صحافة المواطن
تمهيد
جون أوين
تشهد الصحافة جدلًا مُحتدمًا حول شرعية من يُطلَق عليهم حاليًّا الصحفيون المواطنون، ممن ينشرون مدوناتهم وما التقطوه من صور ومقاطع فيديو بهواتفهم المحمولة على المواقع الإلكترونية ومحطات البث والصحف.
ربما يكون لوسائل الإعلام التقليدية مآخذ على جودة صحافة المواطن غير أن هذا لم يمنعها من استخدام مواقعها الإلكترونية، ومساحاتها الإخبارية، ومحطاتها لعرض ذلك الفيض الغامر من المحتوى الذي ينتجه المستخدمون. كما أن أحدث مقاطع الفيديو أو الصور الملتقَطة بكاميرات الهواتف المحمولة للفيضانات والزوابع والأعاصير وحرائق الغابات التي التقطها أشخاص عاديون هي ما يُهيمن عادةً على مواقع مثل آي ريبورت التابع لشبكة سي إن إن، والذي يقول لك: «أرسل قصصك الإخبارية، وشاركها، وشاهدها.» لكن حسب ما يرى ريتشارد سامبروك، مدير قسم الأخبار العالمية في شبكة بي بي سي، في هذا الفصل الذي يتناول صحافة المواطن فإنه «لا يوجد ما هو جديد في نقل أفراد من العامة ما رأوه إلى مواطنيهم.»
يروي سامبروك، بالطبع، تاريخ بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الزاخر بالنماذج اللامعة لصحفيين غير تقليديين كافحوا لشق طريقهم إلى الساحة العامة إلى جانب مجموعة من الهواة الذين تمتعوا بسرعة البديهة وأحدث المعدَّات لتسجيل اللحظات والوقائع التاريخية.
تمتد جذور حركة صحافة المواطن المعاصرة إلى الحياة السياسية في أحد البلدان الآسيوية، ألَا وهي كوريا الجنوبية؛ إذ عاش هناك صحفي محبَط بإحدى المجلات يُدعى «أوه يوان هو» والذي لم يكن على استعداد لتقبُّل القبضة الخانقة التي تفرضها الصحافة المؤسسية، التي يغلب عليها التيار المحافظ، على السياسة الكورية. وحانت اللحظة الفارقة بالنسبة إليه أثناء اللحظات الأخيرة للحملة الرئاسية عام ٢٠٠٢؛ إذ كانت مؤسسته الناشئة التي تبلغ من العمر عامين، أوه ماي نيوز، والتي كانت عبارة عن موقع إلكتروني إخباري، تحشد، كما يروي أوه، دعم الكوريين الجنوبيين للمرشح الإصلاحي روه مو هيون حين تلقَّى في اليوم الأخير ضربة سياسية صادمة: انسحاب نائب مرشحه لمنصب رئيس الجمهورية. أدركت مؤسسة أوه أن الإعلام المحافظ المتحالف مع مرشح المحافظين يتأهب لانتزاع الفوز من روه، فشنَّت هجومًا إلكترونيًّا حصد متابعة أكثر من ٧٢٠ ألف شخص، واستطاع روه أن يكتسح الانتخابات. فكتب أوه قائلًا: «لقد انتقلت قوة الإعلام من الصحف التقليدية المحافظة إلى مستخدمي الإنترنت والإعلام الإلكتروني» (أوه ٢٠٠٢).
كانت هذه الحادثة نقطة اللاعودة بالنسبة إلى موقع أوه ماي نيوز، وصارت هذه الانتخابات المفصلية منصة انطلاق لتحفيز قُرَّائه ومُستخدِميه على نقل أخبار جميع وجوه الحياة في كوريا الجنوبية. بدأ أوه موقعه معتمدًا على ٧٢٧ مساهمًا، وواصل بناءه حتى صار كيانًا عملاقًا يضم ٣٥ ألفًا من الصحفيين المواطنين الذين يتراوحون، كما قال، بين تلاميذ في التعليم الابتدائي وأساتذة جامعيين. يتلقى هؤلاء الصحفيون المواطنون اليوم ما يُعادل حوالي ٢٠ دولارًا مقابل القصة الإخبارية الواحدة، وتُمثل إسهاماتهم ما يقرب من ٧٠ بالمائة من المحتوى الذي يُقدمه الموقع.
يرى أوه أنه لم «يبتدع المفهوم القائل بأن كل مواطن مراسل» وإنما «أعدت إلى الأذهان مفهومًا طال نسيانه. ليس عليك سوى أن ترجع بذاكرتك إلى ذلك العصر الذي ساد خلاله التواصل المباشر وجهًا لوجه باعتباره الوسيلة الوحيدة لنقل الأخبار. وقبل نشأة الصحف وظهور الصحفيين المحترفين، كان كل مواطن مراسلًا، وكان هناك تفاعل حقيقي. أحيا موقع أوه ماي نيوز كل ذلك» (أوه ٢٠٠٤).
إن التحول من موقع هزَّ السياسة والصحافة الكورية الجنوبية إلى كيان يُشاد به كقوة دافعة إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على عملية جمع الأخبار على مستوى العالم إنما هو إنجاز مُذهل يحسب لصحافة المواطن ومن يُمارسونها.
إلَّا أن علينا استيعاب مدى قوة هذه الحركة من ناحية آثارها طويلة المدى على الحكومات والسياسة داخل المجتمعات المنغلقة. تأمَّل تجربة مات درادج الذي ينشر معلومات مثيرة ومحرجة عن المشاهير وأصحاب النفوذ في الولايات المتحدة الأمريكية، أو «جيمي جاستس» الذي يجول شوارع مدينة نيويورك لتسجيل حالات سوء استغلال رجال شرطة نيويورك لمزاياهم في رَكْن سياراتهم. يُطلق جيف جارفيز، المُدوِّن غزير الإنتاج والمدافع عن الإعلام الجديد، على عمله «الصحافة الرقابية».
يعلم كلٌّ من درادج وجاستس أن بإمكانهما ممارسة أنشطتهما الصحفية غير التقليدية في بلد يحميه التعديل الأول للدستور وسيادة القانون. لكن جرِّب هذا الأسلوب في الصين، أو بورما (ميانمار)، أو زيمبابوي، أو إيران، وغالبًا ما سينتهي بك المطاف في السجن أو ما هو أسوأ. قُتِل صحفي أوكراني ممارس للصحافة الجديدة، وهو جيورجي جونجادزه، عام ٢٠٠٥ بسبب نشره انتقادات لاذعة على موقعه الإلكتروني لما وصفه بممارسات الفساد التي ارتكبتها حكومة كوتشما. (يعتقد الاتحاد الدولي للصحفيين — كغيره من الجماعات المعنية بحقوق الصحفيين — أن أكبر قيادات في حكومة كوتشما أمرت بقتله.)
أما في الفضاء التدويني الحالي الذي يفوق أعضاؤه الخمسين مليونًا، فقليلون جدًّا هم من يُعرِّضون حياتهم للخطر ويُشكلون تهديدًا خطيرًا على حكوماتهم. غير أن ثمة أعدادًا متزايدةً من الناشطين المنخرطين الذين «يمارسون أنشطة صحفية بين حين وآخر»، بحسب تعبير إيثان زوكيرمان (٢٠٠٧) مؤسس مشروع جلوبال فويسيز. يواجه هؤلاء الناشطون تهديدات ورقابة. يشير زوكيرمان إلى أن السلطات في عدد من الدول قد وضعت المُدوِّنين المشاغبين تحت المراقبة بقصد إرهابهم، بينما يواجه آخرون مشكلات فنية تختلقها مؤسسات الخدمة التي تُديرها الحكومات والتي تستهدف بها المدونين الذين تراهم «أعداءً» لها.
