ميزات الحياة الإنسانية
لقد سبق لنا أن بيَّنَّا في مناسبات مختلفة أن اللسان العربي اشتقاقي البنيان، وأن الرابطة الاشتقاقية فيه غير ما هي عليه في اللغات الأخرى؛ فهي تتناول صلة اللفظة بالمعنى على مثال صلة الشعور بالبوادر في الهيجان. وهذه الصلة لا تقف على حدود المشتقات الحسية والعقلية ذات المصدر المشترك وحسب، بل تتناول جميع الكلمات التي ترجع إلى نفس الأرومة؛ أي إلى الصورة الصوتية البدائية. وبناءً على هذا فإن الذهن العربي إذا اشتق كلمتَي شئون وحوادث، الأولى من «شأن» المشتركة بالأرومة مع «شاء»، والثانية من حدث ذات أرومة «حد» التي تحمل الطابع المكاني، فقد عبَّر بالشئون عن الأحوال المتعلِّقة بمشيئتنا، وعنى بالحوادث ما يقع في الطبيعة. والصور الحسية في أسرة كلمة «شاء» تكشف عن الشئون كتجليات للحقيقة، وهي منها بمثابة الظواهر من الميل والغريزة؛ وعلى هذا فإن الشئون الاجتماعية في الحدس العربي ليست بذاتها، بل بوعينا إياها، تزكو إذا أقبلنا عليها وتضمر إذا أعرضنا عنها. إنها تجليات للحقيقة وحسب. وتمييزًا للشئون الإنسانية عن الحوادث الطبيعية نضرب هذا المثل:
يحفر الماء مجراه في كل مكان وزمان، سواء أكُنَّا من المتفرِّجين أم لا، وعملية الحفر هذه تبقى مستقلةً عن إرادتنا وتقديراتنا، في حين أن الشئون الإنسانية يفتقر تحقيقها لإرادتنا، ولولا هذا الافتقار لما لجأ الأولياء إلى التربية في نقل التراث عبر الأجيال. حتى إن أمر ظهور السحر في التاريخ الإنساني ليرجع إلى العجز عن التمييز بين الشئون الإنسانية والحوادث الطبيعية، بين ما يتعلَّق تحقيقه بمشيئتنا وما يخضع للضرورة الحتمية.
وإذا بدت بعض الشئون الإنسانية مجاريةً للحوادث الطبيعية من حيث الخضوع للضرورة الحتمية؛ فذلك لأن الحياة ليست على مستوًى واحد من الوعي في جميع أحوالها؛ فقد تنحدر بالعادة حتى تُوشك أن تلتبس بالطبيعة، وقد تلتزم بالحاجات فتمس بهذا الالتزام الضرورة، ولا سيَّما إذا كان كِيان الأحياء يقوم على الحاجات، كمثل الغذاء المقتبسة عناصره من الطبيعة، ممَّا يجعل الأمور الاقتصادية بين الشئون والحوادث الطبيعية، مستقلةً عن أهوائنا بمقياس استقلال غرائزنا عن أغراضنا الحاجات. إنه لفي حدود هذه العلاقة تبقى قواعد الاقتصاد على مثال قوانين الطبيعة ذات الاتساق. هناك سبب للالتباس بين الشئون الإنسانية والحوادث الطبيعية، وهو أن الذهن يُنشئ المفاهيم العامة كصيغ يُلخِّص بها الحوادث والشئون، فهو إذ يُوفِّر لصاحبه بهذا التلخيص الجهد والوقت، فإنه يُهدر المظهر النظري في سبيل الناحية العملية، بحيث تتعثَّر النفس في سيرها نحو الحقيقة، كونيةً أم إنسانية. وإلى هذا الالتباس بين الشئون الإنسانية ذات المعنى الانبثاقي، وبين الحوادث الطبيعية ذات المعنى النسبي، ترجع ضلالة حي بن يقظان بطل قصة ابن طُفيل؛ حين كان يرفع الصخور من مجرى النهر تخفيفًا — على اعتقاده — من حدة غضب الماء المتعثِّر في سيره؛ فذلك لأنه أدرك الحوادث الطبيعية من خلال الحالات الوجدانية.
ولكن ألم تطمس على الفكر الحديث الفوارق بين الشئون الإنسانية ذات المعنى المطلق، وبين الحوادث الطبيعية ذات الاتجاه النسبي، فينتهي به الأمر إلى اعتبار الأخلاق والعادات سواء بسواء، وإلى تفسير الإبداع بتآلف الصور وإلى اتخاذ العمل معيارًا للحقيقة.
بيد أن لكل من الشئون والحوادث صفاته الخاصة، تتميَّز بها الواحدة عن الأخرى؛ فالحوادث تندرج في الظرف (المكان والزمان)، فيخضع ظهورها لمبدأ السببية؛ أي إنه يقوم بقيام حوادث أخرى، بحيث يُصبح طابعها نسبيًّا كنسبة الحوادث وتلازمها في الطبيعة (كتلازم التمدُّد والحرارة في المعادن مثلًا. ولئن خضعت الحوادث الطبيعية لمبدأ السببية؛ فقد أصبح نظام نيوتن القائم على الكتلة والمسافة قاعدتها.
