العقل
كل مادة من المواد الكيمائية تكهرب ما فوقها سلبًا، وما دونها إيجابًا؛ فالماء يحلل الخشب والحديد والملح، والهواء يحلل الماء، والنار الكهربائية تحلل الهواء، ولكن العقل يحلل النار والجاذبية والقوانين والمنهج، وأدق علاقات الطبيعة التي لا اسم لها، وذلك بمادته المذيبة التي لا تُقاوَم. والعقل يكمن وراء النبوغ؛ لأن النبوغ هو الجانب المنشئ من العقل. العقل هو القوة البسيطة التي تسبق كل عمل أو إنشاء. وكم وددت لو استطعت أن أبسط التاريخ الطبيعي للعقل على مراحل واضحة، ولكن أين الإنسان الذي استطاع قبل الآن أن يحدد خطوات هذا الجوهر الشفاف وحدوده؟ إن الأسئلة الأولى تُلقى دائمًا، وأحكم الأطباء تُحيِّره أسئلة الطفل الكثيرة. كيف نستطيع أن نتحدث عن عمل العقل وأن نقسمه، كما نتحدث عن معارفه، وقواعده الخلقية، وإنتاجه، وما إلى ذلك، ما دام يحوِّل الإرادة إلى إدراك حي، والمعرفة إلى عمل. فيصبح كلٌّ منهما الآخر. أمَّا العقل فهو وحده كائن لا يتغير. وهو لا يبصر كما تبصر العين، ولكنه يتحد والأشياء المعروفة.
العقل والتعقل كلاهما يعني — للأذن العارية — تأمُّل الحق المطلق. إن اعتبارات الزمان والمكان، وأنت وأنا، والمنفعة والضرر، تسيطر على عقول أكثر الناس. ولكن العقل يفصل الحقيقة التي نتأملها عن «شخصك»، وعن كل إشارة إلى ما هو موضعي أو شخصي، وينعم فيها النظر كأنها وُجدت لذاتها. كان هرقليطس ينظر إلى الأهواء كأنها غيوم كثيفة ملونة. وفي غيوم الأهواء، خيرها وشرها، يشق على المرء أن يتقدم في خط مستقيم. أمَّا العقل فإنه خلو من الأهواء، ويرى الشيء كما يظهر في ضوء العلم، باردًا، لا يرتبط بشيء. العقل يخرج عن الفرد، ويطفو على شخصية العقل نفسه، وينظر إليها كأنها حقيقة، وليس باعتبارها «أنا» أو «لي». ومن يكون مغمورًا فيما يتعلق بالشخص أو المكان لا يمكنه أن يرى مشكلة الوجود. ولكن العقل يتدبر الوجود دائمًا. إن الطبيعة تُظهِر كل شيء مصورًا ومحددًا. أمَّا العقل فيخترق الصورة، ويثب فوق الجدار الحاجز، ويكشف التشابه الذاتي بين الأشياء المتباعدة، ويرد الأشياء جميعًا إلى عددٍ من المبادئ محدود.
إذا جعلتَ حقيقة من الحقائق موضوعًا لتفكيرك رفعتَ من شأنها. وكل تلك الكتلة من المظاهر العقلية والخلقية التي لا نخضعها للتفكير المقصود، تقع في دائرة ما يمكن تغييره. إنها تُكوِّن ظروفَ الحياة اليومية، وتتعرض للتغير وللمخاوف والآمال. إن كل فرد ينظر إلى بشريته بشيء من الحزن. وكما أن السفينة تحطمها الأمواج إذا التصقت بالأرض فكذلك الإنسان — الذي يحتبس في الحياة الفانية — يتعرض لرحمة الحوادث المقبلة. ولكن الحقيقة الواحدة، التي يعزلها العقل وحدها، لا تخضع لتبديل أو تغيير. إننا ننظر إليها كأنها إله يترفع عن الهم والخوف؛ ولذا فإن أية حقيقة في حياتنا، أو أية صورة من صور خيالنا وتأملنا، متحللة من نسيج عقلنا الباطن، تصبح موضوعًا خالدًا غير شخصي. إنها الماضي عائدًا إلينا في صورة محنطة. وقد خلصتْها من المخاوف والفساد فنونٌ تفوق فنون المصريين في التحنيط، كما نُزعت منها الهموم، ووُهبت للعلم. إن ما يُوجَّه إلينا للتأمل لا يهددنا، ولكنه يجعلنا كائنات عاقلة.
