أبطال محليون
تمهيد
جون أوين
ليست الأجواء بتلك القتامة والإحباط في عالم الصحافة الدولية. فخلافًا لما يُقال كثيرًا لطلاب الصحافة بشأن الوضع الإعلامي، فإن ثمة إمكانيات مثيرة لتغطية الجوانب الأخرى لهذا العالم بخلاف الأزمات والصراعات، وذلك بفضل الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة. لكن لو صح زعم أنتوني بوردن، المدير التنفيذي لمعهد صحافة الحرب والسلام، فإن المفتاح الحقيقي لإنجاز تغطية متميزة للعالم هو الصحفي المحلي، جيد التدريب، الذي يتلقى الدعم اللائق والتمكين كي يروي الأخبار.
إن أكثر من يصيبهم التشاؤم بشأن حالة تغطية الأخبار الدولية هم المراسلون والمنتجون السابقون الذين كانوا يحظون بميزة العمل لحساب شبكات تليفزيونية وصحف ذات ميزانيات ضخمة. لقد سافر هؤلاء حول العالم دون حساب، وعاشوا حياة مترفة، وكانوا يعملون، في حال انتدابهم إلى الخارج، في مكاتب خارجية مجهزة بكل ما يحتاجون إليه. (كنت واحدًا من هؤلاء؛ إذ أدرت مكتب سي بي سي في لندن لمدة ست سنوات خلال تسعينيات القرن الماضي. ورغم أن ميزانيتنا لم تكن تُمثِّل سوى نسبة ضئيلة من ميزانيات الشبكات الأمريكية وبي بي سي/آي تي إن، فقد كنا من اللاعبين الرئيسيين في المشهد الدولي.) حين كان يَبرز خبر مهم، كانوا ينفقون كل ما يحتاجون إليه من أموال للذهاب حيثما أرادوا وذلك كي يكونوا أول من يصل إلى موقع الخبر. وكانوا كثيرًا ما يستعينون بأفضل الصحفيين المحليين المتاحين ليعملوا ﮐ «معاونين» ومترجمين لهم. كان بإمكان الصحفيين المحليين أن يجنوا قدرًا من المال في أسابيع عملهم لحساب الشبكات الدولية يفوق ما كانوا يتقاضونه خلال عام كامل من الصحف المحلية أو شبكات البث الحكومية التي كانوا يعملون بها.
لقد سطع نجم الصحفيين المحليين في ظل إغلاق الشبكات والصحف الكبرى لمكاتبها الخارجية وتقليص تغطيتها الدولية (وذلك في الولايات المتحدة الأمريكية) باستثناء تغطية الأخبار المتعلقة بحربَي العراق وأفغانستان وأي شيء مرتبط بالحرب على الإرهاب. أما في لندن، فأي خبر ذي صلة بالعائلة المالكة أو الأميرة الشهيدة فيحظى باهتمام بالغ لا يتناسب مع ما يستحقه في واقع الأمر.
بالنسبة إلى بعض المراسلين الحربيين السابقين؛ كمراسِلة صحيفة ذا جارديان ماجي أوكين، جاء التحول إلى الاعتماد على الصحفيين المحليين متأخرًا للغاية: «إن النموذج التقليدي للمراسل الأجنبي يمثل توجهًا استعماريًّا نوعًا ما. إن أداءنا عادةً لا يفوق أداء «معاونينا» المحليين» (مقتبس من كوكبرن ٢٠٠٧). ترأَّس أوكين حاليًّا وحدة الأفلام التابعة لصحيفة ذا جارديان، وهي الوحدة المسئولة عن تدريب الصحفيين المحليين على إنتاج وثائقيات عن الأخبار والقضايا الجارية في بلدانهم. كما أن جزءًا من دعواها يرتكز على عجز المراسلين الغربيين، ذوي البشرة البيضاء والأصول الإنجليزية أو الأمريكية أو الكندية عادةً، عن أداء عملهم الصحفي في البلدان الإسلامية أو في العالم النامي دون أن يخشوا تعرُّضهم للاختطاف كرهائن، أو الاعتداء، أو حتى القتل. (تعرَّض مارتن أدلر، المصور الصحفي وصحفي الفيديو السويدي المستقل، للقتل في العاصمة الصومالية، مقديشو، عام ٢٠٠٦ خلال حشد جماهيري كان في ظاهره يحتفل بالتوصل إلى اتفاق سلام.) عمل أدلر في قارة أفريقيا على نطاق واسع. شهدت مقديشو كذلك عام ٢٠٠٥ مقتل منتجة الأخبار الأفريقية المحنكة، كيت بيتون، التي لم تلبث أن وصلت إلى الصومال لتغطية أخبار لحساب بي بي سي. وفي أواخر أبريل عام ٢٠٠٨، شن الأمريكيون هجومًا بالقذائف أسفر عن مقتل رجل زعمت السلطات الأمريكية مسئوليته عن إصدار أمر بقتل بيتون؛ فبحسب تقارير إخبارية، استهدفت القوات الأمريكية عدن هاشي آيرو، الموصوف بأنه أحد قياديي تنظيم القاعدة، فأردته قتيلًا مع آخرين يصل عددهم إلى ٣٠ (جيتلمان وشميت ٢٠٠٨). لقد صار الأمر كابوسًا بالنسبة إلى الصحفيين المحليين في الصومال أيضًا؛ إذ يكافحون لنقل الأخبار دون أن يفقدوا حياتهم؛ فقد قُتِل تسعة صحفيين صوماليين خلال عام ٢٠٠٧.
في هذا المقام، يجب أن ننصح الصحفيين الطموحين بأن يفكروا في العمل لصالح مثل هذه المجموعات بدلًا من العمل في المؤسسات الإخبارية التقليدية. إن كثيرًا من الصحفيين أصحاب المُثل العليا، ممن يريدون لعملهم أن يمثِّل وزنًا ويشكل فارقًا في العالم، ربما يختارون، لو أتيحت لهم فرصة الاختيار، العمل في «التغطية الإخبارية» لصالح هذه المؤسسات بدلًا من إمضاء حياتهم مرهونين بكمبيوتر في غرف أخبار رتيبة ومدركين أنه لن يصل من الأخبار الدولية المهمة إلى صفحات الجرائد أو فقرات البث سوى النزر اليسير.
