الشهادة على الأحداث
تمهيد
جون أوين
إن محور هذا الكتاب هو الإيمان بأن التغطية المباشرة للأحداث تُمثِّل دعامة أساسية من دعائم الصحافة الدولية.
أرى أن تلك هي الصحافة؛ أن تبعث بمراسلين أكْفاء إلى المناطق الصعبة والخطرة التي توشك أن تصير ذات أهمية لكن قبل أن يعرفها الجميع، وأن تغطي الأخبار حين تكون التغطية مُجدية، وليس، كما هو الحال غالبًا تلك الأيام، أن تنقل الخبر بعد فوات الأوان بعد أن يفقد أهميته الحقيقية … إن الصحفيين يصلون إلى الخبر متأخرين قليلًا ثم يغادرون قبل الأوان بقليل.
إننا نحيا وسط إعلام عالمي قادر، حين يشاء، على ربطنا جميعًا من خلال التكنولوجيا المبهرة — يتبادر إلى الذهن هنا الحفل العالمي لموسيقى الروك في يوليو ٢٠٠٧ ضمن فعاليات لايف إيرث التي شارك في إقامتها آل جور — كما أن بإمكانه حملنا على الاهتمام بالمستجدات الجارية في أي مكان على ظهر كوكبنا.
غير أنه نادرًا ما تُستَخدم كل هذه التكنولوجيا في سبيل إطلاعنا على ما يجري حول العالم، لا سيما في أفريقيا (دارفور أحدث نماذجنا المُخزية). إن الشبكات التي يفوق عددها المائة والتي تمتلك وتدير القنوات الإخبارية العاملة على مدار الساعة لا تعطي للأخبار الدولية أولوية كبيرة، باستثناء الأخبار العاجلة الكبرى كأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتفجيرات لندن، ووفاة الأميرة ديانا، وغزو العراق، والتسونامي.
لا شك أن ثمة استثناءات جديرة بالذكر، فالشبكات ذات الفكر العالمي من أمثال بي بي سي، وسي إن إن (أشير إلى القنوات الناطقة باللغة الإنجليزية التي يتسنَّى لي مشاهدتها واستيعابها)، وسكاي نيوز، وقناة الجزيرة الجديدة الناطقة بالإنجليزية؛ غالبًا ما ترصد موارد ضخمة لدعم طواقم إخبارية مخصصة لخوض مخاطرات جسيمة في سبيل الوصول إلى بؤَر الصراع والمناطق التي تشهد كوارث طبيعية.
لكن من بين الجهات العاملة في وسائل الإعلام الإخبارية الرئيسية، قليلة هي التي تفخر بنتاج الجهود الإخبارية الدولية لصحفها أو شبكاتها. وغالبًا ما يقع على عاتق المنظمات غير الحكومية (مثل هيومان رايتس ووتش، ومجموعة الأزمات الدولية، وبرنامج الأغذية العالمي) عبء تسجيل الوقائع والقضايا التي لا ترصدها وسائل الإعلام الإخبارية الرئيسية.
إلا أنه ما من موقع إلكتروني، مهما بلغت قيمته وغناه بالمعلومات، ولا تقرير إخباري مُجمَّع، أُنتج ببراعة في لندن أو نيويورك، سينجح أبدًا في التفوق على ما للصحافة الأصلية من تأثير، ولا على ما ينجزه أحد المراسلين أو صُنَّاع الوثائقيات أو المصوِّرين الصحفيين في مهمة بإحدى بقاع العالم.
بالنسبة إلى من عمل منا إلى جوار مراسلين نابغين وطواقم تصوير بارعة وشهد بنفسه حقيقة الأخبار المثيرة والوقائع الإخبارية الكبرى، لا تزال ثمة نظرة إجلالٍ إلى كلِّ مَن خاطر في سبيل تغطية الأخبار حول العالم. إن ما يقدمونه من إسهامات وما سجلوه من «روايات أوَّلِيَّة لأحداث التاريخ» إنما هو محطُّ تقدير من كبار المؤرخين، ومحل استيعاب من صانعي سياساتنا الحاذقين، ومصدر تذكير بحقيقة الأمور موجَّه للسياسيين والمسئولين المتفهمين لدور أولئك الرجال والنساء حاملي الكاميرات ودفاتر الملاحظات، باعتبارهم عنصرًا لا غناء عنه من عناصر المجتمعات الديمقراطية؛ ولا يمكن تجاهل ما يكتبون، ويسجلون، وينشرون حتى لو كان متعارضًا مع السياسة الرسمية.
إن استضافة القنوات الإخبارية المتاحة على مدار الساعة للخبراء المزعومين المتعالين لا يمكن ولا يجب أن تُغني أبدًا عن التغطية الصحفية التي لا تتحقق إلا إذا استمر تكليف هؤلاء الرجال والنساء أو اضطلاعهم المستقل — كما هو الحال لدى الصحفيين المستقلين — بملاحقة الأخبار التي تمنحنا «أفضل صيغة ممكنة للحقيقة»، وذلك حسب تعريف بوب وودورد، المراسل الاستقصائي المرموق.
