شعارات الدولة
شعارات الدولة هي مُثُلها العليا، المُثُل التي تسعى إلى تحقيقها باستكمال شوط طبيعتها. وأهم هذه الشعارات: الأخوة والمساواة والحرية.
(١) الأخوة
سُئل أعرابي عن أي من أولاده أحب إليه، فأجاب على السؤال بقوله: الصغير إلى أن يكبر، والغائب إلى أن يحضر، والمريض إلى أن يُشفى. أي إن أحب إليه من هو بحاجة إلى عطفه وحنانه. وكلمة «أخ» نفسها تُشير بنشأتها من صوت «أخ» الذي هو العبارة الطبيعية للتوجُّع، إلى أن المظهر الأول للأخوة هو الاشتراك مع الآخرين في الوجع.
ولكن إذا كان المظهر الأول للأخوة هو اشتراك بعضهم مع بعض في الوجع، فإن جذور الأخوة أبعد غورًا في طبيعة الحياة. وإن كان الانتباه إلى الألم (الناحية السلبية) أسبق، أليس التفاهم الرحماني قوام المجتمع؟ ألا تبعث الصورة بمعناها في نفس من يعيها، تبعث المشاعر المنطوية عليها؟ وإلَّا فكيف يتم التفاهم بين المرء وعشرائه؟ إن الذهن لا يُدرك بطريق الحواس إلَّا الإحساسات والصورة التي تتألَّف من الإحساسات، وأمَّا المعنى وما يُرافقه من مشاعر فيبقيان مغلقَين على الأغيار. وليس من سبيل للاطِّلاع على سريرة الأنام غير البنيان الرحماني المشترك، غير انبعاث المشاعر عن الجميع لدى تمثُّلهم نفس الموقف. فقد توخَّت العناية من جعلها البوادر والمشاعر مقترنتين في الهيجان، تجسيم المعنى ونقله حيًّا إلى ذوي القربى. وهكذا كان الجسد لغةً حية، يوحي فيه الشكل (العبارة) بالمعنى. والمعنى المنبعث من النفس التي عقدت النية على التعاطف مع الآخرين هو وسيلة الفهم، وسيلة الاطِّلاع على سريرة الإخوان، فالاشتراك معهم في السراء والضراء. وإنما نعني بالتجاوب الرحماني التعاطف وما ينتج عن التعاطف من تفاهم بين الأقارب ذوي البنيان الرحماني المشترك.
ولكن إذا كان التفاهم الرحماني ينتهي باشتراك الإخوة في ذات الحالة النفسية، أفلا يُؤدِّي هذا الاشتراك إلى رفع الحيف عن المظلوم من بين الإخوة؟ ألا ينتاب القلق نفس من تخلَّف عن واجب الأخوة؟ إلى الحقيقة هذه يرجع تقدُّم الواجب على المصلحة، وإليها يرجع أيضًا سمو الفكر بالمبدأ على التفكير بالنتيجة. هذا المبدأ يظهر في تعاون أفراد النوع الحيواني الواحد على رفع الأذى بعضهم عن بعض عندما يُجابهون الخطر المشترك، حتى لتبدو غريزة الجنس هذه في هدر مصلحة الفرد من أجل مبدأ أسمى، ألا وهو مبدأ الحياة نفسها. وإذا اقتصرت غريزة التعاون على رفع الأذى عن الأفراد من الجنس الواحد، فإن العبارة التي هي وسيلة التفاهم تختلف من نوع إلى آخر، وكان ذلك بسبب ضرورة الملاءمة مع ظروف البيئة. وإلى الاختلاف في أداة البيان التي هي اللغة يرجع تقصير الأقوام عن التفاهم والتعاون من أجل عالم أكمل. وأسطورة بابل تدل على مصير المجتمع ذي التكوين الهجين، حيث تتنافر النزعات وتختلف اللهجات. وهل يرجع لسبب آخر غير التقصير في التجاوب الرحماني أمر استعمال الإنسان من قبل أخيه الإنسان كأداة إلى أمر ظهور الرق في تاريخ الإنسانية؟ بل هل يرجع أمر ظهور الطبقات المتميِّزة في المجتمع الواحد لغير سبب التخلُّف في التفاهم؟ وإن الآفة التي يعانيها العالم اليوم وهي آفة الاستعمار ترجع أيضًا لذات السبب.
