البطولة

الجَنةُ تحت ظلالِ السيوف.

محمد

***

إنما يشرب الخمرَ القاني الأوغادُ،
ويُنْفَقُ السكر ليسمن العبيد،
ويتحلى الماجنون بالورد وأوراق الكروم،
والسُّحب ذات الرعد أغصان يتحلى بها جوف،
وتتدلى دائمًا كأنها أكاليل من الرعب،
وتلتف حول رأسه مشوبة بالبرق اللامع.
إن البطل لا يعيش على الحلوى،
إنه يأكل قلبه كل يوم،
وغرف العظماء سجون،
والرياح العاصفة تصلح لسفن الملوك.

تجد عند كُتَّاب المسرحية القُدامى من الإنجليز، وبخاصة في مسرحيات بومنت وفلتشر، اعترافًا دائبًا بصفات الرجل المُهذب. فعندما يدخل رجلٌ مثل ردريجو أو بدرو أو فاليرو — وإن كان غريبًا — يصيح الدوق أو الحاكم قائلًا: هذا رجل مُهذَّب، ويقدم له آيات الاحترام التي لا تنتهي، وكلُّ مَن عدا ذلك نفاية أو من سَقْط المتاع. ويتفق وهذا التهليل للمميزات الشخصية ما تجده في مسرحياتهم من سمة البطولة في الشخصية والحديث — كما تجد في بندكا وسوفوكليس والعاشق المجنون، والقران المزدوج — حيث يكون المتكلم جادًّا مُخلصًا، ذا مميزات قوية في شخصيته، بحيث يرتفع الحوار بطبيعته إلى الشعر عند أتفه حادث عرضي في القصة. خذ هذا المثال من بين كثير من النصوص: غزا مارتيس الروماني أثينا، كل شيء فيها سوى سوفوكليس دوق أثينا، وزوجته دورجن، وهما روحان لا يُقهران. وقد ألهب جمال الزوجة مارتيس، فأراد أن ينقذ زوجها، ولكن سوفوكليس لا يطلب نجاة حياته وإن كان على يقين من أن كلمة واحدة منه تنجيه، ثم يبدأ تنفيذ الإعدام في الزوجَين:

فاليريس : وَدِّعْ زوجتك.
سوفوكليس : كلا، لن أستئذن. أي زوجتي دورجن، إن روحي سوف تحلِّق من أجلك هناك في العلا حول تاج أريادن. أتوسل إليكم أن تسرعوا.
دورجن : انتظر يا سوفوكليس واعصب عينيَّ بهذا، كي لا أتحول عن طبيعتي اللينة، وأفقد أنوثتي الرقيقة، عندما أرى سيدي يدمى. حسنًا، إني لن أشهد أمام سوفوكليس شيئًا واحدًا تحت الشمس. وداعًا، وعلِّم الرومان كيف يكون الموت.
مارتيس : هل تعرف ما هو الموت؟
سوفوكليس : أنت لا تعرفه يا مارتيس؛ ولذا فأنت لا تعرف ما الحياة. الموت بداية الحياة. الموت نهاية كل عمل عتيق مبتذَل شاق، وبداية عملٍ أحدث وأحسن. الموت هو أن تتخلى عن الأوغاد المخادعين لتنتقل إلى صحبة الآلهة والإلهات. ولا بد لك أنت نفسك أن تتخلى عن أكاليلك ومسراتك وانتصاراتك، وتبرهن على ما تستطيع حينئذٍ أن تفعله بثباتك.
فاليريس : ولكن ألست حزينًا أو محنقًا لأنك تترك زوجتك هكذا؟
سوفوكليس : لماذا أحزن أو أحنق إذا كنت سوف أذهب إلى أولئك الذين أحببتهم دائمًا أشد الحب؟ والآن سوف أجثو على ركبتي، ولكني سوف أوليك ظهري. وهذا آخر الواجبات التي يؤديها الجسد للآلهة.
مارتيس : اضرب، اضرب يا فاليريس، وإلا فإن قلب مارتيس سوف يقفز من فمه. هذا رجل، وهذه امرأة! قبِّل ربك، وعش بكل ما ألِفت من حرية. أيها الحب! لقد أسأت إليَّ مرتَين، بالفضيلة والجمال. أيها القلب الخائن، إن يدي سوف ترمي بك سريعًا في جدثي، قبل أن تعتدي على هذا الإيمان المتين.
فاليريس : ماذا يؤلم أخي؟
سوفوكليس : مارتيس، مارتيس، لقد وجدت الآن سبيلك إلى هزيمتي.
دورجن : يا نجم روما! أي اعتراف بالجميل يستطيع أن يعبِّر بكلمات ملائمة في إثر عمل كهذا؟
مارتيس : هذا الدوق الذي يدعو إلى الإعجاب، يا فاليريس، عندما ازدرى كلَّ ما يصيبه وازدرى الموت أسر نفسه وأسرني. ومع أن ذراعي قد ألقت بجسمه هنا، إلا أن روحه قد أخضعت روح مارتيس. وحق روميولس إني لأحسبه كله روحًا، ليس لديه لحم، والروح لا تُكبَّل، وإذن فإننا لم نقهر شيئًا، إنه حر، ويسير مارتيس الآن أسيرًا.

