ملحق
المجتمع مماثل بالتكوين للجسد، يتألَّف من أفراد هم أعضاؤه، وهم وإن كانوا يشتركون في ذات الثقافة فإن بعضهم يتميَّز عن بعضٍ في مدى استقطابه معاني هذه الثقافة، فتحويلها إلى بصائر نيرة. مثَل هؤلاء النوابغ ذوي البصيرة من إخوانهم العوام، من حيث التوجيه والإرشاد، كمثَل الحواس من شقائقها الخلايا الأخرى في الجسد. وكلمتا «نابغ» و«عوام» تدلَّان على التفاوت في وضوح البصيرة؛ فالأولى وهي مشتقة من «نبغ»، فمن «نب» تعني بحسب مخرج حروفها ونظام هذه الحروب في الكلمة معنى الظهور فالتعالي، والثانية تتضمَّن معنى العجز عن التمييز، أي معنى العمه والعمى.
وها نحن نُقدِّم هنا ملخَّص رأينا فيما يتعلَّق بالبنيان الرحماني المثالي هذا للمجتمع:
وفي صورة الكائن الحي أو في صورة الرمز تتعيَّن وجهة النظام في الإحساسات بمبدأ هو روحها أو معناها. وهاك بعض الأمثلة نزيد بها من وضوح وجهة النظر المتقدمة: صورة عن الطاولة وأخرى عن التفاحة، وثالثة عن رفيقة الحياة المرأة، ورابعة عن مهجة الفؤاد الولد، وخامسة عن القصيدة، وسادسة عن المجتمع.
فأمَّا المعنى في الطاولة فهو ملحق بها بحكم الاقتران، وهو وظيفتها من نظر الإنسان، والإنسان يتصرَّف فيها كأداة. وما قيل عن الطاولة ينطبق على جميع الأشياء في الطبيعة. والتفاحة وإن كان مبتدأ تكوينها بذاتها «الحياة»، وإن كانت تُثير — بعد التجرِبة — الشهية في نفس المحتاج إليها، إلَّا أنها تبقى مستقلةً عنَّا، يمكن التعويض عنها بغيرها من الفواكه، كما يستعصي علينا التجاوب الرحماني بيننا وبين صميم معناها.
وأمَّا المرأة فتبعث بأعمق ما في حياة الرجل من ميول من مكمنها، كما تبعث الإبرة بالأنشودة المسجَّلة في أسطوانة «الفونوغراف» لدى ملامستها الأخاديد المحفورة فيها، حتى لكأنما الرجل والمرأة شقيقان من «شق»، يستكمل أحدهما بالآخر كِيانه كوحدة عُليا، بل كأن أحدهما الصورة المجسِّدة لروح الآخر.
ومتى ما انعقدت الحياة على الرشيم فبدر الجنين من الأحشاء، بدور البرعم من الشجرة، استمد من أمه النسغ والقوام. ولو أنه ينفصم عنها بالولادة فيبقى بالنسبة إليها كعبارة شفافة تشف منها المشاعر: «إن من القلب إلى القلب سبيلًا.»
عندما اشتق الذهن العربي كلمتَي «رحم ورحمان» من نفس المصدر، دلَّ على الشبه في العلاقة بين الصورة الممتثلة في الذهن، ومعناها المنبعث من نفس المتفرِّج، وبين علاقة الجنين بأمه. في الحالتَين تبقى العلاقة بين الصورة المستفاضة ومعناها علاقة انبثاق من صميم الكائن الذي هو هنا الأم وهناك النفس.
تنبثق معاني المؤسَّسات العامة من صميم داخلنا ووسيلة الكشف عن هذه المعاني هي التجرِبة الرحمانية. وإذا كان النوابغ في الشئون العامة هم ذوي التجارِب الرحمانية المتميِّزة بوضوح البصيرة وبقوة الشكيمة، وبتعبير آخر بالنبوة والرسالة؛ فإن الجمهور من الإصلاح هو الإلهام في التحفة الفنية، محل توافق الآراء وانسجامها. إنه بإجماع الرأي تُقاس صدق العبارة.
تلك هي التجرِبة الرحمانية؛ انكشاف معنى البيئة الإنسانية منبعثًا من النفس انبعاث مشاعر الأمومة عند الولادة، انبعاثًا يجعل حقوق البعض تبدو واجبات في نفوس الآخرين. ومن هنا تقدَّم الحق على المصلحة الشخصية. هذه، غرض نُدركه بالحواس فنميل إليه بغريزة البقاء، وذاك واجب مملًى من علٍ على الإرادة، فيحمل معه هالة رفعته هالةً مقدسة. وهل يعني «المثالي» شيئًا آخر غير تجلي الآيات من الملأ الأعلى على الوجه الأكمل. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.