العقل ينمو تلقائيًّا في كل اتجاه. والعقل الذي ينمو لا يستطيع أن يتنبأ بوقت هذه التلقائية أو وسيلتها أو طرائقها. إن الله يدخل من بابٍ خاصٍّ إلى كل فرد. ويسبق تفكيرُ العقل عهدَ التأمل بوقت طويل. لقد خرج من الظلام لا يحس به أحد إلى ضوء النهار الذي يدعو إلى العجب. وفي زمن الطفولة تراه يتقبل بطريقته الخاصة جميع المؤثرات من الخلق الذي يحوطه ويتصرف فيها. إن كلَّ ما يعمله العقل أو يتفوه به يخضع لقانون. وهذا القانون الطبيعي يبقى مسيطرًا عليه بعد أن يصل إلى مرحلة التأمل أو التفكير الواعي. إن الرجل المتكلف المنهوك الذي ينطوي على نفسه ويعذبها، لا يمكنه أن يتوقع الجانب الأكبر من حياته؛ فهو مجهول، لا يمكن تصوره. ويجب أن يبقى كذلك، حتى يستطيع أن ينتشل نفسه من أذنَيه. مَن أنا؟ ماذا صنعتْ إرادتي لتجعلني كما أنا؟ لا شيء. لقد طفوت فوق هذا الرأي، وفي هذه الساعة، وهذه الحوادث المتشابكة، بفعل تيارات خفية من القوة والعقل، ولم يعترض هذا الاتجاه أو يعززه — بدرجة محسوسة — ما عندي من عبقرية أو عناد.
إن ما نعمل تلقائيًّا هو دائمًا خير أعمالنا. إنك لا تستطيع، بكلِّ ما لديك من قصد وحرص، أن تقترب من موضوعٍ ما بقدْر ما تقرِّبك لمحة تلقائية، عندما تنهض من فراشك، أو تسير في الخارج صباحًا بعد أن تتدبر الأمر قبل النوم في الليلة السابقة. التفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي؛ ولذا فإن صدق الفكرة تفسده المبالغة في التوجيه العنيف الذي تقوم به الإرادة، كما تفسده زيادة الإهمال. إننا لا نحدد ما نفكر فيه. ولكننا نكتفي بأن نفتح حواسنا، وأن نزيل — ما استطعنا — كلَّ ما يقف في سبيل الحقيقة، ونترك للعقل أن يرى. ما أقل سلطاننا على أفكارنا. إنما نحن سجناء الأفكار. إنها تقبض علينا لحظات في سمائها، وتشغلنا انشغالًا كاملًا بحيث لا نفكر في الغد، وإنما نحملق كالأطفال، دون أن نحاول أن نجعل هذه الأفكار مِلْكًا لنا. وبعد وقتٍ ما نبتعد عن هذا الابتهاج، ونذكر أين كُنَّا، وما شهدنا، ونستعيد ما رأينا استعادة صادقة بقدْرِ ما نستطيع. وبمقدارِ ما نستطيع استعادة هذه الحالات النفسية البهيجة، نحمل النتائج في ذاكرةٍ لا تُمحى، ويؤيدنا جميع الناس وجميع العصور. وذلك هو ما نسميه «الحقيقة». وفي اللحظة التي نكف فيها عن الاسترجاع، ونحاول فيها التصحيح والتدبير، تتلاشى الحقيقة.
وإذا فكرنا في الأشخاص الذين حفزونا ونفعونا، أدركنا تفوق مبدأ التلقائية أو البداهة على مبدأ الحساب والمنطق. الأوَّل يتضمن الثاني، ولكن في صورة جوهرية كامنة. إننا نتطلب من كل إنسان منطقًا طويلًا، ولا نتسامح في انعدامه، ولكن هذا المنطق ينبغي ألا يُنطق به. المنطق هو سير البديهة أو تفتُّحها تفتُّحًا متلائمًا، وفضله في كونه طريقة صامتة. وفي اللحظة التي يظهر فيها في صورة فروض، وتكون له قيمة منفصلة، يصبح عديم القيمة.
في عقل كلِ إنسان تبقى بعض الصور، والكلمات، والحقائق، دون أن يبذل المرء جهدًا في انطباعها، وهي صور وكلمات وحقائق ينساها غيره، وتوضِّح له هذه الأشياء فيما بعد بعضًا من القوانين الهامة. كلما تقدمنا تفتح كتفتح زهرة الخُضَر. لديك أوَّلًا الغريزة، ثم الفكرة، ثم المعرفة، كما للنبات الجِذر، فالبُرعم، فالثمرة. ضعْ ثقتك في الغريزة حتى النهاية، حتى إن لم تستطع أن تقدِّم الأسباب. ومن العبث أن تتعجلها. وإن أنت وثقت فيها حتى النهاية نضجت وأثمرت الحقيقة، وعَرفت لماذا آمنت بعقيدةٍ ما.