ثم إن هناك مشكلة جديدة تواجه الصحافة التقليدية، وهي: شرعية المُدوَّنات الخاصة بالمواطنين العاديين كمصدر للمعلومات خلال تغطية الأخبار العاجلة كالمذبحة التي وقعت داخل حرم الجامعة والمعهد التقني لولاية فيرجينيا في السادس عشر من أبريل عام ٢٠٠٧. أكان يحق لوسائل الإعلام أن تعرِض ما نشره الطلاب على مواقع تدوينية، مثل ماي سبيس ولايف جورنال، من كتابات متفرقة/تدوينات مفعمة بالعواطف أثناء الأزمة وبعدها؟ أكان ذلك أول مثال حقيقي لما أسماه النقاد «طرق الأبواب الرقمي»، والذي يُقصد به أن تجد ببساطة وسائل الإعلام ما تحتاج إليه من معلومات على شبكة الإنترنت بدلًا من جمعها بالطريقة التقليدية بالطَّرْق على الأبواب والحديث مع شهود العيان؟ ذهب كيفين مارش، محرر كلية بي بي سي للصحافة، إلى أن هذا طرح تساؤلات خطيرة بشأن «الذوق واللياقة». ألم يكن ذلك تمامًا كقراءة اليوميات الشخصية لأحد ما دون إذنه؟ هكذا تساءل مارش خلال مناقشة أجريت في نادي فرونتلاين بلندن (٢٠٠٧).
ما يجعل آراء ريتشارد سامبروك بشأن الإعلام الجديد وصحافة المواطن وتبادل المعلومات بين الأقران غاية في الأهمية هو أنه يكتب من منظور صحفي كبير يعمل في أكبر مؤسسة إخبارية وأكثرها تأثيرًا على مستوى العالم. لقد آمن سامبروك بحماس شديد بالإعلام الجديد والتدوين بعد سنوات من إدارته لجميع عمليات جمع الأخبار وبثها في شبكة بي بي سي.
لكن كما يُبيِّن سامبروك في هذا الفصل، «يمر الإعلام والصحافة بتحول جذري، ولا تبدو جميع الإجابات واضحة».
مراجع
(١) السياق
حين توجَّه أبراهام زابرودر إلى ديلي بلازا في دالاس، بولاية تكساس، يوم ٢٢ نوفمبر عام ١٩٦٣ مصطحبًا معه كاميرا التصوير السينمائي خاصته التي من طراز بيل آند هاويل، لم تكن لديه أدنى فكرة عن أنه سيلتقط بها أشهر أمثلة لصحافة المواطن. نجح زابرودر، بينما كان يحاول الوقوف مُتَّزنًا فوق قاعدة خرسانية بمساعدة سكرتيره ليتمكن من التصوير فوق الحشود، في تصوير فيلم تَقِل مدته عن ٣٠ ثانية: كان ذلك الفيلم هو اغتيال الرئيس كينيدي. طُبِع من الفيلم ثلاث نسخ في ذلك اليوم، سلَّم زابرودر نسختين إلى سلطات التحقيق وباع الثالثة بعد ثلاثة أيام إلى مجلة لايف مقابل ١٥٠ ألف دولار. ولم يساور زابرودر أيُّ شكٍّ في أهمية ما صوَّره وقيمته.
دائمًا ما سعى الشهود الذين عاينوا أهم الأحداث إلى مشاركة تجربتهم مع الآخرين.
كان إدوارد جريم، أحد رجال الدين من كامبردج، في زيارة إلى كاتدرائية كانتربري في ديسمبر عام ١١٧٠ حين شهد مقتل رئيس الأساقفة، توماس بيكيت. وتظل روايته الشخصية للواقعة — التي سجلها في ١٥٠٠ كلمة — أوثق رواية لما حدث (جريم ١٨٧٥–١٨٨٥).
وعلى صعيد أقل خطورة، حين بدأتُ عملي مراسلًا في صحيفة أسبوعية صغيرة في ساوث ويلز، كنا نتلقَّى كثيرًا من التغطيات الخاصة بالفعاليات الرياضية والمجتمعية من القراء، كإنجازات فريق الرجبي المحلي أو تفاصيل حفلات مدرسية أو أمسيات خيرية.
إذًا فإن نقْل أفراد من العامة ما رأوه إلى مواطنيهم إما عن طريق القنوات المعتمدة أو بطريق مباشر، إن أمكن، ليس أمرًا جديدًا، وكذلك الحال عندما يُعبِّر مواطنون عن آرائهم حيال الأحداث خارج إطار ما يُنظَر إليه في حينه باعتباره «إعلامًا تقليديًّا»، أيًّا كان. وكثيرًا ما يُقال إنه لو كان توماس بين حيًّا بيننا الآن لكان مدوِّنًا مدافعًا عن استقلال أمريكا عن المملكة المتحدة، لا مؤلف كُتيبات. لا شك أن اختراع آلة الطباعة وأسلوب الطباعة المتحركة يسَّرَا الانتشار الهائل لوجهات النظر والمناقشات، والتي تشبه المدونات في يومنا هذا، مما أثرى عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
يُعَد الكتيب بمنزلة استعراض منفرد؛ فللمرء الحرية الكاملة في التعبير، بما في ذلك، لو أراد، حرية البذاءة وتوجيه الإساءات والتحريض؛ أو، على النقيض، حرية الإسهاب والجدية وإبداء «سعة الثقافة وسموِّها»، وهو ممكن في الكُتيبات أكثر من الصحف أو المطبوعات الدورية بأغلب أنواعها. كما أنه نظرًا لأن الكتيب، في الوقت نفسه، دائمًا ما يكون قصيرًا وغير مجلد، فإنه يمكن أن يُنتَج أسرع كثيرًا من الكتب، كما أنه، من حيث المبدأ، أوسع انتشارًا بأيِّ حال. فوق كل ما سبق، ليس بالضرورة أن يَتْبع الكُتيب أي أنماط محددة. فيمكن أن يكون شعرًا أو نثرًا؛ أن يتكون في أغلبه من الخرائط أو الإحصائيات أو الاقتباسات؛ أن يتخذ شكل قصة أو حكاية رمزية أو رسالة أو مقال أو حوار أو «تحقيق صحفي». كل ما هو مطلوب هو أن يتناول قضايا جارية وأن يكون جدليًّا وقصيرًا.
يمكن أن يكون ذلك دليلًا تسترشد به حركة التدوين الحديثة.
لماذا نشهد الآن إذًا تلك المناقشات الكثيرة بشأن صحافة المواطن؟ إنه ببساطة ذلك التأثير الذي يُحدِثه الإنترنت والفرص التي يقدمها لخلق أشكال واسعة الانتشار من التواصل لم تكن لتخطر على بال أحد منذ عشر سنوات مضت فقط. تخلق تلك الفرص تغيرات اجتماعية عميقة تُعادل في أهميتها اختراع آلة الطباعة منذ ما يقرب من ٣٠٠ عام.
ظلت الخدمة العالمية التابعة لبي بي سي طوال أكثر من ٧٥ عامًا تبثُّ برامجها الإذاعية حول العالم مستخدِمةً استوديوهات وخطوطًا ومحطات إرسال وأبراج بث إذاعي، كلها عالية التقنية وتساوي ملايين الجنيهات. أما اليوم، فأي شخص لديه كمبيوتر محمول واتصال بالإنترنت يمكنه أن يبث ما يريد بفاعلية وبنفس الانتشار.
لقد قامت الأخبار — الصحافة — على مدار أكثر من قرن على نموذج من محدودية الوصول؛ فقلَّة فقط من المؤسسات هي القادرة على تحمُّل تكاليف إرسال مراسلين لها إلى حيث تجري الأحداث الهامة أو تكاليف إيجاد المعلومات التي تهم الآخرين، بل وعددٌ أقل من المؤسسات كان يمتلك الموارد اللازمة لنشر تلك المعلومات، إما عن طريق صفحات الجرائد أو الحصول على سعة نطاق ترددي إذاعية أو تليفزيونية محدودة، عادةً ما تخضع للتنظيم. كان النموذج تغلب عليه مركزية التحكم، وانتقال المعلومات من أعلى إلى أسفل، ومن مصدر واحد إلى عدة مُتلقِّين.
أما اليوم، فقد زالت تلك القيود، وصارت المعلومات تُعامَل كسلعة على نحو متزايد وأصبحت متاحة على نطاق واسع على الإنترنت، ويمكن نشرها بتكلفة تكاد تكون منعدمة باستخدام مدونة نصية أو صوتية (بودكاست). إن النموذج السائد اليوم المعتمد على الإنترنت هو نموذج شبكي تنتقل فيه المعلومات من أسفل إلى أعلى (أو من الأطراف إلى الوسط)، ويتبادلها الأفراد فيما بينهم، سواء على نحو فردي أو جماعي.