ولا أذكر الآن أية قصيدة أو مسرحية أو موعظة أو رواية أو خطبة تنفست عنها صحافتنا في السنوات القلائل الماضية، مما يضرب على هذا الوتر. لدينا كثير من المزامير والصفارات، ولكننا قلما نستمع إلى صوت الناي. ومع ذلك فإن في لاوداميا وأغنية «ديون» وبعض أناشيد وردزورث موسيقى نبيلة. وأحيانًا يرسم «سكوت» صورة كصورة لُورد أفانديل التي صورها بلفور البيرلي. كما أن توماس كارليل، بما عنده من تذوق طبيعي لصفات الرجولة والبسالة في الشخصية لم يرضَ لنفسه أن يدع أية صفة من صفات البطولة في الرجال الذين اختارهم دون أن يذكرها في صوره التاريخية وسِيَره. وقبل ذلك قدَّم لنا روبرت بيرنز أغنية أو اثنتَين. وفي متنوعات هارلي تجد تصويرًا لموقعة لوتزن يستحق المطالعة. وسيمون أوكلي في كتابه تاريخ العرب يسرد معجزات الشجاعة الفردية بإعجاب، مما يدل على أن المؤرخ من ناحيته كان يحسب أن مركزه في أكسفورد المسيحية يتطلب منه بعض الاحتجاج الصريح الذي ينم عن الكراهية. ولكننا إذا نبشنا أدب البطولة فسرعان ما نصل إلى فلوطارخس طبيبها ومؤرخها؛ فنحن مدينون له بالبراسيداس، وديون، وأبامينوداس، وسبيو القديم، وأظن أننا أكثر دَينًا له من كل الكُتَّاب القدماء. كل «حياة» في سِيَره تفنيد للقنوط والجبن الذي تلمسه عند رجالنا من أصحاب النظريات الدينية والسياسية. في كل أقصوصة يرويها تبهرك شجاعة همجية، ورواقية لا تتقيد بمذهب، ولكنها رواقية الدماء، مما أعطى هذا الكِتاب شهرته الواسعة.

نحن بحاجة إلى كتبٍ من هذا الطراز المطهر الحريف أكثر مما نحن بحاجة إلى كتب في العلوم السياسية، أو الاقتصاد الخاص. الحياة عيد للحكماء وحدهم. وإن نظرت إليها من زاوية العمل بدت لك خطرة معفرة الوجه. ونحن كذلك نلقى جزاء مخالفات قوانين الطبيعة التي ارتكبها أسلافنا ومعاصرونا. والعلل وضروب التسوية التي تتحوطنا دليل على مخالفة القوانين الطبيعية والعقلية والخلقية. والمخالفة في أثر المخالفة تولِّد مثل هذا البؤس المركب. إن مرض التتنوس الذي يحني رأس المرء إلى الوراء حتى عقبَيه، وداء الكَلِب الذي يجعله ينبح أمام زوجته وأطفاله، والجنون الذي يدفعه إلى أكل الحشائش، والحرب والطاعون والكوليرا والمجاعة، كلها تشير إلى نوع من الوحشية في الطبيعة، وكما أن الوحشية دخلت عن طريق جريمة الإنسان فلا بد أن تخرج عن طريق آلامه. ولسوء الحظ لن تجد رجلًا لم يصبح في شخصه — إلى حدٍّ ما — مساهمًا في الإثم، وبذا جعل نفسه عرضة للمساهمة في التفكير.