ولكل عقل طريقته. والرجل الحق لا يجعل معارفه قط طبقًا لقواعد الكليات الجامعة. إن ما تجمعه بطريقةٍ طبيعية يذهل الرائي ويَسُرُّه عندما تخرجه؛ لأننا لا نستطيع أن نكشف عن أسرار غيرنا. ومِنْ ثَمَّ فإن الفروق بين الناس في المواهب الطبيعية تافهة إذا قيست إلى ثروتهم المشتركة. وهل تحسب أن حارس الباب والطاهي ليست عندهم لك قصص أو تجارب أو عجائب؟ كل فرد يعرف بقدْرِ ما يعرف العالِم. إن جدران العقول الساذجة مخططة كلها بالحقائق والأفكار. وسوف تحصل ذات يوم على مصباح وتقرأ المخطوط. وكل امرئ — بمقدار ما لديه من فطنة وثقافة — يشتعل حبًّا لمعرفةِ كلِّ ما يتعلق بطرق العيش والتفكير عند غيره من الناس، وبخاصة عند تلك الطبقات التي لم تخضع عقولها لتدريب التعليم المدرسي.
وهذه الحركة الغريزية التي لا تتوقف البتة في العقل الصحيح، ولكنها تصبح أقوى وأكثر حصولًا على المعرفة خلال جميع درجات الثقافة. وأخيرًا يأتي عهد التأمل، حينما لا نكتفي بالملاحظة، ولكننا نبذل الجهد الشاق لكي نلاحظ، حينما نجلس عامدين لكي نفكر في حقيقة مطلقة، وحينما نفتح عينَ العقل أثناء الحديث والمطالعة والعمل، ونقصد إلى معرفة القانون الذي يستتر خلف مجموعة من الحقائق.
ما أشق عمل في الدنيا؟ أن تفكر! وددت لو استطعتُ أن أقف الموقف الذي يمكِّنني من رؤية الحقيقة المطلقة رؤيا العين، ولكني لا أستطيع، فأرخي جفني وأركن إلى هذا الجانب أو ذاك. ويبدو لي أنني عندئذٍ أدرك ما قصده مَن قال: لا يستطيع أحد أن يرى الله وجهًا لوجه ثم يعيش بعد ذلك. ومثال ذلك أن يحاول المرء أن يكشف أساس الحكومة الأهلية. دعه يسلط عقله في اتجاه معيَّن، بغير توقُّف أو راحة. إن خيرَ ما عنده من التفات مهما طال أمده لا يجديه شيئًا. ومع ذلك فإن الأفكار تفلت أمام عينَيه. وقد يحدث له أي شيء إلا أن يفهم، ولا يتنبأ بالحقيقة إلا في صورة غامضة. تقول: سوف أمشي خارج بيتي فتتخذ الحقيقة صورتها وتتضح لي. ثم ننطلق ولكننا لا نعثر عليها. ويبدو لنا أننا نحتاج فقط إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة كي نظفر بالفكرة. ولكننا نلجها، فإذا بنا على بُعدٍ منها كما كُنَّا أوَّلًا. ثم تظهر لنا الحقيقة في لحظةٍ وعلى غير انتظار. يظهر لنا ضوء شارد معين، وفي وضحه يظهر لنا المبدأ الذي ننشده. يبدو لي أن قانون العقل يشبه قانون الطبيعة الذي نشهق بموجبه الأنفاس ثم نزفرها، ويسحب بمقتضاها القلب الدم ثم يلفظه، أعني قانون التراوح. ولذا فعليك في فترةٍ أن تعمل بذهنك، وعليك في لحظةٍ أخرى أن تكفَّ عن العمل، لترى ما تكشف عنه «الروح» العليا.
إن خلود الإنسان يبشِّر به التفكير العقلي كما تبشر به إرادة الإنسان المعنوية. كل تفكير في أساسه تطلُّع إلى المستقبل، وأقل قيمه قيمته الراهنة. أنعم النظر فيما يستهويك في فلوطارخس وشكسبير وسرفانتيس. إن كل حقيقة يحصل عليها كاتب من الكُتَّاب هي مصباحٌ يسلِّط كل ضوئه على الوقائع والأفكار التي كانت من قبلُ في عقله، ثم انظر إلى ما يحدث بعد ذلك، تجد أن الحصير والمهملات التي كانت تنتثر في برجه قد أصبحت أشياء ثمينة. كل واقعة تافهة في تاريخ حياته الخاصة تمسي وسيلةً لإيضاح هذا المبدأ الجديد، وتعود إلى وضح النهار، وتستهوي الناس جميعًا بقوَّتها وسحرها الجديد. ويتساءل الناس: أنَّى له هذا؟ ويظنون أن في حياته شيئًا مقدسًا. كلا، إن لديهم ألوف الوقائع التي لا تقل عن ذلك قيمة، وما عليهم إلا أن يحصلوا على مصباحٍ ينبشون في ضوئه هم كذلك الطبقات العليا من ديارهم.