وصارت المعلومات الآن تتسم بالطابع الديمقراطي.
حين استحدث تيم بيرنرز-لي تكنولوجيا النص التشعبي عام ١٩٩١، والتي صارت لاحقًا شبكة الويب، كان المقصود منها التمكن من مشاركة المعلومات وتحريرها. بعبارة أخرى، كانت الوظيفة الاجتماعية لهذه الشبكة من صميم أهدافها عند استحداثها، وتلك الوظيفة — التي نسميها الآن التواصل الاجتماعي — هي التي تقود التغيرات الهائلة التي نشهدها حاليًّا في عملية التواصل والاتصال، بما في ذلك صحافة المواطن.
كما ذكر مؤلفو «بيان كلوترين» عام ١٩٩٩ في عملهم: «لقد انطلق حوار عالمي قوي. إن الإنترنت يُمكِّن الأفراد من اكتشاف واستحداث أساليب جديدة لتبادل المعارف الهامة بسرعة خاطفة. وكنتيجة مباشرة لذلك، تزداد الأسواق ذكاء، وهو ما يحدث على نحو أسرع مقارنةً بأغلب الشركات» (ليفين وآخرون ١٩٩٩).
لا شكَّ في صحة ذلك في مجال الإعلام والصحافة على وجه الخصوص. ورغم أن الإنترنت أربك المؤسسات الإخبارية إرباكًا عميقًا وطرح أمامها تحديات بالغة، فإنني أعتقد أنه كان قوة إيجابية أيضًا، فيما يتعلق بالارتقاء بالمعايير والجودة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتمكين نشر المعلومات الحرة على نطاق واسع، وإعادة ربط الجماهير بأهمية التعبير والنقاش الحر. إن صحافة المواطنة من شأنها تحسين أداء الإعلام وتعزيز الديمقراطية.
يرى دان جيلمور، في كتابه الرائد «نحن الإعلام» (٢٠٠٦: ١٠)، أن سطوع نجم صحافة المواطنة يمكن أن يؤدي إلى إحياء مفهوم المواطنين المستنيرين بحق. ويضيف: «لا يحتاج الحكم الذاتي لأكثر من ذلك، وسوف نستفيد جميعًا لو قمنا به على خير وجه.»
قدَّم الصحفيون بعضًا من أفضل أعمالهم وجعلوني فخورًا بكوني واحدًا منهم … لكن شيئًا آخر، شيئًا عميقًا، كان يجري هذه المرة: كانت الأخبار تصدر عن أفراد عاديين لديهم ما يقولونه ويعرضونه، وليس فقط عن المؤسسات الإخبارية «الرسمية» التي جرت العادة على أن تحدد شكل مسودة التاريخ الأولى … نشأ خلال تلك الساعات والأيام المروعة نوع آخر من التغطيات الإخبارية. لقد تلقَّينا سياقًا قيِّمًا عبر الرسائل الإلكترونية والقوائم البريدية ومجموعات الدردشة والمذكرات الشخصية الإلكترونية — وكلها مصادر إخبارية غير تقليدية — وهو سياق لم تكن وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى لتتمكن من تقديمه، ولم تكن لتقدمه. لقد كنا نشهد مستقبل الأخبار، وكنا جزءًا منه في كثير من الأحيان. (المصدر السابق: ٢)
إذًا ما من شكٍّ في أن «صحافة المواطن»، أو الفرص التي يحظى بها الجمهور بفضل الإنترنت والتكنولوجيا للتعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم، تُحدِث تأثيرًا عميقًا على الصحافة. إن صحافة المواطن تُقوِّض نماذج العمل التجاري للمؤسسات الإخبارية، وتُبرز الافتقار التقليدي إلى الانفتاح والشفافية في أجزاء من الإعلام الإخباري، وتدفع إلى الارتقاء بمستوى الجودة والمعايير نظرًا لأن جيش المدونين «يفضحون أكاذيبكم»، حسبما قيل بعد أن كشفوا سلسلة من إخفاقات وسائل الإعلام التقليدية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٥.
كما أنها تقدِّم فرصًا هائلة لتدشين «صحافة جديدة» من خلال تبادل المعلومات عبر الشبكات والتوسيم والتعليق والبحث مفتوح المصدر، وغيرها الكثير.
وحسبما ذكرت ريبيكا ماكينون، المنتجة بشبكة سي إن إن سابقًا والمدونة حاليًّا التي تصف نفسها بأنها «صحفية متعافية»: «المهم هو أن تصمد الصحافة، وليست المنصة أو الوسيلة الإعلامية التي توجد من خلالها» (٢٠٠٦).
ثمة بيئة جديدة يجب على الصحافة التكيف معها، ألا وهي شبكات التواصل الاجتماعي، وهي مواقع تسمح بخلق تجربة جماعية، مثل ماي سبيس أو فيسبوك أو فليكر أو يوتيوب. إن مثل هذه الشبكات تُمثِّل مجتمعات إلكترونية حديثة تحمِل كثيرًا من سمات المجتمعات المادية — الثرثرة وتناقل الأنباء والنقاش والجدل — ومِن ثَمَّ فهي تربة خصبة للبحث الصحفي ونشر الأخبار. وكما قال ماريو جارسيا، خبير تصميم الصحف، أمام الجمعية الدولية للصحف (٢٠٠٧): «إن شبكات التواصل الاجتماعي هي المدن الجديدة. وإذا اختار الناس أن يتجمعوا هناك، فلا بد أن نوجد هناك نحن أيضًا.»
حين نتحدث عن صحافة المواطن، فإننا نتحدث حقيقةً عن سلسلة من الأنشطة المختلفة: المختلفة في دوافعها، وأهدافها، وآثارها.
(٢) أربعة أنواع من المشاركة
إن صحافة المواطن يمكن بوجه عام أن تنقسم إلى أربعة أنواع مختلفة من النشاط، أو المشاركة.
أولًا: توجد تغطية شهود العيان، أو مشاركة التجربة. وهي تشمل الصور الملتقطة بالهواتف المحمولة والتي يُرسلها أصحابها إلى المؤسسات الإخبارية، والرسائل الإلكترونية التي تحوي وصفًا لما رآه الناس، وعلى نحوٍ متزايد مقاطع الفيديو. دائمًا ما كانت المؤسسات الإخبارية تَعقِد مقابلات مع الشهود وتستعين بما التقطوه من صور متى توافرت، أما الآن فيمكن لمن شهدوا حدثًا معينًا أن يُرسلوا موادهم الإخبارية مباشرةً إلى قسم جمع الأخبار، وأن يفعلوا ذلك بأعداد هائلة تُقدَّر بالآلاف.
النشاط الثالث هو الصحافة الاستقصائية الأصلية على الإنترنت، أو مشاركة الكشف الإخباري. يتحقق أحيانًا مثل هذا النوع من المشاركة من خلال الأساليب التقليدية للتغطية الاستقصائية، حيث يُزيح فردٌ النقاب عن أمر مثير للاهتمام، أو قد يتم في أحيان أخرى كنشاط جماعي — يُسمى أحيانًا الخلية — إذ يَنْقَض عدد من المدونين على موضوع ما ويقتلونه بحثًا حتى تتكشف جميع خباياه.
ويأتي أخيرًا النوع الرابع وهو ما يسميه البعض الصحافة الشبكية، أو مشاركة المعرفة. يقوم هذا النوع على الفكرة القائلة بأنه مهما كان الموضوع الذي تتناوله، هناك شخص ما يعرفه أكثر منك. كيف يمكنك العثور على تلك الخبرة واستخدامها للارتقاء بجودة عملك الصحفي ودقته ورؤيته؟ وكيف يتأتَّى لك الاستفادة من الحكمة، والمعرفة، والخبرة الجمعية للجماهير في نقل ما لم يكن ليُنقَل لولا ذلك؟
وما موقع الصحافة في «المدن الجديدة» الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي، حيث يمكن أن تجتمع الآراء والخبرة الجمعية للجماهير؟
دعونا نتناول كلًّا من تلك الأنشطة بالترتيب.
