمال الحواس، أو عصر الطبيعة الروحانية مبسوطة في اتحاد دقيق مع الجسد. في تلك الحالة كانت توجد تلك الصور البشرية التي أمدت النحات بنماذجه لهرقل وفيبس وجوف، لا كتلك الصور التي تموج بها شوارع المدن الحديثة، حيث يكون الوجه لطخة مضطربة من الملامح، وإنما كان وجهًا يتألف من ملامحَ لم تفسد، واضحة التحديد متماثلة، تجويف العينَين فيه مكوَّن بحيث يستحيل أن يكون بالعينَين حَوَل، أو أن تختلس العينان النظرات يمينًا أو يسارًا، ولكنهما عينان يلتفت معهما الرأس كله. وكانت آداب السلوك في ذلك العصر واضحة قاسية. يُقدِّم الاحترام للصفات الشخصية، الشجاعة، والحذق، وضبط النفس، والعدالة، والقوة، والسرعة، والصوت المرتفع، والصدر العريض. ولم يُعرف الترف أو الرقة. وتباعد السكان والحاجة تجعل كل إنسان خادمَ نفسه، طباخًا، وقصابًا، وجنديًّا. وكانت عادة إمداد حاجته لنفسه بنفسه تعلِّم الجسم أداء أعمال عجيبة. هكذا كان أجاممنون وديومد عند هومر، ولم تختلف عن ذلك كثيرًا الصورة التي يعطيها زنفون عن نفسه وعن مواطنيه في «تقهقر العشرة آلاف»: «بعدما عبَر الجيش نهر تلبوس في أرمينيا، سقطت ثلوج كثيرة هناك، واستلقى الجنود فوق الأرض بائسين تغطيهم الثلوج. غير أن زنفون نهض عاريًا وأمسك بفأس وشرع يشق الخشب، وعندئذٍ نهض الآخرون وحذوا حذوه.» وكانت حرية الكلام التي لا تُحد موجودة بين جنود جيشه جميعًا. يتشاجرون من أجل الغنائم، ويختصمون مع القواد عند كل أمر جديد، وزنفون حاد اللسان كغيره، وأحدُّ لسانًا من أكثرهم؛ ولذا فقد كان يعطي بمقدار ما يأخذ. من ذا الذي لا يرى أن هذه كانت عصابة من صبية كبار، لها ما للصبية الصغار من قانون للشرف وتربية حرة؟

وأثمن ما يَفتن المرء في المأساة القديمة، بل وفي الأدب القديم كله، هو أن الأشخاص يتكلمون ببساطة، يتكلمون كأشخاص لديهم قدْر كبير من حسن الإدراك دون علمهم بذلك، وقبل أن تصير عادة التفكير هي العادة العقلية السائدة. إن إعجابنا بالعتيق ليس إعجابًا بالقديم، ولكنه إعجاب بالطبيعي.

لم يكن الإغريق مفكرين، بل كانوا كاملين في حواسهم وصحتهم، لهم أجمل تكوين جثماني في العالم. والكبار يتصرفون ببساطة الأطفال ورشاقتهم. كانوا يصنعون الأواني والمآسي والتماثيل، كما تصنعها الحواس الصحيحة، أي بذوق سليم. وقد لبثت هذه الأشياء تُصنع في كل العصور، ولا تزال تُصنع اليوم، حيثما وُجد جسم سليم. ولكنهم تفوقوا على الجميع كطبقة بسبب تفوقهم في التكوين. كانوا يجمعون بين نشاط الرجولة واللاشعور الذي يسيطر على الأطفال. إن ما يفتننا في هذه الآداب هو أنها تخص الرجل، ويعرفها كل رجل بحكم أنه قد مر بدور الطفولة. وفوق ذلك، فهناك دائمًا أفراد يحتفظون بهذه الصفات. والشخص الذي لديه عبقرية الطفولة ونشاط موروث لا يزال يونانيًّا، ويعيد إحياء عشقنا لآلهة الشعر في هلَّاس. وإني لأعجب بحب الطبيعة عند فلكتيتس. وعند قراءة تلك الابتهالات الجميلة إلى النوم وإلى النجوم وإلى الصخور والجبال والأمواج أحس كأن الوقت يمر كالبحر وهو في الجزر. أحس خلود الإنسان، وذاتية فكره. ويبدو لي أن الإغريقي كان له زملاء في الوجود مثلما لي. كانت الشمس والقمر، والماء والنار، تقابل قلبه كما تقابل قلبي تمامًا. ثم إن ذلك التميز الذي نتباهى به بين اليوناني والإنجليزي، وبين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانتيكية يظهر أنه سطحي متكلف. عندما تصبح فكرة أفلاطون فكرتي، عندما تُشعِل الحقيقة قلبي كما أشعلت قلب بندار، عندئذٍ يتلاشى الزمن. وعندما أحس أن كلَينا نلتقي في نظرة، وإن روحَينا يصطبغان بلون واحد، وكأنهما يمتزجان في روح واحدة، أسأل نفسي: لماذا أقيس درجات العرض الأرضية؟ ولماذا أعد السنوات المصرية؟