ولذا فإن ثقافتنا ينبغي ألا تهمل تسليح الإنسان. وليسمع في الوقت الملائم أنه وُلد في حالة حرب، وإن الصالح العام وسعادته الخاصة يتطلبان منه ألا ينصرف إلى الرقص في حشائش السلام، بل يجب أن يحذر، وأن يجمع نفسه، لا يتحدى الرعد ولا يخشاه. وعلى هذه الصورة دعه يستولي في قبضته على سمعته وحياته. وفي دماثة كاملة يجابه المشنقة والجماهير بالصدق المطلق في حديثه، واستقامة مسلكه.

إزاء كل هذا الشر الخارجي يقف الإنسان الكامن في صدره موقف المحارب، ويؤكد له قدرته وحده على مجابهة هذا الجيش الذي لا نهاية له من الأعداء. هذا الموقف الحربي من الروح هو الذي نسميه البطولة، وأبسط صورها احتقار السلامة والراحة، ذلك الاحتقار الذي يعطي الحرب جاذبيتها. البطولة ثقة في النفس تستخف بقيود الحكمة، وتستكمل جهدها وقوَّتها لكي تُصلح الأضرار التي قد تتعرض لها. البطل له عقل متزن بحيث لا تهز الاضطرابات إرادته. ولكنه في سرور، بل وفي طرب، يتقدم وفق موسيقاه الخاصة به، سواء وسط أسباب الرعب المخيف أو المرح النشوان في هذا العالم المنحل. في البطولة شيء ليس بالفلسفة، وشيء ليس بالمقدس. ويبدو أنها لا تعرف أن الأرواح الأخرى من نسيجها. فيها كِبر، وهي الغاية القصوى للطبيعة الفردية. ولكنا، برغم ذلك، يجب أن نحترمها احترامًا شديدًا. في الأعمال العظيمة شيء لا يسمح لنا بمتابعتها. البطولة تحس ولا تفكر مطلقًا، وهي لذلك دائمًا على صواب. وربما كانت ثقافة أخرى، أو عقيدة ثانية، أو نشاط عقلي أعظم، يؤدي إلى تعديل عمل من الأعمال، بل يؤدي إلى قلبه، ولكن العمل الذي يقوم به البطل هو أرقى الأعمال عنده، لا يتعرض لنقد الفلاسفة أو رجال الدين. البطولة اعتراف من الرجل الذي لم يتعلم في مدرسة بأنه يجد صفة تستحق التنويه فيمن يُهمِل في بذله، وصحته، وحياته. وفي الحظ، والكره، واللوم، ويعرف أن إرادته أقوى وأكثر امتيازًا من كلِّ ما يعاديها فعلًا أو يمكن أن يعاديها.

البطولة تعمل على نقيض صوت البشرية، وعلى نقيض صوت العظمة والخير، ولو إلى حين. البطولة طاعة لدافع خفي في شخصية الفرد ولا تظهر حكمةُ البطولةِ لإنسانٍ كما تظهر للبطل؛ لأننا يجب أن نفرض أن كل امرئ — في طريقه الخاص المستقيم — يمتد بصره إلى مسافة أبعد قليلًا مما تمتد إليه أبصار الآخرين. ولذا فإن العادلين والحكماء من الرجال يرتابون في عمله، حتى إذا ما انقضى بعض الوقت أدركوا أن عمله يتفق وما يعملون. كل رجل عاقل يرى أن عمل البطل يتناقض تمامًا ومتعته الحسية؛ لأن كل عمل من أعمال البطولة يقيس نفسه باحتقاره لونًا من ألوان الخير الخارجي. ولكنه يظفر بنجاحه في نهاية الأمر، وبعدئذٍ يمجِّده كذلك العقلاء.

