الفصل الأول
المنظر الأول
(شاطئ النيل في موضع يكثر فيه الغاب والبردي،
وقد احمر الأفق مؤذنًا بشروق الشمس وخلا المكان إلا من بعض
الفلاحات يسرن بما يحملن إلى السوق، وإذا بفلاحة شابة تعترض
الطريق.)
الفلاحات
(للفلاحة)
:
لماذا رَجَعْتِ؟
الفلاحة
:
شيخ البلد على باب السوق، خطف مني إوزتي.
فلاحة عجوز
:
خطفته التماسيح! … أهو هناك الساعة؟! نحن ما بكرنا هكذا
إلا لنُفلت من يده.
الفلاحة:
:
ما من أحد يُفلت اليوم من يده.
العجوز
:
معي بطة أريد أن أشتري بها قمحًا.
الفلاحة
:
لا تذهبي!
العجوز
:
ماذا جرى اليوم في البلد؟! … ما كان يحدث هذا من
قبل!
فلاحة
:
حتى الشكاوى اليوم لا تفيد، لقد لجأت جارة لي إلى الكاتب
توت، فحرر لها شكوى منذ أسبوع وما من صدى!
فلاحة أخرى
:
وحتى التعاويذ لا تنفع، لقد صنع لي الساحر توت تعويذة،
وما من جدوى ﻟ …
فلاحة
:
كيف ذلك؟ إن تعاويذ توت وعقاربه تنفع دائمًا! … لا أنسى
يوم اختفت عنزتي، وجئت إليه في هذه النواحي … فأنت دائمًا
تجدينه ها هنا في هذه النواحي التي يكثر فيها القصب
والبردي … لأنه يصنع من القصب مزاميره وأقلامه، ومن البردي
قراطيسه وأوراقه.
الفلاحة
:
أَصَنَع لك تعويذة نافعة؟
الفلاحة الأخرى
:
ما رأيت أنفع منها، لقد وجدت بعدها عنزتي المفقودة …
عادت من تلقاء نفسها إلى الدار.
الفلاحة
:
نعم … إنه ساحر ماهر! … ما قولك في أن أذهب إليه ليحضر
لي الإوزة المخطوفة؟!
الفلاحات
:
فلنذهب إليه جميعًا ليحمينا من شيخ البلد … هيا بنا …
هيا بنا … (يتحركن للانصراف ما عدا العجوز).
الفلاحات
(للعجوز)
:
ألا تذهبين معنا يا خالة؟!
العجوز
:
لا … سأذهب أنا إلى السوق، ليس معي غير بطة واحدة،
أستطيع أن أخفيها في صدري.
الفلاحات
(يذهبن وهن يصحن مناديات)
:
توت! … أين أنت يا توت!
(العجوز تخفي بطتها في صدرها، وما تكاد
تتهيأ للنهوض حتى يظهر شيخ البلد آتيًا من الجهة
الأخرى.)
شيخ البلد
(باحثًا حوله)
:
أين تلك الفلاحة التي هربت من السوق؟
العجوز
(مضطربة وقد فوجئت)
:
شيخ البلد؟!
شيخ البلد
:
لماذا اضطربت لمرآي أيتها العجوز؟! أين تلك الفلاحة
الهاربة؟!
العجوز
:
لم أبصر أحدًا.
شيخ البلد
:
إنها تحمل إوزًّا.
العجوز
:
لم أشاهد إوزًّا ولا بطًّا.
شيخ البلد
(يفحصها بعينه)
:
وأنت ماذا تحملين؟
العجوز
(بهدوء وقد تماسكت)
:
تريد أن تعرف ماذا أحمل؟
شيخ البلد
:
نعم بالصدق والحق.
العجوز
:
أحمل شيئًا لي وحدي.
شيخ البلد
:
تكلمي ولا تخافي … ماذا تحملين؟
العجوز
:
أحمل فقري وهمي وعجزي!
شيخ البلد
:
حقًّا هذا حمل تحملينه أنت وحدك … ولكنك تدركين معنى
سؤالي … لست أسألك عن هذا الحمل الذي تحملينه وحدك … إنما
أسألك عن الحمل الآخر الذي يصلح أن يحمله معك
غيرك؟!
العجوز
:
لا أحمل شيئًا آخر.