لا شك أن ثمة ثمنًا باهظًا يؤديه أولئك الأفراد المستعدون ﻟ «حمل مشاعل النور إلى نهاية النفق والكشف عما يجري في الظلام» (تلك العبارة الجزلة والمؤثرة مقتبسة من الكتاب الصغير الحافل بالحكمة «الأخبار فعل» (١٩٩٨) الذي ألَّفه الكاتب والصحفي الأمريكي بيت هامل).
وفق دراسة للمعهد الدولي لسلامة الإعلاميين بعنوان «قتل الرسل» عام ٢٠٠٧، لقي ألف صحفيٍّ حتفهم خلال تغطيتهم للأخبار وذلك بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٠٦. يمثل الصحفيون المحليون الأغلبية الساحقة من هؤلاء الصحفيين؛ إذ يتعرضون للقتل لمحاولتهم متابعة أخبار لا ترغب الحكومات والسلطات في نشرها أو إذاعتها، ونادرًا ما يُلقى القبض على القتلة لتقديمهم للمساءلة القانونية، بل لا يكاد يحدث ذلك مطلقًا.
يستهلُّ هذا الكتاب أول فصوله بعرض قصة مراسِلة بارزة مستقاة من واقع تغطياتها الإخبارية و«شهادتها على الأحداث». وقبل أن نشرع في تناول أهم الاتجاهات والقضايا التي تواجه الصحافة والإعلام حاليًّا ومستقبلًا، نرغب أولًا في دراسة دور المراسل ومسئوليته.
جانين دي جيوفاني مراسِلة أجنبية أمريكية صاحبة رسائل إخبارية من الخطوط الأمامية للحروب والصراعات التي نشبت عقب انهيار حائط برلين في ١٩٨٩. أسهمت هي وغيرها الكثير من المراسلين المتميزين من جيلها في التأريخ للحروب التي دارت في البلقان، في البوسنة أولًا ثم في كوسوفو؛ والانتفاضة الفلسطينية؛ ومعركة روسيا ضد انفصال الشيشان؛ والحروب الأهلية في أفريقيا. كما نقلت، إلى جانب كل ما سبق، الأحداث في أفغانستان، وتيمور الشرقية، والعراق.
أثمرت المهام الشديدة الخطورة العديدة التي أنجزتها جانين دي جيوفاني — إذ كانت واحدة من المراسلين القلائل الذين شاهدوا الروس وهم يَدُكون العاصمة الشيشانية جروزني — عدة تقارير إخبارية نُشِرَت في جريدة ذا تايمز اللندنية ومجلة فانيتي فير وحصدت عدة جوائز.
مراجع
في صباح يوم التاسع عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٢، في سوق مهجورة للماشية في عاصمة ساحل العاج، أبيدجان، حين كان من المفترض أن أحتسي فنجانًا من الشاي، إذا بي أجد جنديًّا حكوميًّا ماثلًا أمامي على بُعد خطوة مني مُصوبًا سلاحًا آليًّا نحو قلبي.
لقد وقع انقلاب عسكري، لكن لم يكن الأمر قد نما إلى علمي ولا إلى علم الجندي بعدُ. كل ما أعرفه أنني أويت إلى النوم في الليلة السابقة في مدينة هادئة — تُعرف كمنارة للاستقرار وسط منطقة غرب أفريقيا الغارقة في العنف — ثم استيقظت على صوت إطلاق النار؛ بعبارة أخرى، ما فررت إلى أبيدجان هربًا منه: الحرب.
جاءت هذه المواجهة في سوق الماشية في أعقاب معركة قصيرة متقطعة بين القوات الحكومية وبعض المتمردين المجهولين الذين لم يرَهم أحدٌ بعدُ. كان الجندي مرتبكًا، مثلي تمامًا؛ فهو لا يدري من الذي كان يقوم بالانقلاب ولا لماذا، وغالبًا قد جرَّه قائده من فراشه فجرًا وهو ربما مذعور وثمل قليلًا من الخمر الرديئة التي احتساها البارحة. وقف الجندي مرتديًا بيادته الخانقة، غارقًا في عرقه، ومُصوبًا بندقيته الكلاشينكوف نحوي ونظراته تشي أنه قد عقد العزم على استعمالها.
لم أكن وحدي. كان ثمة رجل قُرب قدمي يئنُّ متألمًا. كانت ثيابه ملطخة بالدم وفي رجليه جروح صغيرة منتظمة أحدثتها طلقات الرصاص. كنت قبلها بلحظات قد انحنيت وحاولت سحب الرجل داخل سيارتي الأجرة لكي أنقله إلى أي مستشفًى.
عندها، بدأ الجندي يهددني بإطلاق النار عليَّ.
قال الجندي بلكنة فرنسية إيفورية تبيَّنتها بالكاد: «إنه متمرد حقير.»
رددت قائلة: «إنه مصاب وأريد أن أنقله إلى المستشفى.»
فرفع الجندي بندقيته وقد أزال صمام الأمان.
قال: «اتركيه. إنه في قبضتنا.»