إن الطالب يفسِّر عصر الفروسية بعصره الخاص للفروسية، كما يفسِّر أيام المغامرات البحرية وطواف البحار بتجاربه المصغرة التي تماثلها تمامًا. وله كذلك المفتاح عينه لتاريخ العالم المقدس. وحينما لا يردد صوتُ نبي من الأنبياء منبعث من أعماق التاريخ القديم سوى صدَى عاطفة من عواطف طفولته، أو دعاء من أدعية الشباب، فإنه ينفذ حينئذٍ إلى الحقيقة خلال جميع اضطرابات التقاليد وخلال الصور الهزلية التي تتمثل في النظم القائمة.

ويندُر أن تهبط علينا في فترات منقطعة أرواحٌ متطرفة تبسط لنا حقائقَ جديدة في الطبيعة. ولقد لاحظت أن رجال الله من حين إلى حين يسيرون بين الناس ويجعلون السامع العادي جِدًّا يحس رسالتهم بروحه وقلبه. ومِنْ ثَمَّ جاءت من غير شك منصة الخطابة، وظهر القسيس والكاهن موحًى إليهما بالإلهام الآلهي.

المسيح يُذهل القوم الحسيين ويغلبهم على أمرهم، فلا يستطيعون أن يوحدوا بينه وبين التاريخ أو أن يوفقوا بينه وبين أنفسهم. فإذا ما قدسوا بصائرهم وتتطلعوا إلى حياة مقدسة فإن تقواهم تفسِّر لهم كل حقيقة وكل كلمة.

ما أيسر أن تستأنس العبادات القديمة لموسى وزرادشت ومنو وسقراط نفسها في العقل؛ فإني لا أرى فيها البتة قِدَمًا، فهي لي بمقدار ما كانت لهم.

ولقد شهدت الرهبان والنساك الأوائل دون أن أعبر البحار أو القرون. وظهر لي أكثر من مرة رجل عادي مهمل في عمله شديد التأمل، منتفع متعالٍ متعاظم، يتسول باسم الله، كما كان سميون ستيلايت وبثيس والكابوشان الأوائل الذين قدَّرهم القرن التاسع عشر.

إن حِيَل الكهنة في الشرق والغرب، وحيل الماجيان وبراهمان ودرويد وأنكا تفسرها الحياة الخاصة للفرد. إن التأثير الشديد الذي يقع من رجل رسمي متزمت على طفل صغير فيكبت روحه وشجاعته، ويشل تفكيره، ويكون ذلك دون أن يُحْدِث لديه سخطًا، دائمًا يثير الخوف والطاعة فحسب، بل ويثير عطفًا شديدًا على الظلم — هذا التأثير حقيقة مألوفة تتضح للطفل عندما يصبح رجلًا — وذلك عندما يدرك أن مَن ظَلَمه في صباه هو نفسه طفل ظلمته تلك الأسماء والكلمات والصور التي كان لتأثيرها مجرد آلةٍ توصل ذلك التأثير للطفل الجديد. وتعلمه الحقيقة كيف كان بلوس يُعبد، وكيف بُنيت الأهرام، أحسن مما تعلِّمه كشوف شمبليون لأسماء جميع العمال وتكاليف البناء. كما يجد آشور وتلال شلولا عند بابه، وهو الذي يُلقي على نفسه الدروس.