الثقة في النفس جوهر البطولة. وهي حالة الروح وهي تقاتل، وغاياتها القصوى تحدي الباطل والخطأ في نهاية الأمر، والقدرة على تحمل كلِّ ما يمكن أن توقعه عوامل الشر. إنها تنطق بالحق، وهي عادلة، كريمة، سخية، معتدلة، تزدري الحرص في التوافه، وتَزدري أن تُزدرى. إنها تصر على موقفها، جسورة غير هيابة، لديها جلد لا ينفد. وهي تتندر بصغر الحياة العادية. إن تلك الحكمة الباطلة التي تغرم بالصحة والثراء هي سخرية البطولة وفكاهتها. البطولة مثل أفلوطين، تكاد تخجل من جسمها. ماذا عساها إذن قائلة لأقراص السكر، وألعاب الخيط التي يلعبها الأطفال، وأدوات الزينة، وكلمات الإطراء، وأسباب النزاع، وورق اللعب، والكسترد، التي تشغل بال المجتمع كله؟ أي متع أمدتنا بها نحن المخلوقات الأعزاء الطبيعةُ الرحيمة! يظهر أنه ليس هناك وسط بين العظمة والوضاعة. إذا لم تكن الروح سيدة العالم، فلا بد أن تكون سخريته. ومع ذلك فإن الرجل الصغير يأخذ اللعبة الكبرى مأخذًا ساذجًا، يعمل فيها بحماسة وعقيدة، يُولد أحمر اللون، ويموت أبيض الشعر، يهتم بزينته، ويُعنى بصحته، يتصيد الطعام الحلو والخمر المعتق، يشغل فؤاده بحصان أو بندقية، ويسعد بالحديث التافه أو الثناء القليل، ولا تملك الروح الكبيرة إلا أن تضحك من مثل هذا الهراء الذي يُؤخذ مأخذ الجد. «حقًّا إن هذه الاعتبارات المتواضعة لتنفرني من العظمة. يا له من عار على نفسي أن أكترث بعدد الجوارب الحريرية التي تملكها أنت، وأن أعرف منها هذه وتلك ذات اللون الخوخي، أو أن أحمل قائمة بقمصانك، وأعرف أن أحدها للترف والآخر للمنفعة!»

إن المواطنين الذين يفكرون بقوانين الحساب يقيمون وزنًا للمتاعب التي يلاقونها ساعة استقبال غريب عند موقد نارهم، ويحسبون حسابًا دقيقًا لضياع الوقت والظهور بمظهر غير عادي. أمَّا الروح التي من معدن أطيب فإنها تضرب بهذا الاقتصاد الذي — ليس في موضعه — عُرض الحائط في هذه الحياة، وتقول: سوف أطيع ربي، وسوف يمدني بالضحية وبالنار. يصف ابن حوقل الجغرافي العربي تطرُّف البطولة في سخاء سُجْد في بخارى فيقول: «عندما كنت في سُجد رأيت بناءً شاهقًا، كأنه القصر، أبوابه مفتحة ومثبتة في الحائط بمسامير ضخمة. ولما سألت عن السبب قيل لي إن البيت لم يُغلق، ليلًا أو نهارًا، مدة مائة عام. ويستطيع الغرباء أن يقدموا في أية ساعة مهما كان عددهم. ولقد أعد صاحب البيت ما يكفي لاستقبال الرجال وحيواناتهم، وهو أسعد ما يكون عندما يتلكئون بعض الوقت. ولم أرَ قط في حياتي شيئًا من هذا في أي بلد آخر.» يعلم كل رجل كريم النفس تمام العلم أن أولئك الذين يقدمون للغريب الوقت أو المال أو المأوى — عن حب لا عن تظاهر — إنما يتفضلون على الله، وما أكمل ما تعوضهم به الدنيا. إنهم يعوضون الوقت الذي يبدو مضاعًا بصورة ما، والآلام التي يبدو أنهم يتحملونها تلقى ثوابها. إن هؤلاء الناس يشعلون نار المحبة الإنسانية، ويرفعون مستوى الفضيلة المدنية بين البشر. ولكن الجود يجب أن يكون للخدمة، لا للتظاهر، وإلا فإنه يحط من قدْر المضيف. إن الروح الجريئة تحسب نفسها أرقى من أن تقدِّر نفسها بفخامة مائدتها وردائها. إنها تعطي ما تملك، وكل ما تملك، ولكن جلالها يضفي النعمة على ما تقدم من خبز وماء قراح، نعمة لا تجدها في ولائم المُدن.

