التكنولوجيا والسرعة والذوق العام: جبهات القتال الثلاث لوكالات الأنباء في القرن الحادي والعشرين
أتاحت التكنولوجيا لوكالات الأنباء الوجود على الساحة الإعلامية، ولديها الآن القدرة على تدميرها. غير أنه في قلب كل تهديد تكمن فرصة؛ فالتكنولوجيا تُمكِّن الوكالات الدولية أيضًا من زيادة سرعة وتكرار التغطية الإخبارية من داخل بعضٍ من أشد مواقع العالم عدائية وصعوبة في الوصول إليها.
في منتصف القرن التاسع عشر، سمح نقل الكلمات عن طريق التلغراف لوكالات الأنباء الوطنية والدولية بنشر الأخبار على نطاق واسع إلى الصحف.
ثم ظهر نموذج مشابه واستطاع بسهولة نسبيًّا أن يصمد لما يقارب المائة والخمسين عامًا. وفي إطار هذا النموذج، كانت تتولَّى الوكالة الإخبارية تغطية خبرٍ ما مرةً واحدة، ثم تبيع هذا الخبر عدة مرات، عادةً إلى المئات أو الآلاف من عملائها المشتركين، مُستعينةً في ضخ الأخبار إليهم بنظام البرق.
ثم قامت الثورة الرقمية في ثمانينيات القرن العشرين. ومنذ ذلك الحين، غيَّرت التكنولوجيا، ولا سيما شبكة الإنترنت، طريقة جمع الأخبار ونشرها واستخدامها، بالإضافة إلى طبيعة المنافسة الإخبارية؛ فمن الناحية النظرية، كانت هذه المرة الأولى في التاريخ التي تصير فيها التكنولوجيا في متناول أيِّ شخص يرغب في إنشاء وكالته الإخبارية الخاصة.
وبفضل شبكة الإنترنت، صار من الممكن جمع الكلمات ونشرها على نطاق عالمي بتكلفة ضئيلة أو دون تكلفة على الإطلاق. كما أن انخفاض أسعار الكاميرات والتحسن الدائم في نوعية الضغط الرقمي تُرجِما إلى سهولة في نشر الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت.
ويمكن مشاهدة آثار جميع التطورات السابقة في ظاهرة «صحافة المواطن» التي يشهدها القرن الحادي والعشرين. ويمكن تعريف تلك الصحافة بأنها الصحافة التي يمارسها أفراد من الجمهور؛ إذ يُساهمون في تغطية الأحداث — وخاصة أهم الأخبار كالهجمات الإرهابية أو الكوارث الطبيعية.
لكن بينما تنقسم وسائل الإعلام الإخبارية إلى قطاعات متخصصة تخدم شرائح جماهيرية مختلفة الاهتمامات أو الآراء، تبدو وكالات الأنباء، حتى هذه اللحظة، محتفظة بموقعها في قلب المنظومة الإخبارية العالمية.
أشار بحث أجراه كريس باترسون، الأكاديمي بجامعة ليدز، نُشر في ٢٠٠٦ إلى أن ثمة اعتمادًا متزايدًا على التغطية الإخبارية التي تجريها وكالات الأنباء للأخبار الدولية وتنشرها على شبكة الإنترنت، وذلك بعد إخضاعها لقليلٍ من التحرير أو دون تحرير ألبتة. وخلص باترسون إلى أن «الحديث الدائر في نطاق الرأي العام العالمي بشأن الأحداث الدولية الهامة يتشكل إلى حدٍّ كبيرٍ بالممارسات الإنتاجية والأولويات المؤسسية لوكالتين إخباريتين: رويترز وأسوشيتد برس» (٢٠٠٦: ٢٠).
اكتشف باترسون أن «متوسط الاستخدام القابل للقياس» للتغطية الإخبارية التي أجرتها الوكالتان الإخباريتان السابقتان زاد على مدار السنوات الخمس الماضية عبر الإنترنت.
بيَّن تحليل لستة مواقع متخصصة في تجميع الأخبار — وهي إيه أو إل، وياهو، وناندو، ولايكوس، وإكسايت، وألتافيستا — أن استخدام الأخبار الواردة من وكالات الأنباء ارتفع من ٦٨ بالمائة ليصل إلى ٨٥ بالمائة من المحتوى الخاضع للدراسة بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠٠٦، كما ارتفع من ٣٤ بالمائة إلى ٥٠ بالمائة في سبعة من مقدمي المحتوى الإخباري الرئيسيين؛ وهم إم إس إن بي سي، وسي إن إن، وبي بي سي، وإيه بي سي، وسكاي نيوز، وصحيفتا ذا جارديان، وذا نيويورك تايمز.
لم تكن الأسباب واضحة تمامًا. وربما كانت هناك أسباب عدة لهذه الظاهرة؛ ففي الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وخلال الغزو الذي قادته أمريكا للعراق في ٢٠٠٣، كان هناك اهتمام متنامٍ بالأخبار الدولية. ربما كان السبب وراء هذه الظاهرة هو أن الحاجة لتقديم محتوًى أكبر على عدد أكبر من المنصات، كان من شأنها أن تدفع وسائل الإعلام الرئيسية إلى بذل قدر أقل من الموارد لتغطية الأخبار الدولية بنفسها. أو قد يكون السبب هو رغبة تلك المنصات في تحديث الأخبار على مواقعها الإلكترونية على نحو أكثر تكرارًا.
لكن هذه الظاهرة، أيًّا كانت أسبابها، تُظهر أنه لا يزال هناك اعتماد قوي على وكالتَي أسوشيتد برس ورويترز فيما يتعلق بالتغطية الدولية.
في بحث أجرته شركة بي كيو ميديا لصالح أسوشيتد برس، تَبيَّن أن السوق العالمية للمحتوى التحريري المستقى من مصادر خارجية — من نصوص وصور ومقاطع فيديو ورسوم — الذي تبيعه الوكالات والخدمات الإخبارية، من المتوقع أن يزداد نموه من ٥٫٦ مليارات دولار في ٢٠٠٦ ليصل إلى ٧٫٨ مليارات دولار في ٢٠١١.
رغم أن سوق المحتوى النصي يبقى الأكبر بلا منافس، فإن أعلى معدلات النمو يسجلها محتوى مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية؛ إذ يتوقع أن تزيد سوقهما لما يقرب من الضعف.
رغم أن كثيرًا من الصحف، التي تعد عميلًا تقليديًّا لوكالات الأنباء، تتلقى ضربات من منافسيها الرقميين، يبدو أن وكالات الأنباء قادرة على تحقيق نجاحات في المستقبل ما دامت تمكنت من التكيف مع الاحتياجات المتغيرة في الأسواق الرقمية وأسواق البث التليفزيوني.
إن أهم وكالات الأنباء الدولية تقدِّم نموذجًا يصعب على الآخرين تقليده دون بذل قدر معتبر من الاستثمارات؛ فهي لديها شبكة عالية التطور من الجهات التي تزودها بالأخبار، ويمكنها ضمان وجود تغطية سريعة ومنضبطة بمعايير صارمة لتحقيق الدقة.
