الجمهورية المثلى
نبدأ بتحديد معنى كلمتَي «جمهورية» و«مثلى». فأمَّا كلمة «جمهورية»، فهي منحوتة من جم (الجم الغفير) جهر، فتعني المجتمع الذي يُفصح أعضاؤه عن رأيهم في إدارة الشئون العامة جهارة. وكلمة «جمهورية» مماثلة بالتكوين والمعنى لكلمة «ديمقراطية»؛ هذه منحوتة من كلمتَين يونانيتَين، فتُفيد المجتمع الذي يُدير شئونه بنفسه. والاختلاف في تلوُّن المعنى بين كلمتَي «جمهورية» و«ديمقراطية» يرجع إلى الاختلاف في البنية بين العرب واليونان؛ فهؤلاء يتصف تفكيرهم بالتأمُّل في الأشياء الطبيعية، وعندهم المعرفة تستقل عن العمل، وأولئك تتجه تأمُّلاتهم إلى الأمور الوجدانية، وعندهم المعارف الإنسانية تنزع حيةً إلى العمل. واتصاف مفكريهم بالأنبياء يُشير إلى سبر أغوار الوجدان، كما تُشير كلمة حكيم عند أعلام اليونان إلى التأمُّل في الطبيعة وفي مظاهرها. وكلمة «واجب» في اللغة العربية تدل باشتقاقها من «وج» على معنى الانبثاق، انبثاق الحالة الوجدانية من النفس نزَّاعة إلى استكمال شروط حقيقتها بالعمل.
ونحن نعني بكلمة «مثالي» المعنى ورد في الآية: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي معنى الكمال وفق تكوين كلمة «كمال» نفسها. كمُل من كُم الزهر، وحرف «ل» الملحق ﺑ «كم» يُفيد هنا معنى النمو. فالكمال هو إذن مستوحًى من صورة بُرعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة. ونحن إذ نُفرِّق بين دائرة مرسومة على اللوح، وبين تعريف الدائرة الذي يبنيه العقل بناءً سليمًا، نُشير بهذا التفريق إلى الاختلاف بين الواقع وبين آيته المثلى. والمعنى المختار هذا للمثل الأعلى يُوفِّر على الذهن عناء حل مشكلات لا طائل للعقل من تحتها، ألا وهي المشكلات التي تنجم عن افتراض عالمَين، أحدهما عالم الوقائع، والآخر عالم المثل، كما فعل أفلاطون.
وبناءً على ما تقدَّم، فالجمهورية المثلى هي دولة مستكملة شروط كِيانها، دولة قد بناها العقل متحرِّرة من كل شائبة، كما يبني تعريف الدائرة، وذلك بالاستجابة للعلاقات القائمة بين أعضاء الهيئة الاجتماعية.
وفي الحقيقة أن الدولة صورة (مع ما تتضمَّن كلمة صورة من صيرورة) لآية مثلى، تنبثق من النفس كاستجابة للتعاطف الرحماني بين الإخوان (أعضاء المجتمع)، وبينهم وبين الأوضاع العامة. مثل آية الدولة كمثَل الرشيم (الخلية المولدة)، الذي يتضمَّن كاستعدادات مستقبل الكائن الحي. ونظرًا للشبه في التكوين بين الكائن وبين المجتمع، اشتق الذهن العربي كلمتَي «عقيدة» و«عقد الجنين» من ذات المصدر. فكأن الأمة في الحدس العربية بداية حياة جديدة، بل تجرِبة رحمانية من صميم الوجود.
ولمَّا كانت التجارِب الرحمانية تتفاوت في العمق من قوم لآخر، فقد أصبحت الأمم مختلفة التكوين؛ بعضها يتميَّز عن بعض في الرفعة. ويُقاس عمق التجرِبة الرحمانية بوضوح المعارف المتعلِّقة بالشئون الإنسانية. والأمم في هذا المضمار يختلف بعضها عن بعض اختلاف الشباب عن الشيخوخة؛ فريق يتلمَّس طريق المثل الأعلى، وفريق يستقر فيه المثلى الأعلى. ومن هنا كان التفاوت في استقلال الأمم وفي شدة نزعتها إلى أداء رسالتها، شدة متناسبة مع عمق أغوارها. وليست الدولة إلَّا حقيقة الأمة مستفاضة أمنية، يدأب الأبناء على تحقيقها، حتى إذا ما غارت بتأثير الهجانة والإهمال قواعد ثقافة الأمة في بنية أبنائها؛ استحال المواطنون إلى رعاع يلبسون لكل حالة لِبوسها؛ وعندئذٍ يُصبح مَثَلُهم كمثَلِ الدواجن التي تُربَّى على المزابل، لنفاد القدرة التي كانت تُنبت ريشها، فترفع بها إلى الأجواء العالية، بل عندئذٍ يُصبح مَثَلُهم كمثَل حبَّات عنب قد انفرطت من عنقودها، فلم تعد تصلح إلَّا للدوس تحت الأقدام. وقد يُنشئ الرعاع قوقعةً تُعوِّض لهم عن الهيكل العظمي المتضائل في الصميم، حتى يُصبحوا كالديدان التي تبقى إلى ما بعد انقضاء دورها الجيولوجي إلى أدوار أخرى، ولكن الحياة تفقد فيهم حكمة وجودها.