حين وقعت هذه الحادثة، كنت قد أمضيت ما يقرب من ١٥ عامًا في تغطية الأخبار في بؤر الحروب، وكان حريًّا بي أن أعرف أنه لا ينبغي مجادلة رجل مسلح ببندقية، لا سيما لو كان قد أطلق النار لتوِّه على شخصٍ ما، وكان من الحكمة أن أدرك أن خُطاي ساقتني إلى المكان الخطأ في الوقت الخطأ — قُبيل قتل شخص — وأن عليَّ التراجع، والاعتذار، والفرار. ولكن تلك الخمسة عشر عامًا ذاتها أيضًا هي التي منحتني ثقة الناجين المفرطة. كنت على دراية بما سيحدث لو غادرت: هذا الرجل المصاب، المتشبث بكاحلي متوسلًا: «أختي، ساعديني!» سيُقتَل ويُرمى به في قبر أو يُترك مع البقر النافق حتى تتعفن جثته، وهو ما يمكن أن يحدث سريعًا في دول أفريقيا الاستوائية. لم يسبق لي رؤية هذا الرجل من قبلُ، لكنني كنت أعرف كيف ستبدو جثته بحلول الظهيرة.
لذلك ألححت في الجدال، مخبرة الجندي، الذي ربما لا يجيد القراءة والكتابة، باتفاقية جنيف، وحقوق الإنسان، والرحمة المسيحية. بدأ تضجره يتحول إلى غضب شديد وحينها جذبني صحفي آخر إلى سيارة الأجرة قائلًا: «هذه أفريقيا، فيمَ تفكرين بحق السماء؟» ثم انطلقنا مغادرين. لا أدري كم مر من الوقت قبل أن يُجهِزوا على هذا الرجل، لكنني على يقين أن حظي، أو ما يسميه العرب «المكتوب»، هو ما أنهضني من فراشي في الرابعة فجرًا وساقني إلى سوق الماشية. كان من قبيل الحظ أيضًا أن وُجد شخص هناك — وهو من سيصير زوجي لاحقًا — لينقذني من عطفي الذي كان سيُورِدني المهالك. حظ تعس يليه حظ سعيد. من حسن حظي أنني لم يُطلق عليَّ الرصاص؛ فعديد من زملائي وأصدقائي قضوا نحبهم وهم يخوضون مخاطرات أقل بكثير.
قبل هذه الحادثة بعامين، في جزء آخر من غرب أفريقيا، تناولتُ عشائي مع أحد هؤلاء الراحلين، وهو كورت شورك. ذهبنا إلى أفضل مطعم في فريتاون عاصمة سيراليون وتناولنا الجمبري المشوي. كان شورك آنذاك في الثانية والخمسين من عمره ويعمل مراسلًا لوكالة رويترز، وكان ممن حصلوا على منحة رودس للدراسة في جامعة أكسفورد حيث كان زميلًا لبيل كلينتون. كان شورك معروفًا ببسالته وروح دعابته اللاذعة. خلال فترة أعياد الميلاد التي مرت علينا في سراييفو الواقعة تحت الحصار الصربي آنذاك، حضرنا قداس منتصف الليل ثم احتسينا زجاجة شامبانيا اشتريناها من السوق السوداء، ونحن نستمع إلى قذائف الهاون المتساقطة على المدينة المكسوة بالثلوج.
عودة إلى لقائنا في مطعم فريتاون، أخبرته ونحن نحتسي الجعة بأمر مجموعة من الجنود المراهقين الواقعين تحت تأثير المخدرات المعروفين بفتية الجانب الغربي الذين لقيتهم صباح ذلك اليوم. لقد أحاطوا بسيارتي وراحوا يضربون غطاءها الأمامي بأيديهم، مُصوِّبين أسلحتهم الآر بي جي نحو وجهي، ومطالبين بالمال، والسجائر، والمخدرات، والجنس. ما كان من سائقي إلا أن صرخ مذعورًا، فصاح به زميل كان معي في السيارة وأمَره أن يقتحم الحشد قائلًا: «اصدمهم بالسيارة!»
علَّق شورك على قصة هؤلاء الفتية قائلًا: «مجرد هواة. يبدون لي كفريق كرة سلة ارتجالي.»
في صباح اليوم التالي، جلست عند حمام السباحة ذي الماء الآسن الموجود في فندقنا المتهالك لتناول الإفطار مع صحفي آخر عرفته في البوسنة اسمه ميجل جيل مورينو. كان غرب أفريقيا يشهد نهاية موسم الأمطار، وكان بوسعنا رؤية عشرات الضفادع وهي تتكاثر عند حافة الماء.
كان لميجل نصيبه من الشهرة، تمامًا كشورك، وكان مخلصًا في تديُّنه وشجاعته. جمعني به المعسكر الرئيسي عند الخطوط الأمامية مع جنود متمردين في كوسوفو عام ١٩٩٩، حين كان تحت القصف الجوي واضطُررنا إلى الاحتماء في الخنادق لأيام. كان ميجل أول شخص اتصلت به طلبًا لنصيحته قبل السفر إلى الشيشان، وأذكر نصيحته لي: «تذكَّري أن تغادري قبل أن يدفعك القصف إلى الجنون بأسبوع على الأقل.»
