نشأة الدولة
قُبيل ظهور الإسلام أخذت بعض الأحداث في جزيرة العرب تنبئ بهذا الظهور، بل تكشف عمَّا كان يتمخَّض عنه وجدان العرب. ولم تكن محاولات الإصلاح حينذاك إلَّا بشائر برسالة العرب. وها نحن نُقدِّم بعض هذه المحاولات:
اجتمعت قريش يومًا في عيد لهم … فخلص منهم أربعة نجباء، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا ليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل. وهم: ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو. فقال بعض لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء … فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحقيقة؛ فأمَّا ورقة فاستحكم في النصرانية، وأمَّا عبد الله فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، وأمَّا عثمان فتنصَّر، وأمَّا زيد فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذبح على الأوثان، وبادى قومه بعيب ما هم عليه، وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجه أحب إليك عبدتك، ولكن لا أعلمه. ثم خرج يطلب الحقيقة ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ في تجواله المَوصل والجزيرة (سيرة ابن هشام).
وهاك محاولة أخرى تكشف عمَّا كان يتمخَّض عنه وجدان العرب من حرص على العدالة: قال ابن هشام: حدَّثني زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحق قال: تداعت قبائل قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو المطلب وأسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وقيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألَّا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلَّا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تُرد عليه مظلمته. فسمَّت قريش ذلك حلف الفضول. وقال رسول الله: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحسب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيَ به في الإسلام لأجبت. هذا الحلف يدل على ما كانت تشعر به النفوس الكريمة من قلق على مصير العدالة.
وهل تختلف وقعة ذي قار بيننا وبين العجم بالمغزى عن الأحلاف والمؤتمرات التي كانت تُعقَد حينذاك؟ أوَليس السبب الرئيسي لهجرة الرسول من مكة إلى المدينة حاجة الأنصار إلى زعيم تجتمع عليه الكلمة؟ وإليك ما قاله أبو الهيثم ابن النبهان بهذا الصدد أثناء بيعة العقبة: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال (اليهود) حبالًا، وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسَّم الرسول ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم (سيرة ابن هشام).
هكذا كان القلق الذي أخذه مأخذه من نفوس العرب، قلق من تدخُّل الأغيار في شئونهم، وقلق من طغيان اليهود على اقتصادهم، وقلق دسائس الفرس والروم في اليمن والعراق وسوريا، وما كان لهاتَين الدولتَين من نفوذ في الجزيرة العربية. وقلق على الحق والعدالة، وقلق من جرَّاء تخلُّف مظاهر الحياة عمَّا كانت تتمخَّض عنه نفوسهم من حقائق. يا له من وضع مماثل لما نُعانيه اليوم في نهضتنا الراهنة! وكما يدعونا القلق لشد أزر بعضنا بعضًا من أجل تشييد دولة عربية، نُوطِّد بها لنا جميعًا أسباب الحرية والأسباب التي تجعلنا نشترك في موكب الحضارة. كذلك كان القلق يُحفِّز بأجدادنا ليجعل منهم منارةً للإنسانية. والزعيم ذو التجرِبة الرحمانية المثالية من الجمهور كالأم من الطفلة التي تمارس الأمومة طيفًا بألعابها. إنه يهدي بهدايته إلى الأماني، إلى هذه الحقيقة يرجع حدس العرب في اشتقاقهم كلمتَي «أم» و«إمام» من مصدر «أم»، وإلى الحقيقة نفسا تُشير الآية: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وإذا قال المثل: العنب يَسْوَد من رؤية بعضه بعضًا، فإن القول يعني أن النضج يأتي من الداخل، وإنما السبَّاقون هم المبشِّرون بقرب الموسم. والبشارة في الشئون الإنسانية ذات قوة إيحائية تُولِّد النفوس المتعثرة في استجلاء الحقيقة الإنسانية، وفي استجلاء معنى المرحلة التاريخية. إن مثَل المبشِّرين من الجماعة كمثَل الحواس من خلايا الجسد الأخرى، فكما أن كلًّا من خلايا الجسد تشترك في الاستعداد للإجابة على المنبِّهات، ولو تميَّزت خلايا الحواس بالإرهاف لما اختصَّت به مزاياه، فكذلك المبشِّرون يتستقطبون تيارات البيئة كأشعة رحمانية، فيُحوِّلونها من حدس إلى بصائر نيِّرة.
وهكذا تتفتَّح النفوس على ضوء المعنى المشرق عليها كرسالة، تفتُّح الأزهار على تباشير الربيع سبب انتعاشها.
ولمَّا كانت التجرِبة الرحمانية المثالية تُضفي على صاحبها رُواء رفعتها كهالة من القدسية، ولمَّا كانت هذه التجرِبة الرحمانية تنزع إلى العمل كرسالة؛ فقد استلزمت الاحترام لمن تجلَّت به، والعمل على أدائها تحت إمرته.
إن القدوة في الشئون الإنسانية تقوم على أمرين؛ أمر استجلاء الحقيقة، وأمر الإقدام على تحقيقها، هذا فضلًا عن تقويم اعوجاج الواقع على هدايتها. هكذا يرجع الأمر والطاعة إلى ما هو مشترك من أمنية، وإلى تفاوت أعضاء المجتمع في تمثيلهم هذه الأمنية. والحديث: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» يُشير إلى تلازم الناس بالمسئولية. وبناءً على ما تقدَّم فإن الطاعة والإمرة للحق وليس لسواه. وأمَّا من تتجسَّد فيه التجرِبة المثلى فيملك على الناس حق الولاية، والناس يُصبحون على شفق الحقيقة المتجلي في التجرِبة المثلى وكأنهم وُلدوا ولادةً جديدة. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وكلمة وسط تعني في اللسان العربي القرب من الينبوع. من الحقيقة، ومن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم. قال أبو جهل في دار الندوة: «إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم. قال محمد: نعم، أنا أقول ذلك.»
