الانحراف في الدولة
كانت مشكلة الرعاع والمواطنين تُطرح قديمًا على صورة عبيد وأحرار. وإذا اختلف المعاصرون عن الأقدمين في التعبير عن مشكلة الرعاع والعبيد، فإن مرجع الاختلاف إلى تطبيق العوامل التي تشترك في رفع قدر الإنسان، ومن هذه العوامل العلم بصورة خاصة.
كانت الأديان السماوية قد أقرَّت مبدأ الأخوة في الإيمان إلى جانب مبدأ الأخوة في النشأة (أسطورة آدم). وكانت الفلسفة قد اتخذت العقل صفةً أساسية للإنسان، خاصةً به ومميِّزةً له عن الأحياء الأخرى، وذلك ما يجعل الناس متساوين في المبدأ.
وأمَّا العلم فقد جعل أمنية المصلحين والفلاسفة في إقامة مجتمع قوامه الأخوة الإنسانية فوق كل شبهة، وذلك بتقدُّمه الدائم في اكتساب الحقائق، وبانتشاره بين جميع الأوساط، مؤكِّدًا بهذا التقدُّم مبدأ أهلية الإنسان للحرية، حريته في تنظيم سلوكه، وحريته في الاشتراك مع إخوانه أعضاء المجتمع في تنظيم سلوك الدولة.
ومع ذلك يتساءل المرء كيف اتخذ الإنسان ابن جنسه الإنسان الآخر كأداة، رغم ما جهَّزت به العناية البشر بعاطفتَي الرحمة والعدالة؟ ويتساءل المرء كيف تنازل أحد الناس للآخر عن كرامته وعن مقوِّمات إنسانية فأصبح له عبدًا ومطيةً لمشيئته؟
إن كلمتَي «عربي» و«عجمي» تدلَّاننا على بداية ظهور الكارثة في تاريخ بني الإنسان؛ فالكلمة الأولى تتضمَّن معنى الإفصاح، والكلمة الثانية معنى المغلق المبهم، أعرب المرء عن نفسه: أفصح عنها وأبان.
وكلمة «عربي» نفسها مشتقة من أرومة «عر»، بمعنى صات عر الظبي صات. وكلمة «أعجمي» ترجع بالاشتقاق إلى «عج»، ومنها العجاج أي الغبار الذي تُثيره الماشية. وهكذا تُصبح كلمة «أعجمي» متقاربةً بالمعنى من كلمة بيهم المشتقة من الإبهام. وقد جهَّزت العناية الأحياء بالبوادر (العبارة) كأداة تتجسَّم بها المشاعر وتنتقل في حدود النوع، وتنتقل حيةً إلى الآخرين. والصوت هو بادرة من بوادر الشعور في الهيجان، فلو لم تبعث البادرة بمعناها وبالشعور الذي يكتنف المعنى؛ لما حصل تفاهم بين الإخوان، ولما حصل فيما بينهم تعاون على درء الحيف، بعضهم عن بعض، وهل لغة الكلام إلَّا امتداد للغة الظواهر الطبيعية في الهيجان؟
ولكن مبدأ موائمة الحياة لبيئة طبيعية متنوِّعة أدَّى إلى الاختلاف في العبارة بين الأحياء، بحيث استغلق على أحد الأنواع ما يجول في سريرة النوع الآخر.
وكذلك الأمر بين بني الإنسان؛ يبقى وجه الزنجي مغلقًا على الصيني، كما تبقى اللغة الصينية مغلقةً على الذهن الزنجي. إن بُعد الشُّقَّة بين أداة للتفاهم وأخرى من دواعي انحجاب مشاعر الرحمة بين الأقوام. كما يُؤدِّي الاختلاف بين الأنواع الحيوانية إلى افتراس الأقوى للأضعف.
فضلًا عن ذلك فإن الإنسان يتميَّز عن الحيوان بمزايا أهمُّها الحرية. فبعض الحِكَم تُفصح عن حدس الإنسان في إنسانيته، في مقوِّمات طبيعته الخاصة. ومن هذه الحِكَم وأكثر ثباتًا على الدهر هي: إن الإنسان قد خُلق على مثال باريه الإله، وإنه تاج الخليقة، وإنه خليفة الله في الأرض. والحدس مستوحًى من حقيقة هي أن الإنسان يبني عالمه، بينما الحيوان يعيش طبيعته، يتلقَّاها جاهزةً منذ الولادة. تقوم الحياة عند الحيوان على غرائز أغراضها معيَّنة محدَّدة، بحيث يبقى الكائن يدور في دائرة مغلقة، بينما الإنسان يتمثَّل الأشياء صوَرًا ذهنيةً تخضع لمشيئته، من حيث ظهورها في ساحة الوجدان أو أفولها عنه. وبإخضاع المرء التصوُّرات لإرادته، يُصبح هو ربًّا من الأرباب. وإذا هو ساير مقتضيات الحوادث الطبيعية في إنشائه الآلة؛ جعل البيئة طوع بنانه. وإذا هو راعى العناية في إنشائه التصوُّرات المتعلِّقة ببنيته؛ استجلى كنه ذاته أوضح فأوضح. هكذا ينفذ الإنسان بخيال ينسجه إلى صميم الطبيعة، فيُغيِّر مجرى حوادثها وفق غاياته. وهكذا يُعيِّن الإنسان بخيال ينسجه سلوكه، فيشترك مع العناية في مصيره.