شيخ البلد
:
أتقولين الصدق؟
العجوز
:
ما كذبت في حياتي قط!
(صوت البطة تصيح من صدرها.)
شيخ البلد
:
صوت من هذا؟
العجوز
(مرتبكة)
:
أي صوت تعني؟!
شيخ البلد
:
صوت الصدق الذي خرج الآن من صدرك … لا تخفيه … لا تخنقيه
… دعيه ينطلق من صدرك حرًّا طائرًا.
العجوز
(متلعثمة)
:
طائرًا؟!
شيخ البلد
:
مصفقًا بجناحيه … فرحًا بالنجاة من هذا الصدر المغلق …
شأن كل سر مكتوم في الصدور … أخرجيه إلى الهواء … إلى
النور … هلمي! … أسرعي!
العجوز
(تخرج البطة)
:
خذها! … إنها كل ما أحمل.
شيخ البلد
(وهو يتناول البطة)
:
أرأيت؟ … ها أنت ذي تحملين شيئًا آخر غير فقرك! …
فلنتعاون إذن على حمل الثقل لأخفف عنك … أنت تحملين فقرك،
وأنا أحمل بطتك!
العجوز
(متنهدة)
:
إنها كل ما أملك … أردت أن أشتري بها قمحًا أصنع منه
فطيرة لحفيدي اليتيم!
شيخ البلد
:
أنا أيضًا يتيم … ثقي من ذلك! وعندما أقول شيئًا يجب أن
تصدقيه … إني ما كذبت في حياتي قط … إلى اللقاء في السوق
القادمة أيتها العجوز الصادقة!
(يذهب حاملًا البطة، وتنهض العجوز تلطِم
خديها وتنصرف في الاتجاه الذي سارت فيه زميلاتها الفلاحات منذ
قليل. ولا تمضي لحظات حتى تُسْمَعَ أصوات مزاميرَ خافتة تخرج
من الغاب … ثم يظهر سبعة رجال على رءوسهم قلانس كأنها أذناب
العقارب، وفي آذانهم أقلام من القصب، وهم ينفخون في المزامير،
ما عدا سابعهم ويدعى «مسطاط» وقد تخلف عن صفهم.)
العقارب
(ينشدون وهم يسيرون في شبه رقص)
:
نحن العقارب السبع.
هكذا يسموننا؛
لأننا نجيد اللسع،
وفي أسنان أقلامنا،
ترياق وسموم.
مسطاط
(صائحًا بهم)
:
حان وقت الشروق
واليوم يوم السوق
ونحن نرقص في الطريق
بين ظالم ومظلوم
وسارق ومسروق
العقارب
(ينشدون)
:
حان وقت الشروق واليوم يوم السوق … إلخ.
(ثم يذهبون تاركين مسطاط يلتفت خلفه كمن
ينتظر أحدًا … وعندئذ يظهر توت من بين الغاب.)
توت
:
أسرع يا مسطاط! … إنهم قد سبقونا.
مسطاط
:
لن أذهب.
توت
:
لماذا؟
مسطاط
:
أيعجبك يا توت هذا الذي يحدث من شيخ البلد؟! أكان يحدث
مثل هذا من قبل؟!
توت
:
ليس هذا من شأننا … فلنلحق بإخواننا، لنرفه عن أهل السوق
بمزاميرنا!
مسطاط
:
أهل السوق ليسوا اليوم في حاجة إلى مزاميرنا. إنهم في
حاجة إلى معونتنا، ونحن نختبئ هنا خلف هذا الغاب، ونهرب
ممن ينادينا.
توت
:
ماذا تريد أن نصنع لهؤلاء؟! لقد تعبت من صنع التمائم
والتعاويذ … إني لست بساحر، إني فنان، سحري هو فني، ولكنهم
لا يريدون أن يفهموا ذلك … هؤلاء السذج! … إنهم يصرون على
تسميتي الساحر، ويلحون في طلب التعاويذ والتمائم … وقد
تركتهم في وهمهم … ولكنهم تمادوا … كل حامل قلم عندهم ساحر
… هؤلاء الجهلاء!
مسطاط
:
إنهم على صواب!
توت
:
ماذا تقول؟
مسطاط
:
كل حامل قلم ساحر … لماذا لا يكون الأمر كذلك؟!