كلنا عقلاء. والفرق بين فرد وآخر ليس في الحكمة، ولكنه في المهارة. عرفت في نادٍ علمي شخصًا يذعن لي دائمًا، رأى مَيلي إلى الكتابة فتوهم أن تجاربي بها شيء أسمى مما لديه. في حين أني وجدت تجاربه لا تقل شأنًا عن تجاربي. أعطني هذه التجارب، ولسوف أفيد منها نفس الفائدة. كان يتمسك بالقديم، ثم يتمسك بالجديد. أمَّا أنا فقد تعودت أن أضم الجديد إلى القديم، وهو ما لم يتعوَّد ممارسته. تجد ذلك في الأمثلة الكبرى. وربما لو أُتيح لنا أن نلقى شكسبير لم نشعر بنقص شديد. كلا، بل نحس مساواة كبرى، مع فارق واحد فقط، وهو أنه كانت لديه مهارة غريبة في الإفادة من الحقائق وترتيبها، وهي المهارة التي تنقصنا؛ لأنا برغم عجزنا المطلق عن أن نخرج شيئًا مثل هاملت أو عطيل، إلا أن لدينا جميعًا استعدادًا كاملًا نتقبل به هذا الذكاء المفرط، وهذه المعرفة العميقة بشئون الحياة، وهذه الفصاحة الدافقة.
إذا جمعتَ تفاحًا في ضوء الشمس، أو جَففت الحشائش، أو قَلمْتَ الأرض لزراعة القمح، ثم أويت إلى بيتك، وأغمضت عينَيك، وضغطت عليهما بيدك، فإنك لا تفتأ ترى التفاح معلقًا في الضوء اللامع بين الأغصان والأوراق، كما ترى الحشائش المعشبة، أو سنابل القمح، لمدة خمس أو ست ساعات بعد ذلك. فإن آثار ما رأيت تنطبع في الإرادة الحافظة، حتى إن جهلت ذلك. وهكذا تستقر سلسلة الصور الطبيعية كلها التي عرَّفتك بها حياتك في ذاكرتك، حتى إن جهلت ذلك، ثم تُلقي هزةٌ من هزات العاطفة ضوءًا خاطفًا على مكانها المظلم، فتستولي القوة العاملة في الحال على الصورة الملائمة، وتجعلها الكلمة التي تفكر فيها في لحظةٍ من اللحظات.
ينقضي زمن طويل قبل أن نكشف عما لدينا من ثراء. إننا على ثقةٍ من أن تاريخنا مألوف جِدًّا؛ فليس لدينا ما نكتبه أو نستخلصه. غير أن أحكم سنواتنا ما برحت تعود القهقرى نحو ذكريات الطفولة المحتقرة، فنتصيد دائمًا شيئًا عجيبًا من ذلك المستنقع، حتى نبدأ — بمرور الزمن — في الشك بأن سيرةَ الرجل الأحمق الواحد الذي نعرفه لا تقل في حقيقتها عن تفسيرٍ مختصرٍ ﻟ «تاريخ العالم» الذي يقع في مائة مُجلد.
وفي العقل المنشئ، الذي نطلق عليه عادةً اسم النبوغ، نلاحظ نفس الاتزان بين العنصرَين الذي نلاحظه في العقل القابل. العقل المنشئ يُنتِج الأفكار والعبارات والقصائد والخطط والرسوم والنُّظم؛ فهي من توليد العقل، ومن تزاوج الفكر بالطبيعة. ولا بد للنبوغ من هِبَتَين: الفكرة ونشرها، والأولى هي الكشف، وهي معجزة دائمًا، معجزة لا يجعلها أبدًا تَكرارُ الحدوث أو مواصلة الدرس أمرًا مألوفًا، ولكنها تترك المتسائل دائمًا في غباوة التعجب. هي إقحام الحقيقة في الدنيا، هي صورة من صور الفكر تنطلق الآن لأول مرة في العالم، هي وليدة الروح الأبدية القديمة، وجانب من العظمة الصادقة التي لا تُحاط، وإنها لتبدو لأول مرة كأنها ترث كلَّ ما سبق وجوده، وكأنها تُملى على مَن لم يُولد بعدُ. إنها تؤثِّر في كل فكرة من أفكار الناس، وتشكِّل كل نظام. ولكنها — لكي يسهل الحصول عليها — بحاجة إلى وسيلة أو إلى فن تنتقل عن طريقه إلى الناس. ولكي يمكن انتقالها يجب أن تتحول إلى صورة أو شيء محسوس، يجب أن تتكلم لغة الوقائع. إن أشد ضروب الإلهام عجبًا ليموت مع الرجل الملهم إذا لم تكن له يد يصوِّر بها إلهامه للحواس. إن شعاع الضوء يمر خلال الفضاء لا يراه أحد، ولا يُرى إلا إذا سقط على شيءٍ ما. والطاقة الروحية عندما تتجه إلى شيء خارجها، تصبح عند ذاك فكرة. والعلاقة بينها وبينك تجعلك أوَّلًا — أو تجعل قيمتك — تظهر لي. إن القدرة العقلية الفنية المبدعة عند المصور تخمد وتتلاشى إذا افتقد القدرة على التصوير. وفي ساعاتنا السعيدة يجب أن نكون شعراء لا ينضب لنا معين، إذا استطعنا مرة أن نشق الصمت