ويصدر البطل في اعتداله عن نفس الرغبة التي تملي عليه ألا يشين قدْر نفسه. ولكنه يحب الاعتدال لما يدل عليه من رقة لا لما فيه من تقشف؛ فهو لا يأبه أن يكون رزينًا، وأن ينبذ في مرارةٍ أكلَ اللحم وشرب الخمر، وتدخين التبغ أو الأفيون وشرب الشاي واستخدام الحرير والذهب. قَلَّ أن يعرف الرجل العظيم كيف يطعم وكيف يلبس. ولكن حياته طبيعية وشعرية دون أن يضع لها القيود والحدود. شرب «جون إليوت» الرسول الهندي الماء وقال عن الخمر: «إنه شراب نبيل كريم، ويجب أن نشكر الله عليه، ولكني أذكر أن الماء خُلق من قبله.» وأحسن من هذا اعتدال الملك داود الذي صب فوق الأرض — في سبيل الله — الماء الذي أتاه به ليشربه ثلاثة من مقاتليه، مخاطرين من أجل ذلك بحياتهم.

يُقال عن بروتس إنه عندما سقط فوق سيفه بعد معركة فليبي روى هذا السطر عن يوربديس: «أيتها الفضيلة، لقد سِرتُ وراءك خلال حياتي، ووجدتك آخر الأمر ظلًّا.» ولست أشك في أن هذه الرواية قد قُصد بها الوشاية بالبطل؛ فإن روح البطولة لا تبيع عدلها ونبلها. إنها لا تطلب الغداء الفاخر والسرير الوثير. جوهر البطولة هو أن يدرك المرء أن الفضيلة وحدها تكفي؛ فالفقر يزينها. إنها لا تحتاج إلى الوفرة، وتستطيع أن تحتمل خسارتها كل الاحتمال.

بَيْدَ أن ما يجذب خيالي أكثر من أي شيء في طبقة الأبطال هو ما يبدونه من انشراح وبشر. إن القدرة على الاحتمال والإقدام في هدوء من الصفات العالية التي يستطيع أن يبلغ غايتها كل رجل يدرك الواجب العام. ولكن هذه الأرواح النادرة لا تقيم وزنًا للرأي والنجاح والحياة، فلا يُدخِلون السرور إلى قلوب خصومهم بما يطلبون، أو بما يبدو عليهم من أسًى، ولكنهم يُظهرون عظمتهم الخاصة التي اعتادوها. لما اتُّهم سبيو باختلاس أموال الناس، رفض أن يُوصَم بعار الانتظار حتى يبرر موقفه، برغم أن قائمة حسابه كانت بين يدَيه، ولكنه مزَّقها إربًا إربًا أمام القضاة. ومن هذا القبيل ما حكم به سقراط على نفسه من بقائه مكرَّمًا غاية التكريم في البريتانيم طوال حياته، وعبث سر توماس مور وهو تحت المقصلة. وفي مسرحية «الرحلة البحرية» لبومنت وفلتشر تقول جوليتا للقائد القوي ورفاقه:

جوليتا : أيها العبيد، إنه بوسعنا أن نشنقكم.
السيد : هذا محتمل جِدًّا، وبوسعنا إذن أن نُشنق وأن نزدريك …

هذه إجابات سديدة سليمة؛ فاللهو ثمرة من ثمار الصحة الكاملة وشعاع من ضيائها؛ لأن العظماء لا يرضون أن يتنزلوا حتى يأخذوا أي شيء مأخذ الجد. ينبغي أن يكون كل شيء مرحًا كشدو الكناري، حتى إن كان تشييد المدن، أو إزالة الكنائس والأمم العتيقة، التي وقفت عقبة في سبيل الدنيا آلاف السنين. إن أصحاب القلوب الساذجة يُلقون تاريخ هذه الدنيا وعاداتها كلها خلف ظهورهم، ويلعبون دورهم في تحدٍّ بريء لقوانين العالم المرعية. وأمثال هؤلاء يَبدون لنا — إذا استطعنا أن نرى الجنس البشري مجتمعًا في مشهد واحد — كصغار الأطفال يلهون معًا. وإن كانوا في أعين الناس عامة يَظهرون كأنهم يرتدون ثيابًا من الجلال والوقار من نسيج أعمالهم ونفوذهم.