توت
:
أنت أيضًا تقول هذا يا مسطاط؟! أنت الذي تدري حقيقة
عملنا؟!
مسطاط
:
قد يكون لشكوى نكتبها بإخلاص وإيمان، فعلُ السحر.
توت
:
كتبنا وما من أذن سمعت!
مسطاط
:
لأنها لم تصل إلى الأذن التي يجب أن تسمع! أنت تعلم ذلك
يا توت، إنها لا يمكن أن تقع اليوم إلا في يد المشكو، وأنت
تعلم أيضًا من هو المتصرف الحقيقي في البلد اليوم!
توت
:
نعم مع الأسف … طيفون هو المتصرف الحقيقي.
مسطاط
:
هو وحده الذي يدير من قصره كل شئون المملكة، بينما شقيقه
الطيب حاكمنا أوزيريس …
توت
:
مشغول عن الحكم باكتشافاته واختراعاته … نعم … كلنا
يقولها ببساطة، ولكن أجبني أنت: هل في ذلك لوم
عليه؟!
مسطاط
:
ومن الذي يلومه؟! أنا آخر من يلومه … إن علمه وابتكاراته
هي وحدها — في نظري، كما تعلم — التي درت الخير على هذا
البلد … لولاه ما استطاع الفلاح أن يزرع، ولا حضارتنا أن
تكون، من ينكر أنه مخترع المحراث والشادوف ومشيد الجسور
والقناطر … ولكن الأمر الذي لا يُنكَر أيضًا هو أنه ترك
شئون الحكم إلى شقيق داهية ماكر يعمل ليصطنع الأنصار
ويستميل أشياخ البلد ويتركهم ينهبون الشعب.
(يسمع صوت صياح ونداء.)
الصوت
(من بعيد)
:
توت! … أين أنت يا توت؟!
توت
:
هذه امرأة تناديني … هلم بنا نهرب!
مسطاط
:
نهرب؟ … نهرب من مثل هذا النداء … الفاجع؟!
توت
:
تلك امرأة ولا شك فقدت بطة أو خُطِفَت منها عنزة … هذا
هو كل النداء الفاجع … إني أعرفهن … أعرف هؤلاء
النسوة!
مسطاط
:
فليكن! … ليس من حقنا الهرب ممن يطلبنا!
المرأة
(صائحة من بعيد)
:
توت … يا توت!
توت
(متأهبًا للهروب)
:
إني ذاهب … ابق أنت إذا شئت، ما دام الأمر يروق
لك.
مسطاط
(يمسك به)
:
لن تذهب … سنبقى معًا … وسنواجهها، ونعمل من أجلها
شيئًا.
(تظهر امرأة تخفي وجهها بنقاب
أسود.)
المرأة
:
توت! … أنجدني!
توت
:
تكلمي وأسرعي! ماذا خُطِفَ منك؟ ماذا فقدت؟!
المرأة
:
زوجي.
توت
:
ماذا تقولين؟! … زوجك؟!
المرأة
:
نعم … زوجي.
توت
:
أعترف أني لم أكن أتوقع ذلك … المسألة خرجت عن نطاق
البطة والإوزة والعنزة! … وصرنا إلى ما هو أكبر من ذلك
حجمًا وقدرًا … (يلتفت إلى زميله) أيعجبك هذا يا
مسطاط؟!
المرأة
:
لا تسخر يا توت … الأمر أخطر مما تظن!
مسطاط
:
صدقت المرأة! … إن فقد زوج ليس بالأمر الذي يدعو إلى
السخرية.
المرأة
:
وأي زوج لو علمتم! … أتدري يا توت من هو الرجل الذي جئت
إليك من أجله؟
توت
:
من هو.
المرأة
:
أوزيريس.
توت
:
ماذا أسمع؟!
المرأة
:
نعم … هو أوزيريس.
توت
:
أوزيريس الملك؟!
المرأة
(تخلع نقابها)
:
نعم … زوجي.
توت
(وهو ينظر إليها)
:
إيزيس!
إيزيس
:
أنت تعرفني جيدًا … إني ما كنت أجيء إليك في مثل هذه
الساعة إلا لأن الذي حدث يستوجب القلق … بل أكثر من القلق
… قلبي يحدثني — وقَلَّمَا يخطئ قلبي — أن كارثة توشك أن
تقع … إن لم تكن قد وقعت بالفعل.