بالنَّظم الملائم. وكما أن الناس جميعًا يستطيعون الوصول بطريقةٍ ما إلى الحقيقة الأولى، فكذلك لهم جميعًا نوع من الفن أو القدرة على الاتصال في رءوسهم، ولكن هذه القدرة لا تهبط إلى اليدَين إلا عند الفنان وحده. هناك مفارقة لم نعرف قوانينها بعد، بين رجلَين وبين الرجل الواحد في لحظتَين، بالنسبة لهذه المقدرة. في الساعات العادية تمر بنا الوقائع عينها التي تمر بنا في الساعات غير العادية أو في ساعات الوحي، ولكن هذه الوقائع لا تتأهب لتصويرها، ولا تنعزل، وإنما تشتبك في نسيج كنسيج العنكبوت. إن الفكرة النابغة تلقائية، ولكن القدرة على التصوير أو التعبير، في أغنى صوره وأكثرها فيضًا، تتطلب مزيجًا من الإرادة، وشيئًا من السيطرة على الحالات التلقائية، وبدون ذلك لا يمكن الإنتاج. هذه القدرة هي تحوُّل الطبيعة كلها إلى التعمق المفصِح عن الفكرة، بالتوجيه الحكيم وبالتدريب العنيف على الاختيار. ومع ذلك فإن الألفاظ الخيالية تبدو كأنها تلقائية كذلك. إنها لا تتدفق من الخبرة وحدها أو أساسًا، ولكنها تتدفق من ينبوع أغنى. إن الخطوط العظيمة للمصور لا تُرسم بالتقليد المقصود لأشكال معينة، ولكنها تُرسم بالرجوع إلى المصدر الرئيسي لجميع الأشكال في عقله. ومن ذا يكون أول أستاذ للرسم؟ إننا بغير تعليم نعرف فكرة الصور البشرية معرفة جيدة. يعرف الطفل إذا كان الذراع أو الساق شائهة في الصورة، وإذا كان الموقف طبيعيًّا أو عظيمًا، أو وضيعًا، مع أنه لم يتلقَّ أي درس في الرسم، أو استمع إلى أي حديث في الموضوع، ولا يستطيع هو نفسه أن يرسم بدقة لمحة واحدة. إن الصورة الحسنة تسر جميع العيون، قبل أن يبلغها أي علم بالموضوع بزمان طويل، والوجه الجميل يبعث النبض في عشرات القلوب، قبل أية معرفة بالنِّسب الآلية للرأس والملامح. وقد نكون مَدينين للأحلام ببعض الضوء على مصدر هذه المهارة؛ لأننا بمجرَّد ما نبعد الإرادة، ونحل محلها حالة من حالات عدم الوعي، نرى كيف نمسي مصورين ماهرين! إننا نخيِّل لأنفسنا صورًا عجيبة من الرجال والنساء والحيوان والبساتين والغابات والوحوش، والقلم الساحر الذي نرسم به بعد ذلك لا تلمس فيه انحرافًا أو جهلًا، أو ضعفًا أو فقرًا، إنه يُحسِن التصميم كما يُحسِن التنفيذ، وتأليفه مليء بالفن، وألوانه منسجمة متسقة، وقطعة الخيش كلها التي يصور عليها تكاد تنبض بالحياة، وهي قمينة بأن تبعث فينا الرعب أو الرقة أو التشوق أو الأسى. وليس ما ينقله الفنان من خبرته مجرد صور منقولة، ولكنها صور تتأثر وتتزين بألوانٍ يستمدها من هذا المجال المثالي.
إن الشروط الضرورية للعقل المنشئ لا تظهر غالبًا متحدة، ولكن العبارة الحسنة أو البيت الشعري الجميل يبقى جديدًا ومذكورًا مدة طويلة من الزمان. ومع ذلك فإننا عندما نكتب بسهولة، ونخرج إلى هواء الفكر الطلق، نبدو كأننا على ثقةٍ من أنه ليس هناك ما هو أيسر من الاستمرار في هذا الاتصال حسبما شئنا. إن دولة الفكر ليست لها حدود في أعلاها أو أسفلها أو حولها، ولكن آلهة الفن تطلق لنا الحرية في ميدانها؛ ففي العالَم ألف ألف كاتب. وإذن فقد يحسب المرء أن الفكرة الحسنة مألوفة كالماء والهواء، وأن هِبَات كل ساعة جديدة تستبعد الهبات الماضية. ولكنا مع ذلك نستطيع أن نَعُدَّ كلَّ ما لدينا من كتب جيدة. كلا، بل إني لأتذكر كل بيت جميل من الشعر مدى عشرين عامًا. ومن الحق أن نقول إن العقل المدرِك في الدنيا يتقدم دائمًا العقلَ المبدِع بكثير؛ ولذا فهناك كثير من نقاد خير الكتب الأَكْفاء، وقليل من كُتَّاب الكتب القيمة. غير أن بعض شروط الإنشاء العقلي نادر الحدوث. والعقل كلٌّ، يتطلب الكمال في كل عمل. ويقابل ذلك ويقف في سبيله تعلُّق المرء بفكرة واحدة، وطموحه إلى توحيد أفكار عديدة لا تحتمل التوحيد.