في القرن الحادي والعشرين، تتوقف قيمة الاسم التجاري لأي وكالة إخبارية على دقة أخبارها وصحتها أكثر من أيِّ وقت مضى، بحيث تضْمن الشركات الإعلامية أن التغطية الإخبارية لوكالات الأنباء سوف ترسم صورة حقيقيةً وموثوقًا فيها للأحداث، وذلك في عالمنا الذي يعج بالمعلومات.
المحتوى | ٢٠٠٦ | ٢٠١١ |
---|---|---|
الإجمالي | ٥٦٠٨ | ٧٧٩٩ |
النصوص | ٣٥٣٣ | ٤٥٣٩ |
مقاطع الفيديو | ٦٥٧ | ١٢١٧ |
الصور | ٦٩٨ | ١١٠٣ |
الرسوم | ٧٢٠ | ٩٤٠ |
ورغم أن التكنولوجيا أسهمت في تقليص العقبات التي تواجه الدخول في مجال تقديم التغطية الدولية، فقد ضخت كبرى الوكالات الإخبارية استثمارات هائلة في التقنيات الحديثة بما يكفل لها نقل الأخبار على نحوٍ أسرع من أيِّ بؤرة مضطربة، مهما كانت بعيدة.
كان تنويع المحتوى الإخباري بتقديم مواد الفيديو مجالًا رئيسيًّا للتوسع، هدفه الوفاء بمتطلبات السوق ومواكبة المزاج العام لهذا العصر الذي يميل نحو تعدد الوسائط. إن الوجود في قلب المنظومة الإخبارية في القرن الحادي والعشرين يتطلَّب تقديم مواد الفيديو، إلى جانب النصوص والصور الفوتوغرافية، إلى الجماهير في كافة أنحاء العالم.
في عالمنا الرقمي، يتسم تلقِّي الجمهور للأنباء بنمط أكثر حركية، وصارت الأخبار تحيط بنا من كل جانب. ولم يعد تلقِّي الأخبار مقيدًا بأوقات أو أماكن محددة؛ لذلك صار لاستخدام الصور أهمية متزايدة في توجيه انتباهنا إلى أبرز الأخبار.
(١) السرعة ومحتوى الفيديو
من المُرجح أن جيناتنا تحمِل شيئًا يهيئنا للانتباه إلى الصور والحركة والصوت؛ إن ما ساعدنا قديمًا في البقاء على قيد الحياة ينبغي أن يُستغل الآن في إدارة الانتباه بفاعلية. (توماس إتش دافنبورت، «الانتباه: الجبهة المعلوماتية التالية»)
تهتم وكالة الأنباء في القرن الحادي والعشرين بالتغيير الواقع في تلقِّي الأخبار في عالم تبقى فيه الأحداث الكبرى محفورة في الذاكرة بفضل الصور المتحركة أكثر من النصوص والصور الفوتوغرافية.
ورغم أن الكلمة المكتوبة كانت العنصر الرئيسي الذي قامت عليه وكالات الأنباء لمائة وخمسين عامًا مضت، فإن مقاطع الفيديو الحية صارت أداة رئيسية في نقل «الأخبار العاجلة»؛ فليس بوسعك أن تكون أسرع من الوقت الآني.
إن أبرز أخبار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حدَّدت معالمها صور الفيديو: اصطدام طائرتين ببرجَي مركز التجارة العالمي بنيويورك خلال هجوم الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١؛ وسماء ليل بغداد المتوهجة بنيران القصف الأمريكي لنظام صدام حسين في بغداد أثناء عملية «الصدمة والرعب» في ٢٠٠٣؛ وموجات تسونامي الزاحفة نحو سواحل آسيا حاملة الدمار إليها أواخر عام ٢٠٠٤.
أسهم تدشين موقع يوتيوب، المتخصص في نشر مقاطع الفيديو ومشاركتها مع الآخرين، عام ٢٠٠٥ في إطلاق موجة مشاهدة مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت، وجذب ملايين المستخدمين العاديين إلى تصوير مقاطعهم الخاصة ونشرها على الموقع.
بحلول عام ٢٠٠٦، شهد العالم تدافعًا من الصحف الأمريكية والأوروبية نحو نشر مقاطع فيديو على مواقعها الإلكترونية، وهو ما أتاحه الانتشار المتزايد لخدمات النطاق العريض والرغبة في تحقيق إيرادات جديدة على الإنترنت، في ظل التراجع المستمر في أعداد من يقرءون الصحف الورقية في الدول المتقدمة.
منذ بداية الألفية الثالثة، صارت كلٌّ من وكالتَي أسوشيتد برس ورويترز أهم مصدر لمقاطع الفيديو الإخبارية الدولية بالنسبة إلى آلاف المواقع والبوابات الإلكترونية. وهما لم تتمكنا من تحقيق هذه المكانة إلا بإمضاء العقد الأخير من القرن الماضي في الاستعداد لاستقبال عصر الوسائط المتعددة.
إن توماس إتش دافنبورت الذي اقتبسنا كلماته آنفًا ليس صحفيًّا، بل أكاديمي وخبير أمريكي مرموق في مجال إدارة المعلومات للشركات. منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، أخذ دافنبورت يُحاجج بأن هناك قدرًا هائلًا من المعلومات في متناولنا بحيث يتوجب علينا أن نكون مشاركين فاعلين في «اقتصاد الانتباه»، حيث تُعتبر صور الفيديو الفعالة هي أفضل الطرق لتوصيل أي رسالة.
لطالما كانت السرعة شرطًا أساسيًّا في صناعة الأخبار، غير أن أهميتها تضاعفت أكثر من أي وقت مضى في عصر الإنترنت وقنوات الأخبار التليفزيونية المتاحة على مدار الساعة. يمكن لمواد الفيديو أن تكون وسطًا مباشرًا أيضًا؛ فتنقل إلينا الخبر لحظة وقوعه وتكشفه لنا وكأننا نعاينه بأنفسنا.
لكن هل تساعد هذه المواد المرئية في تعزيز استيعابنا للأحداث، أم أنها لا تمنحنا سوى فهم سطحي لها؟ أنواجه خطر نقل ما يمكن أن تراه الكاميرات فقط وتجاهل القضايا الهامة التي لا تصلُح للخضوع للتغطية السريعة؟ وهل تؤدي السهولة المتزايدة في الحصول على مواد الفيديو إلى مشكلات أخلاقية وذوقية جديدة؛ حيث يتعرض الصحفيون والمشاهدون لمزيد من المشاهد الصادمة — بما في ذلك لحظات الاحتضار — في الحروب والمجاعات والإعدامات؟
أم أن الأمر لا يتعدى التالي: دائمًا ما سيرغب الصحفيون في أن تُستخدَم أخبارهم، وسيتنافسون ليصل الجمهور إلى أخبارهم بأفضل الطرق وأسرعها؟ وإذا لم تقدِّم وكالات القرن الحادي والعشرين الأخبار في مقاطع فيديو جاذبة للأنظار لتصل إلى السوق المستهدفة في أسرع وقت ممكن، فسوف تفقد أهميتها بالنسبة إلى عملائها وربما تختفي من الوجود.