ثم إنه — في ذلك الاحتجاج الذي يصرخ به كل رجل منصف ضد خرافة عصره — يستعيد خطوة خطوة دَور المصلحين القدامى، ويجد مثلهم أثناء بحثه وراء الحقيقة مخاطرَ جديدة تهدد الفضيلة. ويتعلم كذلك أن تطويق الخرافة يتطلب شجاعة أدبية. وأن الإباحية الشديدة تأتي في إثر الإصلاح. وكم مرة حدث في تاريخ العالم أن لوثر العصر قد بكى انهيار التقوى بين آل بيته! قالت زوجة مارتن لوثر له ذات يوم: «كيف كُنَّا يا دكتور نصلي كثيرًا وبحرارة شديدة عندما كُنَّا خاضعين للبابوية، في حين أننا اليوم قلما نصلي، فإن فعلنا ففي برودة شديدة؟!»

ويكتشف الرجل الراقي عمق ما يملك في الأدب، في القصص الخرافية كلها وفي التاريخ. ويجد أن الشاعر لم يكن رجلًا شاذًّا عندما وصف مواقفَ عجيبة ومستحيلة، وأن ذلك الرجل العالمي قد كتب بقلمه اعترافًا يصدق على الفرد كما يصدق على الجميع. يجد هذا الرجل الراقي تاريخ حياته الخفي مدونًا في سطورٍ مفهومة له بشكل عجيب، وقد كُتبت قبل أن يُولد، وأنه ليشارك في مغامراته الخاصة حكايات أيسوب الخرافية، وقصص هومر وحافظ وأريستو وشوسر وسكوت واحدة بعد الأخرى، ويحققها برأسه ويدَيه.