ونحن نستخلص ممَّا تقدَّم أن الدولة تقوم على حدس مشترك بين أعضاء المجتمع في الكِيان الإنساني المشترك، ولو اختلف هؤلاء الأعضاء في استجلاء الحدس والعمل بمقتضاه. إن مثَل قيام الدولة على التجرِبة الرحمانية كمثَل قيام الانسجام بين كلمات القصيدة على تجرِبة الفنان المثلى. وكما أن لكلٍّ من كلمات القصيدة معنًى تعورف عليه بين الناس، ومعنًى آخر تُضفيه تجرِبة الفنان إضفاءً يُصبح فيه المتفرِّق من الكلام أنظومةً ذات انسجام واتساق. فإن الدولة أيضًا وضع مثالي تكشف عنه نفوس النوابغ انكشافًا يُصبح فيه ما هو مشترك بين الناس من ميول اجتماعية ذا حُلَّة أضفتها عليه التجرِبة الرحمانية، وذلك ما يجعل من الدولة أمنيةً يصبو إليها الجمهور، ومن مقامها الأعلى يتلقَّى الناس الأوامر. إنها دعامة للنفوس في صبوتها نحو الصورة التي تتفتَّح فيها الأمة حقيقة تاريخية، ولكن إذا عجزت الأمة عن إيجاد صورتها بالدولة، أو عن تقويم اعوجاجها في حال كونها مزوَّرة؛ استحوذ القلق على أبنائها من العجز أو الازورار؛ وإذن أصبح أبناؤها كمثل فنان خانته العبارة. وكلمة «تعاسة» تُعبِّر باشتقاقها من «تع، تعتع» عن حالة العجز هذه عن الإفصاح عمَّا يتمخَّض الجمهور عنه من حقائق. وأي أمة أشد ابتلاءً مِنَّا بالعجز عن الإفصاح عن أمانينا، بل عن تقويم ما فرضته علينا السياسة من اعوجاج؟
ومع ذلك فإن الأمر لم يبدُ كذلك لبعض أصحاب الرأي في هذا الشأن؛ لقد خُيِّل إليهم أن الدولة امتداد للأسرة، كلتاهما تُمارس السيادة بمعنى الحماية والإرشاد والقدرة، وكلتاهما تُحدِّد رغبات الأعضاء بغية خلق الانسجام بين المصالح والواجبات. أفلا ترفع الأسرة من رابطة الغريزة بين الرجل والمرأة بالزواج، فتجعل من هذه الرابطة وسيلةً لغرض أسمى؟ أوَلا تُعيِّن لكلٍّ من ركنَيها الأبوين الحدود الطبيعية الخاصة بهما، فتخلق بهذا التخصُّص من الأب قدوةً تتجسَّد فيها أماني الأبناء، ومن الأم مصدر فيض من المشاعر تنعم بها الأولاد؟ أوَلا تُجيب على طبع الرجل بالميل إلى السيادة، بما في ذلك من سلطان وحماية؟
إن الأسرة وإن كانت وسيلةً يتخطَّى بها الفرد دائرة الغرائز وأغراضها إلى إنسانية ذات آفاق متعالية، فهي مع ذلك بيئة قوامها المحبة، تبقى فيها مزايا الأفراد ومقوِّمات المجتمع مغمورةً طامسة. وكيف لا؟ أليست الأخوة وما تستلزم من شيوع في الحاجات هما من الأسس التي يقوم عليها كِيان الأسرة؟
إن الدولة ذات جذور في الملأ الأعلى، والقول المأثور: «السلطان ظل الله في الأرض»، إنما يعني النشأة السماوية للدولة. إن الدولة جملة تجارِب إنسانية تجلَّت فيها صورة الأمة المثلى تجليًا تدعو به من تمثَّلت فيهم إلى الإفصاح عنها مع ما تستلزم هذه الدعوة من عمل لرفع العثرات في سبيل هذا الإفصاح.
إذن فيمَ يختلف زعيم الأمة عن رب الأسرة ما دام كل منهما قدوة؟ فالابن يقتدي بأبيه إذا تجسَّدت فيه أمانيه، والجمهور يرى زعيمه صورته المثلى، أفليس موقف إبراهيم الخليل من أبيه حين تعارضت بينهما الأماني من الأمور المعروفة؟ أليست القدوة في كلتا الحالتَين للحق المتجلي في الزعيم والأب؟
ومع ذلك فإن قوام الأسرة المحبة، وإن قوام الدولة الحق المنبلج في النفس، وإن كانت المحبة وسيلة ارتقاء الذهن من الطبيعة إلى الإنسانية، من الغريزة إلى العدالة. وإنما شأن الدولة هو استجلاء ما ذر قرنه من نظام إنساني في الأسرة؛ ففي الدولة يتعادل مبدأ الحق مع المصلحة تعادُلًا تتحوَّل به القدوة إلى شروع في استجلاء الحقيقة، وإلى إقدام على تقويم الواقع على ضوء المثَل الأعلى.