(٢-١) مشاركة التجربة
شهد عام ٢٠٠٥ عددًا من الوقائع الإخبارية الكبرى، وتزامن هذا مع الانتشار الواسع لتكنولوجيا الهواتف المحمولة. لقد نجحت الهواتف المحمولة المزودة بالكاميرات وأجهزة تسجيل الفيديو الرقمية الصغيرة في تسجيل الآثار التي خلَّفها التسونامي الذي وقع في آسيا في يناير من ذلك العام، وتبعات الزلزال الذي شهدته القارة نفسها، وفي المملكة المتحدة، تفجيرات لندن يوم السابع من يوليو، وانفجار مستودع وقود بانسفيلد، وهو ما حدث على نطاق لم تشهده سوى قلة من الأحداث الإخبارية المصوَّرة من قبلُ.
حوصر آدم ستيسي في تفجير خط مترو أنفاق بيكاديلي بين محطتي كينجز كروس وراسل سكوير، لكنه لم يوجد في العربة التي تفجرت.
بعد أن بقي حبيسًا لما يقرب من أربعين دقيقة في عربة مليئة بالدخان ووسط ذعر متزايد، سُمِح له وغيره من الركاب بمغادرة القطار وأُمِروا بالعودة سيرًا على القضبان.
رأى ستيسي آخرين يُخرجون كاميرات هواتفهم المحمولة، فطلب من صديقه إليوت، دون أن يدري بوقوع هجوم، أن يلتقط صورة للحدث ليُريها لزملائه في العمل.
انتشرت الصورة، قبل أن يدري، في جميع أنحاء العالم وطُلِب منه إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام بجميع أنواعها، بما فيها التليفزيون الياباني والإذاعة الأمريكية …
كان ستيسي قد سمع أن بعض المواقع الإخبارية كانت تستعين بصور التقطها أفراد من العامة، فأرسل في البداية صورته إلى صحيفة صن.
عُرِضت الصورة على مدونة تُسمى موبلوج يو كيه، وبمجرد عرضها اجتذبت عددًا هائلًا من التعليقات من جميع أنحاء العالم.
دفعت تلك التعليقات لاحقًا بصاحب المدونة، ألفي دينين، إلى تدشين موقع «لسنا خائفين»، الذي تلقَّى صورًا ورسائل داعمة من جميع أقطار العالم عقب التفجيرات.
تواصل السيد دينين مع السيد ستيسي يوم السابع من يوليو ليطلب منه موافقته على نشر الصورة بموجب رخصة المشاع الإبداعي، وهي طريقة تكفل حرية نشر المعلومات.
قال ستيسي: «وافقت. لم أنظر إلى الصورة كملكية خاصة لي. كنت سأبدو جشعًا للغاية لو حاولت التربح منها.»
كان الاهتمام الإعلامي الناتج «مثيرًا» لفترة، وذلك باعتراف السيد ستيسي، الذي اختارت مجلة تايم صورته كواحدة من أفضل صور عام ٢٠٠٥. (دير ٢٠٠٦)
كانت ريتشيل نورث موجودةً في العربة التي تفجرت من القطار المسافر من كينجز كروس إلى راسل سكوير. في الأيام التي أعقبت الحادثة، كتبت نورث يومياتها لشبكة بي بي سي، والتي صارت فيما بعدُ قوام مدونتها الخاصة.
كنت في العربة الأولى، خلف مقصورة السائق، واقفةً بجوار الأبواب. وكانت العربة مزدحمة تمامًا.
استقل المزيد من الركاب القطار في محطة كينجز كروس، وبدا كأنه أشد القطارات ازدحامًا. ثم صدر دويٌّ رهيب بينما كنا نغادر محطة كينجز كروس، حوالي الساعة ٥٥ : ٨ صباحًا.
اكتسى كلُّ شيءٍ بالسواد التام وامتلأت العربة بسحب من الدخان الخانق فظننت أنني أُصبت بالعمى.
كان الظلام حالكًا حتى عجز الجميع عن الرؤية.
خُيِّل إليَّ أنني على وشك الموت، أو أنني متُّ بالفعل. كنت أُعاني من الاختناق بسبب الدخان وشعرت كأنني أغرق.
بدأ الهواء يتسرَّب إلى العربة من خلال النوافذ المتهشمة وساعدتنا إضاءات الطوارئ على الرؤية قليلًا. كنا بخير.
ثم مزقت صرخة مروعة ذلك الصمت. (نورث ٢٠٠٥)
تتنوع دوافع من يشاركون غيرهم تلك الأشكال من التجارب المباشرة، غير أن قليلًا منهم حاليًّا من يرى نفسه صحفيًّا؛ فهم ليسوا سوى أفراد يجدون أنفسهم وسط أحداث استثنائية ويرغبون في مشاركة ما رأوه أو سمعوه مع غيرهم. نشأت بعض الهيئات ونمت قاصدةً تمثيل الأفراد الراغبين من العامة في بيع موادهم إلى المؤسسات الإخبارية، إلا أنها لا تترك سوى تأثير هامشي نظرًا لحجم المواد الإخبارية المتاحة ولكون الدافع الرئيسي لهؤلاء «الصحفيين المواطنين» هو المشاركة أو الإسهام لا المال. لكن ذلك لا يعني، بالطبع، أن أي شخص يسجل لحظة تاريخية أو يلتقط صورة حصرية، مثلما فعل زابرودر، لن يحق له أو لن يتمكَّن من تحقيق ربح معتبر من ورائها، غير أن قوى العرض والطلب المعتادة تسري على العملية، وهناك الكثير من المعروض من الصور المتاحة لأغلب الأحداث، وذلك بفضل تكنولوجيا الهواتف المحمولة.
لكن الأمر لا يخلو من مخاطر؛ فحين انفجر مستودع وقود بانسفيلد عام ٢٠٠٥، توجَّه عدد من الأشخاص، وبينهم أطفال، إلى شبكة بي بي سي عارضين العودة إلى موقع الحادثة لالتقاط «صور أفضل»، وهو ما قد يُعرِّضهم للخطر. تواجه المؤسسات الإخبارية في مثل هذه المواقف مسائل تتعلق بالمسئولية؛ إذ عليها أن تنصح الجماهير بالتصرف بمسئولية وبما يكفل سلامتهم أثناء تسجيلهم لتجاربهم، كما يجب عليها أن تتجنب الظهور وكأنها تكلِّفهم بأداء مهام قد تنطوي على خطر الإصابة أو ما هو أسوأ.
كنت محرر الأخبار المركزي يوم السابع من يوليو العام الماضي. تلقينا ٢٠ ألف رسالة إلكترونية وأكثر من ألف صورة ملتقطة بالهاتف المحمول وعشرات من مقاطع الفيديو؛ إن مكالماتكم هي التي نبهتنا إلى ما كان يجري، في حين لم تكن السلطات تعلم على وجه الدقة السبب وراء «انقطاع التيار الكهربائي» الذي وقع في مترو الأنفاق. لقد أحدثت مشاركاتكم تحولًا في تغطيتنا، وفي رؤيتنا للدور الذي يمكنكم أداءه في ناتجنا الإخباري.
والآن، متى يقع حدث، يُبادر قراؤنا ومشاهدونا ومستمعونا بإرسال الصور من موقع الحدث، سواءٌ أكان انفجار محطة وقود بانسفيلد أم الهجمات على قطارات في مومباي بالهند. من وجهة نظر إخبارية، باعتباري محررًا للأخبار، يمثل هذا الإسهام مصدرًا هائلًا يُعتمد عليه؛ فكثيرًا ما نُفتَقد في موقع الحدث عند وقوعه؛ إذ عادةً ما تصل كاميراتنا بعدما يقع؛ لذلك فنحن نصور تبعاته. أما أنتم فكثيرًا ما تكونون في خضم الحدث. إن هذا ما يطلق عليه صحافة المواطن، وإن كنت أفضِّل النظر إليه باعتباره جمعًا للأخبار يقوم به المواطنون. (ويليامز ٢٠٠٦)
(٢-٢) مشاركة الرأي
أتاحت التوليفة المُكوَّنة من الراديو والتليفون معًا للجماهير فرصة مشاركة آرائهم عبر وسائل الإعلام، وذلك على مدار عقود حتى الآن. لقد أضحت البرامج التي تسمح باستقبال مداخلات هاتفية من الجماهير من الأنماط الرئيسية للبرامج الحوارية الإذاعية وتحوَّل كثير منها إلى مجتمعات لها متصلون منتظمون، ولها نقاشاتها وموضوعاتها الموسعة، على نحو يشبه كثيرًا المنتديات الإلكترونية وبعض المجتمعات التدوينية.