توت
:
ماذا حدث لأوزيريس؟! … تكلمي!
إيزيس
:
خرج من قصره البارحة ولم يعد حتى الساعة!
توت
:
هذا أمر لا أحسبه يدعو إلى كل هذا القلق! … لعله شغل
باختراع جديد أو كشف أخير، واستغرقه العمل فنسي نفسه ونسي
الوقت، هذا يحدث له أحيانًا … وأنت تعلمين ذلك حق العلم،
إنه في هذه الأيام، كما بلغنا، مشغول بابتكار ساقية جديدة
تُخرج من الماء أضعاف ما تُخرج السواقي القائمة. من
يدريكِ؟ … قد يكون الساعةَ في مكانٍ ما على النيل يُجري
تجرِبة من تجارِبه.
إيزيس
:
لا … لم يذهب إلى عمل من أعماله، لقد دعاه أخوه طيفون
إلى وليمة عشاء … وقد ذهب بمفرده إلى قصر أخيه.
توت
:
وهل سألت عنه في هذا القصر؟
إيزيس
:
سألت، فأظهر لي أخوه الدهشة، وقال لي: إنه غادر القصر في
منتصف الليل، ووعدني بأن يأمر بالبحث عنه في كل
مكان.
توت
:
انتظري إذن نتيجة البحث.
إيزيس
:
أهذا كل ما تنصحني به؟! ألهذا جئت إليك يا توت؟! لتلقي
إليَّ بهذه الكلمة؟! لتقول لي: انتظري! … أنتظر حتى يبحث
لي طيفون عن زوجي؟!
توت
:
تريدين أن تبحثي عن زوجك بنفسك؟
إيزيس
:
هذا واجبي.
توت
:
إذن افعلي!
إيزيس
:
هذا ما أفعل، ولهذا جئت إليك ألتمس المعونة.
توت
:
إني رهن إشارتك، كيف أستطيع أن أعاونك في مسألة
كهذه؟
إيزيس
:
تستطيع … إن في قدرتك السحرية …
توت
:
عجبًا! … أنتِ أيضًا تقولين هذا؟!
إيزيس
:
وأي غرابة في ذلك؟!
توت
:
تلجئين إلى السحر؟!
إيزيس
:
ألجأ إلى كل وسيلة تدلني على مكان زوجي!
توت
:
تفعلين مثل أولئك الفلاحات الساذجات، ممن يصدقن أني أصنع
المعجزات؟!
إيزيس
:
وأي فارق بيني وبينهن؟! ألست منهن؟! إني امرأة مثل
الأخريات، عندما نفقد شيئًا عزيزًا فإنا نلتمس المعجزة حيث
تكون.
توت
:
كل ما أستطيع هو أن أكتب لك شكوى أو تعويذة. أما الشكوى
فلا محل لها، لأن الذي بيده الحكم الآن قد وعدك خيرًا،
وأما التعويذة فإني أصارحك، لما أعلمه من حصافتك، إنها
ليست هي التي ستعثر لك على زوجك.
إيزيس
(بألم)
:
لماذا تُحطم أملي فيك؟
توت
:
أردت أن أبصرك
بالحقيقة. في مقدوري أن أكتب لك تعاويذ وتمائم، كما أفعل
للآخرين عندما يُلِحُّون، فأذعن لأريح رأسي، ثم يدهشني بعد
ذلك قولهم إنهم يجدون بها أحيانًا ما يفقدون … أتريدين أن
أصنع لك ذلك؟! … ثقي أن هذا ليس بعمل جدي، إن عمليَ
المجديَ حقًّا تلك المزامير التي أصنعها من القصب … وهي
وحدها التي تحوي كل السحر.
مسطاط
(متدخلًا)
:
لا … ولا هذه أيضًا … إن السحر ليس في المزامير.
توت
:
فيم إذن؟
مسطاط
:
في الإيمان الذي قد تلقيه أحيانًا في النفوس.
توت
:
ربما.
مسطاط
(لإيزيس)
:
إيذني لي يا سيدتي أن أتطفل بالرأي … إن معجزتك ليست عند
توت ولا عندي، إنها عندك أنت!
إيزيس
:
عندي أنا؟!