إن التدفقات المعاصرة للأخبار الدولية تفوق تعقيدًا نظائرها في أي مرحلة من التاريخ. لا يمكننا تقييم حالة المراسَلة الأجنبية على النحو الذي اعتدناه لوقت طويل، وذلك بمجرد إحصاء عدد المراسلين الذين تنتدبهم وسائل الإعلام الكبرى إلى الخارج أو بإجراء تحليل بسيط للأخبار التي تغطيها كلٌّ من صحيفة ذا نيويورك تايمز، ومجلة نيوزويك، والقسم الإخباري بشبكة إيه بي سي. إن التفكير بطريقة مغايرة يعني إبداء أعراض ما أطلق عليه العلماء «متلازمة الصحافة المتمركزة حول الذات». (هاملتون وجينر ٢٠٠٣)
مراجع
جرِّب أن تتحدث هذه الأيام إلى كبار المسئولين التنفيذيين في مجال الإعلام — الإعلام المطبوع على وجه الخصوص لا الحصر — وسوف تسمع القصة الحزينة نفسها: إعراض الجماهير، وانهيار في مستويات الدخل، وهيمنة الإنترنت. يُردِّد المراسلون والمحررون الشكوى ذاتها؛ إذ يتحسرون على التراجع الحاد في الموارد المخصصة للتغطيات الإخبارية الجادة وانكماش المساحة المتاحة للأخبار، وذلك لصالح أخبار المشاهير والإعلانات والمواد البراقة التي تُحشى بها صفحات الجرائد. وعندما يصرح ناشر جريدة ذا نيويورك تايمز بأنه لا يمكن ضمان استمرارية الطبعة الورقية من جريدته — رغم أنه لم يكن جادًّا تمامًا فيما يقوله — فمن الواضح تمامًا أن الإعلام يعيش أزمة حقيقية.
كتب راسل بيكر مقالًا مؤخرًا في مجلة ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، قال فيه: «إن الصحافة الأمريكية تشهد مرحلة قاتمة. لقد دُمِّر عدد كبير جدًّا من الصحف الجيدة … لقد مُنِيَ أصحاب الصحف فيما يبدو بإخفاق في الإبداع المتعلق بريادة الأعمال، وهو الإبداع المطلوب للازدهار في تلك الحقبة الإلكترونية … ثمة شعور كئيب بأن الصحافة أصبحت شيئًا من الماضي، فهي تشبه عربة تجرها الخيول على طريق سريع عريض يربط بين الولايات» (بيكر ٢٠٠٧).
لكن أي إعلام، وأي أزمة؟ فبينما تتدافع المؤسسات الإعلامية الراسخة في الغرب، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، مُحاوِلة ترميم صحفها أو شبكات بثها، وتواصل تخفيض ميزانياتها وتسريح موظفيها؛ تشهد بقية العالم تحولًا بارزًا.
هناك طفرة صحفية، «هناك»، في الأسواق الناشئة وفي المناطق النامية، وحتى في تلك الدول التي تشهد أشد الأزمات وأقوى موجات العنف.
إن المشهد الإعلامي في أفريقيا وآسيا وغيرهما يشهد تحولًا بفضل الكوادر الجديدة والمؤسسات الجديدة والعقليات الجديدة كليةً المعنية بكيفية التواصل الداخلي والخارجي بشأن البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية. بل إن هذه العناصر الجديدة بدأت تتدارك القصور الواقع في أداء المؤسسات الإعلامية الغربية الراسخة فيما يتعلق بالتغطية الدولية — وإن لم يسمح لها هذا بعدُ بأن تحل محل تلك المؤسسات بالفعل.
لا تُمثل الجزيرة سوى قمة الجبل الجليدي، والجدل الذي أثارته ربما يشتت الانتباه عن توجُّه أعمق ليست تلك المحطة في واقع الأمر سوى نموذج له؛ فبدايةً من المحطات الإذاعية المحلية وانتهاءً بمزودي الخدمات الإخبارية عبر الإنترنت على مستوى القارات، ومن شبكات البث التليفزيونية المتنافسة إلى الصحافة الاستقصائية المتعمقة، ترسخ الصحافة المحلية أقدامها باعتبارها قوة جديدة تتمتع حقًّا بقدر متزايد من الموثوقية والمسئولية والإبداع. وحتى مع ما يواجهه الإعلام المحلي من ظروف بالغة السوء بدءًا من اقتصادات سيئة ووصولًا إلى ديكتاتوريات — أو مع كفاحه بكد أكثر بسببها في بعض الأحيان — فإنه يظل يصنع فارقًا. وربما يُعَد العراق بالفعل أول صراع رئيسي تُروى تفاصيله إلى حدٍّ كبير عن طريق تغطية أبنائه — والتي قد تحمِل أحيانًا أسماءهم — وهو ما يُعزى إلى العنف البدني الذي يمنع المؤسسات الإعلامية الغربية من نشر مراسليها هناك كما ينبغي.
إن «الإعلام الدولي» إذًا، بمفهومه الأوسع، أبعد من أن يكون في أزمة؛ فهو في طريقه إلى حقبة جديدة مثيرة. وربما يُعتبر بروز الإعلام المحلي كلاعب مؤثر في البيئة المعلوماتية العالمية أحد أهم التطورات في مجال وسائل التواصل وأكثرها إيجابية بالفعل في وقتنا الحالي.
(١) أصوات مستقلة في البلقان
يمكننا تتبُّع أصول الصحافة المحلية الناشئة حول العالم، وتتعدد أسباب ظهورها ما بين سياسية واجتماعية، ومهنية وتكنولوجية، واستراتيجية وغير استراتيجية.
لكن لكل قصة بداية، وعند تناول اتجاه واسع ومتعدد الأوجه كهذا، يكون اختيار نقطة البداية خاضعًا لا محالة للتقديرات الشخصية. عادةً ما يكون للصحافة، تمامًا كعلم الآثار، طابع زمني تاريخي، تُمثِّل الصراعات والأزمات فيه طبقات جيولوجية من التجارب والخبرات التي تشكل دوافعنا وصلاتنا، نجاحاتنا وإخفاقاتنا، ومِن ثَمَّ استنباطاتنا عن السياسة والحياة المهنية.
ككثير من الصحفيين المتوسطي الرتب، كانت البلقان هي التجربة التي أسهمت في تكويني الصحفي. لا يعني ذلك الانتقاص من عمل الصحفيين المحليين الآخرين ووسائل الإعلام الناشئة في أماكن أخرى، سواءٌ في بلدان أخرى تخلصت من النظام الشيوعي بأوروبا الشرقية أم خارجها. لكن يوغوسلافيا هي المكان الذي أدركت فيه القدرة والطاقة الاستثنائيتين للصحفيين المحليين، وهناك أيضًا أوجد الصحفيون المحليون لأنفسهم مكانًا على الخريطة للإسهام في الدفع قُدُمًا بحركة عالمية.
كان اتحاد تيتو الفيدرالي المنهار هو المكان الأمثل لتجربة استغلال الإعلام وسوء استغلاله، وكان صاحب هذه التجربة، للأسف، رجلًا تحوَّل من الشيوعية إلى الشعبوية، يُدعى سلوبودان ميلوسوفيتش، وما لبث أن سار على خُطاه غيرُه من غلاة القوميين في جميع أنحاء المنطقة دون أدنى تردد.