ولقد نتج عمَّا تقدَّم الاختلاف على القانون بمعنييه الطبيعي والإنساني؛ فالقانون الطبيعي هو علاقة تتكرَّر حدودها حينما تستوفي شروط كِيانها، كعلاقة حدَّي التمدُّد والحرارة في المعادن مثلًا، فهي علاقة يُكرِّرها مقياس تعميمها مستقلًّا عن المكان والزمان. أمَّا القانون الاجتماعي فيقوم بوحدانية الحدس، بوحدانية الحقيقة، وإذا بدت الحقيقة الإنسانية تتكرَّر بطريق التقليد على مثال تكرُّر الحوادث الطبيعية؛ فإن نفوس المقلِّدين تبقى في حالة الصبوة إليها، وأمَّا هي ذاتها فتتلألأ من فوق المكان والزمان وحدانيةً مطلقة، حيث يقوم الخيال مقام البيئة الطبيعية في نشوء الأحياء.
وذلك ما جعل موقف الإنسان من كلٍّ من الطبيعة والملأ الأعلى، قطبَي الحياة، موقفًا مختلفًا. ويظهر هذا الاختلاف فيما بين الأحكام الثبوتية والأحكام الوجوبية، بين أحكام تأمُّلية هدفها بناء الحقيقة بناءً يلتقي فيه المعقول بالمحسوس، وبين أحكام ذات نزعة إلى العمل، إلى تقويم الخطأ ورفع الحيف حسبما تقتضي طبيعة الحقيقة الإنسانية، بحيث إن الإرادة تتردَّد أثناء الإقدام على العمل بين المبدأ والعواقب تردُّدًا تنتهي به إمَّا إلى أداء الواجب، وإمَّا إلى التخلُّف عنه، فالتردي عن مستوى الحياة الإنسانية.
هاك بعض الأمثلة التي يظهر فيها جليًّا الاختلاف بين موقف الإنسان من الأشياء الطبيعية، وبين موقفه من الأمور الاجتماعية.
إن الحركة عندما ترتسم كصورة في الذهن تدفع بالمتفرِّج في اتجاه انطلاقها، ممَّا يجعل الناس يعزون إلى الأعماق السحيقة قوةً من السحر تجتذب الناظر إليها، وممَّا جعل الوهم يلتبس عليهم بالواقع في تحريك الطاولة المستديرة. وكذلك الوضع الاجتماعي يدعو إلى مسايرته لدى ارتسامه في ذهن المتأمِّل مسايرةً يُعبِّر عنها الرأي العام بمثَل مألوف، وهو أن العنب يَسْوَدُّ لرؤية بعضه بعضًا. ولكن الإنسان لا يقف من المجتمع موقف المساير فحسب، بل إن بعض النفوس تُجيب بالمقاومة على العادات الشائعة والتقاليد الموروثة والآراء الخاطئة، وإلَّا فكيف كان يُفسَّر التطوُّر في تاريخ الإنسانية؟ وكيف كانت تُفسَّر الانقلابات ومحاولات الإصلاح؟ إن الذهن يقف من الصورة المرتسمة فيه عن الوضع الإنساني أحد موقفين؛ موقف المسايرة للواقع، وهذه هي حالة النفوس الخائرة المستضعفة، أو موقف من يُقدِّر هذا الوضع على ضوء الآية المثلى، إمَّا بالمقاومة وإمَّا بالمسايرة، حسبما تُقر ذلك الإرادة.
وهاك موقفًا آخر للإرادة يظهر فيه الفرق بين الطبيعة والإنسانية بوضوح أجلى؛ لنفرض أننا على ضفة النهر، نُشاهد سقوط حجر في الماء، أو سقوط أحد المارة، فقد يدعو سقوط الحجر إلى التأمُّل في أسبابه، وفي القوانين التي يجري بموجبها كما حصل ﻟ «غاليلي ونيوتن». أمَّا أحد المارة فيبعث سقوطه في نفوس المتفرِّجين الهلع، ويرافق هذا الهلع صوت صادر من أعماق الوجدان يهيب بكل امرئ إلى إنقاذ الغريق، ولو تضمَّنت هذه الدعوة بعض الخطر.
كذلك تدعو الأشياء إلى التأمُّل وإلى التصرُّف فيها حسبما تقتضي المصلحة.
وكذلك تدعو الشئون الإنسانية إلى العمل بموجب الوضع السوي لتقويم الاعوجاج وإصلاح الفاسد، وإن كانت هذه الدعوة تترك لنا حرية تعيين الموقف، حتى إننا لنقف هذا الموقف عند الاختلاف على الحياة بيننا وبين الآخرين، مهما ألحَّت علينا الحاجة وانطلقت القوى الكامنة في الرغبة. إننا نُقدِّر الأمور أبدًا على ضوء الحق بقطع النظر عمَّا يتضمَّن هذا التقدير من عواقب.