مسطاط
:
نعم … في قلبك … أصغي إلى قلبك وحده! هو الذي يدلك … هو
الذي يقول لك إن زوجك في أمان أو في كرب … بماذا يهمس لك
قلبك الآن؟
إيزيس
(كالمخاطبة لنفسها)
:
إنه في كرب.
مسطاط
:
هل يهمس لك أيضًا بأن أحدًا أراده بسوء؟!
إيزيس
:
لست أتهم أحدًا … ولكن طيفون … وهذا لم يعد بالسر
الخافي.
توت
:
ماذا تريدين بهذا التلميح؟! … أرأيت يا مسطاط؟! … ألم
أقل لك فلنهرب؟! … إن الأمر سيصل إلى اتهام طيفون … وسيسفر
عن نزاع على الحكم بين شقيقين … وسنجد أنفسنا بذلك قد
جُرِرنا إلى صميم السياسة!
مسطاط
:
إذا كان لطيفون يد حقًّا في الأمر، فإن هذا لأدعى
…
توت
:
أدعى إلى ماذا؟!
مسطاط
:
إلى أن نقف بجانب هذه السيدة!
توت
(صائحًا)
:
يا للكارثة! … أتدري معنى ما تقول أيها المجنون؟! … تريد
أن تدخلنا في حرب ضد طيفون؟!
مسطاط
:
وما الذي يخيفك؟ … من يحمل قلمَك مم يخاف؟!
توت
:
قلمي للتسجيل لا للحرب.
مسطاط
:
قلمك للمحتاجين إليه.
توت
:
أتريد أن تخرجني من صناعتي؟! … أنا توت المسجل … ألا
تعرف أن صناعتي هي أني حامل القلم المسجل … لا أناصر أحدًا
ولا أحارب أحدًا … أنا توت المسجل … المسجل … أسجل كل شيء
… ولا شأن لي بأحد.
مسطاط
:
لا شأن لك بأحد؟!
توت
(صائحًا)
:
نعم … وأقولها بأعلى صوتي!
إيزيس
(ناهضة)
:
لا داعي إلى رفع صوتك يا توت! … لقد سمعت وفهمت وأشكرك …
سأذهب وحدي للبحث عن زوجي … سأعمل وحدي! … سأجاهد
وحدي!
(تنصرف … ويُطرِق توت، بينما يشيعها مسطاط
بالنظر الآسف الحزين … ثم لا يلبث أن ينتفض ناهضًا.)
توت
(ملتفتًا إليه)
:
ماذا دهاك؟! … إلى أين؟
مسطاط
:
سأعاونها أنا.
توت
:
ابق مكانك!
مسطاط
:
ما من قوة تمنعني.
توت
:
لن يمنعك غير رأيك … رأيك أنت الذي أبديته منذ قليل …
ألست القائل لها: إن معجزتها هي في قلبها؟ … دعها تواجه
مصيرها بنفسها … ليظهر معدن عزمها.
المنظر الثاني
(عين المنظر على شاطئ النيل … ولكن الليل قد
خيم على المكان … يظهر في الظلام شبح شيخ البلد البدين وهو يسير
بحذر، ثم يلتفت إلى الخلف ويشير بيده فيظهر أربعة أشخاص يحملون
صندوقًا كبيرًا، وخلفهم رجل تبدو عليه هيئة الأمر والنهي هو
«طيفون».)
شيخ البلد
(في صوت خافت)
:
هنا … في هذا الموضع من النيل يكثر الغاب والبردي … كما
ترون.
طيفون
:
ألم يرنا أحد ونحن خارجون من القصر بهذا الصندوق؟
شيخ البلد
:
في مثل هذا الوقت من الليل والظلام دامس؟! … إن هذا
لمستحيل!
طيفون
:
خيرًا صنعنا إذن بانتظارنا حتى يخيم الليل.
شيخ البلد
:
كل الخير أيها الملك.
طيفون
:
لست بالملك بعد … لا تكن عجولًا، إن الأمور يجب أن تسير
خطوة خطوة … قبل كل شيء يجب التخلص من هذا الصندوق.
شيخ البلد
:
هنا دغل الغاب والبردي سيخفيه عن الأنظار إلى أن يجرفه
التيار.
طيفون
:
افعلوا.
شيخ البلد
(مشيرًا إلى الرجال)
:
تقدموا بحملكم وألقوا به هنا … بهدوء … بغير أن تحدثوا
صوتًا.