-
«السرعة»: كيف يمكن لوكالات الأنباء أن تظل الأسبق في تغطية الأخبار في ظل توافر الوسائل التكنولوجية، التي بإمكانها تسجيل الأحداث ونشرها على الإنترنت، في متناول أي شخص؟
-
«التكنولوجيا»: إن مائة وخمسين عامًا من نشر الأخبار عبر التلغراف سمحت لوكالات الأنباء بالوجود، لكن هل ستختفي مع دمقرطة نشر الأخبار التي تحدُث حاليًّا؟ أيهما سيقود وكالات الأنباء: الصحافة أم التكنولوجيا؟
-
«الذوق العام»: هل ستتمكن وكالات الأنباء من الاحتفاظ بسُمعتها، التي دأبت على حمايتها بحرص شديد، فيما يتعلق بالدقة والإنصاف والتوازن في مواجهة جمهور الويب الذي يرغب، فيما يبدو، في الوصول المباشر إلى الأخبار دون وسيط، وفي ظلِّ تَفوُّق الصادمِ والمثير على المُهم؟
لكن كما تقول المزحة القديمة: قطيع الخراف لا يمكن أن يُخطئ.
بذلت وكالات الأنباء الدولية استثمارات هائلة في إنشاء بنيتها الأساسية للإنتاج التليفزيوني منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ففي عام ١٩٩٣، استحوذت رويترز على فيزنيوز، إحدى أكبر وكالتين دوليتين للأخبار التليفزيونية في العالم آنذاك، وكانت رويترز قبل ذلك التاريخ تملك حصة في الوكالة جنبًا إلى جنب مع شبكتَي بي بي سي وإن بي سي الأمريكية.
وأطلقت أسوشيتد برس في ١٩٩٤ وكالتها الخاصة للأخبار التليفزيونية، وكالة أسوشيتد برس التليفزيونية، بعد أن حذرها مستشاروها التجاريون من مجموعة بوسطن الاستشارية من أنها ستعاني معاناة شديدة في القرن الحادي والعشرين لو لم تضف عنصر الفيديو إلى محتواها الإخباري.
وفي عام ١٩٩٨، استحوذت أسوشيتد برس على الوكالة الأخرى الوحيدة للأخبار التليفزيونية، وكالة وورلد وايد للأخبار التليفزيونية، في مسعاها لتوحيد السوق، وأنشأت ما أُطلق عليه وكالة أسوشيتد برس للأخبار التليفزيونية.
بحلول القرن الحادي والعشرين، كانت أكبر وكالتين دوليتين للأنباء، أسوشيتد برس ورويترز، مسلحتين بمحتوى الفيديو وجاهزتين لدخول عصر خدمات النطاق العريض، ولكن على أساسٍ متينٍ من أعراف شبكات البث التقليدية.
كان عدد العملاء المستفيدين من محتوى الفيديو الذي تُنتجه الوكالتان يبلغ حوالي ٥٠٠ شبكة بث وطنية ودولية. وكانت الخدمة التي تقدمها الوكالتان تشبه ما تقدمه قناة أخبار تليفزيونية دون مذيعي أخبار أو مراسلين يظهرون على الشاشة. وكانت لدى كل وكالة شبكة من القنوات مخصصة لإرسال توليفة يومية من أهم القصص الإخبارية، والرياضية، والترفيهية إلى عملائها.
لم تكن المقاطع بوجهٍ عامٍّ تحمِل أي تعليقات، لكن الوكالات كانت ترسل موادَّ نصية منفصلة إلى شبكات البث التي كانت تستخدم صور الفيديو دون الإشارة، غالبًا، إلى مصدرها.
ومن بغداد إلى بكين، ومن منصات عروض الأزياء في باريس إلى بساط هوليوود الأحمر، اعتمد أغلب شبكات البث على أهم وكالتين دوليتين للأخبار في الجزء الأكبر من تغطيتها الدولية للأخبار.
كان ذلك، من جانبٍ، حتميةً اقتصادية: كان من الأوفر بالنسبة إلى شبكات البث أن تسدد رسومًا سنوية إلى الوكالات مقابل تغطيتها الإخبارية لا أن تتولَّى التغطية بنفسها.
لكن من جانبٍ آخر أيضًا، بلغت وتيرة التغيير حدًّا سمحت معه التكنولوجيا بقدر أكبر وأوسع من التغطية الإخبارية. فلم يكن ممكنًا إلَّا لعدد قليل من شبكات البث الدولية الوصول إلى الأخبار في الوقت المناسب لإرضاء مشاهديها الذين يتوقعون تغطية فورية للأحداث في ذلك العدد المتنامي من قنوات الأخبار المتاح لديهم.
بحلول عام ٢٠٠٧، كان لدى أسوشيتد برس حوالي ٢٠٠ كاميرا فيديو موزَّعة على أكثر من ٨٠ مكتبًا إخباريًّا حول العالم. كما أشارت رويترز إلى وجود طواقم تليفزيونية في أكثر من ٨٠ مكتبًا إخباريًّا تابعًا لها. وفي العام نفسه، دشنت الوكالة الدولية الثالثة، فرانس برس، خدمتها التليفزيونية التي ضمت ٤٠ صحفيًّا تليفزيونيًّا و١٠ مكاتب دولية خارج نطاق موطنها الأم؛ فرنسا.
في الوقت الذي كانت تعتمد فيه جميع شبكات البث الوطنية والدولية تقريبًا على أسوشيتد برس في تغطيتها الإخبارية، قُدِّر عدد الأشخاص الذين قد يشاهدون صورة تليفزيونية رئيسية لحدث مهمٍّ، مثل إعصار تسونامي، بما يصل إلى مليار شخص.
من الأمور التي لا يعرفها سوى القليل، ولم يُسجلها سوى الأقل، أن وكالات الأنباء قد لعبت دورًا رئيسيًّا في تسريع عملية نشر مواد الفيديو حول العالم خلال حقبة ما قبل الإنترنت في أوائل التسعينيات.
قبل ذلك الحين، لم يحظَ أغلب العالم من أهم وكالتين للأنباء بأكثر من «نافذتين إخباريتين» يوميًّا، مدة كلٍّ منهما ١٥ دقيقة، تضُمَّان مقاطع مصوَّرة قصيرة محررة تتناول أهم الأخبار الدولية.
على سبيل المثال، لو اعتمدت شركة تليفزيونية في آسيا على وكالة إخبارية في الحصول على مقاطع تليفزيونية للأخبار الدولية، فإنها نادرًا ما كانت تتلقى تغطية اليوم نفسه، بل كان أغلب المقاطع من اليوم السابق على الأقل، مع شحن بعض المواد الإخبارية بالطائرات عبر القارات إلى مقرات الوكالات في لندن قبل بثها لتوفير تكاليف البث الباهظة عبر الأقمار الصناعية.