سألني ميجل أثناء تناوُلنا الإفطار عن مقطع فيديو محلي كنتُ قد حصلت عليه، يُظهِر رجالًا يُعتَقد أنهم جنود تابعون للأمم المتحدة وهم يتعرضون للتعذيب على يد المتمردين في سيراليون. كان يُفتَرض أن يكون هذا المقطع تحذيرًا لكلينا وكأنه يخاطبنا قائلًا: احترسا! هذا هو الجنون الذي يجري هنا. لكن بدلًا من أن نرتدع، ودَّع كلٌّ منا الآخر ولحق ميجل بكورت وطاقمه سالكًا الطريق المتجه إلى تقاطع روجبري للتحقق من صحة مقطع الفيديو. قُتل الرجلان بحلول الظهيرة في كمين نصبه المتمردون المراهقون. صدق ثيوسيديديز حين وصف الحرب بأنها مُعلِّم قاسٍ، وذلك في مَعرض تعليقه على الحروب البيلوبونيسية في القرن الخامس قبل الميلاد. فبإمكانك بوصفك مراسلًا حربيًّا أن تتعلم بضعة دروس في كيفية البقاء على قيد الحياة من أخطاء الآخرين، لكن مهما بلغ حسن تقديرك واحتياطك، فلن ينقذاك من سوء الحظ.
ماذا تصنع بك الحرب؟ في عصر يوم من أيام لندن الممطرة، جلست على الأريكة أمام طبيب نفسي معروف كان بصدد تقييم تأثير اضطراب ما بعد الصدمة على الصحفيين. كان من المزمع أن تستمر هذه الدراسة ثلاث سنوات، وكنت من أوائل الأفراد الذين خضعوا للبحث. سألني عن عادات نومي، وما إذا كنت مدمنة للخمر أو المخدرات أو أمارس الجنس مع أكثر من شريك. ثم سألني:
«كم جثة رأيتِ؟»
اجتهدت في التفكير، محاولة أن أتذكر الوقائع والأماكن؛ ساحات المعارك المكتظة بالجثث، المقابر الجماعية، الآبار المكدسة بالجثث الزرقاء، الرجل الذي وُجِد ملقًى في إحدى بالوعات الصرف الصحي في تيمور الشرقية، الأشلاء الآدمية خلال رحلاتي اليومية إلى المشرحة في سراييفو، الجندي المدفون في الثلوج في الشيشان، أميالًا وأميالًا من جثث الروانديين التي تغطي طريقًا قرب مدينة جوما.
فكرت مجددًا وأجبت: «لا أدري؛ ربما المئات. ليس لديَّ أدنى فكرة.»
التزم الطبيب الصمت وهو يخط كلمات في دفتر ملاحظاته. ثم رفع نظره بعد برهة.
قال بلهجةٍ لا تخلو من عطف: «ألا تجدين ذلك غريبًا؟ أغلب الناس لا يرون سوى جثث أجدادهم، أو آبائهم، في جنازاتهم.»
أول جثة رأيتها، بعد جثة جدتي، كانت في البوسنة. وصلت إلى هناك بداية خريف ١٩٩٢، وكان الطقس لا يزال دافئًا بما يكفي للتعرُّض للدغات الدبابير، فهي آخر الأيام المعتدلة قبل هجوم الشتاء الضاري. كانت الحرب التي ستفتك بالبلاد لا تزال في مهدها وأوج حماسها، مثلي إلى حد ما. لم تكن تُعوزني تمامًا الخبرة بالصراعات — فقد تعرَّضت للغاز المسيل للدموع وسط الحشود أثناء الاشتباكات بين الإسرائيليين والفلسطينيين — غير أن البوسنة كانت أولى مناطق الحروب التي أزورها.
أما قبلها، فكنت فتاة أكاديمية مُقصِّرة بعض الشيء، تحاول التحقق مما إذا كانت كاثرين مانسفيلد انتحلت أفكار تشيكوف في باكورة إنتاجها من القصص القصيرة أم لا. بدأت أشعر بالملل داخل جدران المكتبات والضجر من الطابع النسوي الخامل في أعمال مانسفيلد، ولم يكن لديَّ الدافع الحقيقي لمواصلة هذا الطريق إلى نهايته. تخليت عن أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه أواخر الثمانينيات بعد مقابلتي لمحامية حقوقية إسرائيلية مدافعة عن الفلسطينيين. قادتني المحامية إلى جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وعرَّفتني بسياسيين وناشطين ونصحتني بأن أكرس حياتي لأكون صوتًا لمن لا صوت لهم.
كنت أعمل حينها في صحيفة ذا صَنداي تايمز، وناضلت في سبيل إرسالي إلى البوسنة — دأَب من عملت معهم من المحررين على محاولة إقناعي بالكتابة عن الموضة وصيحاتها — لكنني انتصرت في النهاية، وما إن وطئتْ قدماي البوسنة حتى رفضت مغادرتها، فمكثت بها فترات متقطعة تقرب من ثلاث سنوات في مجملها.
سافرت إلى البوسنة أول مرة بصحبة مصور أسترالي عصبي ومترجمة كرواتية شابة، وسرنا معًا في طرق صغيرة خاضعة لسيطرة عدة ميليشيات من الغوغاء. سردت لي فيسنا، المترجمة الكرواتية، باختصارٍ تاريخ يوغوسلافيا السابقة وأتت على ما في حوزتي من سجائر. مررنا بقرًى خاوية ذات منازل مغلقة وحقول مترعة بالحيوانات النافقة، وكان الطريق خاويًا من المارة تمامًا. تسربت إلينا عبر نافذة السيارة رائحة المتفجرات والبنزين والحرائق المنبعثة من بعيد، ومررنا قرب بلدة فيتس بمصانع خاوية للذخيرة أخبرتني فيسنا بأنها كانت جزءًا من صناعة كبرى أثناء حكم تيتو.