الحق عنصرنا في الحياة. وعلى ذلك فإن المرء إذا وجه انتباهه إلى وجه واحد من أوجه الحق، وحصر نفسه في هذا الجانب وحده مدة طويلة، فإن الحق يتشوه ولا يصبح حقًّا، بل باطلًا. وهو في هذا يشبه الهواء، وهو عنصرنا الطبيعي، والأنفاس التي نستنشِقُها، ولكن إذا اتجه منه تيار على الجسم مدة طويلة، فإنه يسبب البرد، والحمى، بل والموت. ما أشقى النحوي، والعالم بفراسة الرأس، والمتعصب السياسي أو الديني، أو — في الواقع — أي مخلوق تتملكه فكرة واحدة، فيفقد اتزانه بالمبالغة في موضوع واحد. إن ذلك إلا جنون في بدايته. وكل فكرة سجنٌ كذلك. لا أستطيع أن أرى ما ترى؛ لأن ريحًا شديدةً قد أدركتني وقذفت بي في اتجاه واحد حتى أصبحت خارج نطاق أفقك.
وهل خير من هذا أن يحاول الطالب — كي يتحاشى هذا الخطأ وكي يحرِّر نفسه — أن يهدف إلى إيجاد كل آلي في التاريخ، أو العلم، أو الفلسفة، بإضافة عددية لجميع الوقائع التي تقع تحت بصره؟ إن العالَم يرفض أن يُحلل بالجمع أو بالطرح. كم من الوقت ننفق وكم من الآلام ما نعاني في شبابنا في ملء كراساتنا بجميع تعاريف الدين، والحب، والشعر، والسياسة، والفن، آملين في خلال سنوات قلائل أن نلخِّص في موسوعتنا ما يصفو من قيمة جميع النظريات التي بلغها العالم. ولكن قوائمنا لا تصل إلى الكمال برغم مرور الأعوام، ونكتشف أخيرًا، أن منحنانا قطع مخروطي، لا يلتقي قوساه.
إن كمال العقل لا ينتقل إلى عمله بالفصل أو بالوصل، ولكنه ينتقل بالملاحظة التي تحرك العقل وهو في عظمته وخير حالاته إلى العمل في كل لحظة. ولا بد أن تكون له الكلية ذاتها التي للطبيعة. ومع أن الاجتهاد لا يمكنه أن يعيد إنشاء الدنيا في نموذج، بجمع التفصيلات أو التصرُّف فيها على خير وجه، إلا أن الدنيا تظهر في صورة مصغرة في كل حادث بحيث تمكن مطالعة جميع قوانين الطبيعة في أصغر واقعة. ويجب أن يكون للعقل نفس هذا الكمال في إدراكه وفي أعماله. من أجل هذا كان أساس الكفاية العقلية أو مركز قوَّتها هو إدراك هذا التطابق. إننا نتحدث إلى أشخاص مهذبين يظهرون غرباء في الطبيعة؛ فالسحابة، والشجرة، والعشب، والطير، ليست لهم، وليس بها شيء منهم. وليست الدنيا لهم سوى مسكن ومائدة. ولكن الشاعر الذي تكون أبياته شاملة كاملة رجلٌ لا تستطيع الطبيعة أن تخدعه، أيًّا كان وجه الغرابة الذي تتخذه. إنه يحس قرابتها الشديدة، ويكتشف في تقلباتها تشابهًا أكثر مما يكتشف فيها تنوعًا. إن شهوة الفكرة الجديدة توخزنا، غير أننا بعدما نستقبل الفكرة الجديدة نجد أنها ليست سوى الفكرة القديمة اتخذت وجهًا جديدًا، وبالرغم من امتلاكنا لها، إلا أننا نشتهي غيرها في الحال؛ فنحن في الواقع لا تزداد ثروتنا؛ لأن الحق كان كامنًا فينا قبل أن تنعكس هذه الفكرة من الأشياء الطبيعية. وصاحب النبوغ النافذ يصب تشابه المخلوقات جميعًا في كل عمل ينتجه عقله.
ولكن إذا كانت القوى المنشئة نادرة، ولم يُكتب إلا لأفراد قلائل أن يكونوا شعراء، إلا أن كل رجل يتلقى هذا الروح القدسي الهابط، ويستطيع أن يدرس قوانين سريانه. إن قاعدة الواجب العقلي قلما تحاذي تمام المحاذاة قاعدة الواجب الخلقي؛ فالعالم يُطلب إليه إنكار الذات إنكارًا تامًّا، شأنه في ذلك شأن القديس، لا بد له من عبادة الحق، ولا بد له من التخلي عن كل شيء من أجل ذلك، وأن يؤثِر الهزيمة والألم، كي تنمو عن سبيل ذلك ثروته الفكرية.