إن القصة، التي ترددت كثيرًا، بشأن زيارته المشئومة لإقليم كوسوفو الجنوبي الذي يحكمه الصرب كانت قصة إعلامية في المقام الأول. وقد أجريت عمليات مكثفة من البحث والتغطية تُشير إلى أن الحدث المفصلي — حين قدَّم ميلوسوفيتش دعمه للصرب المقيمين في الإقليم ذي الأغلبية الألبانية، صانعًا بذلك الأسطورة السياسية المحورية التي ستدفعه وبلاده لخوض ثلاث حروب ضروس — كان مخططًا له. ولم يتطلب الأمر سوى بضعة ترتيبات لتدبير مشاجرة في الشارع بين الشرطة الألبانية والصرب المحليين ليتمكن مسئول بارز طموح في الحزب الشيوعي في بلجراد، خلال جولة بدت في ظاهر الأمر مفاجئة، من التعهد قائلًا: «لن يجرؤ أحد على ضرب الصرب!» ليصير بين ليلة وضحاها مادةً سياسية مثيرة (كما اقتُبِس في كتاب ليتل ٢٠٠٦).
لكن ما لم يتوقعه ميلوسوفيتش على الإطلاق، فيما يبدو، هو الطريقة التي سيحظى بها الحدث بهذا القدر من التأثير عبر وسائل الإعلام؛ فبمجرد تصويره وبثه في بلجراد، نال أهمية سياسية هائلة.
كان الدرس واضحًا، وقد تعلَّمه على الفور. لم يكتفِ ميلوسوفيتش بضمان بث مقطع الفيديو باستمرار، ومِن ثَمَّ إرساء دعائم تفوُّقه، بل أدرك أيضًا حتمية السيطرة على شبكة البث الحكومية واستغلالها لتشكيلِ عقليةٍ قوامُها الكراهيةُ والعنف تجاه القوميات الأخرى. إن الإعلام الصربي، من خلال الدعاية والأكاذيب الفاضحة والاستغلال الماهر لأيقونة الخوف والوقوع ضحية لإيذاء الآخرين ذات الأهمية التاريخية لدى الصرب، نجح في تمهيد الطريق أمام جرائم حرب مستقبلية في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو؛ وهو ما أشار إليه مارك طومسون، مدير برنامج البلقان التابع لمجموعة الأزمات الدولية، في مرحلة مبكرة من الصراع باعتباره «صناعة الحرب» (طومسون ١٩٩٤).
تفجرت، ردًّا على ذلك، قوة أخرى — واهنة، ومشوشة، ومتعارضة مع ذاتها في كثير من الأحيان، لكنها في نهاية المطاف كانت تتطور، وتقوى شوكتها، وتترك أثرًا هائلًا داخل المنطقة وخارجها. هنالك في البلقان، كما هو الحال في أيِّ مكان آخر، تبلورت القوة الإيجابية للإعلام المحلي وبدت واضحة.
إن نظرة إلى الماضي ستخبرنا أن حقبة ميلوسوفيتش، مقارنةً بالوحشية التي تشهدها اليوم أجزاء كثيرة من العالم، كانت عصرًا ذهبيًّا للمنشقين والأصوات المعارضة. كانت هناك ممارسات قمعية وإغلاقات، وفرض لضرائب باهظة ومُصادرات جائرة واعتقالات، بل وبضع حوادث قتل. وبالرغم من كل ذلك، كان النظام يدير ما سمَّاه المعلقون الصرب «دكتاتورية ما بعد الحداثة»؛ فقد كان يُسمح بوجود بضع محطات إذاعية ومطبوعات معارضة، ما دامت شبكة البث الرئيسية في قبضة الدولة؛ أي كان يتيح بعض المظاهر الديمقراطية، شريطة ألا يكون له أي تأثير على قلب الدولة الذي يستمد منه ميلوسوفيتش الدعم الحقيقي.
«دكتاتورية، أنا؟» أتخيله وهو يسأل، بجاذبيته المخيفة الثملة، الدبلوماسيين الذين يزورون دولته، مشيرًا إلى صحف بلجراد متعجبًا: «هل تلاحظون كيف يعارضونني؟»
كان عددٌ قليل من الوسائل إعلامية والجماعات الحقوقية يعارضه بقوة حقًّا. نالت إذاعة بي-٩٢، تحت القيادة المتبصرة والمتواضعة في الوقت نفسه لفيران ماتيتش، النصيب الأكبر من الشهرة في هذا الإطار؛ إذ برزت كوسيلة إعلامية وحركة واستطاعت بعد سنوات طويلة أن تُنشِئ شبكة من المحطات الإذاعية المستقلة على امتداد صربيا، وهي التي ساهمت على نحوٍ مباشر في تدشين عمل مدني عُزِل من خلاله ميلوسوفيتش من منصبه في النهاية. وشكَّلت المحطة الإذاعية (بالاشتراك مع الحركة الطلابية)، على ذلك النحو، نموذجًا تحتذي به «الثورات الملونة» العديدة التي ستندلع في جميع أنحاء الدول الشيوعية السابقة خلال العقد التالي، كما نبهت الطغاة حول العالم إلى قوة المجتمع المدني.
لكن في أسوأ الأيام، بالنسبة إليَّ على الأقل، لم يكن هناك ما يعادل عمق وألمعية فريم، المجلة الإخبارية الأسبوعية الصادرة في بلجراد، وطاقمها الذي كان يضم ستايان تسيروفيتش كمحلل سياسي، وبيتر لوكوفيتش، ذلك «الديمقراطي الراديكالي» الذي يصعب كبح جماحه، وديان أناستاسييفيتش، المراسل الحربي الجسور، و«تشوفاكس»، الرسام الذي كانت الأغلفة التي يرسمها تعكس، أو تشكل على الأرجح، مزاج القلة المعارضة في بلجراد. كانت فريم تُمثِّل توجهًا مهنيًّا وملتزمًا حقيقيًّا، وقدرًا مقبولًا من الاعتداد بالذات، وكثيرًا من الموهبة.
كان أقرب زملائي خلال أغلب تلك الفترة هو ميلوس فاسيتش، الذي أطلق على نفسه المحلل العسكري لمجلة فريم، والذي شاركنا عملنا بمعهد صحافة الحرب والسلام مشاركة وثيقة. كان ميلوس ضابطًا سابقًا ذا صوت هادئ وقدرة لا تُصدَّق على تحمُّل الخمر، وكان صحفيًّا متمتعًا بأكبر قدر ممكن من الفطنة والتفاني؛ فقد اعتاد أن يختتم كل ليلة — مهما تأخر الوقت أو اشتدت به الثمالة — بتسجيل التقارير العديدة الحديثة على قاعدة معلومات إلكترونية، وحالما يجيء الصباح (بأحداثه العاصفة عادةً) يتحول كل شيء إلى مادة إخبارية.
لكن دور إذاعة بي-٩٢ ومفكري مجلة فريم لم يكن يقتصر على إبقاء جذوة الديمقراطية الصربية مُتَّقدة، وهي مهمة ليست بالهينة. فخلال صراع غاية في التعقيد، أسهمت مجلتا بي-إتش داني وسلوبودنا بوسنة في البوسنة وفيرال تريبيون في كرواتيا، والمشهد الإعلامي الحر المحدود، لكن الفَعَّال، في بلجراد إسهامًا لا يُقدر بثمن في تنمية التفاهم الدولي، وذلك بما كانت تتمتع به من جودة عالية، ووضوح في الرؤية، وإصرار عام.