وفي الواقع إن الدولة جهاز من الوظائف، يتبلور كلٌّ منها في مؤسَّسة اجتماعية. والوظائف تتفاوت في الأهمية بالنسبة لما لها من تأثير على كِيان الأمة، كما أن كلًّا من مراتبها يستلزم شروطًا حياتيةً مناسبة، مع منزلتها من حيث إعداد المواطن للقيام بها، ومن حيث نمط المعاش الذي يُساعده على البقاء على مستوى المهمة. ولمَّا كان المجتمع يقوم على الأخوة وعلى نظام من الوظائف المختلفة في النوع والمتفاوتة في الرتب، فقد استلزم ذلك أمر إقامة شروط عامة متساوية بين الإخوة، يكفل بها كلٌّ منهم كرامته الإنسانية، وشروط خاصة تُساعده على إبلاغ مواهبه واستعداداته حد كمالها في خدمة الأمة.
ولمَّا كانت الدولة ذات بنيان رحماني مثالي، فقد أصبح أفرادها متكافلين بالمصير تكافل أعضاء الجسد، يقوم كلٌّ منهم بالدلالة للآخرين في حدود علاقة اختصاصه بالمصلحة العامة.
وبناءً على ذلك، فإن الدولة الصالحة تراعي مبدءَين؛ مبدأ تكافئ الفرص، ومبدأ العدالة الاجتماعية، أي إقامة شروط متساوية في إعداد المواطنين للحياة العامة. وخلق الانسجام بين الحقوق والواجبات، وذلك يستلزم أوَّلًا إعداد المواطنين على التعاون من أجل إنشاء البيئة بما يُساعد الحياة النمو والازدهار من جهة، وإعداد كلٍّ من الأعضاء لأن يستوفي شروط الحياة السياسية من جهة ثانية، وذلك جعله ذا بصيرة نيِّرة في الشئون الإنسانية، وذا شكيمة يشد بها أزر إرادته في إخضاع الميول والأهواء للحق وللمصلحة العامة.
ولكن الدولة التاريخية تقصر عن مثلها كما يقصر الإنسان عن الأمنية التي يصبو إليها. وهل يستنفذ الواقع المثل الأعلى؟ فإذا كانت القصيدة وعناصرها في متناول الذهن لا تستوفي شروط إلهامها، مهما بلغ الشاعر من قوة البيان، فكيف بواقع الدولة وعناصرها خارجة عن إرادة الإنسان أن يُجيب بصدق كل الصدق على مثالها؟ إن الحياة تستعين بالصيرورة القائمة على ظرفَي المكان والزمان على استجلاء الحقيقة الخالدة (من خلد بمعنى استقر)، بينما الحقيقة ذاتها تتحدَّى بطابعها البذيء كل إيقاع في العبارة.
إن الدولة كتجرِبة إنسانية تقوم بأعضائها الأفراد، ووسيلة إدراك الفرد للأوضاع العامة وللتعاطف بينه وبين أعضاء الهيئة الاجتماعية هي العبارة، فإذا زاغت العبارة أصبح الحدس في مقوِّمات الحياة العامة مبهمًا باهتًا، بل أصبح الذهن وكأنه يرى الحقائق مصدر الدولة من وراء ضباب. ومتى كان الحدس غامضًا تردَّدت الإرادة وتاهت عن قصدها. وأسطورة بابل تدل على تقصير الناس عن التفاهم والتعاون على إدارة الشئون العامة. وعندئذٍ تعصف الأهواء في المجتمع، كما تعصف الرمال في البراري التي جف نباتها.
وبعد أن أسهبنا في الكلام عن الانحراف في الدولة، نتناول الناحية الإيجابية لموضوع بحثنا. كنت قد أشرت في مكان آخر من هذا الكتاب إلى أن الدولة هي شخصية الأمة الواعية. وكنت قد بيَّنت في كتابي: العروبة حرية ومروءة، أن الأمم على مثال الأحياء، تختلف فيما بينها من حيث العمق، بمعنى مقدرة أبنائها على سبر أغوار الوجود، ومن حيث الاستقلال عن ظروف البيئة، بمعنى مدى نفوذ أبنائها في نسيج الطبيعة واستخدامها لمآربهم في الحياة. وإن الأمة عقيدة تُفصح عن ذاتها بمؤسَّساتها (لغتها، وعرفها، وآدابها، وفنونها … إلخ). إخضاع الحياة المنعقدة على الرشيم بنموِّها جسدًا مؤلَّفًا من أعضاء ذات وظائف متمِّم بعضها لبعض. وكما أن الإلهام المنبعث من النفس يدعو الفنَّان إلى إنشاء الصورة (قصيدة، أو أنشودة فنية … إلخ)، يُفصح بها عن ذاته ويُحقِّقها، فكذلك الأمة كمعنًى تدعو أبناءها إلى إقامة دولة بها تتحقَّق. مَثَلُ الدولة في تطوُّرها من طور العرف العفْوي إلى طور الشريعة المتلورة في مؤسَّسات حكومية واعية لأغراضها ومراميها، كمثَلِ الإنسان في انتقاله من السليقة إلى الإرادة المستنيرة المالكة لزمام الميول والأهواء. وإذا ما انعقدت عليه الحياة تستفيض عند الإنسان أمنية يدأب على تحقيقها. وإذا هو يُنشئ من ذكرياته وآماله شخصيته على ضوء الأمنية، فإن الأمة هي أيضًا تتجلَّى في نفوس أبنائها عبقريةً تدعوهم إلى إيجاد الدولة التي بها تتحقَّق، وهم بهذا التحقُّق يرتقون إلى المثَل الأعلى.