التعويض

إن أجنحة الزمان سود وبيض،
منهما يتكون الليل والنهار.
والجبل الشاهق والمحيط العميق،
يحتفظان دائمًا باتزانٍ دقيق.
وفي تقلبات القمر ومد الأمواج،
تتجلى الخصومة بين النقص والكمال.
والنجم الكهربي وحزمة الضوء،
تشتد حينًا وتَضْعُف حينًا في الفضاء.
إن الأرض المنعزلة بين الكواكب،
التي تسير مسرعة خلال الفضاء الأبدي،
وتجري لتسد بثقلها فراغًا
كأنها أنجم يكمل بعضها بعضًا،
أو شرر يتطاير للتكافؤ،
تنطلق خلال الظلام الدامس.

•••

الإنسان شجرة الدرداء، وثروته كروم العنب،
خيوطها تلتوي قوية متينة،
وقد تخدمك هذه الخيوط الواهنة،
ولكن الكَرْم لا يستطيع أن يأخذ عن الشجرة ثباتها.
فلا تخشَ شيئًا إذن أيها الطفل العاجز؛
فليس في الآلهة مَن يجرؤ على إساءة دودة.
إن أكاليل الغار تُهدَى لمستحقيها،
ويظفر بالنفوذ من يبسط النفوذ.
ألم تأخذ نصيبك؟ انظر! إنه على أقدامٍ طائرة.
يجري لكي يلقاك،
وكل ما خصتك به الطبيعة
طائرًا في الهواء أو محبوسًا في الحجر
سوف يشق التلال ويعبر البحار،
ويقفو أثرك كظلك.

كنت دائمًا منذ صباي أتوق إلى أن أكتب حديثًا في التعويض. فقد بدا لي وأنا في سن الحداثة أن الحياة في هذا الموضوع قد سبقت الدِّين، والناس يعرفون أكثر مما يُعلِّم الوعاظ. وكذلك الأسانيد التي يستند إليها هذا المذهب فتنت خيالي بتنوعها الذي لا ينتهي، ومثُلت دائمًا أمامي حتى أثناء النوم؛ فهناك الآلات في أيدينا، والخبز في سلالنا، ومعاملات الطريق، والمزرعة، والمسكن، والتحيات، والعلاقات، والديون والأرصدة، وتأثير الشخصية، وطبيعة جميع الناس ومواهبهم. وبدا لي كذلك أن الناس يمكنهم — على هدي هذا المذهب — أن يشاهدوا قبسًا من نور الله، وأن يدركوا الأثر الراهن لروح هذه الدنيا، مطهرًا من كل أثر من آثار التقاليد، ومِنْ ثَمَّ فإن قلب الإنسان يمكن أن يغوص في فيض من الحب الأبدي، متحدثًا مع ذلك الذي يعرف أنه كان دائمًا، ويجب دائمًا أن يكون؛ لأنه كائن الآن فعلًا. وبدا لي — فوق ذلك — أنه إذا أمكن أن يُصاغ هذا المذهب في عبارات تشبه بعض الشيء تلك البداهات المشرقة التي تتكشف لنا فيها هذه الحقيقة أحيانًا لكان لنا كالنجم في كثير من الساعات المظلمة والطرق الملتوية في رحلتنا، يهدينا فلا نضل الطريق.

وأكدت هذه الاتجاهات عندي أخيرًا الموعظة التي استمعت إليها في الكنيسة؛ فإن الواعظ — وهو رجل مبجل من أجل مذهبه الأرثوذكسي — بسط مبدأ الحساب في الآخرة بالطريقة المألوفة. فزعم أن المرء لا يلقى جزاءه في هذه الدنيا؛ فالأشرار مفلحون، والأخيار بائسون. ثم ادعى بحجة من العقل ومن الكتاب المقدس أن هناك تعويضًا للفريقين في الحياة الأخرى. ولم يسئ هذا المبدأ إلى الجماعة التي استمعت إليه. وبمقدار ما استطعت أن ألاحظ تَفَرَّقَ الناس في نهاية الحفل دون أن يعلِّق واحد منهم على الموعظة.

ولكني أتساءل عن مغزى هذا الرأي. ماذا كان يعني الواعظ عندما قال إن الأخيار بائسون في الحياة الدنيا. هل قصد أن البيوت والأراضي والمراكز والنبيذ والخيل واللباس والترف إنما يظفر بها مَن لا خلاق لهم، في حين أن القديسين فقراء محتقرون، وأن هؤلاء سوف يَلقون عوضًا في الحياة الآخرة، بإعطائهم ما يشبه ذلك من أسباب الرضا في يومٍ آخر، أوراق مالية وعملة إسبانية ولحم الصيد والشمبانيا؟ لا بد أن يكون ذلك هو التعويض الذي يعنيه. أو ماذا عسى أن يكون غير ذلك؟ هل قصد أن تُتاح لهم الصلاة والحمد؟ والحب وخدمة الناس؟ إنهم يستطيعون أداء ذلك اليوم. إن النتيجة الحتمية التي يخرج بها التلميذ هي هذه: «سوف ننعم بوقت طيب مثل ما ينعم به الآثمون اليوم.» — أو إذا نحن سِرنا بما يترتب على ذلك إلى نهاية الشوط — «أنت تأثم اليوم، وسوف نأثم نحن فيما بعد. وإنا لنأثم اليوم إذا نحن استطعنا ذلك، ولكنا لم نفلح، ولذا فإنا نتوقع الانتقام لأنفسنا غدًا.»

وموضع المغالطة هنا هو الإذعان المطلق للرأي القائل بأن الأشرار مفلحون، وأن الإنسان لا يَلقى جزاءه اليوم. ويرجع عمى الواعظ إلى ركونه إلى تقدير السوقة الوضيع لعناصر نجاح الرجولة، بدلًا من مواجهة الدنيا والحكم عليها من زاوية الحقيقة، وإعلان وجود الروح، وقدرة الإرادة المطلقة، وبهذا يقيم معيار الخير والشر والنجاح والفشل.

وإني لأجد نغمة وضيعة كهذه في المؤلفات الدينية الشائعة في هذه الأيام، وفي نفس المذاهب التي يعتنقها رجال الأدب عندما يعالجون ما يتعلق بهذا الموضوع بين الحين والحين. وأظن أن العقائد الدينية الشائعة قد تفوقت على الخرافات التي حلت محلها في الظاهر فقط لا في المبدأ. ولكن الناس خير من هذه العقائد الدينية. وحياتهم اليومية تفنِّدها. كل نفس نابغة طموحة تولي المبدأ ظهرها في أثناء تجاربها، ويشعر جميع الناس أحيانًا بالخطأ ولكنهم لا يستطيعون إظهاره؛ لأن الناس أحكم مما يعرفون. وذلك الذي يسمعونه في المدارس ومن المنابر دون أن يفكروا فيه بعد ذلك — إذا قيل في حديث — ربما كان موضع تساؤل في صمت. وإذا ما أعلن إنسانٌ ما في جمهور مختلط عقائدَه الجامدة في الله والقوانين السماوية، أُجيب بسكونٍ يدل الرائي دلالة قاطعة على سخط السامعين مع عجزهم عن التعبير عن آرائهم.

وسوف أحاول في هذا الفصل أن أسجل بضع وقائع تشير إلى سير قانون التعويض. وسوف أجد من السعادة فوق ما أتوقع لو رسمت رسمًا صادقًا أدنى قوس من هذه الدائرة.