إن اللذة التي نجدها في هذه الحكاية الرائعة، وسلطان القصص الخيالية على الصبي الذي يمسك بالكتاب المحرم تحت مقعده بالمدرسة، وابتهاجنا بالبطل، هو الحقيقة الأساسية التي نهدف إليها، كل هذه الخواص العظيمة التي تفوق العقل مِلكٌ لنا. إذا نحن أمعنا النظر في نشاط الإغريق، وزهو الرومان، فما ذلك إلا لأننا قد طوَّعنا بالفعل هذه المشاعر عينها لأنفسنا. ولنفسح المجال لها في بيوتنا الصغيرة، فهي كالضيف العظيم. وأول خطوة ترفع من قدْرنا هي أن نحرر أنفسنا من الملابسات الخرافية التي نُلحِقها بالأماكن والأزمنة، وبالعدد والحجم. لماذا ترن في الأذن هذه الكلمات: الأثيني والروماني وآسيا وإنجلترا؟ حيثما يكون القلب تكون آلهة الشعر، ويقيم الآلهة، ولا تكون في مكان من الأرض مشهور. إنكم تحسبون مساشوستس وكنكتكت والنهر وخليج بوسطن أماكن تافهة، وتحب آذانكم أسماء البلدان الأجنبية والكلاسيكية. ولكن ها نحن هؤلاء، وإذا تريثنا قليلًا، فقد نتعلم أن هذا المكان خير مكان. ولا عليك إلا أن تضمن شيئًا واحدًا، وهو أنك هنا، ولن يختفي من الغرفة التي تجلس فيها الفن والطبيعة، والأمل والقَدَر، والأصدقاء، والملائكة، والكائن الأعلى. إن إبامينوداس، الشجاع المحب، لا يبدو لنا أنه بحاجة إلى أولمبس لكي يموت فوقه، وليس بحاجة إلى شمس سوريا المشرقة. إنه يرقد رقدة طيبة جِدًّا حيث هو، كما أن جرسيز كانت أرضًا طيبة تصلح لوطء واشنجطن، وشوارع لندن لقدمَي ملتن. الرجل العظيم يجعل جوه في خيال الناس ملائمًا، وهواءه العنصر المحبب من بين الأهواء الرقيقة جميعًا. أجمل البلاد ما يقطنه أنبل العقول. إن الصور التي تملأ الخيال عندما نطالع أعمال بركليز وزنفون وكولمبس وبايار وسدني وهامبدن تعلمنا أن حياتنا وضيعة من غير داعٍ، وأننا بعمق العيش يجب أن نزين حياتنا بما يفوق الأبهة الملكية والقومية، وأن نعمل وفقًا لمبادئ يهتم بها الإنسان والطبيعة على مدى أيامنا.

لقد رأينا أو سمعنا بكثير من الشباب الشاذ، الذي لم ينضج قط، أو الذي لم تكن أعماله في الحياة الواقعة شيئًا غير عادي. ولكننا حينما نرى صورهم وسيماهم، وحينما نصغي إليهم وهم يتحدثون عن المجتمع، والكتب، والدين، لنعجب بتفوقهم. وكأنهم يُلقون الازدراء على نظامنا الحكومي بأسره وعلى حالنا الاجتماعية. إنهم يتحدثون بنغمة العمالقة الشباب الذين بُعثوا لإحداث الانقلاب. ولكنهم يمارسون مهنة عملية، فترى أجسامهم الضخمة قد تضاءلت إلى حجم الإنسان المألوف. إن السحر الذي استخدموه هو الاتجاه نحو المُثُل، الذي يجعل الأمر الواقع دائمًا مضحكًا. ولكن الأرض الصلبة تعرف كيف تنتقم في اللحظة التي يكلفون فيها خيولهم التي صوروها من ضياء الشمس بحرث الأخاديد. إنهم لم يجدوا مثالًا أو رفيقًا لهم فخارت عزائمهم. ثم ماذا؟ إن الدرس الذي ألْقُوه في طموحهم الأوَّل لا يزال صادقًا. وسوف تُهذِّب عقيدتهم ذات يوم شجاعةٌ أقوى وصدق أنقى. ولماذا تشبِّه المرأة نفسها بأية امرأة أخرى في التاريخ، وتظن أنه إذا كانت سافو أو سفنييه، أو دي ستيل، أو حبيسات الدير ممن كان لهن ثقافة ونبوغ، إذا كان هؤلاء النسوة لم يشبعن الخيال أو يرضين ثمس الهادئة الرزينة، فإن واحدة غيرهن لن تستطيع ذلك، بله أن تكون هي؟ ولِمَ لا؟ إن لديها مشكلةً بكرًا مستحدثةً عليها حلها، وربما كانت من أسعد المشكلات التي ظهرت في الوجود؛ فعلى كل عذراء، معتدلة النفس، أن تسير في طريقها في رزانة ووقار، وأن تنعم النظر بدورها في كلِّ ما يجتذب عينها، كي تدرك قوَّتها وفتنتها الفريدة في بابها، وقدرتها على بثق فجر جديد في ظلمات الكون. إن الفتاة الحسناء التي تأبى أن تخضع لمجموعة من المؤثرات المعينة المتجبرة، المؤثرات التي لا تُعنى بإمتاع الآخرين، والتي تتصف بالعناد والتعالي، هذه الفتاة توحي إلى كلِّ من يراها بشيء من نبلها. إن القلب الصامت يشجعها. أيها الصديق، لا تجعل للخوف إلى قلبك سبيلًا! فإما أن تأوي إلى المرفأ عظيمًا أو أن تجوب البحار مع الله. إنك لا تعيش عبثًا؛ لأن كل عين عابرة تبتهج وتتهذب بما تشاهد.