(٢) المساواة
ومن مستلزمات الأخوة المساواة في المعاملة، في الشروط التي تُؤدِّي إلى نمو الحياة وازدهارها، حتى لقد جعلت العناية الإيثارَ قاعدةً بين ذوي القربى. وهل يعني سمو الواجب وتقديمه على المصلحة الشخصية شيئًا غير إيثار حق الآخرين على مصلحة الفرد صاحب الحاجة؟ وكلمة «إنصاف» المتضمِّنة معنى النصف تُفيد نظام حياة قاعدته المساواة «فمن جعلك مساويًا لنفسه لم يظلمك». ولم تزَل كلمة «إنصاف» تحتفظ بطابع نشأتها الاجتماعي، بطابع الحنان والرحمة.
ولكن إذا كانت الأخوة تستلزم المساواة، فهل يقوم المجتمع على التسوية بين أعضائه؟ وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إن الله ذاته يحب البصر النافذ.
وهنا يبدو الاختلاف بين العرب أولاد السماء بحسب أسطورة نشأتهم «آدم»، وبين الشعوب الآرية التي ظل رائدها السيطرة على الأرض. كان العرب والأقوام التي تشعَّبت عنهم (الشعوب السامية) يرون في البطل الطريق المؤدي إلى السماء. كان لكل امرئ قدره في سُلَّم المراتب يتبع قدرته في الصعود إلى هذا المرتقى. وقد أبلغ المسيح عن ذلك إذ قال: أنا الطريق. وليست السُّنَّة في الإسلام بشيء آخر.
غير أن شعوب أوروبا الحديثة وقد تكوَّنت ثقافتها من التقاءٍ بين المسيحية والبرابرة الجرمان، بدأت نهضتها بالثورة على التمايز. وهل في الأمر غرابة بعد أن همدت وثبة المسيحية إلى الملأ الأعلى باستحالتها إلى نظام إقطاعي رجعي منافٍ للطبع البشري، أرهق به الجرمان الفاتحون الشعوب المتضعضعة.
هذا وقد لقيت نهضة الأقوام الحديثة في ثورتها على التحايز دعامةً في اكتشاف القانون في الطبيعة. أفلا تخضع الكائنات من الذرة إلى الأجرام السماوية في عليائها إلى شروط متساوية؟ ولمَّا أخذت الصناعة تقوم على معرفة القوانين الطبيعية، أصبحت هذه المعرفة موضوع دراسة جميع الناس من الطفولة إلى الكهولة.
هكذا تضافر العلم والصناعة، وهو طابع المرحلة التاريخية على تأييد النهضة الحديثة في ثورتها على التمايز، وعلى جعل المساواة أمنيةً يسعى المصلحون إلى تحقيقها في الحياة الإنسانية. وهكذا أصبح القانون يعني التساوي في الشروط في الحوادث الطبيعية وفي الشئون الإنسانية. وكلمة قانون نفسها تعني باستعمالها في العلوم الطبيعية وفي دراسة الشئون الإنسانية معنًى مرادفًا.
ومع ذلك فإن المساواة مبدأ من مبادئ العقل الأساسية. وإذا اتخذت الرياضيات صيغًا تُسكب فيها خبرات الإنسان في الطبيعة والوجدان، فما ذلك إلَّا مسايرة العلم لمقتضيات العقل في نزعة إلى التسوية. وأي مجال يتحقَّق فيه المساواة تحقُّقها في الإعداد؟ إلَّا أنه لو كانت المساواة من مبدأ الأشياء لاستحال علينا تمييز شيء من شيء آخر، كما يستحيل علينا تمييز عدد من عدد. هنا افترض العقل المساواة، فالتزم بما افترض. غير أن إلزام الكائنات بالمساواة أمر ينتهي بمبدأ العينية، بحالة يلتبس فيها الوجود بالعدم.