إن أقاصيص الإغريق الجميلة حقائق عالمية؛ لأنها من الخلق الصحيح للخيال لا من خلق الوهم. ما أكثر المعاني المتنوعة وما أدوم المغزى الذي تنطوي عليه قصة «بروميثيس»! فإنها إلى جانب قيمتها الأولية باعتبارها الفصل الأوَّل من تاريخ أوروبا (فالأسطورة تستر الحقائق الثابتة سترًا رقيقًا، كاختراع الفنون الآلية، والهجرة إلى المستعمرات) تقدِّم لنا تاريخ الدين مع شيء من الصلة بإيمان العصور المتأخرة؛ فبروميثيس هو يسوع الأساطير القديمة، هو صديق الإنسان، يقف بين «العدالة» المتعسفة «للأب الأبدي» وجنس الإنسان الفاني، ويتحمل بثبات كل شيء في سبيلهم. ولكن القصة حينما تبعُد عن المسيحية الكلفنية وتصور بروميثيس متحديًا لجوف، تمثِّل حالة عقلية تظهر كلما بشرنا بمبدأ الإيمان بالله — مع إنكار الوحي — في صيغة ساذجة موضوعية، حالة عقلية يبدو أنها دفاع الإنسان عن نفسه ضد هذه الأكذوبة، وهي عدم الرضا بما يعتقد فيه الناس من أن الله موجود، والشعور بأن الخضوع لفكرة التقديس أمر شاق، وأنها لتسرق لو استطاعت نار الخالق وتسكن بعيدة منه ومستقلة عنه. إن بروميثيس فنكتس هي القصة الخيالية للشك. وتفصيلات هذه القصة العظيمة تصدق على جميع الأزمنة، كما تصدق على زمانها. ولقد قال الشعراء إن أبولو احتفظ بقطعان أدميتس. إن الآلهة لا تُعرف عندما تأتي إلى الناس، ولم يكن كذلك يسوع، ولم يكن كذلك سقراط أو شكسبير. وقد اختنق أنتيوس من قبضة هرقل، ولكنه كلما مس أمه الأرض تجددت قواه. الإنسان هو العملاق المتحطم، وبرغم ضَعفه كله، ينتعش جسمه وعقله بتعوُّده مناجاة الطبيعة. وقوة الموسيقى، وقوة الشعر في نزع الأجنحة من الطبيعة الجامدة أو إلصاقها بها، تفسر لغز أورفيس. والإدراك الفلسفي المتشابه بين الأشياء مهما تعددت أشكالها تجعله يعرف تقلبات بروتيس. ماذا عسى أن أكون غير ذلك، وقد ضحكت أو بكيت بالأمس، ونمت ليلة الأمس كالجثة الهامدة، ثم نهضت هذا الصباح وعدوت. وماذا أرى في أي جانب سوى تناسخ الأرواح لبروتيس؟ إني أستطيع أن أرمز لفكري باستخدام اسم أي مخلوق أو أية حقيقة؛ لأن كل مخلوق إنسانٌ عامل أو عليل. وليس تانتلاس سوى اسم لك ولي. تانتلاس معناها استحالة شرب مياه الفكر التي تضيء دائمًا وتتماوج على مرأًى من الروح. إن تناسخ الأرواح ليس خرافة. وددت لو كان كذلك، ولكن الرجال والنساء ليسوا إلا أنصاف بشر. كل حيوان في مخزن الغلال، وفي الحقل، والغابة، وفي الأرض والماء تحت الأرض، حاول أن تكون له قدم وأن يترك آثارها وصورتها في أحد هؤلاء المتكلمين المغتصبين الذين يواجهون السماء. أي أخي! كُفَّ عن انكماش روحك، انكماشها إلى الأشكال التي انزلقت في عاداتها عدة سنوات. وكذلك تلك الخرافة القديمة، خرافة ذلك المخلوق العجيب الذي يتكون من رأس إنسان وجسم أسد، ويُقال إنه كان يجلس في الطريق ويضع الألغاز لكل مَن يمر به، فإذا عجز الرجل عن الإجابة ابتلعه حيًّا، وإن استطاع حل اللغز قُتل ذلك المخلوق. وليست حياتنا سوى سرب طويل من الحقائق أو الحوادث! هذه الحوادث تعرض لنا متنوعة تنوعًا كبيرًا، كلٌّ منها يقدِّم الأسئلة للروح البشرية. وأولئك الرجال الذين لا يستطيعون الإجابة عن حقائق الزمن أو مشكلاته هذه بحكمة عليا يخدمونها؛ فالحقائق تعرقل سيرهم، وتتعسف معهم، وتجعل من رجال العمل اليومي رجالًا ذوي حس، الطاعة العمياء للحقائق تطفئ فيهم كل شرارة من ذلك الضوء الذي يجعل الإنسان إنسانًا حقًّا. أمَّا إن كان الإنسان صادقًا نحو غرائزه أو عواطفه الأولى، ويرفض تسلط الحقائق عليه، كأنه آتٍ من جنسٍ أعلى، ويتمسك بالروح ويراعي المبادئ، فإن الحقائق تركد مكانها في مرونة وخضوع؛ ذلك لأنها تعرف سيدها، وأقلها شأنًا يمجده.

وفي «هلنا» لجيته نلمس الرغبة عينَها في أن تصبح كل كلمة شيئًا. إنه يقول إن هذه الشخصيات، شيرون وجريفن وفوركياس وهلن وليدا إن هي إلا أشياء، ولها تأثير معين على العقل. ولذلك فهي إلى الآن موجودات أبدية، واقعية اليوم كما كانت في أول أولمبياد. فكَّر فيها كثيرًا، ثم كتب ما رأى بطلاقة، وجسَّدها في خياله. وإن كانت هذه القصيدة غامضة وهمية كالحلم، إلا أنها أشد جاذبية من القطع التمثيلية، التي تفوقها نظامًا لنفس المؤلف؛ وذلك لأنها تخلِّص العقل بطريقة عجيبة من مألوف الصور المعتادة، وهي توقظ ما عند القارئ من اختراع ووهم بما تتضمنه من حرية طليقة في التصوير، وما فيها من تتابع متصل من صدمات المفاجأة العنيفة.