التجاذب، أو الفعل ورد الفعل، شيءٌ تقابله في كل جزء من أجزاء الطبيعة، في الظلام والنور، في الحرارة والبرودة، في جزر المياه ومدها، في الذكر والأنثى، في شهيق النباتات والحيوانات وزفيرها، في تعادل الكم والنوع في سوائل الجسم الحيواني، في انقباض القلب وانبساطه، في تموجات السوائل والأصوات، في القوة الطاردة والقوة الجاذبة، في الكهرباء والكهربية السائلة، وفي الصلات الكيمائية. إذا أنت أحدثت مغناطيسية في أحد طرفَي إبرة، حدثت المغناطيسية المضادة في الطرف الآخر. وإذا كان الجنوب يجذب فإن الشمال يطرد. وإذا أنت أفرغت هنا ملأت هناك. إن الطبيعة تخترقها ثنائية لا مفرَّ منها؛ فكل شيء نصف يشير إلى شيء آخر يكمله، كالمادة والروح، والرجل والمرأة، والمفرد والمزدوج، والذاتي والموضوعي، والداخل والخارج، والعالي والسافل، والحركة والسكون، والإيجاب والنفي.

وكما أن العالم ثنائي هكذا، فكذلك كل جزء من أجزائه؛ فإن النظام الشامل للأشياء يتمثل في كل جزء؛ فهناك ما يشبه مد البحر وجزره، والليل والنهار، والرجل والمرأة، في كل إبرة من إبر الصنوبر، وكل حبة من حبات القمح، وكل فرد من أفراد أية قبيلة حيوانية. إن رد الفعل، الذي تراه عظيمًا في العناصر، يتكرر داخل هذه الحدود الضيقة؛ ففي المملكة الحيوانية مثلًا يُلاحِظ الفسيولوجي أنه ليس هناك مخلوقات مفضلة، ولكنَّ هناك تعويضًا خاصًّا يوازن كل ميزة وكل عيب؛ فالزيادة التي تُعطى لجزءٍ ما تكون على حساب نقص في جزء آخرَ من نفس المخلوق. فإذا كان الرأس والرقبة على ضخامة، فالجذع والأطراف على ضآلة.

ونظرية القوى الآلية مثال آخر؛ فما نكتسبه في القوة نفقده في الوقت، وعكس ذلك صحيح. والعيوب المعوِّضة أو الفترية في الكواكب مثال آخر. وأثر المناخ والتربة في التاريخ السياسي مثال رابع. الجو البارد يبعث النشاط، والتربة القاحلة لا تولد الحميات أو التماسيح والنمور والعقارب.

والثنائية عينها تكمن وراء طبيعة الإنسان وحالته. كل زيادة ينجم عنها نقصان، وكل نقصان تترتب عليه زيادة. لكل حلو مرارته، وفي كل شر خير. وكل قدرة على قبول المتعة لها ما يوازيها من عقوبة إذا أُسيء استخدامها. وعليها أن تضحي بحياتها في سبيل الاعتدال. كل ذرة من الذكاء تقابلها ذرة من الحماقة. ولقاء كل شيء يفوتك تكتسب شيئًا آخر، ونظير كل شيء تكسبه شيء تخسره. إذا زادت الثروة زاد من يستخدمها. وإذا بالغ الجامع في الجمع، استلبت الطبيعة من الرجل بمقدار ما أودعت صندوقه. إنها تضخِّم ضيعته ولكنها تقتل صاحب الضيعة. الطبيعة تكره الاحتكار والاستثناء. وأمواج البحر تسارع إلى الهبوط من أعلى قممها كما تسارع تقلبات الأحوال إلى تسوية نفسها. هناك دائمًا ظرف من الظروف يميل إلى التسوية ويحط ماديًّا من المتعالي والقوي والغني والسعيد، حتى يجعله في مستوًى واحد مع الآخرين. فإذا كان الرجل قويًّا على المجتمع متوحشًا، مواطنًا سيئًا بمزاجه ومركزه، خبيثًا حاد الطباع، فيه دفعة القرصان، فإن الطبيعة ترسل إليه جماعة طيبة من البنين والبنات، ناجحة في الفصول الأولية التي تديرها السيدات بمدرسة القرية، وحب الرجل وخوفه عليهم يخفف من تنكره للأخلاق الكريمة. وهكذا فإن الطبيعة تحاول أن تُلين الجرانيت والفلسبار، وأن تنتزع الخنزير وتودع مكانه الحَمَل، وتحتفظ باتزانها دائمًا.

يتخيل المُزارع أن القوة والمكانة من الأشياء الحسنة، ولكن رئيس الجمهورية قد دفع ثمنًا غاليًا للبيت الأبيض. إنه عادة يكلفه طمأنينته وخير صفات الرجولة لديَه. ولكي يحتفظ لفترة قصيرة من الزمن بمظهر بارز كهذا أمام العالم تراه يقنع بأن يأكل التراب أمام السادة الحقيقيين الذين يقفون منتصبين خلف العرش. أم هل يرغب الناس في عظمة النبوغ لأنها أثقل وزنًا وأشد ثباتًا؟ إن هذه كذلك ليست لها حصانة. من يكون عظيمًا بقوة الإرادة أو قوة الفكر ويعلو على الألوف يتحمل تكاليف العظمة. كل فيض من النور يصحبه خطر جديد. هل لديه ضياء؟ لا بد له من صيانته، ولا بد له دائمًا من عدم الاكتفاء بشعور القناعة والرضى، وذلك لإخلاصه لكل وحي جديد تلهمه به روحه التي لا تفتر. لا بد له من أن يكره أمه وأباه، والزوج والولد. أم هل لديه كل ما تحب الدنيا وتعجب به وتشتهيه؟ لا بد له من أن ينبذ وراءه إعجاب الناس به، وأن يفجعهم بإخلاصه لحقيقته، فيصبح لهم كلمة عابرة، أو همسًا خافتًا.

هذا القانون يدوِّن قوانين المدائن والأمم. ومن العبث أن نقيم ما يفنده أو نتآمر عليه أو نتحد ضده. «إن الأشياء ترفض أن تُساء إدارتها طويلًا.» إن الشر المستحدَث قد لا تظهر فيه العقبات، ولكن العقبات قائمة وسوف تظهر. إذا كانت الحكومات قاسية، فإن حياة الحاكم لا تكون آمنة. وإذا فُرضت ضريبة عالية فإن الدخل لا يأتيك بشيء. وإذا جعلنا قانون الجنايات دمويًّا، فإن المحكمين لن يدينوا أحدًا. وإذا كان القانون لينًا تدخل الانتقام الشخصي. وإن كانت الحكومة ديمقراطية مزعجة فإن فيض النشاط عند المواطن يقاوم ضغطها، فتتوهج الحياة بشعلة أقوى وميضًا. يظهر أن حياة الإنسان الحقة وما يرضيه فعلًا لا يخضع لأشد الظروف قسوة أو مواتاة، بل تثبت دون مبالاة بتقلبات الظروف جميعًا. إن تأثير الشخصية يبقى كما هو تحت كل حكومة، يكاد يتشابه في تركيا ونيو إنجلند. وفي ظل الحكام المستبدين الأوائل في مصر يعترف التاريخ صراحةً أن الإنسان كان يستمتع بالحرية بمقدار ما كانت تمكنه ثقافته.