رغم أن تلك الأصوات المستقلة لم تكن قادرة على الوصول إلى جماهير عريضة في مواطنهم والتأثير عليهم، فقد استطاع أصحابها أن يُحدِثوا فارقًا بفضل مطبوعاتهم، وجهودهم الشخصية في تقديم الإحاطات الإخبارية والتقارير، وفي بعض الأحيان أماكن لإيواء الأجانب، ومساعدة الإعلام الغربي مساعدة هائلة بكل طريقة ممكنة. وفي ظل قدر هائل من المعلومات المغلوطة والالتباسات — التي أسهمت الحكومات الغربية أيضًا بنصيب كبير في نشرها — لعبت وسائل الإعلام المحلية المستقلة في البلقان دورًا حيويًّا على نحو مباشر وغير مباشر في تفسير الصراع لبقية دول العالم. يمكن الزعم بأن دورها أسهم في تحوُّل كبير وناجح على نحو ما في السياسات المتبعة، وذلك بالانتقال الفعال من مهادنة ميلوسوفيتش مرورًا بالمواجهة وانتهاءً بإسقاطه، رغم أن مثل هذا الزعم سيعارضه البعض بالتأكيد (وبالطبع سيعارضه في بلجراد القليل ممن ينتمون إلى أي فصيل داعم للقصف الغربي لصربيا).
(٢) المنشورات الإلكترونية
تطورت ثلاثة عوامل رئيسية على الأقل، خلال هذه الفترة، للانتقال ﺑ «الحركة الإعلامية المحلية» إلى نطاق العالمية. لكن من المهم، مجددًا، التأكيد على اختلاف التجارب واللاعبين الفاعلين في المناطق المختلفة، وأن جميعها قدَّمت إسهامات، كثير منها تحقَّق بالتوازي بلا شك، غير أن أبرز الاتجاهات والدروس التي استفدتها أنا وغيري من البلقان كانت كما يلي:
أولها، بلا ريب، هو التكنولوجيا. شهدت بداية حروب البلقان ظهورًا متقطعًا لتكنولوجيا الإنترنت، لكن سنواتها الأولى اعتمدت في أغلبها على التليفونات، والفاكسات، وتكنولوجيا الأقمار الصناعية الباهظة، متى كان ذلك ممكنًا ومُيسر التكاليف. لقد كان من المستحيل تتبُّع الصحفيين المستقلين في سراييفو، وحتى لو استطاعوا بأعجوبة أن يكتبوا بالفعل منشوراتهم، فقد كانت محاولة الحصول عليها أشبه بكابوس. لكن بنهاية عقد كامل من الصراع، صار الجميع مرتبطين ارتباطًا وثيقًا ببريدهم الإلكتروني وهواتفهم المحمولة، وانتشرت المواقع الإلكترونية انتشارًا واسعًا، وأتاحت الوسائل التكنولوجية الحديثة الفرصة على نحوٍ متزايدٍ لتخطي الحدود والتحايل على الطغاة.
من العلامات البارزة في تلك المرحلة إغلاق النظام في بلجراد لمحطة بي-٩٢ الإذاعية وذلك في مرحلة معينة من التوتر السياسي. فسارعت المحطة الإذاعية ببث محتواها على موقعها الإلكتروني، وهو استغلال مبكر للغاية للبث الإلكتروني المسموع وبرهان على أنهم لن تُكمم أفواههم. قدمت الحكومة عذرًا واهيًا — يتعلق بانقطاع الإرسال بسبب الأحوال الجوية — ثم بعد فترة قصيرة عاودت الإذاعة بثها المباشر.
حقق معهد صحافة الحرب والسلام إنجازه الخاص: الاستغناء عن منشوره المطبوع (والذي لم يفلح قَطُّ في توزيعه كما ينبغي) واستبدال موقع إلكتروني به وأداء دور رئيسي خلال حملة كوسوفو التي اعتُبِرت أول «حرب إنترنت». بل واستحدثنا أيضًا قسمًا للتعليقات والآراء، غير أننا سرعان ما اضطُررنا إلى إغلاقه نتيجة لحجم الانتقادات المسيئة ذات الطابع القومي من كل الأطراف.
كتبت الصحفية الألبانية الشجاعة، ييركينا توهينا، خلال أول أسبوعين من القصف، عن تجاربها الشخصية وانفعالاتها وهي تنتظر مصيرها المحتوم على يد القوات الصربية بالنفي من بلدها أو ما هو أسوأ. ونظرًا للاهتمام البالغ بها، نشرنا كتابات توهينا على الموقع الإلكتروني وعبر قائمة بريدية إلكترونية، واشترتها منا على نطاق واسع صحف في بريطانيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها. كنا نراها كتابات جيدة صادرة عن شاهدة عيان، لكن يمكن القول بأنها كانت، من عدة أوجه، أول مدونة حربية على مستوى العالم.
إن كل هذه التحولات سمحت لأي وسيلة إعلامية بجمع الأخبار وإنتاجها ونشرها على نطاق واسع إقليميًّا ودوليًّا (وبعدة لغات) بسهولة أكبر وتكلفة أقل. غير أن هذا لا يعني أن جميع هذه التجارب كانت جيدة للغاية: فقد اشتُهرت مقدونيا، في مرحلة ما، بوجود محطة تليفزيونية خاصة بكل قرية. لكن الصعوبات التي كانت تواجه دخول مجال الأخبار وآليات نشر الأخبار، وربما الأهم على الإطلاق، كما اكتشف معهد صحافة الحرب والسلام، التكلفة المستمرة وصعوبة جمع المعلومات، وهي المهمة التي كانت في غاية المشقة، كل ذلك تراجع تراجعًا هائلًا؛ فقد صار بإمكان وسائل الإعلام المحلية والمعارضة الانتشار، والازدهار بالفعل في كثير من الحالات، داخل البلقان وعلى مستوى العالم بالطبع.
ثاني العناصر الرئيسية هو «تطوير الإعلام». حتى حين أشرح عمل مؤسستي الآن (وهو تدعيم وسائل الإعلام المحلية في مناطق الصراعات)، يبادرني أغلب الناس بنظرة غريبة للغاية، وكأنني قلت أعجب الأشياء وأبعدها عن الفهم، وكأنه عملية غامضة تستعصي على التصور.
يُعتبر قطاع تطوير الإعلام نفسه، في الحقيقة، حركة في طَوْر النضج حاليًّا، وحين عُقِد اللقاء التأسيسي لرابطتنا التي تشمل القطاع كله — والتي تحمِل اسم المنتدى العالمي لتطوير الإعلام — في العاصمة الأردنية عمان عام ٢٠٠٥، اجتذب ممثلين من ٤٠٠ مجموعة ومؤسسة إعلامية مختلفة من جميع القارات.