لاح في الأفق طيف لحافلة محملة بالجنود الشبان المحدقين عبر النوافذ، وعلى جانبها لافتة تقول: متطوعون في سبيل يايتسا. كانت يايتسا عاصمة البوسنة القديمة، أما الآن فهي مسرح لمعركة دموية مستعرة في الشمال سرعان ما ستحمل الهزيمة للقوات البوسنية وتكلفهم كثيرًا من الضحايا. لوحت فيسنا إلى أحد الجنود، فلوح إليها، ثم قالت: «لن يعود من يايتسا أبدًا.»
كانت السيارة التي تتبعنا تُقل مصورًا آخر. كان رجلًا فرنسيًّا قليل الكلام، وكنت أركب معه أحيانًا. عُرِف عنه الجرأة وبعض الغرابة، أو ما يشبه الغموض. سرنا ذات مرة في طريق مخيف للغاية حتى وصلنا إلى نقطة تفتيش بوسنية، فأنزلت زجاج نافذتي لأسلِّم الجندي جوازات سفرنا. مد الجندي يده، لكن بدلًا من التقاط الجوازات، حدَّق بتمعن في وجه المصور الشاحب.
قال الجندي بلهجة قاطعة: «ما أغرب عينيك يا صديقي!»
عبس المصور وأجابه متسائلًا: «أغرب؟ ماذا تعني بأغرب؟»
ضحك الجندي مستمتعًا بما أبداه المصور من انزعاج، وقال وكأنه يُقر حقيقة واقعة: «ألمح الموت في عينيك.» رد إلينا جوازات السفر وأشعل سيجارة ورفع الحبل البالي الذي كان يُمثِّل نقطة التفتيش وأشار إلينا بالمرور، دون كلام، أو سلام، أو ابتسام.
بقي المصور صامتًا بقية الطريق إلى أن وصلنا إلى حطام سيارة، وعندها شاهدنا الموت الحقيقي. كان الضحايا زوجين يحاولان الهروب من شيء ما: قتال أو قرية تتعرض للحرق. لم يعلم أيٌّ منا سبب هروبهما. أخبرتنا فيسنا، التي درست بعضًا من الطب، أنهما لم يلفظا أنفاسهما الأخيرة سوى منذ بضع ساعات. ما زلت أذكر الخاطرة التي بدرت إلى ذهني، وهي أن بضع ساعات وقت كافٍ لتُحلق روحاهما بعيدًا.
اصطدمت سيارتهما بشجرة وهي تسير بسرعة، قصوى بلا شك، مما أدى إلى ارتطامهما بزجاج السيارة الأمامي واختراقهما له، فتدلى نصف جسديهما خارج السيارة وبقي النصف الآخر داخلها. انكسر عنقاهما وصارا متدليَين كحواصل الدجاج. كانت أعينهما لم تزل مفتوحة. انجذبتُ إلى الجسدين كالمسحورة، فدنوت وحدقت فيهما، محاولةً أن أحفظ تعبير وجهيهما المذهولين في اللحظة التي باغتَهما فيها الموت.
ربما يسأل البعض: لماذا تضعين نفسك في مثل هذه المواقف، وما مدى جدوى هذا بالنسبة إلى الناس وبالنسبة إليكِ؟ لا أدري، لكنني أمضيت أكثر من عشر سنوات — وعَقْد التسعينيات كان عقد الحروب — في تتبُّع الصراعات المسلحة تمامًا كالحمام الزاجل: يوغوسلافيا السابقة، ثم الشيشان، والصومال، وليبيريا، وسيراليون، والجزائر، وفلسطين، وتيمور الشرقية، وكوسوفو، وساحل العاج، والعراق وأفغانستان لاحقًا. أتقنت تغطية الحروب تمامًا كما تُتقن ضربات الإرسال في التنس بعد طول تدريب واجتهاد. حين أشاهد التليفزيون وأرى صراعًا دائرًا في أحد أجزاء العالم النائية، لا أتحمَّل البقاء ساكنة دون أن ألتقط هاتفي وأطلب إرسالي إلى هناك؛ الأمر الذي أسهم في صقل مهارات عظيمة داخلي، وهي: الحدْس، والشجاعة، كما أظن، أو لعلها الرعونة، والقدرة على الحديث أو التصرف في أيِّ موقف، وأخيرًا، لكنها الأهم، القدرة على التعامل مع الضغوط الهائلة دون أن أدعها تكسرني.
ثم تأتي القصص. صحيح أنه من الشائع دائمًا الكتابة عن النساء والأطفال خلال الحروب، لكن الحقيقة أن تلك الصور هي التي تَعْلَق أكثر في ذاكرتك، وأشعر بطريقة ما أنني حين أكتب عنها فإن معاناة هؤلاء النساء والأطفال لن تضيع سدًى. لعل ذلك من قبيل الإسراف في المبالغة. وكثيرًا ما أثار ذلك ألمي؛ ففي المرة الأولى التي شاهدت فيها احتضار طفل في مستشفًى ميداني، وكان يتلوَّى في مهده القذر، وقد خرجت أحشاؤه خارج بطنه وما من مسكنات للألم، خرجتُ من المكان واستندت إلى جدار وأخذت أبكي وأتقيأ. لكنني لم أفعل ذلك سوى مرة واحدة، أما بعدها فكنت أشاهد وأكتب ثم أعود إلى السيارة وأغادر.