هذه المظاهر تشير إلى أن الكون ممثَّل في كل جزء من أجزائه. كل شيء في الطبيعة يحتوي على قوى الطبيعة جميعًا. وكل شيء مصنوع من مادة خفية واحدة، كما يرى عالم الطبيعة نوعًا واحدًا في التطورات المختلفة للشيء الواحد، ويرى الحصان كالرجل العدَّاء، والسمكة كالرجل السابح، والعصفور كالرجل الطائر، والشجرة كالرجل ثابت الجذور. كل شكل جديد لا يكرر الصفة الأساسية للنوع فحسب، وإنما يكرر جزءًا جزءًا كل التفصيلات، وكل الأغراض، وأسباب التقدم، وأسباب التأخر، والقوى، والنظام بأسره، الذي يتميز به كل جزء آخر، وكل عمل وكل مهنة وفن وتعامُل خلاصة للدنيا ويتمم كلُّ واحد منها الآخر. كل فرد رمز كامل للحياة الإنسانية، رمز لخيرها وشرها، ومحاولاتها، وخصومها ومسيرها وغايتها. وكل فرد ينبغي له أن يستوعب الإنسانية كلها بصورةٍ ما، وأن يكرر مصيرها كله.

إن الدنيا تكوِّن نفسها في قطرة الندى. ولا يستطيع المنظار المكبر أن يجد الحيوان المتناهي في الصغر الذي يقل كمالًا لأنه يقل حجمًا. إن العيون، والآذان، والذوق، والشم، والحركة، والمقاومة، والشهوة، وأعضاء التناسل التي تسيطر على الخلود، كل ذلك يجد مجالًا يحتويه في المخلوق الصغير. وهكذا نضع حياتنا في كل عمل. والعقيدة الحقيقية في وجود الله في كل مكان معناها أن الله يعيد ظهوره بكل أجزائه في كل ذرة من طحلب أو خيط من نسيج العنكبوت. وقيمة الكون تجاهد أن تلقي بنفسها في كل قطرة: إن وُجد الخير وُجد كذلك الشر، وإن وُجد التقارب وُجد التباعد، وإن وُجدت القوة وُجد العجز.

هكذا يحيا الكون. كل شيء خلاصة؛ فالروح — التي نحسها عاطفة في نفوسنا — هي قانون خارج أنفسنا، نشعر بوحيها، ونشهد في التاريخ قوَّتها القاضية «فهي في الدنيا، وبها وُجدت الدنيا». والإنصاف لا يُؤجَّل، والعدالة الكاملة تقيم ميزانها في جميع أجزاء الحياة، والله مستعد دائمًا بأحكامه. إن الدنيا تشبه جدول الضرب في الحساب، أو معادلة رياضية، إذا قلبتها كيفما شئت توازن نفسها. خذ أي رقم تشاء تجد أن قيمته المضبوطة هي بالنسبة إليك لا تزيد ولا تنقص. كل سر يفشو، وكل جريمة تجد جزاءها، وكل فضيلة تُكافأ، وكل خطأ يُجازى، في صمت وبالتأكيد. وما نسميه الجزاء هو الحقيقة العالمية التي تدل على أن الكل يبدو حيثما ظهر الجزء. فإن شهدت دخانًا فلا بد أن تكون هناك نار. وإن رأيت يدًا، أو طرفًا، عرفت أن الجذع خلفهما.

كل عمل يكافئ نفسه، أو بعبارة أخرى يكمل نفسه، بطريقتين؛ أوَّلًا: في الشيء، أو في الطبيعة الواقعة، وثانيًا: في الظروف أو في الطبيعة الظاهرة. ويُسَمِّي الناسُ الظروفَ الجزاء. والجزاء السببي في الشيء تراه الروح، والجزاء في الظروف يدركه العقل، ولا ينفصل عن الشيء، ولكنه غالبًا ما ينتشر على فترة طويلة من الزمن، ولذا لا يتضح إلا بعد سنوات عدة، فإن آثارًا معينة قد تتبع الإساءة في وقتٍ متأخر، ولكنها تتبعها لأنها ترافقها؛ فالجريمة والعقاب يصدران عن أصل واحد. العقوبة ثمرة تنضج في الخفاء داخل زهرة المتعة التي تخفيها الجريمة، ولا يمكن أن نفصل السبب عن النتيجة، أو الوسيلة عن الغاية، أو البذرة عن الثمرة؛ لأن النتيجة تتفتح فعلًا في السبب، والغاية يسبق وجودُها في الوسيلة، والثمار في البذور.

وبينما الدنيا هكذا تريد أن تكون واحدًا وترفض أن تنقسم، نسعى نحن إلى العمل الجزئي، وإلى الانفصال، وإلى التخصص؛ فمثلًا لكي نرضي الحواس نفصل متعة الحواس عن حاجات الشخصية، ومن هنا فإن عبقرية الإنسان كانت تتوجَّه دائمًا نحو حل مشكلة واحدة، وهي كيف نفصل اللذة الحسية، أو القوة الحسية، أو الإشراق الحسي، إلى آخر ذلك، عن اللذة الروحية، والعمق الروحي، والجمال الروحي، ومعنى ذلك أننا نحاول أن نعزل عزلًا تامًّا السطح العلوي ونرققه حتى يصبح من غير قاع، أو أن نحصل على طرَف دون الطرف الآخر. تقول النفس كُلْ، ويريد الجسم أن يولم، وتقول النفس إن الرجل والمرأة سيكونان جسدًا واحدًا وروحًا واحدة، ولكن الجسم يريد أن يتصل بالجسد وحده. وتقول النفس: تسلَّط على كل شيء من أجل الفضيلة، ولكن الجسم يريد النفوذ على الأشياء لأغراضه الخاصة.

إن الروح تجاهد بكل قوة لكي تعيش وتعمل خلال الأشياء جميعًا. وتريد أن تكون الحقيقة الوحيدة. وكل شيء ينضم إليها، القوة والمتعة والمعرفة والجمال. إن الرجل الواحد يهدف إلى أن يكون شخصًا ما، وأن يقوم لذاته، وأن يبادل السلع ويساوم لصالحه الخاص، وهو في تفصيلات حياته يريد أن يركب لكي يكون راكبًا، وأن يلبس لكي يكون لابسًا، وأن يأكل ليكون آكلًا، وأن يحكم لكي يُرى. إن الناس يرمون إلى بلوغ العظمة، فهم يريدون المناصب والثراء والقوة والشهرة. ويحسبون أن بلوغ العظمة هو امتلاك ناحية من نواحي الطبيعة — الناحية الحلوة دون الناحية الأخرى — المرة.

هذا التقسيم وهذا الانفصال يُقابَل دائمًا بما يناقضه. ويجب أن نعترف أن كل مَن حاول أن يبرز وحده لم يلاقِ حتى اليوم أدنى نجاح. إن المياه المنشقة تتحد ثانية خلف أيدينا. والمتعة تزول عن الأشياء الممتعة، والكسب عن الأشياء المكسبة، والقوة عن الأشياء القوية إذا أردنا أن نفصلها عن الكل. إننا لا نستطيع أن نجزئ الأشياء وأن نحصل على الفائدة الحسية وحدها أكثر مما نستطيع أن نحصل على داخلٍ ليس له خارج، أو ضوء بغير ظل «إذا دفعت الطبيعة بشوكة، ارتدت إليك مسرعة.»