بالنسبة إلى وسائل الإعلام، فقد مكَّنتهم قدرتهم على الوصول إلى جمهورهم والاستفادة من وجهات نظرهم وآرائهم في إنتاج محتوًى، بتكلفة منخفضة نسبيًّا، ويحظى بطبيعته باهتمامهم ويتسق مع ميولهم اتساقًا وثيقًا. ولهذا السبب تلقى البرامج ذات المداخلات التليفونية رواجًا، رغم وجود نماذج إيجابية منها وأخرى سلبية، كما هو المعتاد دائمًا.
يؤدي المذيع في هذه البرامج دور المضيف ويميز الجمهور بوضوح ما يُعَد رأيًا شخصيًّا للمتصل، وكيف قد يتمايز هذا الرأي عن آراء المذيع أو مواقفه.
لقد تعاظمت في وقتنا الراهن قدرة الجماهير على التعبير العلني عن مواقفهم، من خلال المدونات النصية على وجه الخصوص وعن طريق المدونات الصوتية والمرئية أيضًا. ولم تَعد بهم حاجة إلى أن يحلوا «ضيوفًا» على المذيعين. كان لمثل هذا الازدياد الهائل في التعبير عن الآراء في الفضاء العام عدد من التأثيرات؛ وقد مارس ضغوطًا على الإطار التقليدي للحيادية والموضوعية لدى بعض المؤسسات الإخبارية؛ فمن الواضح أن هناك نهمًا كبيرًا للآراء. وقد أضعف من أهمية كتَّاب الأعمدة الصحفية أو مقالات الرأي؛ فهناك مجموعة من التعليقات الممتازة المتاحة على الإنترنت مجانًا. لكن ذلك طرح أيضًا تحديًا (ومِن ثَمَّ فرصة) أمام المؤسسات الإخبارية لدمج آراء قرائها ومستمعيها ومشاهديها بأساليب جديدة. لقد تزايد كم الآراء، وأساليب التعبير عنها، تزايدًا كبيرًا، وهو ما ينطبق أيضًا على الفوائد المرجوة من الظهور كمؤسسة تؤمن بالنقاش العام وتدعمه.
في حين تباطأ أو عانى كثير من المؤسسات الإعلامية التقليدية في دمج هذا الازدياد الهائل في تعبير الناس عن آرائهم، أسرع بعض المؤسسات الناشئة باقتناص الفرصة السانحة.
مع ازدهار النشر الشخصي وبروز الفضاء التدويني في المشهد الإعلامي، تمحورت أفكارنا حول نموذج جمع بين أفضل عناصر الإعلام التقليدي وما رأيناه كمعالم مميزة في الإعلام الجديد. وإذا تحدَّثنا على نحوٍ أكثر تحديدًا، فسنجد أن المؤسسات الإعلامية التقليدية قدَّمت محتوًى عالي الجودة يتسم بالنزاهة والدقة، إلا أن المدونين والمتصفحين العابرين للإنترنت استطاعوا، على نحو متزايد، أن يقدموا روايات ثمينة للأحداث الهامة وما يتعلق بها من آراء قيِّمة، بطريقة معبرة عن قطاعات كبيرة من المجتمع (إن شئت فقل إنهم ينقلون الآراء كما هي دون تنقيح)، وإذا تناولنا الظاهرة بصورة مُجملة، فسنرى أن تأثير هؤلاء المتلقِّين للمحتوى الإخباري والذين تحولوا إلى منتجين له صار يزداد أكثر فأكثر وأن زعماء يولدون من رحم الجماهير.
لم يُسرع كثير من المؤسسات الإعلامية التقليدية، من وجهة نظرهما، بالتكيف مع البيئة الفنية والاجتماعية التي شهدت تغيرات سريعة ولم يبذل أغلبها سوى القليل من أجل الوصول بالفعل إلى إسهامات قرائهم. إنهما يعتقدان أنه «بينما كانت المؤسسات الإعلامية الكبيرة تفتقر إلى المرونة والكفاءة، رأينا المدونين في جملتهم مفتقرين إلى التركيز والهدف والتنظيم.»
لذلك قررا أن ينشئا موقعًا معنيًّا بجمع الكم المتزايد من المحتوى الإلكتروني المتاح على الويب، وتنظيمه، ونشره بأكبر قدر ممكن من الأتمتة. أراد الرجلان أن يدعما مَن لديهم قصص إخبارية جديرة بالنشر لكن لا يملكون وسائل الإنتاج والنشر، وأن يمنحا الناس طرقًا للتواصل الهادف فيما يخص الموضوعات ذات الاهتمام المشترك ومِن ثَمَّ اكتشاف مواد جديدة وكتَّابًا جددًا.
يقع التعليق على الأخبار وإنشاء التجمعات استنادًا إلى رأي المستخدم في صميم هذا الموقع. يقول صاحبا الموقع: «نشجع مستخدمينا على تحويل أي شيء وكل شيء إلى محادثة. إن أهم ما في نيوزفاين هو تركيبة مستخدميه؛ فهم بوجه عام يتمتعون بعمق التفكير، ووضوح التعبير، والشغف ليكونوا جزءًا من مجتمعه.»
شهد الموقع تطورًا ملموسًا منذ تدشينه. تصوَّرَ مؤسِّسَا الموقع مبدئيًّا أن التغذية الإخبارية الواردة من وكالة أنباء أسوشيتد برس ستُشكل في البداية المُكون الأكبر من المحتوى، والتي سيحل محلها محتوى المستخدمين وذلك مع تزايده بمرور الوقت. لكن الواقع أن الموقع يشهد توزيعًا متساويًا بالنسبة إلى المحتوى الوارد من المصدَرين، من حيث الكم، والمتابعة، وتوزيع المناقشات. يعمل المحتوى الإخباري الوارد من وكالة الأنباء كركيزة تُبقي انتباه المستخدمين منصبًّا على الموضوعات المتعلقة بالأخبار.
بعد ذلك استحدثا مجموعات أو سلاسل نقاشية خاصة، بدلًا من عقد جميع المناقشات في مكان واحد، مما يسمح بتكوين مجتمعات أصغر داخل المجتمع الأصلي. كما اكتشفا أن أنظمة تقييم السمعة القائمة على النِّسب المئوية لتصنيف المستخدم كجيد أو سيِّئ، المعمول بها في المواقع الاجتماعية الأخرى مثل إي–باي، لن تُجدي مع مستخدمي موقعهما؛ لذلك استحدثا نظام «فايناسيتي»، وهو مقياس متعدد الجوانب لتقييم إنتاجية المستخدم وموثوقيته، وهو يسمح بوجود شفافية بشأن نوعية المساهمات وموثوقيتها كما قيَّمها المستخدمون.
المثير في نيوزفاين هو طريقة مزجه بين الناتج الإخباري التقليدي وتعليقات المستخدمين وآرائهم والوظائف الاجتماعية العديدة التي يشجعها؛ فلا تستطيع فقط التعرف على ما حدث، بل بإمكانك أيضًا الاطلاع على مجموعة واسعة من الآراء والمناقشات المرتبطة بالأخبار التي تهتم بها اهتمامًا خاصًّا والمشاركة فيها.
يجمع هذا الموقع، تمامًا كالبرامج التي تقوم على المداخلات الهاتفية من الجمهور، بين الإعلام التقليدي والآراء العامة لكن مع منح الطرف الأخير الأهمية الأكبر؛ فالمستخدمون هم من يملكون زمام القيادة.
اختارت صحيفتا ذا جارديان وذا نيويورك تايمز، وشبكة بي بي سي نشر منشوراته. لقد نجح سلام بحق في نقل ما كانت تبدو عليه الحياة في مدينة واقعة تحت القصف وفي أواخر أيام النظام البعثي، وهو ما فعله بموثوقية أكبر من أيِّ مراسل غربي.