كنت أحاول أن أتصرَّف بما يكفل سلامتي، لكنك لا تفكر أبدًا في الموت حين تكون في الواقع على بعد خطوة منه؛ لقناعتك أنَّ أجَلَك لم يحِن بعدُ. قالت لي ذات مرة مصوِّرةٌ حربية شهيرة اضطُرَّت في إحدى المرات للاختباء خلف أحد الأحراش في أفريقيا لتصوير عملية إعدام: «لم أفكر قَطُّ أنني سأتعرض للقتل؛ لأن والدتي كانت تحبني حبًّا جمًّا.» كان لديَّ افتراض غير منطقي يُشبه افتراضها، وهو أنه نظرًا لأني امرأة في أوائل الثلاثينيات من عمرها فلن أموت الآن؛ لأنني لم أعش بعدُ ما يكفي. جميع الإحصائيات المناقضة لهذا الافتراض لم تؤثِّر على قناعاتي.
شهدت الصحافة الحربية تغيرات واسعة منذ تسعينيات القرن الماضي، التي كان من الممكن فيها أن تُمارَس على نحوٍ فردي أو عبر مجموعات من الصحفيين ذوي الأفكار المتقاربة الذين يسافرون معًا لأجل الصحبة وتقليل التكاليف (بحيث يشترك ثلاثة في سيارة أجرة واثنان في غرفة فندق)، والتصور بأنَّ تجمُّعهم يكفل لهم مزيدًا من السلامة. أما الآن، فالمراسلون يذهبون إلى الحروب ومعهم ميليشياتهم الخاصة. لا شك أن ثمة استثناءات دائمًا، لكن أغلب المراسلين الذين ينقلون الحرب في العراق وأفغانستان — خاصةً العاملين في الشبكات التليفزيونية — يستعينون بجيوش صغيرة من حراس الأمن المزودين بمعدَّات تعقُّب ذات تقنية عالية، وأسلحة، وسيارات مطاردة للاستخدام في حال تعرُّض الصحفيين للاختطاف.
عادةً ما يكون هؤلاء الحراس جنودًا سابقين في القوات الخاصة، ثم تُعيِّنهم شركات خاصة بريطانية أو أمريكية تَعِد بتقديم «الأمن المادي والحماية». توجهتُ في يناير ٢٠٠٣ إلى إحدى هذه الشركات، وتسمى سنتوريان، والتي توجد قرب مقر قوات الخدمات الجوية الخاصة في هيرفورد لتلقِّي بعض التدريب على كيفية التعامل مع «البيئات العدائية». بحسب ما أورده الموقع الإلكتروني للشركة، فإن «المعرفة تُبدِّد الخوف. وفي عالم أكثر تقلبًا وخطورةً من أي وقتٍ مضى، يُكافَأ من يجيدون التقييمَ الدقيقَ للمخاطر بثقةٍ مصدرُها تأهُّبُهم لأيِّ أخطار محتملة ومعرفتهم بكيفية التعامل معها. وهذا هو الفارق بين إدارة المخاطر للوصول إلى السلامة والأمن وبين مجرد النجاة منها» (سنتوريان ٢٠٠٧).
صحيح أن المرء يشعر بمزيد من الأمان بصحبتهم؛ ففي ديسمبر ٢٠٠١، خلال قصف في منطقة تورا بورا بأفغانستان، انكمشت رعبًا فوق قمة جبلية بينما أخذ حارس أمنٍ تابعٍ لسي إن إن يصيح ملقيًا علينا التعليمات، بشأن اتجاه قدوم الصاروخ والمكان الذي يجب أن أنطرح فيه أرضًا. وجدتُ في قيادته باعثًا على الراحة، لكنني تساءلت أيضًا عمَّا إذا كانت هذه القيادة سببًا في قتل غريزة استشعار الخطر داخلي، وعما إذا كانت عادةُ السفر في صحبة رجال مسلحين ليست سوى عامل جذبٍ للمتاعب التي عُيِّنوا في سبيل دفعها؛ ففي بداية حرب العراق، بادرت الميليشيا المصاحبة لطاقم تليفزيوني أمريكي في تكريت بإطلاق النار على مجموعة من المتمردين، وما لبثوا أن تورطوا في معركة بالأسلحة النارية.
علمتني الدورة التدريبية التي تلقَّيتها في هيرفورد كيف أتعامل مع جروح الأعيرة النارية، وإلى أين أركض خلال أيِّ تبادل لإطلاق النار. وتعلمت كيف أتصرف كرهينة جيدة حين يُغطي المختطفون رأسي، ويركلون أضلاعي، ويجبرونني على الاستلقاء فوق أرض جليدية لمدة ٤٥ دقيقة بينما تأتي أصوات الطلقات من إحدى الغابات المجاورة. وقد تلقيت نصائح أخرى هناك، لكنها لم تكن عظيمة النفع، مثل كيفية الخروج من حقل ألغام باستعمال أداة فولاذية طويلة، «فهل ستكون هذه ضمن أمتعتي؟»
توجَّه مدربنا إلينا متسائلًا: «ماذا تفعلون عند الاقتراب من نقطة تفتيش؟» واختار مراسِلة أمريكية جادة إلى حد ما ليسمع إجابتها.