إن الطبيعة المطلقة أقوى من طبيعة الشاعر الهينة؛ فهي تمتلك رقبته وتكتب عن طريق يده، وقد يبدو كأنه ينفِّس عن مجرد خاطرة طارئة وخيال جامح وهو في الواقع يخرج قصة رمزية دقيقة. ولذا قال أفلاطون: «إن الشعراء ينطقون عن أشياءَ عظيمةٍ وحكيمةٍ لا يفقهونها هم أنفسهم.» وكل قصص العصور الوسطى الخيالية يمكن تفسيرها على أنها تعبير مستتر أو فكاهي عما كان العقل في تلك العصور يعمل جاهدًا لتحصيله في جد رزين. والسحر كل ما ينسب إليه إحساس داخلي عميق بقوى العلم. وحذاء السرعة، والسيف الحاد، والقدرة على إخضاع عناصر الطبيعة، واستخدام المزايا الخفية للمعادن، وفهم أصوات الطيور، كل أولئك جهود عقلية غامضة في اتجاه سليم. وبسالة البطل الخارقة للطبيعة، وهبة الشباب الدائم، وما إلى ذلك، هي كذلك محاولة الروح البشرية «أن تُخضِع مظاهر الأشياء لرغبات العقل».

وفي برسفرست وإمادس دي جول يزدهر الإكليل والزهر على رأس من يؤمن، ويذوي على جبين من يتردد. وفي قصة الولد والعباءة، قد يدهش حتى القارئ الناضج ويخالجه وميض من السرور البريء لانتصار جنلاس المهذب، وفي الحق إن كل ما تفترضه أقاصيص الجن — من أنها لا تحب أن يُذكر لها اسم، وأن مواهبها متقلبة لا يُوثَق فيها، وأن من يبحث عن كنزٍ ينبغي له ألا يتكلم، وما إلى ذلك — كل ذلك أجده صادقًا في كنكورد، مهما يكن أمره في كورنوول أو بريتانيا.

فهل الأمر على خلاف ذلك في أحدث القصص الخيالية؟ لقد قرأت «عروس لامرمور». ووجدت أن السير وليم آشتن قناع للإغراء الشعبي، و«رافنزوود كاسل» اسم جميل للفقير المتكبر، وأن إرسالية الدولة الأجنبية هي كَزيِّ بنيان الذي تنكَّر فيه كي يعمل عملًا خالصًا. كلنا نستطيع أن نستفز العجل المتوحش الذي يُلقي بالخير والجمال أرضًا، وذلك بأن نصرع الظالمين والشهوانيين. ولوس آشتن اسم آخَر للإخلاص، الذي يتصف بالجمال دائمًا ويتعرض في هذه الدنيا للمصائب دائمًا.