يَهبِ اللهُ لكل عقل الخيارَ بين الحق والراحة. اخترْ منهما ما شئت، ولن تستطيع أن تظفر بكليهما، والإنسان بينهما يتذبذب كالبندول؛ فمن تغلب عليه محبة الراحة يقبل أوَّل مذهب، وأول فلسفة، وأول حزب سياسي يقابله، والأرجح جِدًّا أن يتبع أباه. إنه يظفر بالراحة والمتاع وحسن السيرة، ولكنه يغلق باب الحقيقة. ومن تغلب عليه محبة الحقيقة يبقى طافيًا بعيدًا عن كل مرفأ. إنه يمتنع عن قبول كل عقيدة ثابتة، ويعترف بكلِّ ما ينافيها ويعارضها. ويتأرجح كيانه بين الفضيلة وما يناقضها كأنهما جداران. إنه يستسلم للقلق الذي ينجم عن التردد والآراء التي لم يتم نضجها، غير أنه يطلب الحقيقة، كما لا يطلبها الآخر، ويحترم أسمى قانون من قوانين وجوده.
لا بد له أن يجوب بنعليه دائرةَ الأرض الخضراء، باحثًا عن الرجل الذي يستطيع أن يمده بالحقيقة. ولسوف يعرف عندئذٍ أن في الاستماع شيئًا من القداسة ومن العظمة أكثر مما في الكلام. ما أسعد الرجل المستمع، وما أشقى الرجل المتكلم. ما دمت أستمع إلى الحقيقة فإني أغوص في وسطٍ جميل، ولا أحس حدودًا لطبيعتي. وما أصغي إليه وما أشاهده يوحي إليَّ بآلاف الفِكَر. إن مياه المحيط العظيم تجد إلى الروح مدخلًا ومنها مخرجًا. ولكني إن تكلمت، أتحدد، وأحتبس، ويقل شأني. عندما يتكلم سقراط لا يلحق العار بليسس ومنكسنس؛ لأنهما لا يتكلمان. إنهما كذلك من الأخيار. وهو أيضًا يذعن لهما، ويحبهما، أثناء كلامه؛ وذلك لأن الرجل الصادق الطبيعي يحتوي الحقيقة — بل هو الحقيقة عينها — التي ينطق بها الرجل العظيم، في حين أن الحقيقة ترى أن الرجل الفصيح غير جدير بإيوائها؛ لأنه يستطيع أن يخرجها من بين شفتَيه، فتراه يتجه إلى هؤلاء الصامتين الذين يتصفون بالجمال، وهو إليهم أكثر ميلًا، وأشد احترامًا. يقول المثل القديم: دعنا نَلزم الصمت؛ لأن الآلهة صامتة. الصمت قوة تحطِّم حدود الشخصية، وتسمح لنا أن نكون عظماء عالميين. يتقدم المرء عن طريق المعلمين المتتابعين. ويبدو أن لكلٍّ منهم في إبَّانه النفوذَ الأعظم، ولكن هذا النفوذ يخلي السبيل في النهاية إلى نفوذٍ آخر. وعلى المرء أن يتقبل كل ذلك بإخلاص. يقول يسوع: «اترك أباك وأمك وبيتك وأرضك واتبعني. من يترك كل شيء يزيد ما يحصل عليه.» وتصدق هذه القاعدة عقليًّا كما تصدق خلقيًّا. كل عقل جديد نقترب منه يظهر أنه يتطلب مِنَّا أن نتنازل عن كلِّ ما ملكنا في ماضينا وحاضرنا. والمذهب الجديد يبدو أول الأمر هادمًا لكل آرائنا وأذواقنا وطرائق معيشتنا. هكذا بدا سودنبرج، وكانت، وكولردج، وهجل أو ابن عمه الذي شرح مذهبه، لكثير من الشباب في هذا البلد. خذ عنهم بقلبك شاكرًا كلَّ ما يستطيعون تقديمه إليك. استنفد ما لديهم وصارعهم، ولا تسمح لهم بالانصراف حتى تظفر بخيرهم، وبعد فترة وجيزة يتبدد الفزع، ويتلاشى النفوذ الزائد، ولا تراهم بعد ذلك شهبًا مرعبةً، ولكنهم أنجم جديدة لامعة تشرق صافية في سمائك، وتمزج ضوءها بكل نهارك.