(الرجال يقومون بإلقاء الصندوق حيث أشار
شيخ البلد.)
طيفون
:
نعم بهدوء … هكذا تتم دائمًا الأمور الناجحة؛ لأن الهدوء
مظهر من مظاهر الأمر الطبيعي … ونحن نريد أن يسير كل شيء
سيرًا طبيعيًّا.
شيخ البلد
:
ما من شك أن الأمر طبيعي … أليس من الطبيعي لرجل مشغول
بصنع ساقية أن يكون على حافة النيل؟ … فإذا دهمه الظلام
أليس من الطبيعي أن تزل قدمه؟ … وإذا زلت قدمه أليس من
الطبيعي أن يجرفه التيار؟ وإذا جرفه التيار أليس من
الطبيعي أن يختفي عن الوجود؟
طيفون
:
نعم هذا ما ينبغي أن يُنشَر ويذاع في البلد منذ
الغد.
شيخ البلد
:
منذ الليلة.
طيفون
:
إن له أنصارًا. لا تنس ذلك!
شيخ البلد
:
من عامة الناس … نعم … وهم مشتتون هنا وهناك … ولكن
أنصارنا نحن أشد تنظيمًا … وهم من الرؤساء.
طيفون
:
أشياخ البلاد، أأنت واثق منهم جميعًا؟
شيخ البلد
:
جميعًا … ثقتي بنفسي … أوَلم تتركهم يُثْرُون؟ … إنهم
يذكرون لك ذلك … كلهم يَدين لك بالولاء.
طيفون
:
كل شيء على ما يرام إذن!
شيخ البلد
:
إن براعتك أيها الملك قد حسَبت لكل شيء حسابًا … فلتطمئن
كل الاطمئنان.
طيفون
:
ومع ذلك … عندما يُعلَن الخبر فهناك من سيرتاب في الأمر
كل الارتياب.
شيخ البلد
:
من تعني؟
طيفون
:
زوجته على الأقل!
شيخ البلد
:
إيزيس؟!
طيفون
:
طرقَتْ أبوابي فجر اليوم تسأل عن زوجها … ولمحت في
عينيها معاني غريبة … لم تعجبني.
شيخ البلد
:
إنها امرأة … ماذا تستطيع امرأة؟
طيفون
:
إنها ليست مع ذلك بالهينة، أنت لا تعرفها.
شيخ البلد
:
إنها امرأة بمفردها.
طيفون
:
ولكنها صُلبة كالصخرة … ستبحث عن زوجها في كل ركن …
وستطرق كل باب … وستسأل كل حي … إنها ستثير لنا
المتاعب.
شيخ البلد
:
سأسد عليها الطرق … اتركها لي.
طيفون
:
تركتها لك … إن أمامي عملًا جسيمًا. الحكم يقظة دائمة،
والحاكم يجب أن يكون كالذئب ينام بعين مفتوحة، ومن ينعَس
بملء جفنيه كالأطفال وكشقيقي، فإنه قد يصلح كاهنًا أو
عالمًا، ولكنه لا يصلح حاكمًا … والآن هلم بنا … هل
انتهوا؟
شيخ البلد
(وهو ينظر إلى موضع البردي)
:
نعم … وقد فرغوا. ولم يتبق للصندوق أثرٌ ها هنا، فقد
حمله التيار.
طيفون
(متجهًا نحو النيل)
:
إلى الأبدية يا أوزيريس! … يا شقيقي العزيز! … في قلبي
حزن من أجلك، ولكن المُلك لمن يعرف كيف يناله … فاغفر
لي!
شيخ البلد
:
هلم بنا أيها الملك!
طيفون
:
هيا بنا.
(ينصرفان وينصرف خلفهما الرجال الأربعة،
ويخلو المكان لحظة … وإذا بغلام يظهر من الجهة الأخرى متسللًا
في حذر وهو يشير لغلام آخر خلفه.)
الغلام الأول
(هامسًا)
:
تعال … لقد مروا بهذا المكان … إني واثق.
الغلام الثاني
:
تقول إنهم كانوا يحملون صندوقًا.
الغلام الأول
:
نعم … نعم … صندوق كبير جميل … براق كأنه من
الذهب.