وإلى جانب تاريخ الإنسان المدني والميتافيزيقي يسير كل يوم تاريخ آخر إلى الأمام. هو تاريخ العالم الخارجي، ليس الإنسان فيه بأقل اشتباكًا وتلاصقًا؛ فالإنسان هو خلاصة الزمن، وهو متصل العلاقة بالطبيعة، وتنحصر قدرته في كثرة علاقاته، أو في أن حياته مشتبكة بسلسلة الكون العضوي وغير العضوي كلها. كانت الطرق العامة في روما القديمة تبدأ عند فورم وتسير شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا إلى مركز كل إقليم من أقاليم الإمبراطورية، فتجعل كل مدينة تجارية في بلاد الفرس وإسبانيا وبريطانيا سهلة الاقتحام لجند العاصمة، وكذلك فإن الوشائح تخرج من القلب البشري إلى قلب كل شيء في الطبيعة، كي تخضعه لسلطان الإنسان. الإنسان مجموعة من العلاقات، أو عقدة من الجذور، العالم زهرتها. ومواهبه تشير إلى طبائع خارجة عنه، وتنبئ بالعالم الذي يسكنه، كما تتوقع زعانف السمكة وجود الماء، أو تفترض أجنحة النسر في البيضة وجود الهواء. إنه لا يستطيع أن يعيش بغير عالم. ضع نابليون في سجن جزيرة، ولا تدع مواهبه تلتقي بإنسان يؤثر فيه، أو بجبال كجبال الألب يتسلقها، أو خطر يستهدف له، إذا فعلت به ذلك ضرب الهواء وبدا عليه الغباء. أمَّا إن نقلته إلى أقطار فسيحة وشعب كثيف، وأمور معقدة يهتم بها، وقوًى معادية، وجدت أن نابليون الرجل الذي يحده شكل الوجه وهيئة الجسم ليس نابليون الحقيقي، إنما ذلك شبح تالبوت الذي قيل عنه في مسرحية هنري السادس:

إن مادته ليست هنا؛
لأن ما ترون ليس سوى أدنى الأجزاء،
وأصغر نصيب من الإنسانية.
ولو كان الهيكل كله هنا
لوجدتم أن ارتفاعه ضخم جسيم،
لا يكفي سقفكم أن يحتويه.

إن كولمبس يحتاج إلى كوكب يرسم طريقه فيه. ويحتاج نيوتن ولابلاس إلى آلاف العصور ومساحات سماوية منشورة. وتستطيع أن تقول إن النظام الشمسي ذا الجاذبية تنبأت به من قبلُ طبيعةُ عقل نيوتن. وليس بأقل من ذلك ذهن ديفي أوجاي لوساك، الذي أخذ منذ الطفولة يكشف أسباب التقارب والتباعد بين الجزئيات، فتنبأ بقوانين النظام. ألا تتنبأ بالضوء عين الجنين البشري؟ ألم تتنبأ أُذُن هاندل بسحر الصوت المنسجم؟ ألم تتنبأ الأصابع المنشئة لوَتْ وفولتن وهوتمور وآر كرايت بطبائع المعادن الصلبة والتي تنصهر والتي تلين، وخواص الحجر والماء والخشب؟ وألا تنبئ الصفات الطيبة للفتاة الصغيرة العذراء بما يصل إليه المجتمع المدني من تهذيب وبهاء. وهنا كذلك يجب أن نذكر فعل الإنسان بالإنسان؛ فالعقل قد يتدبر بفكره عصورًا ولا يظفر بمعرفة نفسه بمقدار ما تعلمه عاطفة الحب في يوم واحد. من ذا الذي يعرف نفسه قبل أن يثور سخطه على انتهاك الحرمات، أو يستمع إلى لسان فصيح، أو ينبض قلبه مع ألوف الناس في فرح أو ذعر قومي؟ لا يستطيع إنسان أن يتنبأ بخبرته، أو أن يتكهن بالقدرة العقلية أو الشعور الذي يتفتح لشيء جديد، لا يستطيع ذلك أكثر مما يستطيع أن يرسم اليوم وجه إنسان سوف يراه في الغد لأول مرة.

ولن أذهب الآن وراء الرأي العام كي أكشف عن علة هذه المناظرة. ويكفي أن يُقرأ التاريخ ويُكتب في ضوء هاتَين الحقيقتَين، وهما أن العقل واحد والطبيعة تناظره.