ومما يُحسب لقليل من المؤسسات، كالمركز الدولي للصحفيين، أنها بدأت في دعم الإعلام الحر حتى قبل انهيار حائط برلين. بينما انطلقت مؤسسات أخرى، مثل إنترنيوز، لممارسة أنشطتها في روسيا. غير أن الاختبار الحقيقي للقطاع كان بلا شك في البلقان؛ فعلى مدار عقد من الزمان، أنفقت هناك (ولا تزال تنفق ولكن بمقدار أقل بكثير) المجموعة الكاملة من المؤسسات المانحة الدولية، حكومية وخاصة، الملايين والملايين من الدولارات في محاولة لتحقيق السلام، والديمقراطية، والتنمية عن طريق الإعلام.
بدا، في بادئ الأمر، أن هناك شيئًا مثيرًا للشكوك حول الأمر كله؛ فما الغرض من إرسال ٥ آلاف دولار إلى مجلة في سراييفو، مهما كانت ممتازة، بينما القضية الحقيقية هي إخفاق الغرب في مواجهة المسلحين الصرب الكامنين فوق التلال والذين حولوا المدينة إلى حقل رماية؟
وُجِدت أخطاء أيضًا، لا سيما في المشروعات العملاقة «قليلة الجدوى» التي استهلكت مبالغ طائلة: «قارب السلام» في البحر الأدرياتيكي الذي لم ينجح في بث إرساله فوق مرتفعات الهرسك؛ وسلسلة وحدات الإرسال التي كان من المزمع نشرها حول صربيا والتي أصبحت قديمة من قبل أن يكتمل المشروع؛ وربما أشهر هذه المشروعات هو شبكة البث التليفزيونية «بيلتوفا» التي أُسِّست بعد انتهاء الصراع في البوسنة (ولذلك سُميت بهذا الاسم تيمنًا بالمندوب السامي الأول، السياسي السويدي كارل بيلت)، وتكلفت الكثير دون مردود كبير.
لكن هناك دروسًا مستفادة، على غرار أي تجربة تطويرية، وهي: تحرَّكْ تدريجيًّا وحافِظْ على تعاون واسع النطاق، وابدأ من أسفل إلى أعلى مرورًا بالتعاون مع الشركاء المحليين، وتجنُّب الإصلاحات السريعة للمسائل طويلة المدى.
إلى جانب ذلك، جرى تمويل قدر كبير من التدريبات الصحفية وغيرها من مبادرات بناء القدرات المهنية في جميع أنحاء المنطقة. وقد شملت الأنشطة التدريبية جميع الجوانب، بدءًا من المهارات الأساسية وانتهاءً بالأساليب المتخصصة، ومن الصحافة الحقوقية والاقتصادية وحتى الصحافة الاستقصائية وأبحاث الإنترنت. آثر عدد لا يُحصى من الصحفيين الغربيين التوجه إلى البلقان في مهام قصيرة وطويلة المدى للعمل كمدربين ومرشدين، وقد أعربوا عن سعادتهم بنيل فرصة ﻟ «رد الجميل» لزملائهم في البلقان ممن ساعدوهم كثيرًا. وربما كان بعض هؤلاء الصحفيين الغربيين أفضل من غيرهم، لكن النوايا كانت مخلصة. إلى جانب ما سبق، شملت هذه المبادرات أيضًا تقديم برامج تبادلية لصحفيي البلقان، يسافرون بموجبها إلى البلاد الغربية ويزورون شبكات البث والصحف، والجامعات، والمنظمات الحقوقية غير الحكومية.
يركز المنهج الذي يتبعه معهد صحافة الحرب والسلام على الخبرة العملية، والتوفيق بين التدريب والتوجيه، والتعلم أثناء التلمذة أو أثناء العمل؛ وذلك في سبيل إنتاج تقارير صحفية في ظلِّ دعمٍ مكثف وإرشاد فَعَّال. كانت واحدة من أبرز تجاربنا التي لا تُنسى هي تجربة ذلك الصحفي البوسني النحيل والمتوتر بعض الشيء، القادم من مدينة موستار. تلقَّى هذا الصحفي تدريبه معنا في لندن لمدة أربعة أشهر خلال أسوأ مرحلة من القتال المُروِّع الدائر في تلك المدينة المكلومة، ثم جمع (كما كان من المفترض) مهاراته وعلاقاته المكتسبة حديثًا و«رجع إلى مدينته». ما حدث كان عصيًّا على الاستيعاب؛ فقد نجح في القيام بعمله الصحفي طوال فترة الحرب ولوقت طويل بعدها.
لقد ضاق المانحون والمشاركون ذرعًا إلى حد ما ﺑ «الحلقات التدريبية» المتواصلة التي تُفضي إلى نتائج هزيلة؛ لذلك تحوَّل الاهتمام إلى أنشطة أخرى. هناك جهود متواصلة، في الواقع، لمراجعة فترة الاستثمارات هذه التي شهدها القطاع الإعلامي في البلقان وتقييمها. فهناك شعور، رغم الإنجازات الكثيرة التي تحققت، بأنه لم تتحقق بالفعل تحسينات مهنية مستدامة، والأهم من ذلك الشعور بأن الإعلام قد أخفق في حل المشكلات السياسية الجوهرية.
لكن الإعلام في البلقان، بوجه عام، يتمتع بطاقات عالية وقدرات أساسية، كما أن «خريجي» البرامج والمشروعات الكثيرة المعنية بتطوير الإعلام مضوا يقودون وسائل الإعلام ومؤسسات تطوير الإعلام وغيرها من المؤسسات والمبادرات التي يجب أن تستمر في البلقان لمساعدة المنطقة في المضي قدمًا خلال العقد المقبل. وحتى لو ظلت نتائج هذه المبادرات منقوصة وغير متسقة، فيبقى هناك تفهُّم تام لوظيفة الإعلام الأساسية — وهي المساهمة في المحاسبة والحكم الرشيد — داخل نطاق المنطقة ومن جانب المانحين الغربيين.
نشأت، في الوقت نفسه، عدة منظمات لتطوير الإعلام أو قويت من خلال أنشطتها في البلقان وغيره من المناطق التي تخلصت من الأنظمة الشيوعية، وذلك قبل توسيع نطاق عملها ليشمل البلدان التي تشهد تحولًا عن الشيوعية ثم التوسع دوليًّا لاحقًا، ابتداءً من آسيا وأفريقيا إلى منطقة الشرق الأوسط التي تحظى بالاهتمام الراهن. كما انتشرت الدروس المستفادة من تجربة البلقان، وجرى تنقيحها ومضاعفتها، نتيجة لتحدياتٍ مختلفةٍ وطاقات إبداعية جديدة في مناطق أخرى. يعني هذا أن هناك زخمًا ملموسًا.