إن الحياة تخلع على نفسها شروطًا لا مفرَّ منها، يحاول الحمقى أن يتنصلوا منها، ويحاول هذا الفرد أو ذاك أن يفخر بتجاهلها أو بأنها لا تمسه، ولكنه فخر زائف يجري على شفتَيه فقط، أمَّا الشروط ففي روحه. إذا فرَّ منها في ناحية هاجمته في ناحيةٍ أخرى أشد حيوية، وإن تحاشاها شكلًا ومظهرًا فذلك لأنه قاوم حياته وفر من نفسه، وليس جزاؤه أقل من الموت. إن فشلَ كل محاولة في فصل الخير عن ضريبته أمرٌ واضح لا يشجع على إجراء التجربة — ما دام إجراؤها ضربًا من الجنون — لولا ما تقتضيه الظروف، وإذا ما ظهرت في إرادة المرء علة العصيان والانفصال، أُصيب بها الذهن كذلك، فيتوقف الإنسان عن رؤية الله كاملًا في كل شيء، ولكنه يستطيع أن يرى الغواية الحسية للأشياء دون أن يرى الأذى الحسي. إنه يرى رأس عروس البحر ولا يرى ذيل الأفعوان، ويظن أنه يستطيع أن يفصل ما يريد أن يحصل عليه عما لا يريد الحصول عليه. يقول القديس أوغسطين في الكتاب الأوَّل من اعترافاته: «ما أشد اختفاءك يا مَن تسكن السموات العلا في صمت وسكون، أنت أيها الإله العظيم الأوحد، يا من تنشر بقدرة لا تكل أنواعًا من العمى عقوبة لمن يطلقون لشهواتهم العنان.»

إن الروح البشرية تُخلص لهذه الحقائق في تصوير الحكايات الخرافية، والتاريخ، والقانون، والأمثال، والأحاديث. وتجد لها لسانًا في الأدب بغير قصد؛ ولذا فقد أطلق الإغريق على «جوبتر» اسم «العقل الأسمى». ولما كانوا في تقاليدهم قد نسبوا إليه كثيرًا من الأعمال الوضيعة، فقد استرضَوا العقل عفوًا. وذلك بتقييد يدي إلهٍ سيئ كهذا. فأصبح عاجزًا كملك إنجلترا. ويَعْرف «بروميثيس» سرًّا واحدًا لا بد ﻟ «جوف» أن يساوم فيه، وتعرف «منيرفا» سرًّا آخر. ولا يستطيع جوف أن يظفر بصواعقه؛ لأن «منيرفا» تحتفظ بمفاتيح هذه الصواعق.

من بين الآلهة جميعًا أنا وحدي أعرف المفاتيح،
التي تفتح الأبواب الجامدة التي تختفي صواعقه
داخل قبابها.

وهذا اعتراف صريح عن العمل الباطني «للكل» وعن عرضه الخلقي. وتنتهي الميثولوجيا الهندية بنفس هذه القواعد الخُلقية. ويظهر أنه من المستحيل أن تخترع حكاية خرافية وتشيع بين الناس إلا إذا كانت تقوم على أساسٍ خلقي. لقد نسيت «أورورا» أن تطلب الشباب لعشيقها، ومع أن «تيثونس» خالد إلا أنه عجوز، ولم يكن «أخيل» محصَّنًا ضد الطعنات تمامًا؛ لأن المياه المقدسة لم تغسل العَقِب الذي أمسكته منه «ثتس». وكذلك «سيجفريد» في نيبلنجن ليس خالدًا كل الخلود؛ لأن ورقة من أوراق الشجر سقطت على ظهره بينما كان يستحم في دماء الأفعوان، وتلك البقعة التي غطتها الورقة فانية. وينبغي أن تكون كذلك. إن في كل شيء خلقه الله نقطة ضعف. ويظهر أن الظرف الانتقامي يوجد دائمًا، ويدب في الشيء دون أن يحس به، حتى في الشعر الهمجي الذي حاول فيه خيال الإنسان أن يأخذ حرية جريئة، وأن يتخلص من القوانين العتيقة، هذه الضربة الخلفية، أو هذه القذيفة المدفعية، تشهد بأن القانون لا مفر منه، وأن الأشياء لا تُوهب في الطبيعة، لكنها جميعًا تُباع.

ذلك هو المبدأ القديم لنمسس، الذي يسهر على الكون، ولا يدع إساءة تمر بغير عقوبة. ويُقال إن آلهة الانتقام في خدمة العدالة، وإذا ما تخطت الشمس في السماء مسيرها عاقبتها هذه الآلهة. وروى الشعراء أن الأسوار الحجرية والسيوف الحديدية، والسيور الجلدية تشارك في الخفاء ما يقترف أصحابها من آثام، وأن الحزام الذي أعطاه «أيجكس» ﻟ «هكتور» جرَّ بطل طروادة في الميدان إلى عجلات عربة «أخيل»، وأن السيف الذي أعطاه «هكتور» ﻟ «أيجكس» هو الذي سقط «أيجكس» على حدِّه. ورووا أنه لما أقام «ألثاسيان» تمثالًا ﻟ «ثيجنيز» الذي ظفر في المباريات، تسلل إليه أحد منافسيه في المساء، وحاول أن يحطمه بالضربات المتتالية، حتى استطاع في النهاية أن يزعزعه عن قاعدته، فسقط التمثال وسحقه تحت سقطته حتى مات.

وفي رواية هذه الحكاية الخرافية شيء من القداسة؛ فقد نبتت من تفكيرٍ فوق إرادة الكاتب. وذلك أحسن ما عند أي كاتب؛ إذ ليس فيه شيء خاص، إنما هو شيء لا يعرفه يصدر عن كيانه، ولا يصدر عن فرط خياله. إنها صفة لا تستطيع أن تلمسها بسهولة عندما تدرس فنانًا بمفرده، ولكنك تلمسها حين تدرس الكثيرين فتستخلصها وتدرك أنها روحهم أجمعين. إنني لا أريد أن أعرف «فدياس»، ولكني أريد أن أعرف عمل الإنسان في ذلك العالم الهليني القديم، فإن اسم «فدياس» وظروفه، مهما كانت ملائمة للتاريخ، تحيرنا عندما نتعرض للنقد الدقيق. علينا أن نرى ذلك الذي كان يميل الإنسان إلى فعله في فترة معينة، ولكن تدخُّل إرادات «فدياس» و«دانتي» و«شكسبير» — أي ذلك العضو الذي استخدمه الإنسان في تلك اللحظة — قد حال دون أدائه، أو إن شئت فقل قد وجهه وجهة أخرى.

ويسترعي أنظارنا أكثر من ذلك التعبيرُ عن هذه الحقيقة في أمثال جميع الأمم، وهي دائمًا أدب العقل، أو صوت الحق المطلق دون تعديل. الأمثال — كالكتب المقدسة في كل أمة — هي محراب البديهيات؛ فإن ذلك الذي لا يسمح العالَم المتراخي، المقيد بالمظاهر، للرجل الواقعي أن يقوله في كلمات من عنده، يسمح له بقوله في أمثالٍ من غير تناقض. وقانون القوانين هذا الذي تنكره المنابر ومجالس الشيوخ والكليات تبشِّر به في كل ساعة وفي كل سوق وكل مصنع أسرابٌ من الأمثال معناها صادق وموجود في كل مكان كأنها الطيور أو الذباب.