ومِنْ ثَمَّ فإن الروح تتركز وتخرج كنوزها لكل طالب بكل الطرق، ويمر الطالب كذلك بدورة التجارب كلها، ويجمع في بؤرة واحدة أشعة الطبيعة. فلا يصبح التاريخ بعد ذلك كتابًا مملًّا، بل يسير مجسَّدًا في كل رجل عادل حكيم. ولا تخبروني باللغات والعناوين عن بيان المجلدات التي قرأتموها، بل اجعلوني أحس أيُّ العصور عشتم. سوف يكون الإنسان مَعبدًا لآلهة الشهرة، يسير — كما وصف الشعراء تلك الآلهة — في رداءٍ صُوِّرَتْ في جميع أنحائه الحوادث والتجارب العجيبة. سوف تصبح هيئته وملامحه بذكائها البالغ ذلك الرداء المزركش. سوف أجد فيه ما قبل الدنيا، وفي طفولته العصر الذهبي، وتفاح المعرفة، ورحلات أرجونوت، ونداء إبراهيم، وبناء المعبد، وظهور المسيح، والعصور المظلمة، وإحياء الآداب، والإصلاح الديني، واكتشاف البلاد الجديدة، وفتح علوم جديدة ومناطق جديدة في الإنسان. سوف يكون الإنسان قسيس بان، ويجلب معه إلى الأكواخ المتواضعة بَرَكة نجوم الصباح وكل ما عرف من منافع الأرض والسماء.

هل في هذا المطلب شيء من الغرور؟ إذن لنبذت كلَّ ما كُتب؛ لأنه لا فائدة في ادعاء المعرفة لما لا نعرف. ولكنه الضَّعف في قدرتنا على التعبير الذي لا يمكننا من تأكيد حقيقة دون أن يبدو علينا كأننا نكذب غيرنا. إنني لا أقدِّر علمنا الفعلي إلا قدْرًا رخيصًا. استمع إلى الفيران في الحائط، وانظر إلى الضب فوق السور، وإلى الطحلب تحت قدمك، وإلى حشائش البحر فوق الكتل الخشبية. ماذا أعرف عن هذه العوالم الحيوية معرفة فيها عطف ولها مغزًى؟ منذ الإنسان القوقازي — وربما أقدم من ذلك — كانت هذه المخلوقات تمد هذا الإنسان بالمعرفة، ولكن ليس هناك سجل لأية كلمة أو إشارة مما انتقل منها إليه. أية علاقة تُفصِح عنها الكتب بين الخمسين أو الستين عنصرًا كيمائيًّا، وبين حِقَب التاريخ؟ بل ماذا يسجل التاريخ حتى الآن عن التاريخ الميتافيزيقي للإنسان؟ وأي ضوء يلقيه على تلك الألغاز التي نخفيها تحت اسم الموت والخلود؟ ومع ذلك فإن كل تاريخ ينبغي أن يُكتب بحكمةٍ تقدِّر علاقة الإنسان بغيره من الأشياء حق قدْرها وتنظر إلى الحقائق كرموز. وإني ليخجلني أن أرى أن ما نسميه التاريخ ليس سوى قصة قروية تافهة. كم مرة ينبغي لنا أن نذكر روما وباريس والقسطنطينية! ماذا تعرف روما عن الفأر والضب؟ وماذا تكون الأولمبياد والقنصليات إذا قِيست إلى نظم الكائنات التي تجاورنا؟ بل وأي طعام أو خبرة أو معونة تقدِّمها هذه الأشياء لصائد العجل البحري من الإسكيمو، أو لكتاكا في الزورق، أو لصائد السمك، أو لعمال الشحن والتفريغ في السفن، أو للحمالين؟

إنما ينبغي أن نكتب تاريخنا في صورةٍ أشمل وأعمق — فيصدر عن رغبة في الإصلاح الخلقي، وعن تدفُّق الضمير الأزلي والأبدي — إن أردنا أن نعبِّر في صورةٍ أصدقَ عن طبيعتنا الأساسية ذات العلاقات المتشعبة، بدلًا من هذه الصورة العتيقة لسرد وقائع الأنانية والكبرياء التي أعرناها أنظارنا مدًى طويلًا. هذا اليوم ماثل أمامنا فعلًا، ويشرق علينا على غير انتظار، ولكن طريق العلم والأدب لا يؤدي إلى الطبيعة. إن الأبله، والهندي، والطفل، وابن الفلاح الذي لم يتعلم في مدرسة، أقرب في موقفهم إلى الضياء الذي تُطالَع فيه الطبيعة من ذلك الذي يحلل الآثار القديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