لذلك لم يكن من المدهش أن ينتقل سلام لاحقًا من التدوين إلى كتابة عمود في صحيفة بانتظام، رغم ما سبق تلك الخطوة من بعض التردد؛ إذ كتب قائلًا: «لقد بعتُ نفسي إلى الشيطان.»
اسمي سلام باكس وأنا مدمن مدونات. بعض الناس يشاهدون المسلسلات الدرامية التي تُذاع في فترة النهار، أما أنا، فأتابع المدونات. أتتبع الروابط الموجودة في المدونات التي أقرؤها، وأسافر عبر شبكة الإنترنت مسترشدًا بالمُدوِّنين وأنغمس في القصص التي يروونها. كنت أقرأ عددًا كبيرًا جدًّا من المدونات لدرجة أنني اضطررت إلى تخصيص يوم عمل لكل مجموعة منها، هذا بالإضافة إلى المدونات التي كنت أتابعها يوميًّا. إن الأمر يشبه التلصص قليلًا، لا سيما عند متابعة المدونات ذات الطابع الشخصي حقًّا: الأشياء اليومية العادية التي تأسرك فعلًا؛ ولمحات من حيوات مختلفة تمامًا؛ وطريقة في الكتابة مذهلة للغاية. لا مجال للحديث عن السياسة، بل حياة الأشخاص فقط. كيف يتعاملون مع الألم أو الأسى، كيف يشاركون لحظاتهم السعيدة مع من يهتمون بقراءة مدوناتهم، أيًّا كانوا. (باكس ٢٠٠٣)
هذا ما يمكن أن تجلبه المدونات إلى الساحة العامة: حياة الأشخاص العاديين الحقيقية وهمومهم، وذلك ما عكسته مدونة سلام خلال الحرب على العراق، ونقلته بطريقة عجز عنها الصحفيون التقليديون.
ورغم ذلك، فإن مشاركة التجارب والآراء لا تُمثِّل كلَّ ما يمكن أن تقدمه المدونات.
(٢-٣) مشاركة الكشف الإخباري
أنشأ كرافت عقب غزو العراق مجتمعًا للعاملين في المنظمات غير الحكومية، والمتعهدين الأجانب، وغيرهم من العاملين في العراق، وضم أيضًا بعض الجنود الأمريكيين الذين أقام كرافت معهم علاقة إلكترونية عبر الإنترنت. وكانوا يخبرونه بما كانوا يفعلونه، بما في ذلك، أحيانًا، أشياء لم يكن ينقلها الإعلام.
الفلوجة: موت الكثير والكثير من العراقيين، قذائف فسفورية مستعملة ضد العراقيين، جثث مجهولة مصابة بحروق مروعة، استخدام محتمل للقنابل العنقودية. قُتِل حتى الآن أكثر من ١٨ جنديًّا أمريكيًّا، وجُرِح المئات، من بينهم أكثر من ٢٢٧ إصاباتهم خطيرة، وأُجْلوا إلى ألمانيا. سيطرة صورية على الطرق، دون سيطرة حقيقية على المدينة. الانتخابات تبدو أبعد ما تكون. عمليات تفتيش متوقَّعة من بيتٍ إلى آخر، بحثًا عن أعداء محتملين وفخاخ متفجرة متوقعة خلف كل باب. مدينة بحجم بيتسبرج تتضور جوعًا. عراقيون غضبى. عراقيون يائسون. عراقيون لم يتبقَّ لهم شيء يفقدونه. مذابح جماعية في أقسام الشرطة العراقية. انشقاقات هائلة في صفوف كلٍّ من الشرطة والجيش العراقيين. انتفاضات في كبرى المدن العراقية. تطورٌ أُحرِزَ في شهور في بعض المناطق يُدمَّر بين عشية وضحاها. مساجد مُدمَّرة. رائحة الموت في كل مكان. الرجال العراقيون ممنوعون من المغادرة. زوارق مشحونة بالبشر الفارِّين تُستَهدف بطلقات النيران فتغرق، وتطفو جثث ركابها على صفحة نهر الفرات. نحن نحقق الانتصار في المعركة، لكننا نخسر الحرب.
لا يكفي الصحفيين إنشاء مدونة على أمل أن يأتي الناس إليهم جالبين أهم الأخبار … عليهم بذل المزيد للوصول إلى مدونات المنخرطين مباشرة في الأحداث والتفاعل معهم وإقامة نقاش بين أطراف متكافئة. لا يكفي أن يرصد الصحفيون من حين إلى آخر مقتطفات الأخبار من خدمة آر إس إس مستخدمين قارئ للأخبار؛ لأن ذلك لا يُسهم بأي شيء في خلق التواصل ولا بناء الثقة.
قد لا يُعَد ما جمعت من مصادر رسميًّا، لكنها أفضل بكثير من غيرها، وأقرب إلى الأحداث، وأكثر تفصيلًا ودقة بوجه عام، كما أنها تقدِّم منظورًا أقوى دلالةً وأجدى نفعًا لما يجري.
يبدو كرافت، على هذا النحو، مشابهًا للصحفيين الاستقصائيين التقليديين في بنائهم للثقة ووصولهم إلى المصادر والاستعانة بها. إلا أنه في حالة كرافت، يعتمد الأمر على الإنترنت والبحث الإلكتروني والمدونات والمجتمعات الإلكترونية بدلًا من حانة الحي.
يمكن أن يُقدِّم الإنترنت منصة فعالة لممارسة الصحافة الاستقصائية. استطاع المدون السويدي ماجنوس يونكفيست أن يُنهي الحياة المهنية القصيرة لوزيرة التجارة السويدية ماريا بوريالوس بعد ثمانية أيام فقط من تولِّيها منصبها. استخدم هذا المدون قانون حرية المعلومات للاطلاع على إقراراتها الضريبية وأنشطتها التجارية، وكشف عن تهربها من سداد الضرائب، بما في ذلك تهربها من سداد ضريبة الأجور فيما يتعلق بخادمة عيَّنتها لديها خلال التسعينيات.
عرض يونكفيست، المُتحدث الصحفي للحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي، الخبر على صحيفة أفتونبلاديت، لكنها رفضت نشره؛ لذلك اتجه إلى التدوين، لكن صحيفة أخرى تسمى إكسبريسن نقلت الخبر بعد يوم واحد من نشره على مدونته دون أن تنسبه إلى يونكفيست، فسارعت بوريالوس إلى الاستقالة.
- (١)
لا يُعَد التحيز أمرًا سلبيًّا دائمًا. فكثيرًا ما تعتمد صحافة المواطن الرشيدة على نوع من التحيز باعتباره دافعًا لمواصلة البحث في القصة الإخبارية.
- (٢)
الجميع يحتاجون إلى الحصول على المعلومات. إن ممارسة العملية الديمقراطية بكفاءة تتطلب إتاحة الفرصة أمام الجميع للحصول على المعلومات، حتى أولئك ممن لهم مصالح أو تحيُّزات شخصية، سواءٌ أكانوا صحفيين أم ناشطين سياسيين أم مواطنين.
- (٣)
لا يلتزم الصحفيون بالموضوعية على الدوام. إن إعراض وسائل الإعلام التقليدية عن تسليط الضوء على ما اكتشفه يونكفيست قد يدل على انعدام الاهتمام الشخصي بالأمر من جانب الصحفيين أو قلة المصادر المتاحة للتحري والاستقصاء عنه. أو قد يكون ذا صلة بالاعترافات المنشورة في كتاب صدر عام ٢٠٠٠، والتي أشارت إلى أن عدة صحفيين كانوا يدفعون لخدمهم أجورهم في الخفاء وبصورة غير قانونية. يبدو أن تلك مشكلة شائعة في السويد.
- (٤)
المُدوِّنون: الحض البنَّاء. يحتاج المدون صاحب القضية أحيانًا إلى أن يدفع الصحفيين دفعًا إلى تناول القضايا التي يميلون إلى تجاهلها.
- (٥)
ذكرُ المصدر: لم يُنسب الخبر إلى يونكفيست إلَّا لاحقًا وذلك من قِبَل بعض المؤسسات الإخبارية. يشير مثل هذا الامتناع عن ذكر المصدر إلى قَدْر من الحرج غير المبرَّر الذي تستشعره وسائل الإعلام التقليدية — الذي ربما ينبع من جنون الشك الذي يُرسِّخه الصحفيون المواطنون والتقليديون، والذي يستند إلى عقلية «نحن ضد الآخرين» (مار ٢٠٠٦).