أجابت المراسِلة بنبرة رتيبة ممطوطة: «أنظر في عيون القائمين عليها. وأحافظ دائمًا على التواصل البصري معهم.» لم أنبس ببنت شفة، لكنني كنت مدركة أنها إجابة غير حكيمة؛ فلو أنني تواصلت بصريًّا مع من أسروني حين أُسِرت لفترة وجيزة على يد مجموعة شبه مسلحة من الصرب في منطقة جبلية نائية على الحدود بين كوسوفو ومونتينيجرو عام ١٩٩٩، لربما انتهى بي الحال إلى القتل أو الاغتصاب الجماعي. لقد كنت بصحبة صحفيَّين فرنسيَّين وكنا فوق قمة جبلية نُجري مقابلة مع اللاجئين الفارِّين من القتال. تجلَّى سوء حظي في أمرين: أن وقعت في الأَسْر وأن كنت بصحبة فرنسيين. كانت طائرات الميراج الفرنسية قد قصفت لتوِّها بلجراد؛ مما تسبب في إصابة أقارب وأصدقاء الجنود الذين أوقعونا في الأسر.
كان من أسرونا ثملين وقد أفقدهم العنف عقولهم. بدا لي أن النظر في أعينهم ربما يُفهم خطأً أنه وقاحة — امرأة أجنبية وقحة في قبضة رجال أقوياء ثملين. لم تفارق عيناي الأرض وظللت أردد الصلاة المريمية مرارًا وتكرارًا أثناء إطلاقهم النيران فوق رءوسنا واقتيادنا عبر الغابة وضرب مرافقيَّ بكعوب بنادقهم. راحوا يتمازحون حول كيفية ومكان قتلنا ومن سيُقتَل أولًا.
الذي أنقذنا في النهاية هو الحظ؛ إذ تلقَّى الجنود عبر أجهزتهم اللاسلكية مكالمة تخبرهم أن قائدهم أَسَر شيئًا أهم منا بكثير: طيارًا أمريكيًّا. تلاشى فجأة اهتمامهم بأمرنا وتركونا على قارعة طريق ضيق مغطًّى بالثلوج مخصص لنقل الأخشاب. أثناء هبوطنا من الجبل بخطًى متعثرة للوصول إلى أقرب بلدة، قطع أحد الرجلين الفرنسيين الصمت قائلًا: «كنت على يقين أنهم سيغتصبونك.» صمتَ للحظات ثم أضاف: «وأشكُّ أنه كان بوسعنا منعهم.»
الحق أنني لم أحظَ بحياة حقيقية لسنوات كثيرة. كنت أشعر بأنني أحيا في عالم موازٍ مترع بالصراع العنيف، ولا شيء سواه تقريبًا. كان الناس يتساءلون بالطبع عن سبب اختياري لهذا الطريق. حين كان والدي على فراش الموت يُصارع مرض السرطان، جلست بجواره وتحدثنا عن أمور كثيرة، كالإيمان والموت والحرب. أتي والدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية قادمًا من نابولي. وحين كان طالبًا جامعيًّا وقت الهجوم على ميناء بيرل هاربر، التحق بالخدمة العسكرية في السلاح الجوي الأمريكي. توجَّه والدي إليَّ بالقول: «كان التصرف الصحيح، لكنني كنت خائفًا. كنت جبانًا. لم أكن أحب الحرب ولا البُعد عن عائلتي. كل ذلك كان طبيعيًّا. أما ما تفعلينه أنتِ، فليس طبيعيًّا. ليس طبيعيًّا حقًّا.»
تجذب الحرب أنماطًا معينة من الشخصيات. هناك من يرغب في أن يشهد الوقائع الهامة، والمأساوية غالبًا، ليصفها وينقلها للآخرين؛ هذا دافع نبيل، لأن العالم ينبغي أن يعرف هذه الوقائع، وينظر أغلبنا إلى هذا باعتباره توجهًا نبيلًا (فنحن «نُقدم شهادتنا على الأحداث»). وهناك من يدفعهم مجرد حب الأمر، والانجذاب العنيد للمعاناة والخطر وتلك النشوة التي تعقُب التعرض لهما؛ الحرب كشكل أكثر مخاطرة من أشكال القفز بالحبال من مناطق شاهقة الارتفاع. أميل إلى الاعتقاد بأنني أنتمي إلى المعسكر الأول، لكنني أعلم أن جزءًا مني ينتمي لا محالة إلى المعسكر الثاني. فلماذا إذًا جعلت أحدق في وجهَي الزوجَين المتوفَّيَين داخل السيارة المنكوبة في البوسنة منذ سنوات بعيدة؟ أو، في كوسوفو، لماذا شعرت بالانتشاء، وارتجفت يدي وأنا ماسكة بسيجارة، وأنا أتذكَّر نجاحي في الزحف خارجةً من ساحة قتال دون أن يمسَّني سوء بعد إطلاق قنَّاصٍ النار عليَّ مرة بعد مرة؟
سافرتُ إلى العراق خلال غزوها عام ٢٠٠٣ ومكثت بها ما يقرب من خمسة أشهر، لكنني كنت أعتقد وأنا أحزم أمتعتي للسفر إليها أنها ستكون واحدة من آخر الحروب التي أشهدها. لقد تزوجت وكنت أرغب في الإنجاب، وعلمت أنني لن أقوى على تحمُّل وتيرة هذه الحياة ولا وحدتها. وُلِد طفلي بعد عودتي من العراق بتسعة أشهر. حين رأيته لأول مرة، مبتسرًا (إذ ولد قبل ميعاده بسبعة أسابيع) وضعيفًا، بدا لي من المستحيل أن أرغب في العودة إلى تغطية الحروب مرة أخرى، لكن بعد ستة أشهر من ولادته رجعت إلى بغداد وتركته مع والده في باريس. كنت مدفوعة جزئيًّا بالفضول — هل سأكون شخصًا آخر بعد إنجابي؟ — وجزئيًّا بالخوف من أن أفقد مركزي المهني، وشهرتي، والأهم رباطة جأشي لو لم أذهب. بالإضافة إلى ذلك، كان سفري اختبارًا من ناحية ما. هل سأتمكن من مواصلة الحياة التي كنت أعيشها قبل أن أصير أمًّا؟ كنت أعيش أثناء حملي حالةً من الإنكار، حتى إنني ذهبت إلى غزة قبل ميلاد ابني بثمانية أسابيع. أما بعد أن وُلِدَ، فكنت أشكُّ في قدرتي على تحمُّل فراقه.