وهناك مهمَّات من نوع آخر تقوم عليها محاكماتنا في الأمور الإنسانية؛ منها قيمة الإنسان المطلقة، فما دام الناس يتخطَّون دائرة الغرائز والحاجات إلى الواجب والحرية يتلقَّون من مبدأ سلوكهم، لمبدأ الذي يتميَّزون به عن الأحياء الأخرى وعن أن يكونوا أشياء تخضع لدائرة القوى في الطبيعة. وما دام هذا المبدأ قوام إنسانيتهم، فإنهم متساوون فيه كما تتساوى الحوادث الطبيعية في خضوعها لقانون الجاذبية. وينتج عن تساوي الناس في مبدأ الإنسانية تساويهم في حدس الخير وفي حدس الحقيقة، ولو أنهم اختلفوا في الإخلاص لما يوجب الخير وفي استجلاء الحقيقة والتعبير عنها بصدق وأمانة.
ولكن إذا كان الناس متساوين في مقوِّمات الإنسانية، فإنهم يتفاوتون في الأهلية للقيام بوظائف المجتمع، وذلك ممَّا يدعو للنظر إلى الإنسان من ناحيتَين؛ من حيث هو ذو جذور في الملأ الأعلى، ومن حيث هو عضو مندمج في مؤسَّسة إنسانية وظائفها متنوعة ومتفاوتة في التأثير على فلَّاح الجماعة بحسب وجهتهم في الدنيا. وذلك ممَّا يجعل للإنسان قيمتَين؛ إحداهما مطلقة والأخرى إضافية (فالأولى تستلزم حدًّا من مستوى المعيشة يضمن لكل مواطن شروطًا ضروريةً للمحافظة على صحته وعلى كرامته كأخ من الإخوان، وكعضو عامل في تشييد الدولة).
ولمَّا كان المجتمع نظامًا من الوظائف، وكانت الوظائف متفاوتةً في التأثير على مصير الجماعة، فقد أصبحت المشكلة الأساسية بعد تأمين الحاجات الضرورية التي تكفل الصحة والكرامة، تعيين جدول من القيم الإضافية تستلزمه الاستعدادات الخاصة للقيام بالمهام العامة. وإيضاحًا لوجهه النظر المقترحة نسوق المثال الآتي:
للتعليم درجات، منها الابتدائي والثانوي والعالي. والمعلم في الحلقة الأولى يبدأ بمهمَّته في سن مبكر عند تخرُّجه من دار المعلِّمين الابتدائية، وهو يحتاج قليلًا من الإعداد العلمي لممارسة مهنته التي هي توجيهية أكثر ما هي علمية. والمعلم في الحلقة الثانوية يبذل جهدًا أكثر من المعلم الابتدائي للحصول على الإجازة التي تُجيز له القيام بالتعليم الثانوي، ويبقى مدةً أطول للتفرُّغ للدراسة. هذا وتُلزمه مهنته استئناف الجهود بصورة دائمة؛ من أجل البقاء على مستوى المهمَّة. والمدرس في الحلقة العالية تتطلَّب مهنته جهودًا أكثر وإعدادًا أطول من التعليم في الحلقة الثانوية. وسواء أكان التفوُّق في الاستعداد للانتباه أم كان في المواهب، فإن شروط القيام بالمهمَّة في الحلقات المذكورة يتطلَّب كما هو مقرَّر في جميع الأنظمة أن تكون ساعات العمل في الجامعة أقل من ساعات العمل في التجهيز والابتدائي، وأن يكون الراتب أكثر ممَّا هو في كليهما. والعدل في الأمر أن تُقام النسبة صادقةً بين الاستعدادات للعمل، وبين الشروط الضرورية للقيام به من حيث الأجرة، ومن حيث مدة العمل.
ونحن نستخلص ممَّا سبق من القول أن قوة المجتمع تتناسب مع مراعاته لمبدءين؛ مبدأ تكافئ الفرص، ومبدأ العدالة الاجتماعية. إن الأول يُمهِّد السبيل لظهور مواهب المواطنين، وإن الثاني يجعل التوافق بين المواهب والوظائف محقَّقًا. وإذا كان للمساواة من معنًى في الحياة الإنسانية، فإنه إخضاع الإخوان أعضاء المجتمع لشروط مماثلة في تطبيق المبدأ بين اللذين تقدَّم ذكرهما.