ثم أطلقت وكالة فيزنيوز في أوائل التسعينيات خدمة سمَّتها فيز يوروب، وهي التي بمقتضاها أصبح لها اتصال دائم بالقمر الصناعي بأوروبا تبثُّ من خلاله الأخبار على مدار الساعة إلى السوق الأوروبية المربحة، وذلك بمجرد توافرها.
ويُعد تدشين أسوشيتد برس لخدمتها التليفزيونية في ١٩٩٤ نقلة نوعية في المجال؛ فقد تبنَّت الوكالة نقلًا دائمًا للأخبار يستمر على مدار الساعة ووجَّهته إلى أغلب مناطق العالم، وما لبث منافساها، رويترز وَوورلد وايد، أن سارا على دربها.
لذا، بحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بدأت شبكات البث في آسيا والشرق الأوسط، ولأول مرة، في تلقِّي تغطية إخبارية للأحداث يوم وقوعها من جميع أنحاء العالم على نحو منتظم.
وصار لوكالات الأنباء دور أكثر حيوية في المنظومة المسيطرة على كيفية نقل محتوى الفيديو حول العالم.
بدأت، في الوقت نفسه، تكلفة جمع الأخبار التليفزيونية تشهد تراجعًا حادًّا؛ فقد أدى إطلاق المزيد من الأقمار الصناعية وإزالة القيود التنظيمية على الاتصالات في أغلب مناطق العالم إلى انخفاض في تكاليف استعمال الأقمار الصناعية لجمع الأخبار، وهو ما كان يعني بدوره زيادة في سرعة توفير التغطية الإخبارية.
ولكن في عام ١٩٩٧، وقع حدث قليلًا ما تذكره المصادر غير أنني أزعم أنه مهَّد الطريق لمحتوى الفيديو كي يتحدَّى هيمنة الكلمة المكتوبة على تحديد أجندة التغطية الإخبارية الدولية.
فقد صار بالإمكان، ولأول مرة، إرسال فيديو مضغوط من أيِّ مكان بالعالم عبر هاتفٍ متصلٍ بالأقمار الصناعية، ما دام بحوزة الصحفيين المعدَّات الأساسية ومصدر للطاقة.
كان لا بد، في السابق، من إرسال مقاطع الفيديو من محطة تليفزيونية قادرة على الاتصال بالأقمار الصناعية الدولية لتصل إلى مراكز الإنتاج الرئيسية التابعة لوكالات الأنباء. وكان البديل لهذه العملية هو نقل ما يصل إلى طنَّين من معدَّات البث المحمولة إلى موقع الحدث، وهو ما كان في الغالب من المستحيلات في مناطق الحروب النائية أو في الدول التي كانت ترفض أنظمتها العدائية السماح بدخول هذه المعدَّات.
غير أنه بمجرد أن أصبح بالإمكان إرسال مواد الفيديو عبر هاتف متصل بالأقمار الصناعية، فإن جميع المعدَّات اللازمة أصبحت أقل بحيث تسعها حقيبة سفر متوسطة الحجم.
وفجأة، لم تعد أي بقعة في العالم مستثناة من التغطية الفورية للأحداث، وصار بالإمكان التحايل على الأنظمة العدائية.
جرت العادة أن تستخدم الدول الشمولية المحطات التليفزيونية كنقاط تحكُّم يمكن أن تستخدمها للتلاعب بالرسائل الإعلامية الموجهة إلى الجماهير المحلية، ويمكن أن تفرض من خلالها رقابتها على أي تغطية تليفزيونية فورية موجهة إلى العالم الخارجي أو تحجبها بالكلية.
لكن تكنولوجيا الضغط الجديدة نجحت في كسر قبضة الطغاة الخانقة؛ فقد أمكن، ولأول مرة، نقل محتوى الفيديو بنفس سرعة وتواتر نقل الكلمة المكتوبة تقريبًا، محققًا في الغالب تأثيرًا يفوق بكثيرٍ تأثير الكلمة المكتوبة.
استعانت وكالة أسوشيتد برس بهذه التكنولوجيا في سبيل تحقيق تأثير تنافسي قوي لأول مرة في أوائل عام ١٩٩٧ في الدولة الأفريقية التي كان يُطلق عليها زائير، وتسمى الآن جمهورية الكونغو الشعبية الديمقراطية. زامن ذلك قيام قائد التمرد، لوران كابيلا، بقيادة قواته عبر الدولة الأفريقية التي تقارب في مساحتها أوروبا الغربية لإسقاط حكومة الرئيس موبوتو سيسي سيكو الفاسدة.
تابَع فريق تليفزيوني تابِع لأسوشيتد برس تقدُّم كابيلا، وأرسل تقارير فورية منتظمة باستخدام تكنولوجيا الضغط الجديدة، ونقل مقاطع الفيديو الملتقَطة عبر هاتف متصل بالأقمار الصناعية. وما كان من منافسي الوكالة إلا أن تراجعوا منسحبين نظرًا لأن موادهم الإخبارية كان لا بد من نقلها إلى مطار لتقطع مئات الأميال إلى كينيا قبل بثها، وهو ما يعني تأخيرًا في إيصال الخبر يصل إلى ثلاثة أيام.
اعتُبِرَ ذلك الحدث نصرًا تنافسيًّا لصالح أسوشيتد برس، لكن دلالته كانت أبعد من ذلك؛ فقد فتحت هذه التكنولوجيا مناطق كبيرة من العالم أمام المزيد من التغطية التليفزيونية الدولية.
كانت المعادلة، حتى ذلك الحين، بسيطة؛ فلو طرأ خبر دولي ووصل إلى وكالات الأنباء، عادةً كنص مكتوب عبر التلغراف، فلا بد للجناح التليفزيوني في الوكالات وشبكات البث أن يقيِّم إمكانية حصوله على تغطية تليفزيونية في إطار زمني معقول.
لم يخضع كثير من الأخبار لتغطية الكاميرات التليفزيونية، ولم يُعرَض كثير من مقاطع الفيديو التي صُوِّرت في هذا الشأن، ويُعزى ذلك إلى قرار اتخذته هذه الوكالات والشبكات بأنه حالما يصل الفيديو المصوَّر إلى مقرها في لندن سيكون الاهتمام العام بالخبر قد تلاشى.
لكنني أزعم أنه سواءٌ أكان الحديث عن أفغانستان أم العراق أم الصومال أم إثيوبيا، فإن القدرة على نقل مقاطع الفيديو المضغوطة أحدثت تحولًا في الأعراف التي تتَّبعها وكالات الأنباء التليفزيونية في مهامها الصحفية، كما غيرت توقعات شبكات البث والجماهير بشأن ما يمكنهم مشاهدته من مناطق العالم الأبعد مسافة والأشد خطورة.