في عصر أحد الأيام، تعطَّل بي المصعد في فندق الحمراء مع جمعٍ من المراسلين الشباب الذين لم أرَهم من قبلُ. كانوا ذكورًا، كان هذا اختلافهم الأول عني، وكانوا يتصرفون كجماعة من الحمقى المتباهين برجولتهم. حلق بعضهم شعره ليشبهوا الممثل بروس ويليس. كنت على قناعة دامت سنواتٍ أن الصحافة الحربية نشاط لا علاقة له بالنوع، وأنه ليس ثمة اختلاف في الإدراك بين المراسلين الحربيين سواءٌ أكانوا ذكورًا أم إناثًا، أو إن وُجِد هذا الاختلاف فعلى الأقل لن يكون النوع سببًا فيه. بدا هذا التصور خاطئًا في المصعد. لديَّ طفل الآن، وقد فتح ميلاده مستقبِلات الخوف في دماغي، تلك المستقبِلات التي ظلت مُحْكَمة الغلق لسنوات، ربما منذ رحلتي الأولى إلى البوسنة.
أكذب لو قلت إنني لم أفتقد الإثارة المصاحبة لتغطية الحروب؛ فحين اندلع الصراع في لبنان، كنت في أمريكا أُعلِّم ابني السباحة. أيهما أهم؟ كنت أعرف الإجابة المنطقية، لكن الاشتياق لا يعرف المنطق. شكَّلت تغطية الحروب الجزء الأكبر من حياتي لسنوات طويلة، والانسحاب منها فجأة كان أشبه ما يكون بتعرُّض مدمن لسرقة وَكْره الذي يخبئ به المخدرات التي يتعاطاها.
اتَّسَم ما قمت به من تغطية حربية بعد ولادة لوكا بمزيد من الانضباط؛ فكبيرة هي المسئولية التي أشعر بها تجاهه، وتجاه بقائي على قيد الحياة قدر الإمكان لأراه يكبر أمام عيني. صحيح أنني أذهب إلى غزة وإلى أفريقيا، وقريبًا سأذهب إلى أفغانستان، لكنني حين أسمع إطلاق نار الآن، أفرُّ هاربةً وأنكمش رعبًا داخل أي مبنًى كأيِّ إنسان طبيعي. أشكُّ أنني سأسلك ثانيةً ذلك الطريق القذر المؤدي إلى تقاطع روجبري حيث قُتِل أصدقائي. وإذا وجدت نفسي في إحدى ضواحي مدينة جروزني أثناء سقوطها، كما حدث لي في فبراير ٢٠٠٠، فسوف أغادرها بأسرع ما يمكن. ورغم مرارة هذا الاعتراف، فإنني سأصرِّح به: إذا وجدت نفسي في سوق الماشية بأبيدجان مرة أخرى مع رجل ينزف ويتشبث بقدمي راجيًا مني المساعدة، وثمة مسلح على وشك قتلي لإظهاري تعاطفًا في غير محله، فسوف أتملَّص منه وأغادر في هدوء.
أسئلة يُجيب عنها الطالب
(١) قد يدفع الصحفيون ثمنًا شخصيًّا ونفسيًّا باهظًا لمحاولتهم تقديم شهادتهم على الصراعات وحالات المعاناة الإنسانية التي تحدُث حول العالم؛ فما الحجج المؤيِّدة لهذه التضحيات والمعارِضة لها؟
(٢) ذكرت جانين دي جيوفاني أن تغطية الحروب شهدت تغيرات جذرية منذ أن بدأت ممارستها أوائل التسعينيات؛ فما هي تلك التغيرات؟ وكيف تؤثر على نوعية التغطية الإخبارية؟
(٣) هل يتسم العالم الآن بدرجة من انعدام الأمن يتعذر معها إرسال مراسلين غربيين إلى مناطق الصراع كالعراق، والصومال، وأفغانستان؟ وما الحجج المؤيِّدة والمعارِضة للاستعانة بالمراسلين الأجانب في مقابل نظرائهم المحليين؟