وبينما ترى المرء يستسلم بغير تحفظ لما يجذبه؛ لأن ذلك من ملكه، تجده يأبى أن يرضخ لما لا يجذبه، مهما يكن ما يحيط به من شهرة وسلطان؛ لأن ذلك ليس من ملكه. إن الاعتماد على النفس اعتمادًا كليًّا من خصائص العقل. إن الروح الواحدة تعادل جميع الأرواح، كما أن عمود الماء الذي ينجذب انجذابًا شعريًّا يوازن البحر. وعليها أن تعامل الأشياء والكتب العبقرية المتسلطة، كما تعامل نفسها المتسلطة كذلك. وإذا كان أيسكلس هو ذلك الرجل الذي عُرف بصفات خاصة، فإنه لم يؤدِّ واجبه بعدُ، حتى إن علَّم أوروبا المتعلمة ألف عام. فعليه الآن أن يبرهن أنه أستاذ في الإمتاع بالنسبة إليَّ كذلك، فإن لم يستطع ذلك، فإن كل شهرته لن تجديه عندي شيئًا. وما كان أشد سخفي؛ لأني لم أضحِّ بألف أيسكلس في سبيل كمالي العقلي. وقل مثل هذا خاصة فيما يتعلق بالحق المطلق، أو علم العقل. ليس باكون أو سبينوزا أو هيوم أو شلنج أو كانتْ أو غيرهم ممن يعرض عليك فلسفة عقلية سوى مترجم للأشياء التي في وعيك، والتي لك أنت كذلك سبيلك إلى رؤيتها، وربما إلى التعبير عنها كذلك، وترجمته محرفة قليلًا أو كثيرًا. فقل إذن إنه لم ينجح في أن يرد إليك وعيك، بدلًا من أن تنكب متخاذلًا على معانيه الغامضة. إنه لم ينجح، فدعِ الآن غيره يحاول. وإذا كان أفلاطون لا يستطيع، فلربما استطاع سبينوزا. وإذا لم يستطع سبينوزا، فلربما استطاع كانت. وعلى أية حال، فلسوف تجد بعد هذا كله أن ما يرده إليك الكاتب ليس أمرًا عويصًا، ولكنه بسيط طبيعي مألوف.
ودعنا الآن نختتم هذه التعاليم. لن أتحدث في المشكلة العامة، مشكلة المفاضلة بين الحب والحقيقة، وإن كان الموضوع يثيرها. ولست أزعم أني أتطفل على سياسة السموات القديمة التي تقول: «إن شاروبيم يعرف كثيرًا، وصاروفيم يحب كثيرًا.» إن الآلهة سوف تصفي منازعاتها بنفسها. بَيْدَ أني لا أستطيع أن أروي — حتى في هذه البساطة — قوانين العقل، دون أن أذكر تلك الطبقة العليا المنعزلة التي بشرت بها وتكهنت أكبر قساوسة العقل الخالص، الذين يُعرَفون باسم «المفسرين»، أو شُرَّاح مبادئ الفكر في مختلف العصور. وعندما نقلب صفحاتهم المبهمة في فترات متباعدة، فما أعجب ما يبدو لنا من هدوء وعظمة من هذه القلة، هؤلاء السادة الروحانيون العظماء، الذين ساروا في هذه الدنيا — أولئك الذين بشروا بالدين القديم — وانكفئوا يعبدون دِينًا تبدو إزاءه المسيحية المقدسة شيئًا مستحدثًا شعبيًّا؛ لأن «الإغراء من خصائص الروح، ولكن الضرورة من خصائص العقل.» هذه العصبة من العظماء، هرميز، وهيراقليطس، وأمبدوكليز، وأفلاطون، وإفلوطين، وأولمبيودورس، وبروكلس، وسنسيس، ومَن إليهم، لديهم قوة في المنطق، وابتكار في التفكير، يسبق كلَّ المميزات العادية للبلاغة والأدب، كما يبدو كأنه شعر وموسيقى ورقص وفلك ورياضة في آنٍ واحد. كنت حاضرًا عندما بُذرت بذرة العالم. إن الروح تضع أسس الطبيعة بهندسة من أشعة الشمس. ويدل على صدق تفكيرهم وجلاله مداه وإمكان تطبيقه؛ لأنه يهيمن على قائمة الأشياء كلها ومجموعها ليوضحه. غير أن ما يميز علو تفكيرهم، بل وما يكسبه نظرة ساخرة إلينا، هو الهدوء البريء الذي يبدو على ملوك الآلهة، هؤلاء الذين يشبهون الأطفال، يبدو عليهم وهم قابعون في سحبهم، يتحدث كلٌّ منهم إلى الآخر من عصر إلى عصر، ولا يتحدثون إلى معاصريهم. إنهم على ثقة تامة من أن حديثهم مفهوم، ومن أنه أكثر شيء طبيعي في هذه الدنيا، ومِنْ ثَمَّ تراهم يضمون بحثًا إلى بحث، دون أن يلتفتوا لحظة إلى الذهول الذي يصيب أفراد الجنس البشري أجمعين ممن هم دونهم، والذين لا يفقهون أشد آرائهم وضوحًا. ولا يرضى أحدهم أن يلين فيقحم عبارة عامة أو تفسيرية، ولا يُبدي أدنى سخط أو كدر من غباء مستمعيه الذاهلين. إن الملائكة يهيمون بلغة التخاطب في السماء، فلا يشوهون شفاههم بلهجات الناس التي تشبه الصفير الذي يخلو من النغم، ولكنهم يتحدثون بلغتهم، سواء كان هناك من يفهمهم أو لم يكن.