ربما يتمثل العامل الثالث في انتشار أهمية الإعلام المحلي — ولعله أهم العوامل — في العلاقات وتقدير قيمة المعرفة والفهم المحليين.
يجلب أي صحفي محلي وجهات نظره وتحيزاته الخاصة، لا محالة، إلى عمله. لكن الصحفيين المحليين، في المقابل، يعيشون واقع مجتمعاتهم قلبًا وقالبًا، ويفهمونها أفضل من غيرهم بطبيعة الحال. لقد أثبتت فئة، على الأقل، من صحفيي البلقان أن المهنية تغلبت على «المشاعر القومية»، مما أسهم مِن ثَمَّ في بناء ثقة متزايدة عبر الخط الفاصل بين المنظور المحلي والمنظور الدولي، وذلك بفضل المهارات والخبرة المتنامية، التي اكتسبوا أكثرها خلال ما قد يُعتبر أفضل نشاط تدريبي على الإطلاق: العمل ﮐ «معاونين» لوسائل الإعلام الدولية. على أيِّ حال، مَن غير الصحفيين المحليين كان سيكرس كل ذلك الوقت في جميع هذه المناطق من أجل تغطيتها ونقل أخبارها كما ينبغي؟!
لا تزال وسائل الإعلام الغربية تستعين بمراسليها المتفرغين وغير المتفرغين في نقل الأخبار وتحليلها، ويبقى أغلب صحافة البلقان محل إشكال. غير أن المستويات المهنية تقاربت في بعض المجالات، ومن المؤكَّد بلا شك أن مقالات الرأي القوية المقدمة من مصادر محلية ستكون مُرحَّبًا بها بالفعل حاليًّا أكثر من أيِّ وقت مضى.
(٣) التدوين للجميع
إن جميع ما سبق من تطورات من شأنها أن تترك المسئولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الأمريكية الجالسين لتناول غدائهم في ميدان التايمز أو غرب شارع ٥٩ في حالة قلق وضيق. لقد أظهرت عدة دراسات أجراها معهد بوينتر وغيره من المعاهد تراجعًا في الموارد المتاحة للمراسلين الأجانب وتقلصًا في المساحة المخصصة للأخبار الجادة؛ فمدير مكتب أخبار واحد مخصص ﻟ «أفريقيا» لن يتمكن بمفرده من أداء المهام على الوجه الأوفى. ومن الأمور التي لاقت تعليقات كثيرة هو ما تقتضيه الأخبار المذاعة على مدار الساعة من بث مباشر دائمًا أمام الكاميرات، وهو ما يعني عدم وجود وقت في الحقيقة للقيام بالأنشطة الصحفية. لقد أتاحت مثل هذه التطورات المجال أكثر أمام الإعلام المحلي، بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية، التي تؤدي مهامَّ أقرب إلى مهام وسائل الإعلام هذه الأيام، مع تمتُّعها بموارد مرصودة لجهود البحث الجاد.
هناك ثلاثة تطورات أخرى أسهمت في خلق تلك الفرصة السانحة للصحفيين المحليين؛ فما شهده الغرب من انتشار هائل في الإعلام وأشكاله المختلفة قد قوَّض المفهوم القديم للشبكات الإخبارية باعتبارها الملاذ الذي يجتمع حوله الجميع؛ فالأمريكيون لم يعودوا يلتفُّون حول التليفزيون لتلقِّي جرعتهم الإخبارية اليومية من رموز إعلامية محل ثقة من أمثال والتر كرونكايت. لقد ولَّت تلك الأيام وحل محلها موجات من التحزب والآراء الشخصية؛ تحوَّل تأثير سي بي إس إلى تأثير سي إن إن، الذي تفوَّق عليه تأثير فوكس.
مع تحوُّل التليفزيون إلى منبر أكثر تحزبًا وتشبثًا بالآراء الشخصية — وهو بالمناسبة تطور سلبي غالبًا، لا كليَّةً — يشهد الإنترنت التحول نفسه، من خلال الفضاء التدويني. فقد صار الجميع الآن معلقين، وصار الإنترنت بمنزلة صفحة الرسائل الموجهة إلى المحرر (لكنها غير محررة). ولا شك أن بعضًا من هذا المحتوى الإلكتروني قد يرقى ليكون إسهامات مدنية لا تُقدَّر بثمن، بينما البعض الآخر (كما كان الحال في قسم الآراء والتعليقات الخاص بقضية كوسوفو الذي أسسناه منذ عشر سنوات) لا يتعدى كونه هراءً مثيرًا للاستهجان.
لكن في ظل مثل تلك الظروف، من له الآن أن يُشكِّك في مهنية أحد الصحفيين المحليين أو «موضوعيته» المزعومة، لا سيما لو نقل معلومات انفرد بها دون غيره أو أورد رؤية أو تجربة شخصية خاصة به؛ ففي مضمار المعلومات العالمي المتاح للجميع، يتمتع هؤلاء بحق الإدلاء بدلوهم، تمامًا كغيرهم.
لعب جيسون بلير دورًا أيضًا؛ فقد اضطرت صحيفة ذا نيويورك تايمز بسبب الأزمة الأخلاقية — التي تسبب فيها صحفيها جيسون بلير — الذي لم يكتفِ بتزييف الحقائق فقط، بل وكذب بشأن الموقع الذي زعم أنه أجرى فيه تقريره الصحفي — إلى وضع سياسة جديدة تتعلق بشفافية استقاء المعلومات (باري وآخرون ٢٠٠٣). وطالما عرف جميع العاملين في الوسط الصحفي أهمية المعاون و«الباحث» المحلي، الذي يؤدي أغلب مهام جمع المعلومات لأجل مدير المكتب أو المذيع أو المراسل المرموق، الذي يُنسب إليه العمل الصحفي في نهاية المطاف.
أما في ذلك العهد الجديد، فلا بد أن يتغير ذلك الوضع (ولو قليلًا على الأقل). أذكر التوجيهات التي تلقَّيتها من محرر مقالات الرأي لمنطقة الساحل الشرقي بأنه لا يفضل ظهور أكثر من اسم على المقالات (كنت أقدم مقالًا مشتركًا مع أستاذ جامعي بوسني) لأن هذا يشغل مساحة أكبر. أما الآن، فمن المعتاد أن تُذيَّل المقالات، حتى الإخبارية منها، بقائمة مطولة بأسماء الصحفيين الذين «أسهموا في إعدادها». ولم يعد الخط الفاصل بين مهام المعاون والصحفي واضحًا كما كان من قبلُ، وصارت أسماء «الكوادر المحلية» تجد طريقها، بطريقة أو بأخرى، إلى صفحات الجرائد، وذلك على نحو متزايد.
(٤) فوضى في بلاد الرافدين
انصهرت كل تلك التطورات في بوتقة العراق. مهما كانت وجهة نظرك حيال التدخل الغربي نفسه في العراق، فلا مراء في أنه يجب مساعدة هذا البلد على المضي قدمًا. يبدو أن الإعلام العراقي مهيَّأ لكي يشهد طفرة حقيقية، وذلك بالنظر إلى التجارب التي شهدها العقد الماضي في قطاع تطوير الإعلام ووجود طبقة مهنية عراقية يملؤها النشاط والحماس مستعدة للمشاركة الإعلامية.