سمة البطولة المثابرة. لكل إنسان دوافعه الهائمة، وله نوبات من الكرم. فإذا اخترت نصيبك، اثبت عليه، ولا تحاول أن توفِّق بين نفسك وبين الدنيا في ضَعف وخور؛ فأعمال البطولة ليست أعمالًا عادية، وليست الأعمال العادية من أعمال البطولة. ومع ذلك فإن في نفوسنا من الضَّعف ما يجعلنا ننتظر عطف الناس على أعمال امتيازها إنها فوق مجال العطف، وإنها تنتظر الحكم عليها فيما بعد. إن أردت أن تخدم أخاك لأنه قمين بك أن تخدمه، فلا تسحب وعدك إن وجدت العقلاء من الناس لا يحمدون صنيعك. اثبت على عملك، وهنئ نفسك إذا أديت عملًا غريبًا فيه إسراف، وخالفت ما ألِفه الناس في عصرٍ يرعى التقاليد. سمعت مرة نصيحة غالية تُهدى إلى شخصٍ ما، وهي: «اعمل دائمًا ما تخشى عمله.» إن الشخصية البسيطة المسترجلة لا تحتاج البتة إلى تقديم الاعتذار، وإنما ينبغي لها أن تنظر إلى عملها الماضي بهدوء فوكيون، حينما اعترف بأن نهاية المعركة كانت سعيدة، ومع ذلك فإنه لم يندم على انصرافه عنها.

ليس هناك ضَعف أو أمر فاضح لا نستطيع أن نلتمس له المعاذير في الأذهان، فتقول هذه طبيعتي، أو جزء من صلتي وواجبي نحو زملائي. فهل عاهدَتْني الطبيعة على ألا أُظهِر قط مثلبة أو أبدو مرة في صورة مضحكة؟ دعنا نسخو في كرامتنا كما نسخو في أموالنا. إن العَظَمة قد اكتفت برأيها في نفسها من زمان بعيد، وسوف تبقى كذلك إلى الأبد. ابذل صدقاتك، لا لأنك تحب أن تظفر بالثناء عليها، ولا لأنك تحسب أن لها قيمة كبرى، ولكن لكي ترضى نفسك. وسوف تعرف فيما بعد أن من الأخطاء الجسيمة أن يتحدث امرؤ عن صدقاته.

يبدو أنه من الزهو الذي تخص به الطبيعة الطيبة العامة أولئك الذين يعيشون في طمأنينة ووفرة أن يقولوا الحق، ولو في شيء من الخشونة، وأن يعيشوا في شيء من الاعتدال الصارم، أو في مبالغة من الكرَم، وذلك دليل على إحساسهم بالأخوة للعدد العديد من الناس الذين يقاسون الألم. ولسنا فقط في حاجة إلى إحياء الروح وتدريبها باحتمالنا عبء التقشف، والاستدانة، والعزلة، وعدم القبول عند الجمهور، ولكنه يليق بالرجل الحكيم كذلك أن ينظر بعين جريئة إلى تلك المخاطرة النادرة التي تلحق بالناس أحيانًا، وأن يعوِّد نفسه أن تألف صور الأمراض المقذعة، وأصوات السباب، ومرأى الموت العنيف.