(٣) الحرية
ما من كلمة تُوحي بمعانٍ متنوعةٍ بقدر ما تُوحي كلمة حرية. إنها تعني أول ما تعني أرومتها حرف «ر» معنى الحركة، يظهر معنى الحركة هذا في الكلمات التي استُحدثت من صوت «ر»، نحو: أم، راح، راد … إلخ. تلك قاعدة في العلاقة بين الصوت ومعناه، الذي هو هنا صدى حركة اللسان عند حدوث الحرف، ولحرف «ر» نفس المعنى في أم اللغات الهندية الأوروبية.
يظهر هذا المعنى عندما تُقام المقارنة بين الحر المشتق من الحرية وبين ضدَّيه؛ الأسير والعبد. لباس الحر هو الحرير، ومن صفاته الحرارة، أي الغيرة على الحقيقة. وأمَّا الحرارة بمعنى ضد البرودة (السخونة) فهي حالة الانفعال عن ذي المروءة، حالة انتقلت بطريق المجاز إلى الأشياء. ومن هنا التقاء بين الحر والعبد، وبين من يغار على الحق فتدب إليه الحرارة، وبين من يتوانى في الدفاع عنه.
نجد معاني أخرى للحرية منها الخلوص والشرف، حرية القوم أشرافهم، والحر من كل شيء خياره وأعتقه وأطيبه، ويُقال «فرس حر» أي عتيق الأصل، طين حر أي لا رمل فيه، حر الدار وسطها، حر الأرض أطيبها، حر الوجه ما بدا من الوجنة.
هناك مصادر استُحدثت من كلمة الحرية، يُبرز كلٌّ منها منحًى من مناحي حدس الحرية؛ فمصدر حرب مثلًا يُشير إلى مهام الأحرار في الذود عن الحقيقة، إلى امتشاقهم الحسام في الفصل بين الحق والباطل. ومصدر حراثة يُفيد أن الإبداع في التراث وفي الزراعة هو من أعمال الأحرار. وكذلك المصادر: حرس، حرج، حرم، كلٌّ منها يتضمَّن معنى الحرية من وجهة نظر معيَّنة.
وبعد أن تتبَّعنا تشعُّبات الحدس المتضمنة في كلمة حرية، نتناول تجليات هذا الحدس المختلفة؛ الحرية هي ضد التقيُّد. إن العلم الحديث يقوم على مبدأ التقيُّد، مبدأ ربط النتائج بالأسباب، بحيث تُصبح الحوادث مندرجةً في حدود ظرفَي المكان والزمان. ووجهة نظر العلم هذه في تقيُّد الكائنات تتفق مع العقل وتُؤيدها الصناعة، بيد أننا نشعر بأن ثمة أعمالًا تصدر مباشرةً عن إرادتنا مستقلةً عن الأسباب والنتائج. وكلمة «إرادة» تدل بصوغها اللغوي على مبادهة الأعمال الأخلاقية الفنية، فكأن العبقرية العربية إذ عبَّرت عن الإرادة بكلمة مشتقة من «راد» بمعنى طاف على القيم المتمثِّلة في الذهن، موضوعة في صيغة أورق، أزهر، أثمر، بمعنى دخل في الحالة (تبنَّاها)؛ أدركت أن الإنسان ذو موهبة مستثناة، يتقمَّص بها القيم من الداخل، فيُحوِّلها بهذا التقمُّص من إمكانية إلى حقيقة تتدرَّج في نسيج الحوادث الكونية، هذه الموهبة تُذكِّر بالحديث: إن الله خلق الإنسان على صورته. وأي صورة إذا جاز لنا أن نستعمل هنا كلمة صورة، غير الحرية نشترك فيها مع الباري دون أن نقترف إثم الحلولية.