ولكن إذا كان الإنسان يرتفع بالإرادة الحرة إلى منزلة الرب السيد للبيئة، فإنه بهذه الإرادة الحرة يحجب التعاطف الرحماني بينه وبين إخوانه إذا هو شاء؛ وعندئذٍ يُعامل بني جلدته وكأنهم شيء من الأشياء.
وميزة أخرى يتميَّز بها الإنسان عن الحيوان، وهي العقل. يتمثَّل الإنسان المستقبل في الحاضر، كتمثيل الغاية والوسائل المؤدِّية إليها في وحدة إدراك. في هذا التمثيل يُقدِّر الإنسان حدسًا الجهود المطالب بذلها من أجل بلوغ الغرض. في هذا التمثيل يكمن سر الاختلاف في البنية بين المروءة وبين التطفُّل على الآخرين، بين ذي الطبع الكريم وبين ذي الطبع اللئيم. فإذا كان الذهن ينزع إلى اقتحام الصعوبات وما يُرافقها من تعب وخطر في سبيل الهدف، فإن صاحب هذا الذهن امرؤ من بناة الوطن. وكلمة «امرؤ» المشتقة من المروءة هي الكلمة التي اتُّخذت بمعنى مواطن عند الشعوب اليونانية-الأوروبية. وأمَّا المتطفِّل فهو ذاك الذي تخور عزيمته أمام المصاعب والأخطار، فيلجأ إلى الآخرين في بلوغ الأرَب، وقد يبلغ المتطفِّل حد اللؤم إذا أغلق — عند اختيار الوسائل — قلبه دون التعاطف بينه وبين أخيه الإنسان، فاتخذه كأداة. حالة شاذة يشترك في مسئوليتها المستغِل والمستغَل، لؤم الأول ونذالة الثاني. وليس الاستغلال (الاستثمار) والعبودية إلَّا نتيجةً من النتائج المؤسفة للحالة الشاذة.
وما الفرق بين العبيد والرعاع؟ كانت كلمة «عبد» تُقابل كلمة «حر». والكلمتان تُوحيان التضاد بين القيد والانطلاق؛ فالعبد مُقيَّد، مفروضة عليه قواعد الحياة. والحر منطلق على سجيته، يُمارس الحياة المنبعثة عن صميم كِيانه. في العبودية ضمور وتعاسة، وفي الحرية ازدهار ومسرَّة.
ولكن المسئولية في العبودية لا ترجع بكُليتها إلى العبد؛ فقد يخون الحظ الحر فيُصبح عبدًا، كما وقع لأفلاطون قمة الفكر البشري حين أُسر فبيع عبدًا. ولمَّا كان للصدفة شأن في العبودية، فقد ثار عليها الوجدان البشري.
وأمَّا الرعاع فيُقابلهم السيد. وكلمة «سيد» تعني معنى الحماية، حماية الحقوق. والصورة الحسية للسيد هي الأسد المشتقة هي والسيد من ذات المصدر؛ فالرجل سيد إذا حمى حقيقته (عشيرته)، والسبع أسد إذا حمى غابته. وإذا قصَّر الرجل عن حماية حقيقته أسود، أي اعتراه لون الحقد والحقارة. والرعاع هم أولئك الذين يتخلَّفون عن ممارسة حقوقهم، فيُصبحون كالوحل الذي يلتصق بأقدام السبَّاقين من المارَّة دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الإبداع. مثَل الرعاع في تخلُّفهم عن ثقافة أمتهم كمثَل حب العنب الذي يفرط من العنقود، فلا يصلح إلَّا للدوس بالأقدام. مثل الرعاع في ترديهم كمثَل الحيوانات التي تحوَّلت عن ذات الهيكل العظمي إلى القوقعية، إنهم يلبَسون لكل حالة لَبوسها.