منذ مطلع الألفية، ازداد تدفق مقاطع الفيديو من أهم المراكز السكانية في العالم عبر الإنترنت، مما ترتب عليه أمران؛ أولًا: أن كمية مقاطع الفيديو ازدادت نتيجة لانخفاض تكلفتها كثيرًا إذا قورنت باستخدام الأقمار الصناعية، وهو ما يعني قدرة وكالات الأنباء التي تعمل تبعًا لميزانية يومية على تغطية المزيد من الأخبار. ثانيًا: لم تعد التغطية الإخبارية خاضعة لنفس القدر من الفحص والتدقيق على يد الأنظمة التقييدية؛ ففي السابق كانت نقطة البث في المحطة التليفزيونية نقطةً للرقابة أيضًا.
ورغم ذلك، فإن السباق لم ينتهِ بعدُ بأيِّ حال من الأحوال؛ فغالبًا ما تحفِّز الحرب الطاقة الإبداعية، وهو ما تحقَّق في السنوات القليلة الأولى من القرن الحادي والعشرين.
ففي الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، تسمَّر مئات الملايين من المشاهدين لبضع ساعات وهم يطالعون الصور التليفزيونية المباشرة لهجوم تنظيم القاعدة على مركز التجارة العالمي بنيويورك، الذي خلَّف ما يقارب ٣ آلاف ضحية.
إن المأساة الحية المتمثلة في محاولات الهرب من البرجين المشتعلَيْن ثم انهيارهما في النهاية كانت على الأرجح أكثر تغطية إخبارية مباشرة شهدها العالم لحدث من حيث المأساوية والاستدامة.
وبينما تكشَّفَت هذه القصة الإخبارية في قلب أكبر الأسواق التليفزيونية في العالم، بدا أن الشركات التليفزيونية كانت تتنافس في نقلها على سرعة السبق لا عمق التناول. لا شك أن البث التليفزيوني المباشر يستنفد موارد كبيرة؛ لذا كلما بذلت الشركات المزيد من المال لتقديمه، قلَّت مواردها المتاحة للإنفاق على التغطية الإخبارية الاستقصائية أو المغامِرة، والتي لا تقل تكلفة عن عملية البث المباشر.
حين اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قرارها بغزو العراق في ٢٠٠٣، نشبت معركة أخرى في سبيل جعلها الحرب الأولى في التاريخ التي تجري تغطيتها مباشرة من خطوط المواجهة الأمامية.
في بعض الأحيان، كانت العمليات اللوجستية المرتبطة بنقل التكنولوجيا اللازمة لنقل بث تليفزيوني مباشر من مناطق الحروب تبدو على قدر من الصعوبة والتعقيد يكاد يماثل العمليات العسكرية نفسها.
وبينما كانت شبكات البث الكبرى تتنافس فيما بينها على إيجاد أفضل المعدَّات لاستخدامها في التغطية الحية، كان لزامًا على وكالات الأنباء أن تتجاوب مع هذه المنافسة، وإلا فلن تنجح في مواكبة متطلبات سوق الأخبار في القرن الحادي والعشرين.
لذا، أنشأت وكالة أسوشيتد برس عدة قنوات مباشرة بحيث يتسنَّى لأيِّ شبكة بث أن تتابع الصراع لحظة بلحظة. نُقِلَت كل مراحل الصراع نقلًا حيًّا، بدءًا من قصف بغداد خلال عملية «الصدمة والرعب»، ومرورًا بوصول القوات الأمريكية الأولى إلى شوارع العاصمة العراقية، وانتهاءً بإقلاع الطائرات الحربية النفاثة من حاملات الطائرات الأمريكية الرابضة في الخليج الفارسي.
مما لا شك فيه أن وكالات الأنباء، تمامًا كأيِّ قناة إخبارية تليفزيونية، ليست مستثناة من ذلك الاتهام بأن العرض الحي للأحداث لا يقدِّم تفسيرًا شاملًا لها وربما، في واقع الأمر، يُظهر وجهًا واحدًا للقصة. لا مفر من حدوث ذلك أحيانًا، لكن الأمر نفسه يمكن أن يصدُق تاريخيًّا على الصور الفوتوغرافية. لكن الفارق يكمن في التأثير الأكبر الذي قد تُحدثه سرعة البث التليفزيوني المباشر وانتشاره حول العالم.
طالما أُجريت التغطية المباشرة للأحداث بأكبر قدر ممكن من المسئولية وبُذِلت محاولات لتقديم مقاطع حية تعكس الخبر من كلا طرفَيه، حيثما أمكن ذلك؛ فلن يكون من الواقعي الاعتقاد بضرورة استبعاد وكالات الأنباء من المشاركة في مجال البث التليفزيوني المباشر.
إن التنحي عن هذا الدور سيؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان وكالات الأنباء أهميتها بالنسبة إلى جزءٍ كبيرٍ من قاعدة عملائها وسيوقف مسيرة تقدمها؛ إذ إن التطلع إلى التغطية الإخبارية الحية صار أمرًا واقعًا تشهده حياتنا المعاصرة.
ولا شك أن ثمة حاجة إلى التمهُّل ومحاولة فهم الخبر فهمًا شاملًا من جميع جوانبه، وهذه الحاجة تبرز في محتوى الفيديو والمحتوى النصي على السواء. كما يتعين على وكالات الأنباء أن تقدِّم رواية متزنة لأي خبر بمرور الوقت. وتُمثِّل التغطية الحية حاليًّا العرف السائد في كلٍّ من الوكالتين الإخباريتين الكبيرتين، وهي تلعب دورًا رئيسيًّا في دعم الجوانب الأخرى للتغطية الإخبارية.
ولا تُمثِّل التكنولوجيا سوى جانب واحد من سرعة نقل الأخبار التي تسعى إليها وكالات الأنباء؛ فلا شك أنه ينبغي استخدامها على يد الأفراد المناسبين في الأماكن المناسبة لجني أقصى فائدة ممكنة.
إن ما يميز وكالات الأنباء عن غيرها من المؤسسات الإخبارية هو ما يُطلق عليه «صحافة الوصول». فجميع وسائل الإعلام الإخبارية في العالم تعتمد على تلك الوكالات لتحظى بالسبق في الحصول على أهم الأخبار العاجلة ولتكفل لنفسها وجودًا دائمًا في أي بؤرة من بؤر الصراع الكبرى.
تُعوِّل الوكالات الإخبارية، أكثر من المؤسسات الإخبارية الأخرى، على الكوادر «المحلية»، الذين يجري تعيينهم في الدولة التي سيتولَّون تغطيتها، بدلًا من الكوادر الأجنبية الوافدة من الخارج.
غالبًا ما يُعتبر هؤلاء العاملون المحليون أمهر كوادر الوكالات وأكثرهم عرضة للمخاطر، لكنهم أقلهم حصولًا على التقدير الواجب؛ فهم يعايشون الأخبار على مدار العام، واضعين في اعتبارهم التبعات المحتملة على ذويهم وأصدقائهم لو أثارت تغطيتهم الصحفية سخط الأنظمة الحاكمة في بلدانهم.