الحرية في الحدس العربي هي إذن ما يُثبت به المرء ذاته في وجه القدر، ما يستقل به عن أن يكون شيئًا من الأشياء، خاضعًا لسلسلة الأسباب في ظرفَي المكان والزمان. الحرية في هذا الحدس هي بداية أعمال ذات طابع بديء، يُقابل بها القدر الحاصل من تفاعل الحوادث تفاعُلًا متحرِّرًا من كل قصد ونية.
ألا تبدو الحرية في سريرتنا مصداقًا للحدس العربي؟ ألا تبدو بداية إبداع وتوجيه إلى جانب القدر الغاشم؟ إلامَ تستند قيمة الإنسان المطلقة إذا لم تستند إلى حريته في تعيين موقفه عند مفترق الخير والشر؟ علامَ يقوم أمر تأرجح الإنسان بين الرفعة والحضيض، بين رفعة يبلغ بها المستوى الذي يؤهِّله أن يكون ذاتًا، وبين انحدار ينتهي به إلى أن يكون مسخًا، إذا لم يقم على حرية الإنسان في الإقبال على ينبوع الخيرات أو في الإعراض عنه؟
ومع أن الحرية بداية مطلقة، فهي اختيار — من الخير — واصطفاء، وذلك يعني انتخابًا مع دفع الفضول. فكأن الإنسان يُتمِّم بالحرية ما بدأت به العناية؛ هذه أمدَّته بمقوِّمات جسده وبعناصر شخصيته، وهو ينشئ بالحرية على مسئوليته ممَّا تلقَّى هبة شخصيته ذات معالم معيَّنة. فما له إلَّا أن يُريد حتى تتحقَّق مشيئته فينفذ بهذا التحقيق في نسيج الطبيعة وفي مجرى تاريخ العالم، مثَله من تجلياته كمثل الشمس من الأحياء، يُزكِّيها بإقباله عليها، ويُحوِّلها إلى سبات فضمور بإعراضه عنها. فالحرية إذن حكمة وجود الإنسان، السبب في ارتقائه من ظاهرة بين الظواهر إلى ذات وأذن، فحقه في تعيين مصيره حسب مشيئته هو أساس حقوقه الأخرى.
ولكن هل يستقل الإنسان بمصيره عن الآخرين؟ ألا يقتبس قوته من الطبيعة؟ أوَلا يستجلي كوامن حياته بتفسيره رموز الهيئة الاجتماعية ويصقل شخصيته بقيامه بالواجب نحو الآخرين؟ ذلك ما يجعل حرية تعيين المصير ملازمةً لتحرير كل من ارتبط بهذا المصير، ذلك ما يلزم الإخوان بالتعاون على إقامة دولة تُعد البيئة الطبيعية وتُنظِّم الهيئة الاجتماعية بما يُساعد على ازدهار الحياة واستجلاء كوامنها أعمق فأعمق.
هكذا يرتبط حق الإنسان في إنشاء شخصيته وبحقه في الاشتراك مع إخوانه في إنشاء الدولة. والإخوان كأعضاء في الهيئة الاجتماعية، وإن كانوا متفاوتين في نفوذ البصيرة إلى بنيان المجتمع، وفي العمل بما تُلزمهم واجباتهم إزاء المصلحة العامة، فإنهم متساوون في حدس الخير وفي حرية الاختيار. والمجتمع وإن بدا قائمًا بذاته، فإن روحه تنبعث من نفوس أعضائه، فما لهؤلاء إلَّا أن يتمثَّلوا ظواهره حتى تنبثق معاني هذه الظواهر من صميم كِيانهم، ومن هنا التكوين العضوي لكل مجتمع، ومن هنا تُحوَّل بصيرة النوابغ في الشئون العامة إلى قواعد (عُرف وقوانين) تسلك عليها العامة. ولمَّا كان الإخوان متساوين في المبدأ، أصبح كلٌّ منهم يتمتَّع بحق تمثيل الآخرين، وللجمهور وحده حق الاصطفاء الأحسن إفصاحًا عن إرادة الجماعة والأقوى شكيمةً في القيام بالواجبات العامة. وذلك ما يلزم حرية تبادل الخبرة في القضايا العامة بين أعضاء المجتمع، وحرية اختيار الأنسب من بين الإخوان في تمثيل المهام العامة.