في الأيام الأولى المثيرة التي أعقبت سقوط صدام حسين، انتشرت المطبوعات انتشار النار في الهشيم، وانطلقت المحطات الإذاعية في جميع أنحاء البلاد، وسجلت أطباق الأقمار الصناعية مبيعات ضخمة في محال بيع الأجهزة الإلكترونية في بغداد وغيرها من المدن العراقية؛ فبعد عقود حُرِم خلالها العراق من المعلومات الحقيقية في ظل حكمِ واحدٍ من أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، كانت البلاد على أهبة الاستعداد لتلقِّي الأخبار، وكانت المفاجأة.
إن استعراض المشهد الإعلامي العراقي على نحو مفصل يمكن أن يكون محل نقاش في موضع آخر. لكن من الغني عن البيان أن الانتشار الهائل في المنافذ الإعلامية لم تقابله طفرة مكافئة في الجودة المهنية، وذلك بالرغم من التطور الإيجابي للغاية الذي شهده الإعلام العراقي بوجه عام. إن الخطأ الأفدح على الإطلاق في هذا الشأن هو ذلك الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية التي استثمرت ما يقارب ٢٠٠ مليون دولار في إنشاء شبكة بث عامة أطلقت عليها شبكة الإعلام العراقي، وهو أمر لا يدعو إلى العجب. لكن المفارقة الحقيقية هي أن واشنطن اختارت لتنفيذ تلك الشبكة التعاقد مع متعهد دفاعي من فرجينيا معروف بنشاطه في نشر الأسلحة لا الأخبار، وكانت النتائج متوقَّعة بلا شك. لا يدري أحد أين انتهى المطاف حقًّا بنسبة كبيرة من تلك الأموال.
على الرغم من وجود كل هذه المهن الداعمة للإعلام الحر والديمقراطية، فلم يكن هناك بالفعل أي استثمار استراتيجي يُذكَر في الإعلام العراقي المستقل، مع إنفاق ٨٧ بالمائة من كل الدعم الإعلامي الدولي (حسبما أورد بحث صادر عن معهد صحافة الحرب والسلام) و٩٦ بالمائة من الدعم الممنوح من الإدارة الأمريكية على شبكة الإعلام العراقي، أما باقي الدعم فموزَّع على مشروعات متفرقة قصيرة المدى، هذا إلى جانب مقدار غير معلن من الدعم المخصص للعلاقات العامة والدعاية التي يوجهها الجيش الأمريكي. لقد كانت هذه فرصة مهدرة على نطاق هائل، لا سيما أنها جاءت بعد دروس كان من المفترض أن تتعلمها الإدارة الأمريكية من تجربة البلقان.
لكن كل شيء في العراق اختُزِل في الجانب الأمني في نهاية الأمر؛ فبحلول أغسطس ٢٠٠٧، لقي ما يزيد عن ٢٢٠ صحفيًّا وإعلاميًّا حتفهم في العراق؛ على سبيل المقارنة، فقدَ ٦٨ صحفيًّا حياتهم في الحرب العالمية الثانية و٦٦ خلال حرب فيتنام. إن هذه الأرقام مستمَدَّة من لجنة حماية الصحفيين (٢٠٠٤)؛ بينما تذكر مجموعات أخرى أعدادًا أكبر، اعتمادًا على إحصائيات مختلفة أو تعريفات مختلفة لكلمة «إعلاميين».
نتيجة لذلك، اضطرت وسائل الإعلام الغربية إلى الاعتماد على الصحفيين المحليين في العراق كما لم تفعل من قبلُ (تلقَّى كثير منهم تدريبهم من خلال برامج معهد صحافة الحرب والسلام)، وقد استجاب العراقيون لتلك الحاجة. إن مما يدعو للأسى أن هؤلاء يضحُّون بحياتهم في سبيل هذه المهمة؛ إذ يمثل الصحفيون العراقيون ٨٠ بالمائة من مجموع الصحفيين الذين فقدوا حياتهم في العراق حسب إحصائية لجنة حماية الصحفيين.
لكن العراقيين نجحوا في تمييز أنفسهم أيضًا؛ فقد وقعت الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام العراقية في شرَك الحزبية أو الطائفية؛ إذ أطلق كل حزب، ورجل أعمال، وزعيم ديني منصاته الإعلامية الخاصة وصار الفضاء العام يعكس فوضى من الجدل والحروب الكلامية.
اتضحت لمنظمتي أهمية ذلك المزيج المكون من التفاني والمهارة في شهر يونيو، وذلك عند اغتيال زميلتنا سحر حسين الحيدري خارج منزلها في أحد شوارع الموصل. كانت سحر مراسِلة صحفية وإذاعية، وقد عملت لعدة مطبوعات محلية، ووكالة أخبار عراقية، ومعهد صحافة الحرب والسلام، كما أنها كانت العائل الرئيسي لأسرتها. كانت سحر أيضًا تعاني صراعًا عميقًا؛ إذ كانت تشعر في بعض الأحيان بحاجة ماسة إلى مغادرة البلاد، وذلك حين أُدرج اسمها على قائمة المطلوبين لتنظيم القاعدة، لكن في أحيان أخرى كانت تنتابها رغبة جارفة لمواصلة عملها الصحفي إلى حدِّ أنها عادت إلى العراق دون أن تخبر أحدًا من محرريها القلقين عليها.
قالت سحر، قبل بضعة أشهر من اغتيالها: «إن حالتنا النفسية غير مستقرة نظرًا لأننا نعيش ونفكر في خوف وقلق، ودائمًا ما نفكر في مصيرنا ومصير ذوينا. لكنني لم أفكر قَطُّ في الاعتزال، فالصحافة هي حياتي، وأنا أحبها حقًّا.»
(٥) فكِّر عالميًّا وتصرف محليًّا
لقد سيطر الإطار العام للحرب الباردة، فيما قبل عام ١٩٨٩، على الإعلام والسياسة على حد سواء، كما خلق شعورًا ما، ولو كان غير منصف، بالهيمنة الشديدة للأجندات الإخبارية الغربية، والأمريكية بالأحرى. فلو لم تُشر صحيفة ذا نيويورك تايمز إلى الحدث، فإن هذا يعني أنه لم يحدث بعدُ، كما أن القيم الإخبارية المزعومة — ١٠٠ فلاح يساوون ١٠ قساوسة وهو ما يساوي أمريكيًّا واحدًا — كشَّرت عن أنيابها. لقد بُذِلت جهود مشرفة لتعزيز التغطية الإخبارية من دول العالم النامي — مجلة ساوث ووكالة إنتر برس سيرفيس — وكان هناك مبرر منطقي للبيئة الإعلامية العامة، وذلك في سياق الصراع ثنائي القطب بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، رغم أن الكثيرين منا كان يبغضها.