ودائمًا ما يجب على تلك الكوادر المحلية اتخاذ قرارات مستندة إلى تقديرهم الخاص بشأن مقدار التغطية الصحفية للأخبار التي يمكنهم إجراؤها دون إثارة حفيظة الأنظمة، ودفعها إلى إلغاء تصاريح عملهم؛ وذلك مع بذل محاولات حثيثة للدفاع عن احتياجات جمهور الأخبار الدولية، وهو عادةً ما يحدث داخل دول تُعَدُّ حرية الصحافة فيها مجرد حلم بعيد المنال.
ساعدت التكنولوجيا هؤلاء العاملين المحليين منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي في تيسير عملهم، ومكَّنتهم تكنولوجيا الإنترنت ومعدَّات البث الرقمي من نقل رسائلهم الإخبارية تحت رقابة أقل عند نقاط الإرسال.
لكن الخطر قد ينشأ الآن بعد إرسال الخبر لا أثناءه. لنأخذ مثالًا على ذلك من زيمبابوي: نجح مصور فيديو في بث صورٍ التقطها لاحتجاجٍ مناهضٍ للحكومة. وبُعَيد بثها على قناة إخبارية دولية، تعرَّض لهجومٍ وضرْبٍ مبرح على يد قوات الشرطة التابعة للحكومة، وهو ما فسره على أنه إجراء عقابي. لو كان المصور نفسه قد نجح منذ ثلاثين عامًا مضت في نقل صوره خارج حدود زيمبابوي، لما رأت صوره النور وشاهدها مواطنو دولته نظرًا لعدم وجود قنوات إخبارية دولية آنذاك.
كما أن الأنظمة الاستبدادية التي قد تمنع حرية استخدام الإنترنت داخل أراضيها لا تمانع في استخدام الإنترنت للبحث عن الأخبار السلبية المنشورة عنها. وربما كانت الأخبار في الماضي تواجه صعوبة أكبر في اجتياز حدود الدول لكنها قد تغيب عن دائرة رقابتها بمجرد وصولها إلى «العالم الحر».
إن الوسائل التكنولوجية التي سمحت بتغطية إخبارية أوسع نطاقًا تسببت هي نفسها، في كثيرٍ من الحالات، في تحفيز الأنظمة التقييدية لتسليط مزيد من الرقابة على الأخبار المناوئة لها. فمما لا مراء فيه أن التكنولوجيا أثمرت فوائد جمة، لكن هذا لا ينفي ضرورة التحلي بالحذر عند استخدامها لتجنيب الصحفيين مزيدًا من المخاطر.
(٢) التكنولوجيا والذوق العام
لم يقتصر الدور الذي اضطلعت به وكالات الأنباء منذ عهد بعيد على نقل الأخبار، بل امتد ليشمل فرزها وتصنيفها؛ أي استيعاب حقيقة ما يجري في العالم والاضطلاع بدورٍ مهمٍّ في وضع أجندة العالم الإخبارية.
يعتمد الصحفيون حول العالم على وكالات الأنباء كمصدر فوري للأخبار التي يملئون بها صحفهم أو نشراتهم الإخبارية. غير أن الوسائل التكنولوجية الحديثة شكلت ظاهرتين تعترضان الدور التقليدي لوكالات الأنباء باعتبارها المصدر الرئيسي لجمع المعلومات من جميع أنحاء العالم.
جرت العادة أن يكون لتقديرات وكالات الأنباء وأحكامها قبول واسع لدى قسم كبير من وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية. أما الآن فإن جماعات الضغط ممن لها مصلحة في النَّيل من مصداقية التغطيات الإخبارية تعمد إلى استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة باطراد في سبيل تقويض التغطيات المخالفة لوجهات نظرها.
ربما اطلعت وكالات الأنباء على تفاصيل حملات التشهير التي حِيكت ضدها من خلال الرسائل الإلكترونية المتسلسلة، وذلك حتى قبل أن تُقدِّم المدونات للكثيرين منصات للنقد على الإنترنت. وتشهد مثل هذه الحملات ظهورًا متزامنًا لانتقادات متشابهة لخبر ما من مناطق مختلفة من العالم. ومن الأهداف التقليدية لتلك الحملات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ إذ يستخدم أنصار كل طرف من الطرفين مثل هذا الأسلوب.
لا شك أن ثمة حالات كانت فيها الشكاوى من الممارسات الصحفية لوكالات الأنباء في محلها، لكنها حالات قليلة. أما في الأعم الأغلب، فكانت حملات الرسائل الإلكترونية ومن بعدها تلك الحملات التي يشنها البعض في الفضاء التدويني ذات مقاصد خبيثة؛ إذ عادةً ما كانت تتبنَّى الشائعات أو الافتراضات باعتبارها حقائق ومُسلَّمات.
وكان ذلك بمنزلة اختبار للوكالات الإخبارية ضاعف من أهمية تشدُّدها فيما يتعلق بتحري الدقة، في سبيل الدفاع عن نفسها حيال هذه الادعاءات أو الافتراءات.
ومع ظهور صور الفيديو المتحركة، واجهت وكالات الأنباء أكبر اختبار لها فيما يتعلق بالذوق العام خلال السنوات القليلة الماضية؛ ففي ضوء زيادة حجم المحتوى الذي يُنتجه المستخدمون، هل بإمكان وكالات الأنباء أن تتابع وتراقب كل هذا المحتوى؟ ولو أمكن لها ذلك، فهل يسعها ضمان موثوقيته والحصول على حقوق نشره؟
ونتيجة لذلك، هل يمكن أن يتحول دور الوكالات الإخبارية من المصدر الرئيسي للمنظومة الإخبارية إلى مجرد رافد لها؟
أوجزت حرب العراق بعضًا من أعقد المسائل التي تواجه وكالات الأنباء خلال محاولاتها لاستيعاب الطوفان الجارف من مقاطع الفيديو المنتشرة في جميع قطاعات التغطية الإخبارية داخل نطاق الذوق العام؛ إذ تمخضت عن بعض مقاطع الفيديو المفرطة في العنف: ابتداءً من قطع رءوس الرهائن وانتهاءً بإعدام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.
شهد هذا الصراع، ولأول مرة، استخدام الأطراف المتقاتلة لمواد الفيديو كأداة لإيصال رسالاتهم الخاصة إلى العالم، ولكن كلٌّ بطريقته.
تُعتبر عملية قتل عامل الاتصالات الأمريكي نيكولاس بيرج في مايو ٢٠٠٤، التي صُوِّرت في مقطع فيديو ونُشرت على الإنترنت بدايةً لسلسلة من الإعدامات المروعة المصوَّرة التي زُعم أنها تمَّت على يد جماعات مرتبطة بتنظيم القاعدة.