إن أوقات البطولة هي بوجه عام أوقات الفزع، واليوم الذي لا يلعب هذا العنصر فيه دورًا لا يشرق قط بالضياء. وأحب أن أقول إن ظروف الإنسان من الناحية التاريخية أحسن، إلى حدٍّ ما، في هذا البلد، وفي هذه الساعة، مما كانت عليه في أي وقت سبق؛ فأمام الثقافة حرية أوسع، وهي اليوم لا تلاقي ضربة الفأس عند أول خطوة تخطوها بعيدًا عن طريق الفكر المطروق، ولكن البطل يلاقي دائمًا الأزمات التي تختبر حدته. إن الفصيلة الإنسانية تتطلب أبطالها وشهداءها، ويتبع ذلك دائمًا اختبار القدرة على احتمال الاضطهاد. حدث من عهد قريب جِدًّا أن لفجوي الجريء عرَّض صدره لطلقات الجماهير النارية من أجل حرية الكلام والرأي، ومات عندما بات من الخير له ألا يعيش.

لستُ أرى طريقًا للطمأنينة الكاملة يستطيع المرء أن يسلكه سوى ما يشير عليه به قلبه. فليمتنع المرء عن كثرة الاختلاط، وليُكثِر من الإيواء إلى بيته، ويلتزم تلك المسالك التي يحب السير فيها. إن الاحتفاظ الدائم بالمشاعر البسيطة السامية في الواجبات الخفية، تدريبٌ للشخصية على تلك الصفة التي تدفع المرء إلى أن يعمل بالشرف — إن اقتضت الضرورة — وسط الضجيج أو فوق المقصلة. أي اعتداء على الحقوق لحق بالناس فيما مضى قد يلحق بالفرد مرة أخرى، ويحدث ذلك بسهولة في الجمهورية، إن بدت أية علامة من علامات انحلال الدين. إن الشاب قد يصوِّر لنفسه كيفما شاء، وعلى قدْرِ ما يستطيع من هدوء الأعصاب، إنه عرضة للقذف الشديد، وللنار، ولعقوبة القار والريش، وللمشنقة، ثم يسأل نفسه إلى أي حد يستطيع أن يُثُبِّتَ إحساسه بالواجب، مواجهًا هذه العقوبات، كلما عنَّ لعدد من الصحف ولجمعٍ كافٍ من جيرانه أن يحكم على آرائه بأنها تثير الفتن والقلاقل.

قد يخفف من خشية المصائب في أشد القلوب حساسية أن يرى المرء السرعة الفائقة التي ترد بها الطبيعة أقصى ما يصيب الإنسان من شر. إننا سرعان ما نبلغ حافةً لا يستطيع عندها عدوٌّ أن يلحق بنا:

دعهم يهذون؛
فأنت هادئ في قبرك.

في ظلمة جهلنا بما سوف يحدث، وفي الساعة التي تُصم فيها آذاننا عن الأصوات العالية، مَن مِنَّا لا يحسد أولئك الذين ساروا بمحاولاتهم الجريئة حتى نهايتها الآمنة؟ من مِنَّا يرى وضاعة سياستنا ولا يهنئ من داخل نفسه واشنطن لأنه قد لُفَّ من زمن بعيد في كفنه وأمسى إلى الأبد آمنًا، ولأنه أُودع قبره في دعة، ولم يمت في قلبه بعدُ أمل البشرية؟ ومَن مِنَّا لا يحسد أحيانًا الأخيار والشجعان، الذين لم يعودوا يقاسون ضجيج العالم الطبيعي، ثم لا ينتظر بشيء من الرضى والشغف النهايةَ الخاطفة لحديثه مع الطبيعة المحدودة؟ ومع ذلك فإن الحب الذي يريد الإنسان القضاء عليه — بسرعة تفوق خطف الغادرين — قد جعل الموت مستحيلًا، وأثبت أنه ليس فانيًا، ولكنه يستوطن أعماق الكائن المطلق، الذي لا ينطفئ نوره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