لقد اختلف العالم الآن اختلافًا كاملًا، لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. تُمثل الولايات المتحدة الأمريكية الآن «القوة العظمى» الوحيدة، لكن القوة الحقيقية تمتد على نطاق أوسع ولم يعد هناك وجود لرواية سياسية غالبة. وصارت الأخبار المحلية أكثر تعقيدًا عن ذي قبلُ، وربما أكثر أهمية، كما أثبت أسامة بن لادن. وفي الوقت الذي يتغير فيه هيكل البيئة الإخبارية الغالبة تغيرًا جذريًّا، صارت الحاجة إلى المعلومات المفصلة من جميع أنحاء العالم أكثر إلحاحًا من أيِّ وقت مضى.
لذلك فإن الانتشار الهائل في الإعلام المحلي جدير بأن يلقى الترحيب، لا الخوف. وسوف تجد شبكات البث ووسائل الإعلام الغربية طريقًا للبقاء على الساحة والمحافظة على هيمنتها، رغم كل التغيرات. وستبقى جودة رويترز، على سبيل المثال، وأهميتها أفضل إمكانياتها، وستكون مطلوبة دائمًا.
كما أن الإعلام المحلي لا يزال يعاني مشكلات جسيمة؛ فالصحافة في زيمبابوي تكاد تكون محظورةً قانونيًّا على أي شخص يسعى للعمل بمهنية والتغريد خارج سرب الحزب الحاكم، أما في إيران، فإن ممارسة الصحافة النقدية تنطوي على مخاطر تتراوح بين السجن، والضرب، والشنق علنًا.
يخالف معهد صحافة الحرب والسلام أسلوب «المبالغة في التدريب النظري الممل»، حيث نعمل مع آلاف من الصحفيين المحليين وأعمالهم الصحفية، ونرى كلًّا من قدراتهم ونقاط ضعفهم. إن هناك حاجة دائمة لتعزيز المهارات الأساسية وتحديثها، كما تبرز دائمًا أهمية الموضوعات المتخصصة. ولا شك أن المخاوف المالية لوسائل الإعلام الرئيسية غالبًا ما تتضاءل إذا ما قورنت باستحالة خلق إعلام محلى «مستدام» في بلدان لا تملك اقتصادًا فاعلًا.
إلا أنه، ورغم كل هذه المعوقات، هناك تنامٍ في مشهد إعلامي محلي نابض بالحياة. ربما تتفاوت الأساليب بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وباقي الدول الأوروبية، كما ستوجد مناهج مختلفة حول العالم لعرض المادة الإخبارية. فليس على الجميع الاقتناع بضرورة ألا تتجاوز الفقرات الافتتاحية في المقالات الصحفية ٢٥ كلمة، لكن يمكن الإجماع على مفهوم المعايير الدولية والأعراف الأخلاقية والصحفية الأساسية، كما أن ثمة تزايدًا سريعًا في عدد الجهات الموثوق فيها والمحترمة التي تضطلع بجمع الأخبار والمعلومات ونشرها.
لعل أهم ما أسفرت عنه كل هذه التطورات هو ببساطة ما تحقَّق من تغيُّر في التفكير: تراجع مفهوم الفصل بين «الصحفي الدولي» (أي الأمريكي أو البريطاني) مقابل «الصحفي المحلي»؛ فالمهم هو المعلومات، وما ينبغي الاحتفاء به حقًّا هو من يصل إلى تلك المعلومات وما يوظفه من أساليب متعددة لجمعها، وإنتاجها، ونشرها. إن الجودة والالتزام هما كلمة السر، لا جنسيتك أو جنسية من تعمل في مؤسسته.
كانت آنا بوليتكوفسكايا أكثر مؤرخي المأساة الشيشانية الطويلة اطلاعًا وتفانيًا. إن جودة عملها، والطبيعة النقدية اللاذعة التي اتسمت بها رؤاها، والالتزام الذي أبدته في أسفارها مُعرِّضةً نفسها للخطر وذلك في سبيل التحدث إلى الناس العاديين القاطنين في ذلك الإقليم المتنازع عليه؛ كل هذه الأمور تتحدث عن نفسها. لم يكن أحد ليقدر — أو، بالنظر إلى المخاطر المحدقة، ليُقدم — على مواصلة نقل الحقيقة من هناك كما فعلت آنا، ولولا ما قامت به، لكانت الشيشان بالفعل لغزًا غامضًا. لقد انهالت على آنا الجوائز الصحفية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، غير أن المكان الوحيد الذي لم تحظَ فيه بالتقدير كان موسكو، حيث اغتيلت في النهاية في خريف عام ٢٠٠٦.
في خضم السخط والأسى الذي أعقب وفاتها، حظيت آنا بإشادة واسعة حول العالم، ليس باعتبارها مراسِلة «محلية»، أو ناشطة، أو شخصية انخرطت «أكثر من اللازم» في الشأن الشيشاني، بل لِما كانت عليه في الواقع؛ فقد كانت واحدة من أعظم صحفيي جيلها على الإطلاق. لا توجد شهادة أفضل من تلك.
أسئلة يُجيب عنها الطالب
(١) هل ماجي أوكين محقة فيما قالت؟ هل حان الوقت للمؤسسات الإخبارية «الغربية» أن تكف عن إرسال مراسليها الدوليين لتغطية الأخبار في مناطق الصراع الخطرة، حيث من الأفضل، لدواعي السلامة أو لأسباب ثقافية، الاستعانة بمراسلين محليين ملمين باللغة ولديهم إمكانية الوصول إلى المعلومات بخلاف «الأجانب»؟ أم هناك حاجة دائمة للمنظور الخارجي المستقل الذي يقدمه المراسلون الأجانب المدربون ممن يُضْفون على القصة الإخبارية من الخبرة، والسياق، والرؤى الجديدة ما قد لا يتمتع بها المراسلون المحليون لأسباب عديدة؟
(٢) كيف زادت التكنولوجيا والإنترنت من خطورة عمل الصحفيين المحليين لحساب المجموعات الإعلامية الدولية؟
(٣) ما المسئوليات التي تتحملها المؤسسات الإخبارية الدولية تجاه المراسلين المحليين غير المتفرغين أو المستقلين في حال لحق بهم مكروه؟
(٤) ما الصعوبات التي يواجهها الصحفيون المحليون في مهامهم الصحفية اليومية، لا سيما في مسعاهم لنقل الأخبار التي تكشف قضايا الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان؟
(٥) أيمكن حقًّا للمنظمات غير الحكومية/الصحفية مثل معهد صحافة الحرب والسلام، أو هيومن رايتس ووتش، أو مجموعة الأزمات الدولية أن تتمتع بالاستقلالية الحقة بينما تعتمد على تبرعات المانحين وتميل إلى التحيز متى كان ذلك ضروريًّا؟