حين نجحت وكالات الأنباء في الحصول على هذا المقطع، وجب عليها أن تتخذ قرارًا حول مقدار ما ستعرضه منه. فإذا عرضته على شبكة قنواتها، فهل يمكن أن يؤدي ذلك، دون قصد، بشبكات البث إلى إذاعته كاملًا بطريق الخطأ؟ هل من الملائم أن يُطلَب من العاملين في وكالات الأنباء أو عملائها أن يتعاملوا بحرص مع هذا المقطع المزعج؟ وهل إن امتنعت عن تقديم المقطع كاملًا لعملائها، يُعد هذا حرمانًا لهم من فرصة توصيف مثل هذا العمل الوحشي بصورة واضحة ويُعرِّضها مِن ثَمَّ لتهمة تحريف الحقيقة بالتخفيف من حدَّة الحدث وبشاعته؟
كانت هذه القضية منطقة تحريرية مجهولة وليس لها سوابق مشابهة، فقد شكَّل تسجيل عملية الإعدام صوتًا وصورة قصة إخبارية لا تقل أهمية عن الإعدام ذاته؛ إذ نشرت أسوشيتد برس المقطع كاملًا لكن أرفقته بتحذيرات سابقة متكررة للمشتركين في خدماتها من بشاعته. وأما داخل الوكالة نفسها، فقد انحصر عدد الأشخاص الواجب تعاملهم مع المقطع إلى أدنى حدٍّ ممكن.
بالنسبة إلى عملاء الوكالة، كانت ردود أفعالهم تشير إلى رغبتهم في رؤية المقطع كاملًا لاتخاذ قرارهم التحريري الخاص. في غمار هذا الحدث، اختلفت شبكات البث حول العالم في طرق استخدامها لهذا المقطع؛ فقد عرضت بعض الشبكات المقطع كاملًا لكنها حجبت لحظة الإعدام، بينما أنهت بعضها المقطع قبل مشهد الإعدام. ولم يتنامَ إلى علمي أن أيَّ شبكة عرضت المقطع كاملًا دون تعديل. لم يُسجَّل أي شكاوى إلا واحدة تقدَّم بها عميل فاته المقطع ولم يُفلح في تسجيله.
عُرِضت المادة الإخبارية كاملة لتفرُّدها ولتمكين شبكات البث من فهم طبيعة الحادثة؛ ومِن ثَمَّ نُقِلت هذه الظاهرة الجديدة على نحو دقيق.
رغم أن أسوشيتد برس نقلت مثل هذا العمل نقلًا كاملًا، فإنها عمدت إلى حذف مشهد الإعدام من الحوادث المشابهة التي وقعت لاحقًا لئلَّا تبدو الوكالة محرضة، أو حتى مبجِّلة، لمثل هذه الأفعال، وللحد كذلك من الألم النفسي الذي قد يتعرض له من يتعاملون مع هذه المقاطع في غرف الأخبار حول العالم.
حين أُعدم صدام حسين على يد السلطات العراقية في الثلاثين من ديسمبر عام ٢٠٠٦، نُشر مقطع فيديو رسمي يُظهر صدام حسين وهو يُساق إلى المشنقة. وانتهى المقطع بحبل المشنقة ملفوفًا حول رقبته دون عرض لحظة موته.
غير أنه في وقت لاحق من يوم إعدامه ظهر على الإنترنت مقطع فيديو غير رسمي التقطته كاميرا هاتف محمول يعرض عملية الإعدام كاملة. فعادت أسوشيتد برس ونشرت المقطع الثاني باعتباره محتوًى يهم الرأي العام؛ فبالنسبة إلى قطاع واسع من المشاهدين — لا سيما جمهور الشرق الأوسط المتشكك في موته — قد أثبت المقطع بما لا يدع مجالًا للشك أن الرجل قد أُعدم. كما كشف المقطع الثاني التعليقات المُهينة التي وجَّهها إليه بعض من شهدوا إعدامه.
ربما كان من العسير التحقق من صحة المقطع الثاني لو لم يوجد المقطع الأول الرسمي، الذي سجلته قناة تليفزيونية عراقية. فلولا المقارنة بين المقطعين لما أمكن الجزم بأن المقطع الثاني يبدو حقيقيًّا.
في كلا المثالين، وجب على وكالات الأنباء أن تكون «سمع وبصر» الإعلام الإخباري العالمي، وذلك بالسبق في الحصول على مقاطع الفيديو، والاجتهاد في التحقق من صحتها، ثم القيام بدور محكِّم ذوقي بإقرارها لنشر المقاطع من عدمه.
(٣) التكنولوجيا وحقوق النشر
تمخضت ثورة الإنترنت عن موقف جديد تبنَّاه مستخدمو المحتوى الإلكتروني تجاه حقوق النشر. ولعل أقرب مثال لما يحدث في مجال الأخبار هو صناعة الموسيقى، حيث أسهمت شركات مثل نابستر في تفكيك النماذج التقليدية وذلك بسماحها بالمشاركة المجانية لملفات الموسيقى. ولم يعد أغلب المستخدمين يحترمون حقوق النشر لأصحاب المحتوى الأصليين.
من اللازم أن تتحلى وكالات الأنباء باليقظة الدائمة حيال كيفية استغلال المستخدمين لموادها ومحتواها عبر شبكة الويب، وذلك كي تُحقِّق مكاسبها المرجوة وتحافظ على مكانتها.
ويُعَدُّ تدشين خدمة أخبار جوجل في ٢٠٠٢ تحذيرًا قويًّا دق ناقوس الخطر؛ فقد جمعت جوجل في هذه الخدمة ٤٥٠٠ موقع إخباري على شبكة الإنترنت، مكوِّنةً موقعًا إخباريًّا على درجة كبيرة من الفاعلية ودون أي تدخل بشري.
كانت وكالات الأنباء، مرة أخرى، هي المصدر الأصلي لنسبة كبيرة من محتويات هذا الموقع؛ ومِن ثَمَّ كان من الضروري اتخاذ موقف يكفل عدم انتهاك حقوق النشر التي تمتلكها هذه الوكالات. فشهد عام ٢٠٠٦ إبرام صفقة بين أسوشيتد برس وجوجل بشأن استخدام محرك البحث لمواد الوكالة الإخبارية، رغم تأكيد جوجل الثابت على أن خدمة الأخبار خاصتها لا تستخدم سوى العناوين الرئيسية والمقتطفات والصور المصغرة، وهو ما يعني أن هذه الخدمة تضْمن «الاستخدام العادل» والمعقول للمواد المحفوظة بحقوق النشر الخاصة بالأطراف الأخرى، وتضم روابط تُحيل المستخدمين إلى مواقع المؤسسات الإخبارية التي تسدد رسومًا مقابل حصولها على المواد الإخبارية الصادرة عن الوكالات.
وهكذا حولت أسوشيتد برس جوجل إلى عميل لها. لكن وكالة فرانس برس اختارت أن تسلك طريقًا آخر، وذلك برفعها دعوى قضائية ضد شركة جوجل مطالبةً إيَّاها بسداد ١٧,٥ مليون دولار لانتهاكها حقوق النشر خاصتها؛ فما كان من جوجل إلا أن ردَّت بوضع جميع المواقع المحتوية على مواد إخبارية تابعة للوكالة على القائمة السوداء.