كل شيء مزدوج، هذا يقابل ذاك، دقة بدقة، والعين بالعين، والسن بالسن، والدماء بالدماء، وخطوة بخطوة، وحب بحب — أعطِ تُعْطَ، من يَرْوِ يرتوِ — يقول الإله: ادفع ثمن ما تريد يكن لك. إذا لم تغامر لا تظفر بشيء. ولسوف تُؤجر تمامًا بقدْر ما عملت، لا أكثر ولا أقل. مَن لا يعمل لا يأكل. من يرقب الأذى يُصَب به، واللعنة تنصب دائمًا على رأس من يستنزلها. إذا طَوَّقت جِيدَ عبدٍ بسلسلة، فإن الطرف الآخر يُطوِّق جِيدك. والنصيحة السيئة تزعج الناصح بها، إنما الشيطان حمار.

هكذا كُتب علينا؛ لأن الحياة كذلك، فإن قانون الطبيعة يسيطر على أعمالنا ويدفعها فوق إرادتنا. إننا نرمي إلى غايةٍ تافهةٍ أبعدَ كلَّ البُعد عن الصالح العام، ولكن أعمالنا تنخرط بجاذبية لا تُقاوَم في سلك واحد مع قطبَي الدنيا.

إن الإنسان قد لا يتكلم ولكنه يحكم على نفسه. وبإرادته أو رغمًا عن إرادته، يرسم صورته لأعين رفاقه في كل كلمة. كل رأي يرتد على مَن ينطق به؛ فهو كالكرة ترتبط بخيطٍ ويُلقى بها إلى هدف، ولكن الطرف الآخر يبقى في جَعبة الرامي. أو قل إن الرأي كصنارة الصيد يُقذف بها الحوت، تَحُلُّ وهي طائرة في الهواء لفافة حبال في قارب الصيد. وإذا لم تكن الصنارة صالحة، أو إذا لم تُسدَّد رمايتها، أوشكت أن تشق ربان السفينة نصفَين، أو أن تغرق القارب.

إنك لا تستطيع أن تفعل الخطأ دون أن تتحمل وِزره. يقول بَرْك: «لا يمكن أن تكون للإنسان نقطة افتخار لا يصيبه منها أذًى.» إن مَن يتنحى عن الحياة المألوفة لا يدرك أنه يتنحى عن المتعة لكي يظفر بها. ومَن يعتزل في الدين لا يدرك أنه يغلق أبواب السماء على نفسه محاولًا أن يغلق الباب في وجه الآخرين. إذا عاملت الناس كبيادق الشطرنج أو دبابيس اللعب كابدت ما يكابدون. وإذا أهملت قلوبهم فقدت قلبك. إن الحواس تجعل من الناس أشياء، من النساء ومن الأطفال والفقراء. والمثل الشعبي القائل: «سوف أحصل على ما أريد من كيس نقوده أو من جلده» فلسفة صحيحة.

كل نقص في الحب والإنصاف في علاقاتنا الاجتماعية يلقى جزاءه فورًا. يلقى الجزاء في الخوف. إذا وقفت من زميلي في علاقتي به موقفًا بسيطًا، فإني لا أجد غضاضة عندما ألقاه. إننا نلتقي كما يلتقي الماء بالماء، أو كما يختلط تياران من الهواء، في امتزاج كامل وتداخل في الطبائع. غير أننا لو انحرفنا عن البساطة، وحاولنا المناصفة، أو كان هناك خير لي ليس فيه خير لجاري، فإنه يشعر بالإساءة، ويبتعد عني بمقدار ما ابتعدت عنه. لا تبحث عيناه عن عينَي بعد ذلك، وينشب بيننا الخصام وتقوم في نفسه الكراهية وفي نفسي الخوف.

كل مساوئ المجتمع القديمة، العامة والخاصة، وكل مِلك أو نفوذ جاء ظلمًا إنما يلقى الانتقام على صورة واحدة. الخوف يعلمنا الحكمة الكبرى، وهو رائد كل انقلاب. وهو يعلمنا شيئًا واحدًا، وذلك أن هناك فسادًا حيثما ظهر. إنه أشبه بالحدأة أو الغراب، قد لا ترى جَيِّدًا ما يحومان حوله، إلا أنك تثق من وجود الموت والجيف الممزقة في مكانٍ ما. إن أملاكنا هيابة، وقوانيننا هيابة، وطبقاتنا المثقفة هيابة. وقد أنذر طائر الخوف بالشر منذ آمادٍ طويلة وقطَّب جبينه وتذمَّر من الحكومة ومن المِلك، ولم يوجد ذلك الطائر الدنس هناك من غير داعٍ. وإنما كان يشير إلى أخطاءٍ كبرى لا بد أن يُعاد فيها النظر.

ومن هذا القبيل ما نتوقعه من التغيُّر الذي يعقب مباشرةً توقُّف حركتنا الإرادية. كما أن الفزع من الظهيرة الخالية من السحب، وزمردة «بوليكراتس»، والرهبة التي نحُسُّها إزاء كل فَلَاح، والغريزة التي تقود كل روح كريمة إلى أن تفرض على نفسها واجبات من الزهد النبيل والفضيلة التي نؤديها لغيرها، ذلك كله ذبذبة ميزان العدالة في قلب الإنسان وعقله.

يعلم المجرِّبون من الرجال في هذه الدنيا جَيِّدًا أنه من الخير لهم أن يجزلوا العطاء أنى ساروا، وأن الإنسان كثيرًا ما يدفع الثَّمَن غاليًا نظيرَ اقتصاد ضئيل. والمدين يعاني من دَينه. هل يكسب شيئًا ذلك الإنسان الذي يتلقَّى مائة معروف ولا يصنع واحدًا. وهل يكسب إن هو استعار — لتراخيه أو لمكره — أدواتِ جاره أو خيله أو ماله؟ في هذه الفعلة ينشأ الاعتراف المباشر بالمنفعة من ناحية، والدَّيْن من ناحية أخرى، أي ينشأ السمو والنقص في آنٍ. وتبقى العملية في ذاكرته وذاكرة جاره. وكل عملية جديدة تُغَيِّر — وفقًا لطبيعتها — علاقة أحدهما بالآخر، وربما يدرك حالًا أنه كان خيرًا له أن يحطم عظامه من أن يركب عربة جاره، وأن «أعلى ثَمَنٍ يمكن أن يدفعه للشيء هو طلبه إياه».

والرجل العاقل يطبِّق هذا الدرس على جميع نواحي الحياة، ويعرف أنه من الحكمة أن يواجه كل طالب، وأن يدفع ثمنًا لكل مطلب عادل من وقته ومواهبه وقلبه. ادفع دائمًا؛ لأنك لا بد أن تدفع الدَّين كله أوَّلًا أو آخرًا. والأشخاص والحوادث قد يقفون لفترةٍ ما بينك وبين العدالة، ولكن ذلك لا يكون إلا إلى حين. لا بد أن تدفع دَينك أخيرًا. ولو كنت عاقلًا لخشيت النجاح الذي يُحمِّلك من هذا الدَّين المزيد. المنفعة غاية الطبيعة، ولكن لقاء كل منفعة تتلقاها تُجبى منك ضريبة. والعظيم من يهب أكثر المنافع. ومن الوضاعة — بل ذلك هو الشيء الوضيع الوحيد في الكون — أن تتلقى الأفضال ولا تقدِّم فضلًا واحدًا. وفي نظام الطبيعة لا نستطيع أن نقدِّم المنافع لأولئك الذين نتلقاها منهم، أو قلما يكون ذلك. ولكن المنفعة التي نتلقاها لا بد أن تُبذل لآخَرَ مرةً أخرى، خطًّا بخط، وعملًا بعمل، وسنتًا بسنت. واحذر من أن تُبقي الفائدة طويلًا بين يدَيك. فسرعان ما تفسد وتولد الديدان. أسرع بدفعها على صورةٍ ما.