ربما يُعتبر أشهر نماذج «الكشف الإخباري» على الإنترنت ما صار يُعرَف باسم «راذر جيت» أو فضيحة راذر: اكتشاف وجود أخطاء كبرى في تقرير أذاعه برنامج «٦٠ دقيقة»، الذي يقدمه دان راذر على شاشة شبكة سي بي إس التليفزيونية؛ ففي سبتمبر ٢٠٠٤، عرض البرنامج انتقادات موجَّهة إلى سجل خدمة جورج دبليو بوش في قوات الحرس الوطني الأمريكي، زعمت القناة أنها ورادة في وثائق تخص قائد وحدته آنذاك، جيري بي كيليان.
شهدت المنتديات والمدونات على الإنترنت خلال ساعات طعنًا في موثوقية الوثائق. أشار الطاعنون إلى أخطاء تاريخية في طباعة الوثائق، مما يُوحي بزيفها. دافعت الشبكة في البداية عن صحة الخبر، لكنها اضطرت إلى التراجع بعد أسبوعين من دراسة وتحليل الوثائق على يد المدونين وكذلك، من بعدهم، المؤسسات الإخبارية المنافسة. أقرَّ راذر قائلًا: «لو كنت أعلم حينها ما أعرفه الآن، لما مضيت قدمًا في تناول الخبر كما أُذيع، ولما استخدمت بالتأكيد الوثائق المذكورة» (٢٠٠٥). كما قال أندرو هيويرد، رئيس القسم الإخباري بشبكة سي بي إس: «استنادًا إلى ما ندركه الآن، لا يمكن للقسم الإخباري بسي بي إس إثبات صحة الوثائق، وهو المعيار الصحفي الوحيد المقبول لتبرير استخدامها في التقرير. لم يكن علينا الاستعانة بها. كان ذلك خطئًا، ونحن نُعرب عن ندمنا العميق حياله» (هيويرد ٢٠٠٤).
فُصِلَت منتجة التقرير، ماري ميبس، وأُجبِرَ راذر على إعلان اعتزاله مبكرًا.
من الأمور المثيرة للاهتمام في تلك الواقعة نجاح المُدونين في محاسبة مؤسسة إخبارية كبرى وإثبات أنهم أشد اجتهادًا وأكثر دقةً من الصحفيين المحترفين. لكن الواقعة تُبرز كذلك قوة الحكمة الجمعية؛ فالأخطاء التاريخية برزت إلى بؤرة الضوء بفضل عدد من المدونين المختلفين (من أنصار اليمين)، الذين جمعوا ملاحظاتهم وخبرتهم للطعن في دقة التقرير وموثوقيته. لقد كانت تلك القضية، على نحو ما، من باكورة النماذج الدالة على ما نسميه الآن الصحافة الشبكية.
(٢-٤) مشاركة المعرفة
يصف دان جيلمور في كتابه «نحن الإعلام» كيف أدرك، حين بدأ كتابة عموده المَعْني بتكنولوجيا المعلومات في صحيفة سان خوسيه ميركوري، أن كثيرًا من قُرائه العاملين في وادي السيليكون سيعرفون عن ذلك المجال أكثر مما يعرف هو. وكان من الواضح أن هذا سيجعل من الصعب عليه الكتابة بثقة. ورغم ذلك، كان جيلمور يتمتع برؤية ثاقبة جعلته يدرك أنه لو تمكَّن من التحكم فيما لدى قرائه من معرفة وتوجيهها، فسوف يصير عموده أكثر الأعمدة إلمامًا بمجال تكنولوجيا المعلومات وأثراها بالمعلومات وأوسعها خبرةً. أتاح جيلمور الفرصة أمام قرائه بقيادة عمله الصحفي من خلال مدونته ودعوته إلى طرح التعليقات. وتُعَد الاستعانة بمعرفة الجماهير على هذا النحو ما يُطلَق عليه الآن «الصحافة الشبكية».
يجب أن تصير الصحافة عملًا تشاركيًّا على كثير من المستويات؛ فينبغي أن تتجه المؤسسات الإخبارية إلى الاعتماد على المواطنين في المساعدة على تغطية الأخبار على مستوًى واسع النطاق … ومستوًى فردي (بإسهام الأفراد في جهود المؤسسات الإخبارية بتقديم تغطياتهم الخاصة)، وكشبكة (بدعم المؤسسات الإخبارية لجهود الأفراد الخاصة من خلال تقديم المحتوى والدعاية والتدريب والدخل).
سوف تصير الصحافة عملًا تشاركيًّا ليس فقط على هذا المستوى الذي يجمع بين المحترفين والهواة، بل وعلى مستوى التعاون فيما بين المحترفين (فنحن لسنا في حاجة إلى إرسال مراسلينا لتغطية بعض الأخبار، ولا نستطيع تحمُّل تكاليف ذلك، فقط لإشباع رغبتنا في أن يُنسب إلينا الخبر، لكن يمكننا التواصل مع قُرَّائنا وجلب أفضل التغطيات الإخبارية من منافذ إخبارية أخرى إليهم، بل والإسهام في دعمها). (جارفيز ٢٠٠٦)
يتنبأ جارفيز بعدد من التبعات المترتبة على هذا النهج؛ فهو يعتقد أن دور الصحفيين، وعلاقتهم بالجمهور، سوف تتحول من كونهم «أصحاب» الخبر إلى وسطاء ومحررين وداعمين. يرى جارفيز اتساعًا في نطاق الصحافة والأخبار وارتقاءً في جودة العمل الصحفي مع وجود مزيد من الوسائل المساعدة على الوصول إلى الأخبار والتحقق من صحتها مع تقديم الجماهير يد المساعدة.
يتعاون المحترفون والهواة في موقعنا لإنتاج عمل لا يمكن لأيٍّ منهما تحقيقه منفردًا. يستخدم الموقع أساليب مفتوحة المصدر لبدء مهام صحفية جيدة والعمل على إتمامها. وهو يدفع للصحفيين المحترفين لتولِّي المهام الصحفية وتبنِّي معايير رفيعة المستوى بشأنها، والعمل عن كثب مع المستخدمين الراغبين في تقديم إسهامات بشأنها. ومن المحتمل أن يتبرع (بعض) الأفراد لدعم القصص الإخبارية التي قد يَرون أنها ستكون متميزة، وذلك لأن الأساليب المفتوحة المصدر تسمح لهذه المبادرة أن تمضي قُدمًا. (روزين ٢٠٠٦أ)
رغم أن هذا المشروع لم يخضع للاختبار بعدُ، فإنه يقوم على فكرة الوصول إلى خبرات الجماهير ومعرفتهم واستعمالها كشكل من أشكال البحث الموزَّع على نطاق واسع. يرى روزين أنه يكون بعد ذلك على الصحفيين المحترفين ربط المعلومات الخام معًا وتطويرها قبل أن يعيدوا نشر «القصة الإخبارية» مجددًا.
أعتقد أن استغناء الصحافة عن وسائل الإعلام، في هذه المرحلة، فكرة عملية جديرة بالتجربة … يُمَكِّن موقعنا «من كان يُطلَق عليهم سابقًا جماهير» … من خلق عمل متميز. إن تصميم الموقع يقوم على افتراض أنه لا توجد عداوة مطلقًا بين المستخدمين «المواطنين» والصحفيين «المحترفين» وأننا نحتاج إلى كليهما وإلى أساليب تمكِّنهما من العمل جنبًا إلى جنب. إن الصحفي الذي لا يستطيع العمل مع الناس «و» إخبارهم بالحقيقة لا يناسب موقعنا. (روزين ٢٠٠٦ب)
لا تقتصر فكرة الاستعانة بمعرفة الجماهير على الصحافة الإلكترونية فحسب؛ فقد دشنت إذاعة مينيسوتا العامة ما أطلقت عليه «صحافة الرؤى الجماهيرية»؛ إذ تستعين بقاعدة بيانات من المساهمين المتخصصين لمنح المراسلين رؤية أكثر استنارةً واطلاعًا للموضوعات التي يُغَطونها.