(١) العبيد والرعاع
الحياة بأهدافها. على قدر ما يكون الهدف ساميًا تكتسب الحياة بهاءً وسناءً. إن كل امرئ تعرَّف على حياة المسيح أصبحت هذه الحياة قدوةً له ومثالًا. وقد نبَّه القرآن إلى حياة تنضب فيها معين المعرفة؛ تُصبح من سقط المتاع (أرذل العمر). وهكذا يلتقي قطبا دِيانتَي المسيحية والإسلام في إقرار هذه الحقيقة: إن الحياة لا تُقدَّر بعدد السنين من عمر صاحبها، بل بسمو أهدافها التي تسعى إلى تحقيقها. ولو ما تسعى إليه الحياة البقاء، حفظ التوازن في القوى؛ لظلَّت عاكفةً على الأشكال الابتدائية، حيث يُهيمن نوع ذي التوازن المستقر في علاقته مع البيئة، إلى النوع العالي المهددة علاقاته بالخطر بنسبة تشعُّبها، لو لم تتوخَّ الحياة في تطوُّرها الارتقاء من الغامض المبهم إلى الواضح الزاهي. وقد عبَّر شاعرنا المتنبي عن قصد الحياة بقوله:
وكيف تخلَّى الإنسان عن شأنه فأصبح أداةً تتقاذفها الأهوال، بل كيف يتحوَّل عن سؤدده إلى مطية لمآرب غيره.
تأتي العبودية من الخلل في نظام الحياة ذي الرتب، فانفلات الميول الدنيئة فيه من ولاية الميول الرفيعة؛ وعندئذٍ يُصبح الإنسان عبد شهواته. وتأتي العبودية من تحوُّل المجتمع عن رابطة الأخوة، حيث كلٌّ من الأعضاء تتجاوب نفسه مع ما يجول في نفوس الآخرين، إلى رابطة السيد بالمسود.
تأتي العبودية من استحالة المجتمع استحالةً تُصبح فيها رابطة الأخوة التي تجعل كلًّا من الأعضاء تتجاوب نفسه بما يجول في نفوس الآخرين، علاقة الإنسان بالأشياء؛ وعندئذٍ يرى الإنسان في الإنسان أداةً يستعملها لمآربه الخاصة، لا أخًا تتحوَّل حاجاته إلى واجبات منبعثة من صميم الحياة. وعندئذٍ يجنح القوي إلى استخدام الضعيف، بل عندئذٍ يُصبح الضعيف عبدًا لمن هو أقوى منه.
وسواء أكان الإنسان عبد شهواته أو كان عبدًا لغيره، فهو في الحالتَين دنيء متردٍّ. وكيف يتردَّى الإنسان؟ بإعراضه عن الحق الناظم للعلاقات الإنسانية بين الإخوان، وبإعراضه عن الحرية غاية مرتقى الأحياء. واشتقاق كلمة «حرية من الحرب» وكلمة «نبيل من النبال»، يشير إلى صعوبة الاحتفاظ بمستوى الإنسانية. هناك أسباب عديدة تُساعد على التدنِّي والانتكاس؛ منها الزواج المتدنِّي، والهجانة، وفساد التربية. إنها أسباب تُؤدِّي إلى تقلُّص الحياة إلى الغرائز الأولية، بحيث تتراخى الروابط بين أعضاء المجتمع، ويُصبح كلٌّ منهم مترديًا في قوقعته الخاصة، مُعرِضًا عن المثُل العليا المشتركة للجماعة. وعندئذٍ لا يقوى المجتمع على الصمود ضد عاديات الزمان، فتُصبح نذالة البعض سببًا في سقوط الآخرين فريسةً في أيدي المغيرين.
إن اتخاذ امرئ مسئولًا عن خطيئة الآخرين لمن دواعي الثورة على نظام الرق. وممَّا كان يحض على الثورة على هذه الآفة الإنسانية، المثالية التي نشدها أديان الشعوب السامية، تلك المثالية الملخَّصة في عبارة يُردِّدها المسلمون من أعلى مآذنهم عند كل صلاة، وهي: أول خلق الله وآخر الرسل. عبارة تُميِّز بين الواقع وبين المثَل الأعلى. كمال الأخير وتقصير الأول عن هذا الكمال، على مثال تقصير الدائرة المرتسمة على اللوح عن الدائرة التي يبنيها العقل صِرفًا من كل شائبة.
وهكذا صيغت غريزة الجنس البشري في صيغة مثالية، مستقلًّا عما تُحدثه البيئة من اختلاف بين الأقوام.
وها هنا نعود إلى صدد العبيد والرعاع، عن الأسباب والنتائج للانحراف عن مقوِّمات الفطرة الإنسانية.