وبعد سجال دام عامين، نجح الطرفان في تسوية نزاعهما في أبريل ٢٠٠٧ بتوصُّلهما لصفقة سرية صاحَبها بيان دلَّ على أنها كانت مُرضية للطرفين. نصَّ البيان على أن الاتفاق سوف «يتيح استخدام المحتوى الإخباري لوكالة فرانس برس بطرق مبتكرة وجديدة» (ناتول ٢٠٠٧).
بعد أربعة أشهر من عقد هذه الصفقة، أعلنت شركة جوجل إبرامها لصفقة مع أربع وكالات إخبارية، وهي أسوشيتد برس، وفرانس برس، وكنديان برس، وبرس أسوشيشن (المزود البريطاني للأخبار)، تتمكن هذه الوكالات بموجبها من نشر موادها الإخبارية مباشرة على موقع أخبار جوجل. ونُظِرَ إلى هذه الصفقة باعتبارها تنطوي على استفزازات محتملة لعملاء هذه الوكالات التقليديين، الذين قد ينتابهم القلق حيال هذه الخطوة التي كانت تعني انخفاض عدد من يرتادون مواقعهم. كما تساءل المراقبون في الصناعة عما إذا كانت هذه الصفقة لا تعدو كونها مكسبًا قصير الأجل لتلك الوكالات، باعتبار ما يمكن أن تسببه من ردة فعل عكسية عنيفة من عملائها.
ينبغي على وكالات الأنباء، كما هو الحال بالنسبة إلى عملائها، بذل قدر كبير من المال والجهد لمراقبة استخدام موادها الإخبارية على الإنترنت. وثمة أسلوبان يجري استعمالهما على نطاق واسع في هذا الصدد، وهما «العلامات المائية» و«البصمات». ويعتمد الأسلوبان على تضمين علامة رقمية في المحتوى؛ بحيث يتسنَّى لصاحبه تتبُّع استخدامه، ومِن ثَمَّ تحديد هوية المستخدمين غير القانونيين ومحاسبتهم.
خاتمة
لقد أثرت التكنولوجيا الرقمية — ولا سيما الإنترنت — تأثيرًا عميقًا في أساليب عمل الوكالات الإخبارية الدولية؛ فهي تقدِّم لها فرصًا للنمو، لكنها تُمثِّل أيضًا تهديدًا مصدره الوافدون الجدد إلى مجال الأخبار.
كلما ازداد عالم المعلومات ازدحامًا وتسارعًا، عظمت الحاجة إلى وجود وكالات الأنباء لتكفل لنا اتساق التغطية الإخبارية ودقتها. وتجربة أسوشيتد برس تفيد أنه حين يقع خبرٌ عاجل هام، يعود متلقُّو الأخبار إلى المؤسسات الإخبارية «التقليدية» المعروفة للحصول على صورة دقيقة للأحداث حتى لو اعتاد هؤلاء المتلقُّون أنفسهم، في الظروف العادية، أن يتعاملوا مع الإعلام «التقليدي» بتشكك واستخفاف.
وتشير هذه التجربة إلى أنه أيًّا كان تفسير الوقائع الإخبارية الرئيسية في أيِّ مكان بالعالم أو تحليلها، فثمة حاجة إلى وجود مصدر أصلي للمحتوى الإخباري، كوكالة أنباء، لاستجلاء الحقائق ونشرها بسرعة وموثوقية؛ فالمنظومة الإخبارية يجب أن تنطلق من مكان ما.
لكن يتعين على وكالات الأنباء أن تواصل تطورها لكي تنجح في تحقيق أجندة إخبارية عالمية أوسع نطاقًا وأسرع وتيرةً، قادرة على إيصال الخبر بأسلوب فعَّال ومؤثر وبجميع الأشكال الإعلامية، التي تشكل الصور جزءًا أكبر منها.
كانت البرقية الأولى الشهيرة التي أرسلها صامويل مورس، مخترع التلغراف، في ١٨٤٤ تصدح قائلة: «هذا فعل الله.»
واليوم، يصدح كثيرون بالعبارة ذاتها حين يرون مقاطع الفيديو الإخبارية الحية أو محتوى الفيديو المستخدم بطرق جديدة ومروعة كما هو الحال في العراق. تشير الدلائل إلى أن التكنولوجيا، خلال السنوات القليلة المقبلة، سوف تزيد من انتشار مقاطع الفيديو الحية في التغطية الإخبارية.
تسعى وكالات الأنباء بطبيعتها وراء استعمال أي أداة متاحة لجمع الأخبار بأكبر قدر ممكن من السرعة والشمولية؛ لذا فلا غرو في أنها ستتعرض للاندثار إذا تجاهلت الوسائل التكنولوجية المتاحة لمنافسيها الجدد المحتملين.
أزعم أن قدرة الصحفيين على تغطية أخبار الدول والأحداث بأوضح الطرق الممكنة تساعد الناس على فهم ما يجري حولهم، وتزيد من مسئولية القادة السياسيين والعسكريين.
ومن ثمَّ، يمكن أن تساهم التكنولوجيا في تمكين الصحافة والسماح للصحفيين بالوصول إلى أخبار كانت ستظل طي الكتمان خلال الأجيال السابقة. كما يمكن أن تساعد في نشر تلك الأخبار بالسرعة التي تحتاجها المؤسسات الإخبارية وعملاؤها في عالم سريع الوتيرة ومترع بالمعلومات.
قد يحمل الذوق العام دلالات مختلفة للثقافات المختلفة حول العالم؛ فبالنسبة إلى بعض الناس، قد تثير مشاهد العري استياءهم أكثر من مشاهد سفك الدماء.
يقع على عاتق وكالات الأنباء دورٌ حيويٌّ ينبغي أن تضطلع به، ألا وهو مواصلة عملها في إرساء معايير الدقة والتوازن والإنصاف، والحفاظ عليها؛ إذ إن ثمة حاجة دائمة إلى التفكير في تبعات أي تغطية إخبارية والاجتهاد لتقديم رواية متزنة ومنصفة للأحداث، حيثما أمكن.
لقد ضاعفت التكنولوجيا من سرعة التغيرات في جميع جوانب الوكالات الإخبارية. ومن المرجح أن التغطيات والصور التي توفرها هذه التكنولوجيا ستترك تأثيرها على الذوق العام والمواد المقبولة تحريريًّا. لكن يبقى دور وكالات الأنباء وهو التأكد من أن التكنولوجيا مستمرة في تمكين الصحافة، دون أن تحل محلها.
أسئلة يُجيب عنها الطالب
(١) أيٌّ من صور إعدام صدام حسين كنتَ ستُقدِم على نشرها؟
(٢) ما القضايا الأخلاقية والذوقية التي يُحتمل أن تثيرها قدرة الوكالات التليفزيونية الحالية على نشر المزيد من الصور الصادمة للحروب، والمجاعات، والمعاناة حول العالم؟
(٣) هل تتحمل وكالات الأنباء مسئولية وضع قيود على نشر المواد التي قد يجدها المشاهدون مزعجة، أم أن دورها يقتصر على إيجاد جميع المواد المرئية الجديرة بالنشر وعرضها، تاركة لعملائها قرار نشرها من عدمه؟