وهذه القوانين الصارمة عينها تسيطر على العمل. يقول الحكيم: «أغلى الأعمال ثمنًا أرخصها.» وما نشتريه في مكنسة أو حصير أو عربة أو سكين هو ما يفيده منها العقل الحكيم باستخدامها في مصلحةٍ عامة. خيرٌ لك أن تدفع في أرضك أجرًا لبستاني ماهر، أو أن تشتري عقلًا حكيمًا يستخدم الحكمة في فِلاحة البستان، أقصِدْ في ملاحك أن يطبِّق العقل الحكيم على الملاحة، وفي بيتك تطبيق العقل الحكيم على الطبخ والحياكة والخدمة، وفي وكيلك أن يطبق العقل الحكيم على حساباتك وشئونك. هكذا تضاعف وجودك، أو تنشر نفسك خلال مزرعتك. ويترتب على الطبيعة الثنائية لكل شيء أنه لا يمكن أن يكون هناك خداع في العمل أو في الحياة؛ فالسارق يسرق من نفسه؛ لأن الثمر الحقيقي للعمل هو المعرفة والفضيلة، وليس الثراء والامتياز إلا شارة له. وهذه الشارة — كعملة الورق — يمكن تزييفها أو سرقتها، ولكن ما تمثله، أعني المعرفة والفضيلة، لا يمكن أن يُزيَّفا أو يُسرَقا. وأغراض العمل هذه لا يمكن تحقيقها إلا بالإجهاد الحقيقي للعقل وبالخضوع للدوافع الخالصة. أمَّا الغشاش والمختلس والمقامر فلا يستطيعون أن يسلبوا المعرفة مادية أو معنوية، تلك المعرفة التي يكسبها العامل بجهده المضني وعنايته الصادقة. قانون الطبيعة هو هذا: افعل الشيء تكن لك القوة، أمَّا الذين لا يفعلون ذلك الشيء فلا تكون لهم قوة.

إن العمل الإنساني بكل صوره، من تشذيب الوتد إلى إنشاء المدينة أو الملحمة، مثل واحد كبير للتعويض الكامل في الكون. إن التوازن المطلق بين الإعطاء والأخذ، والمذهب الذي يقول بأن لكل شيء ثَمَنه، وإذا لم يُدفع هذا الثَّمن، لا تظفر بهذا الشيء، وإنما تظفر بشيء آخَر، وأنه يستحيل أن تحصل على شيء دون ثَمنه — هذا المذهب لا يقل سموًّا في أعمدة دفاتر الحساب الخاصة، عنه في ميزانيات الدول، وفي قوانين الضوء والظلام، وفي كل فعل في الطبيعة وما يقابله. ولست أشك في أن القوانين العليا التي يراها كل إنسان في ثنايا كل عمل يؤديه، وأن القواعد الخلقية الصارمة التي تتلألأ على حد إزميله، والتي يقيسها بمسباره ومسطرته، والتي تبدو واضحة في ختام فاتورة العمل التجاري كما تبدو في تاريخ الدولة؛ لست أشك في أن هذه القوانين ترفع له من شأن صناعته، وتمجِّد له عمله في خياله، وإن قلَّ ذكرُ هذا العمل.

إن الائتلاف بين الفضيلة والطبيعة يدعو كل شيء إلى أن يقف من الرذيلة موقفًا عدائيًّا. والقوانين والمواد الجميلة في هذه الدنيا تضطهد الخائن وتضربه بالسياط. إنه يجد أن الأشياء معدة للحق والمنفعة، ولكن ليس في الدنيا الواسعة عرين يختبئ فيه إنسان سافل. إن ارتكبتَ جريمة وجدتَ الأرض كأنها مصنوعة من زجاج. إن ارتكبت جريمة بدا لك كأن طبقة من الثلج قد سقطت على الأرض، كتلك التي تَفضح في الغابات مسيرَ كلِّ حَجَل وثعلب وسنجاب وخُلد. إنك لا تستطيع أن تسترد الكلمة بعد النطق بها، ولا تستطيع أن تمحو أثر القدم. إن شارة سيئة دائمًا تنضح بما حدث. إن قوانين الطبيعة ومواردها — من ماء وثلج وريح وجاذبية — تصبح للسارق عقوبات.

والقانون — من ناحية أخرى — قائم بدرجة مساوية من الثبات بالنسبة لكل عمل صحيح، أَحِبَّ تُحَب. الحب كله متساوٍ مساواة أعداد الحساب، مثله مثل طرفَي معادلة جبرية. والرجل الصالح لديه خير مطلق، خير أشبه بالنار التي ترد كل شيء إلى طبيعته، فلا تستطيع أن تصيبه بأذًى، ولكن كما أن الجيوش الملكية التي أُرسلت لمحاربة نابليون ألقت أعلامها عند اقترابه وصاروا أصدقاء بعد أن كانوا خصومًا، فكذلك الكوارث من كل نوع، كالمرض، والإساءة والفقر، تُثبت نفعها:

إن الرياح تهب والمياه تموج
قوةً للجريء، ونفوذًا وقداسته،
وهي — مع ذلك — في ذاتها لا شيء.

إن الأخيار يصادقهم حتى الضَّعف والنقصان. وكما أن المرء كلما تفاخر بشيء أصابه منه أذًى، فكذلك كل نقص عنده لا بد أن يعود عليه بالنفع في ناحية من النواحي، وقد جاء في حكاية خرافية أن الغزال أُعجب بقرنَيه وألقى اللوم على قدمَيه، ولكن عندما أتى الصياد أنقذته قدماه، ثم اشتبك بعدئذٍ في الغابة فقضى عليه قرناه. كل إنسان في حياته يفيد من نقائصه. وكما أن الإنسان لا يفهم الحقيقة فهمًا كاملًا حتى يناضل في وجهها، فكذلك لا يعرف المرء معرفة كاملة مثالبَ الناس ومزاياهم حتى يقاسي وطأةَ هذه المثالب ويشهد انتصار تلك المزايا على نفسه لافتقاره إليها. هل عنده نقص في المزاج يجعله غير ملائم للعيش في المجتمع؟ إن هذا النقص عينه يدفعه إلى أن يسلي نفسه وهو وحيد، ويكتسب عادة الاكتفاء بنفسه. وهكذا تراه كالمحار الجريح يُصْلِح صدَفه باللؤلؤ.

إن قوَّتنا تَصدر عن ضَعفنا، والسخط الذي يسلح نفسه بالقوى الخفية لا يتيقظ إلا حينما نتعرض للأشواك واللدغات والهجمات العنيفة. إن الرجل العظيم يحب دائمًا أن يكون صغيرًا. وبينما يجلس على حشية المزايا تأخذه سِنَةٌ من النوم. أمَّا إذا دُفع، وعُذِّب، وهُزِم، فإن الفرصة تُتاح له لكي يتعلم شيئًا؛ لأن ذكاءه ورجولته يُوضعان موضع الاختبار. إنه يكتسب الحقائق، ويعرف جهله، ويُشفى من جنون الغرور، كما يكتسب الاعتدال والمهارة الحقة. الرجل الحكيم يلقي بنفسه في جانب مهاجميه؛ لأن اكتشاف موطن الضعف فيه يهمه أكثر مما يهمهم، ولأن الجرح بذلك يندمل ويسقط عنه كالجلد الميت، وإذا ما انتصر الخصوم خرج من المعركة محصَّنًا من كل إيذاء. إن اللوم أكثر أمانًا من الثناء. وإنني لأمقت أن يدافع عني أحد في صحيفة. وما دام كلُّ ما يُقال يُقال ضدي فإني أحس الثقة في النجاح. وبمجرد ما تُوجَّه إليَّ عبارات الثناء المعسولة فإني أحس كأني رجل ملقًى بغير حماية أمام خصومي. كل شيء لا نخضع له ينفعنا بوجه عام. وكما أن ساكن جزيرة «ساندوتش» يعتقد أن قوة عدوه الذي يقتله وبسالته تنتقل إليه، فكذلك نحن نكتسب قوة الإغراء الذي نقاومه.