شارك غيرك ما تعرف: كن مصدرًا من مصادر إذاعة مينيسوتا العامة.
التعليم. الرعاية الصحية. المجتمع. الحروب. أيًّا كان الموضوع، تحتاج إذاعة مينيسوتا العامة إلى معرفتك وخبرتك لنجعل تغطيتنا الإخبارية خدمة عامة ذات أداء وجودة أقوى. (إذاعة مينيسوتا العامة ٢٠٠٧)
إذا استطاعت المؤسسات الإعلامية «التقليدية» الوصول إلى طاقة العقل الجمعي للجماهير وحكمته، فسوف ننجح في أخذ مصادر قوة الصحافة التقليدية — التقدير التحريري، والتحري عن الحقائق، والسعي وراء الحقيقة — إلى عصر جديد من التغطية الإخبارية الأفضل أداءً والأكثر موثوقية. وإذا لم نفعل ذلك، فإنني أرى أن النموذج التدويني غير المنقح للعمل الصحفي سوف يتخطَّى بطاقته المطلقة الإعلام التقليدي، ومِن ثَمَّ سوف نخسر واحدًا من الأساليب الفعالة لإطلاع الجمهور على القضايا الحيوية في دولتنا الديمقراطية. (سكولير ٢٠٠٤)
بعبارة أخرى، ما يهم هو بقاء الصحافة الرشيدة، لا الوسيلة الإعلامية ولا المنصة التي تقوم عليها.
إذًا ما دور الصحافة في مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك أو فليكر أو تويتر؟ تجمع بين تلك المنصات والصحافة التقليدية ثلاثة أنواع من العلاقات على الأقل.
أولًا: تقدِّم تلك المنصات مصدرًا للمعلومات. توجد في كثير من تلك المواقع مجموعات متخصصة ينشر من خلالها أصحاب الاهتمامات أو الخبرات المعينة أفكارهم، وينخرطون في مناقشات حول التطورات الجديدة. فلو كنت مهتمًّا بالتكنولوجيا، على سبيل المثال، فستجد أن المناقشات المعنية بأحدث التطورات البرمجية غالبًا ما تتصدر المعلومات المتوافرة في المجموعات المتخصصة في مثل هذا المجال. وقد تركز مجموعات أخرى على الشائعات التي تدور حول المشاهير، أو ربما لا تعدو كونها مكانًا لنشر الصور ومقاطع الفيديو، لكن مهما كان النمط الصحفي الذي يحظى باهتمامك، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تُقدم قدرًا من المعلومات أو الأسرار لا يقل عن أيِّ تجمع آخر. من أمثلة ذلك تلك المجموعة التي أنشأها برنامج نيوزنايت، المُذاع على قناة بي بي سي، على موقع فيسبوك والتي أطلق عليها اسم «إذًا أنت تريد أن تكون جزءًا من نيوزنايت»، وذلك كوسيلة لتشجيع متابعي البرنامج على المساهمة بالأفكار والنماذج وأسماء الشخصيات التي يريدون إجراء المقابلات معها، وذلك من أجل دمجها في التقارير التي يعدها القائمون على البرنامج.
ثانيًا: تمنح شبكات التواصل الاجتماعي المؤسسات الإخبارية طريقًا للوصول إلى جماهير جديدة. فأغلب من يشتركون في تلك المواقع ليسوا من متابعي الأخبار التقليدية. نحن ندرك، من واقع عدة دراسات أكاديمية، أن من هم دون الثلاثين يعتمدون على الإنترنت أكثر من التليفزيون أو الإذاعة أو الصحف في استقاء المعلومات (مركز بيو للأبحاث ٢٠٠٠؛ أليرس ٢٠٠٦؛ أوفكوم ٢٠٠٧). ويمكن للمؤسسات الإخبارية توسيع نطاق خدماتها عن طريق نشر الأخبار في المجتمعات الإلكترونية التي يختار الشباب متابعتها. نقلت شبكة بي بي سي الوضع في تركيا أوائل عام ٢٠٠٧ من خلال مقاطع فيديو على موقع يوتيوب وصور فوتوغرافية على فليكر أُعِدَّت خصيصًا لهذا الغرض.
ثالثًا وأخيرًا، تُقدم تلك المواقع فرصًا تسويقيةً جديدة لنفس السبب السابق، ألا وهو أنها أماكن اختار الأفراد التجمع بها؛ لذلك أنشأت وكالة رويترز مكتبًا لها في عالم سكند لايف الافتراضي وتقدم شبكة سكاي نيوز عناوين إخبارية على تويتر. إن مثل هذه الخطوات إنما تهدف إلى تنمية الوعي باسم المؤسسة الإخبارية أكثر من مجرد تقديم خدمة إخبارية.
وهكذا تتعرف المؤسسات الإخبارية على كيفية استخدام التكنولوجيا والمواقع الإلكترونية التي تُشجع صحافة المواطن على مساندة الأهداف التقليدية لتلك المؤسسات والمُتمثلة في تقديم عمل صحفي محترف على أوسع نطاقٍ ممكن. وإذا كانت الصحافة الرشيدة تسعى إلى الصمود والبقاء، فمن الضروري أن تتكيف على هذا النحو.
خلال الجزء الأول من القرن الحادي والعشرين، ومع تحويل الإنترنت لمسار العمليات الإخبارية التقليدية، هناك قدر كبير من القلق بشأن نماذج العمل التجاري القابلة للتطبيق في مجال الأخبار. فمع ما نشهده من قدر هائل من المعلومات المتاحة بوضوح مجانًا على شبكة الإنترنت، هل الجمهور في طريقه إلى التخلي عن عادةِ الحصول على الأخبار والمعلومات نظير مقابل مادي؟ ماذا قد يعني ذلك بالنسبة إلى بعض من المؤسسات الإخبارية العظيمة والعريقة والتي امتدَّ وجودها طوال القرن الماضي؟
يمر الإعلام، والصحافة، بتحول جذري ولم تتضح بعدُ جميع الإجابات. ولكن لا مجال للشك في أن صحافة المواطن، وما تنطوي عليه من قدرة الجماهير على المُساهمة في الأخبار والمعلومات العامة وتوجيهها، ستكون إحدى السمات المميزة للصحافة في المستقبل. يأتي هذا تزامنًا مع مواصلة المؤسسات الإخبارية جهودها في التكيف مع علاقة جديدة تجمعها بالجمهور ومع أساليب جديدة لنشر عملها الصحفي. أعتقد أن الناس في السنوات القادمة سوف يلتفتون إلى الوراء ناظرين ببعض الذهول إلى تلك المناقشات بشأن صحافة المواطن، وما إذا كانت صحافة حقيقية أم لا وما إذا كانت تقف على طرف نقيض مع الإعلام التقليدي. إن الإنترنت لم يُغير من الأهداف، والمبادئ، والقيم الأساسية للصحافة الرشيدة، غير أن هناك زيادة هائلة في الفرص المتاحة لمشاركة التجارب والآراء والكشوف الإخبارية والمعرفة، ويمكن لتلك الفرص أن تُثري الصحافة وترتقي بها في قابل الأيام.
أسئلة يُجيب عنها الطالب
(١) ناقِش كيفية تأثُّر الصحافة التقليدية بصحافة المواطن. أحقًّا تُغيِّر وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية من أسلوب جمعها للأخبار ونشرها؟
(٢) هل يوجد احتمال أن عملية جمع الأخبار التقليدية سوف تعاني في ظل لجوء الصحف وشبكات البث إلى الصحفيين المواطنين للحصول على مقاطع الفيديو والمواد الإخبارية بتكلفة أقل؟
(٣) ناقِش الأثر الذي خلَّفه المدونون والصحفيون المواطنون على تغطية الأخبار الدولية الحديثة، مثل الصدام بين رهبان بوذيين والحكومة العسكرية في بورما (ميانمار).
(٤) هل من الضروري أن يُكافح الصحفيون المواطنون والمدونون لتحقيق الإنصاف، والدقة، والحيادية؟
(٥) ما التأثير طويل المدى الذي تعتقد أن تُحدثه هذه الموجة الجديدة من صحافة المواطن على السياسة؟