إن الضمانات عينها التي تحمينا من الكوارث والعيوب والعداوة تحمينا كذلك — إن أردنا — من الأنانية والخداع. والمزاليج والقضبان ليست خيرَ ما لدينا من نُظُم، وكذلك المكر في التجارة ليس دليلًا على الحكمة. والناس يكابدون طوال حياتهم من وهم باطل يُخيَّل إليهم أنهم يمكن أن يُخدعوا. ولكن يستحيل على المرء أن يُخدع إلا من نفسه، كما يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في آنٍ واحد. هناك طرَف ثالث صامت في كل مساوماتنا؛ فطبيعة الأشياء وروحها تتعهد بضمان وفاء كل تعاقد، بحيث لا يمكن أن تخسر الخدمة الأمينة. إذا أنت خدمت سيدًا ناكرًا للجميل، بالغْ في خدمته، وانتظرْ من الله حسن الثواب؛ فكل ضربة تَلقى جزاءها، وكلما تأخر عليك الأجر كان ذلك في مصلحتك؛ لأنه يضاعف لك الربح ويزيد من فائدتك.

إن تاريخ الاضطهاد تاريخُ محاولات لخداع الطبيعة «كي نجعل الماء يجري إلى أعلى الجبل، وأن نضفر حبلًا من رمال.» ولا فرْقَ بين أن يكون الفاعل واحدًا أو كثيرين، حاكمًا مستبدًّا أو رعاعًا؛ فالرعاع مجتمع من الأفراد يَحرِم نفسه طواعية من العقل وينقض عمله. الرعاع هم الناس يهبطون طواعية إلى طبيعة الحيوان. وقتهم الذي يلائم نشاطهم هو الليل، وأعمالهم جنونية كتكوينهم كله. إنهم يضطهدون المبدأ السليم ويضربون بالحق عُرض الحائط، ويسيئون إلى العدالة، فيشعلون النار والثورة في بيوت أولئك الذين يملكون هذه الأشياء وفي أشخاصهم. الرعاع يشبهون عبث الأطفال، الذين يُهرعون بآلات المطافئ، لكي يطفئوا الشفق الأحمر الذي يمتد إلى النجوم. إن الروح الطاهرة تصوِّب حقدهم نحو المسيئين. إن الشهيد لا يمكن أن يُهان. كلُّ ضربةٍ تُوقَّعُ لسانٌ من الشهرة، وكل سجن مسكنٌ مضيء، وكل كِتاب وكل بيت محترق يضيء العالم. وكل كلمة مكبوتة أو محظورة يرنُّ صداها في الأرض من جانب إلى آخر. إن ساعات الحكمة والتأمُّل تأتي إلى الجماعات دائمًا — كما تأتي إلى الأفراد — عندما يظهر لنا الحق، ونجد للاستشهاد ما يبرره.

وهكذا يبشِّر كل شيء بتفاهة الظروف؛ فالإنسان كل شيء. ولكل شيء وجهان، الخير والشر. ولكل ميزة ضريبتها. وقد تعلمت القناعة، ولكن مبدأ التعويض لا يدعو إلى عدم الاكتراث. يقول الذين لا يتفكرون عندما يسمعون هذه الأمثال: ما جدوانا من فعل الخير؟ هناك غاية واحدة للخير والشر، فإن أنا اكتسبت خيرًا دفعت ثَمَنه، وإن فقدت خيرًا اكتسبت آخَر. كل عمل لا قيمة له.

وتنطوي الروح على حقيقةٍ أبعد غورًا من التعويض، وتلك هي طبيعتها. ليست الروح تعويضًا، ولكنها حياة. الروح كائنة. وتحت كل هذا النهر الجاري من الحوادث، الذي تعلو مياهه وتهبط باتزان كامل، تكمن تلك الهُوَّة الأصيلة وهي الوجود الحقيقي. إن الخلاصة، أو الله، ليست علاقة أو جزءًا، ولكنها كل. الوجود هو الإيجاب العريض الذي يستبعد النفي، يتزن بنفسه، ويبتلع كل العلاقات وكل الأجزاء وكل الأوقات في دخيلته، والطبيعة والحق والفضيلة فيضٌ من هذا. والرذيلة هي اختفاء ذلك أو البُعد عنه. والعدم والزور والبهتان قد تُوجد حقًّا كأنها الليل الحالك أو الظل الذي يُظهر صورة العالَم الحي، ولكنها لا تتمخض عن حق، ولا تستطيع أن تؤدي عملًا؛ لأنها ليست كائنة، ولا تستطيع أن تؤتي خيرًا أو تؤتي شرًّا. إنها أذًى لأن العدم أسوأ من الوجود.

إننا نحُسُّ بالخديعة فيما ينال الشرَّ من عقوبة؛ لأن المجرم يلازم إثمه وتمرده، ولا يبلغ حرجًا ولا يخضع لحكمٍ في أي مكان في الطبيعة المرئية. ليس هناك استنكار قوي لعبثه أمام الناس والملائكة. فهل تغلَّب على القانون بذكائه؟ إنه يذوي من الطبيعة بمقدار ما يحمل بين جنبَيه من خبث وكذب. وسوف يظهر الخطأ بصورة من الصور لمن يتفقهون. وبهذا الاستبعاد القاتل يلقى المسيء جزاءه الحق، حتى إذا غاب الأمر عن أنظارنا.

ومن ناحيةٍ أخرى لا يمكننا أن نقول إن ما نكسبه من الاستقامة يجب أن نتكبد في سبيله شيئًا من الخسارة. ليست للفضيلة عقوبة، وليست للحكمة عقوبة، إنما هما من مستلزمات الوجود المتعلقة به. في العمل الفاضل أكون أنا نفسي تمامًا، وفي العمل الفاضل أُضيفُ إلى الدنيا. إنني أزرع الصحاري التي هزمتها الفوضى والعدم، وأرى الظلام يتراجع عند حافة الأفق. لا يمكن أن يكون في الحب مبالغة، أو في المعرفة، أو الجمال، إذا اعتبرنا هذه الصفات بأصفى معانيها. إن الروح ترفض القيود، وتؤكد التفاؤل دائمًا، ولا ترضى بالتشاؤم أبدًا.

حياة الروح في تقدُّم وليست في سكون. وطبيعتها الثقة. إننا بغريزتنا نستعمل «الأكثر» و«الأقل» في الحديث عن الإنسان، وفي «وجود الروح»، ولا نقول ذلك عن عدمها؛ فالرجل الجريء أعظمُ من الجبان. والصادق وفاعل الخير والحكيم أكثرُ إنسانية — وليس أقل — من الأحمق والدنيء. ليست هناك ضريبة على خير الفضيلة؛ لأن ذلك هو قدوم الله نفسه، أو الوجود المطلق، الذي لا يُقارن. أمَّا الخير المادي فعليه ضريبة، وإن أتى دون استحقاق أو جهد، كان من غير جذور في نفسي، تذروه أول ريح. ولكن خير الطبيعة كله هو خير الروح، ويمكن الحصول عليه، إذا دُفع ثَمنه بعملة الطبيعة المشروعة؛ أي بالعمل الذي يسمح به القلب والرأس. إنني لا أحب بعد اليوم أن ألقى خيرًا لم أكسبه، كأني أجد مثلًا وعاءً من ذهب دفين؛ لأني أعلم أنه يأتي معه بأعباء جديدة. لست أحبُّ مزيدًا من المنافع الخارجية كالأملاك أو ألقاب الشرف أو النفوذ أو الأشخاص؛ فالكسب هنا ظاهري والضريبة مؤكدة. ولكن علمي بوجود التعويض، وبأنه ليس من المستحب أن تُستخرج الكنوز من باطن الأرض، ليست عليه ضريبة. فإني في ذلك أستمتع بطمأنينة هادئة دائمة. إنني أضيِّق حدود الأذى الممكن. وأتعلم حكمة القديس برنارد: «لا شيء يعود عليَّ بالضرر غير نفسي. إن الأذى الذي أكابده أحمله بين جنبي، ولن أعاني ألمًا حقًّا إلا من جراء آثامي.»

تعويض النقص في الظروف من طبيعة الروح. ويظهر أن مأساة الطبيعة الأساسية هي التمييز بين الأكثر والأقل. كيف لا يحس «الأقل» الألم، وكيف لا يحس السخط وسوء الطوية نحو «الأكثر»؟ إذا نظرت إلى ذوي المواهب القليلة شعرت بالأسى ولم تدرِ تمامًا ماذا تصنع. إنك تتحاشى عيونهم، وتخشى أن تسمعهم يعتبون على خالقهم، ماذا عساهم فاعلون؟ يظهر أن الظلم شديد. ولكنك إن شهدت الحقائق عن كثب تبددت هذه المفارقات الهائلة. إن الحب يزيلها كما تذيب الشمس جبال الثلج في البحار. ولما كانت الروح والقلب عند الناس جميعًا شيئًا واحدًا، فإن المرارة الكامنة في «ما لَكَ» و«ما لي» تتلاشى؛ فما له لي، أنا أخي وأخي أنا. وإن أنا أحسست بأن جيراني الكبار يحجبونني ويتفوقون عليَّ، فإني لا زلت أملك أن أحب، ولا زلت أملك أن أستقبل. ومن يحب يجعل العظمة التي يحبها ملكًا له. بذلك أكتشف أن أخي ولي أمري، يعمل من أجلي بأطيب النوايا، وأن الضيعة التي أُعجبت بها وحسدته عليها هي ملكي. إن من طبيعة الروح أن تمتلك كل شيء. وليس يسوع وشكسبير سوى أجزاء من الروح، وبالحب أغزوهم وأضمهم إلى ميدان وعيي. أليس فضل أي امرئ فضلي؟ وإذا لم يكن ذكاؤه ذكائي فليس بذكاء.

وعلى هذه الصورة كذلك يكون التاريخ الطبيعي للكوارث؛ فالتغيرات التي تعترض على فترات قصيرة سعادة الناس دلائلُ على طبيعة قانونها النمو. كل نفس بناءً على هذه الضرورة الذاتية تتخلى عن تكوينها كله، وعن أصدقائها وبيتها وقوانينها وإيمانها، كما يزحف المحار من قوقعته الجميلة برغم صلابتها؛ لأن القوقعة لم تَعُد تسمح بنموه، ويكوِّن بيتًا جديدًا في أناة. وبنسبة قوة الفرد تكثر هذه التطورات حتى تكون متصلة في العقل السعيد، وتتعلق جميع الصلات الدنيوية حوله في تفكك شديد حتى تصبح كأنها غشاء سائل شفاف ترى من خلاله الصورة الحية، ولا تكون — كما هي عند أكثر الناس — هيكلًا من عديد الحوادث، صلبًا، غير متجانس، مقلقلًا، يحتبس فيه صاحبه. حينئذٍ يمكن النمو ولا يكاد إنسان اليوم أن يعرف إنسان الأمس. وهكذا ينبغي أن تكون سيرة الإنسان الخارجية في الزمان. نبذ للظروف البائدة يومًا بعد يوم، كلما جدد إهابه يومًا بعد آخر. بَيْدَ أن هذا النمو يصدمنا لأننا متخلفون، ساكنون، لا نتقدم، نقاوم العظمة الربانية المقدسة ولا نعاونها.

إننا لا نستطيع أن نستغني عن أصدقائنا، ولا نستطيع أن نسمح لملائكتنا بالانصراف، ولا ندرك أنها إنما تنصرف لكي يحل محلها زعماء الملائكة. نحن عبدة أوثان القديم. لا نعتقد في ثورة الروح، وفي خلودها التام ووجودها في كل مكان. نحن لا نعتقد أن في الحاضر قوةً تنافس أو تجدِّد ذلك الماضي الجميل. إننا نتلكأ في خرائب السرادق القديم، حيث كان لنا فيه فيما مضى خبز ومأوًى وأدوات، ولا نثق في أن الروح تستطيع أن تطعمنا وتكسونا وتمنحنا القوة. إننا لا نستطيع أن نجد مرة أخرى شيئًا عزيزًا حلوًا سمحًا كالذي انقضى. إنما نحن نجلس ونبكي من غير طائل. إن صوت الله القادر على كل شيء يقول: «إلى أعلى وإلى الأمام دائمًا!» لا يمكن أن تبقى وسط الأطلال. إننا لا نعتمد على الجديد، ولذا فنحن نسير دائمًا وأعيننا إلى الوراء، كتلك المخلوقات الخرافية المخيفة التي تنظر خلفها.

ومع ذلك فإن ما يعوض الكوارث لا يدركه العقل إلا بعد فترات طويلة من الزمان. فإن الحمى، وبتر الأعضاء، وضيعة الأمل الشديدة، وضياع الثروة، وفقدان الصديق، قد تبدو أول الأمر خسارة بغير ثَمَن ولا يمكن أن تُرَد. ولكن السنين الثابتة تكشف عن القوة العلاجية العميقة التي تنطوي على جميع الوقائع، فإن موت صديق عزيز، أو زوجة، أو أخ، أو حبيب، قد لا يبدو لنا إلا حرمانًا، ولكي يصبح فيما بعد هديًا لنا وحكمة؛ لأنه يسبب لنا عادةً انقلابًا في طريقة حياتنا، ويختم عصرًا من الطفولة أو الشباب كان وشيك الانتهاء، ويهدم عملًا ألِفناه، أو حياة منزلية، أو أسلوبًا خاصًّا من العيش، ويهيئ ألوفًا منها جديدة أقرب ملاءمة لنمو الشخصية. إنه يسمح لنا أو يرغمنا على تكوين معارف جدد، وعلى تقبُّل مؤثرات جديدة تبرهن السنوات المقبلة على أهميتها القصوى. والرجل أو المرأة كالزهرة المشمسة في البستان، لا تمتد جذورها في أغوار الأرض وإن استمتعت أطرافها بفيض من ضياء الشمس، فإن انهارت من حولها جدران الحديقة وأهملها البستاني أمست كالشجرة السامقة تنمو في الغابة وتمد بظلها وثمرها عددًا كبيرًا من الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