الغلام الثاني
:
ترى ماذا يوجد في هذا الصندوق؟
الغلام الأول
:
لا أدري … لا بد أن يكون فيه أشياء جميلة.
الغلام الثاني
:
ومن هم هؤلاء الأشخاص؟
الغلام الأول
:
لا أعرف، خُيِّلَ إلي مع ذلك أني لمحت معهم رجلًا بدينًا
مثل شيخ البلد.
الغلام الثاني
:
إنهم ليسوا إذن بلصوص يحملون مسروقًا … ما دمت تقول إن
شيخ البلد معهم.
الغلام الأول
:
لا أدري من هم.
الغلام الثاني
:
ولكن … لماذا يأتون بصندوق إلى هذا المكان
المنعزل؟
الغلام الأول
:
لقد رأيتهم من بعيد يقفون هنا لحظة … ولم أجرؤ على
الاقتراب منهم.
الغلام الثاني
:
ربما جاءوا يخفون الصندوق هنا … تعال نبحث.
الغلام الأول
:
إني خائف.
الغلام الثاني
:
ممن تخاف؟ أيها الجبان!
الغلام الأول
:
لست جبانًا … ولكن …
الغلام الثاني
:
لا ترتعد هكذا … المكان كما ترى … وما من أحد هنا
غيرنا.
الغلام الأول
:
هب أننا وجدنا الصندوق؟ ماذا نفعل؟
الغلام الثاني
:
يا لك من أحمق! صندوق جميل كما تقول فيه أشياء جميلة …
ألا نفتحه لنرى ما فيه؟
الغلام الأول
:
لنرى ما فيه فقط لا لنسرق.
الغلام الثاني
:
طبعًا. ومن قال إننا سنسرق ما بداخله؟
الغلام الأول
:
فلنبحث عنه إذن ولنسرع!
الغلام الثاني
:
نعم … فلنسرع! … إنه لا شك في هذا الدغل من
الغاب.
الغلام الأول
(صائحًا وهو يشير إلى مجرى
النيل)
:
انظر … انظر!
الغلام الثاني
(يلتفت)
:
ماذا؟
الغلام الأول
(مشيرًا بأصبعه)
:
هناك! … في المجرى … شيء يبرق.
الغلام الثاني
(ناظرًا)
:
نعم … نعم … شيء يبرق وسط التيار … يظهر ويختفي.
الغلام الأول
:
إنه الصندوق.
الغلام الثاني
:
أأنت واثق؟
الغلام الأول
:
هو هو الصندوق … هو بعينه.
الغلام الثاني
(ناظرًا)
:
إنه يبتعد … التيار يحمله بعيدًا … لن نستطيع اللَّحاق
به، حتى ولو سبحنا خلفه بكل قوانا.
الغلام الأول
:
ولماذا لا نجرب؟
الغلام الثاني
:
لا تكن مجنونًا.
الغلام الأول
(وهو يخلع ملابسه)
:
سأسبح خلفه!
الغلام الثاني
:
لا تتقدم … إنها مجازفة!
الغلام الأول
(وهو يتأهب للسباحة)
:
قلت لك إني لست جبانًا … سأجازف … إلى اللقاء!
(يلقي بنفسه في الماء.)
الغلام الثاني
(صائحًا)
:
أيها المجنون! … في هذا الليل والتيار جارف! تجازف
بحياتك من أجل شيء مغلق يبرق لا تعرف ما فيه.
المنظر الثالث
(قرية مصرية … بيوت صغيرة تلفظ أبوابها في شبه
«جرن» أو ساحة في وسطها شجرة جُمَّيْز ضخمة … شيخ البلد يظهر بعصاه
الطويلة، ويقف تحت الشجرة وهو ينادي: «يا أهل القرية» … يقبل عليه
الرجال والنسوة والغلمان … تفتح أبواب الدُّور ويخرج منها من
بداخلها.)
شيخ البلد
(يدق الأرض بعصاه ويكرر النداء)
:
يا أهل القرية … جئتكم بالأمس أعلن إليكم الخبر السعيد …
خبر اعتلاء الملك الجديد العرش … ملكنا المحبوب طيفون …
لقد بشرتكم وأبشركم مرة أخرى الآن بعهد رخاء وأمان، لقد
كنتم في عهد الملك الراحل تشكون مما كان يؤخذ منكم في
الأسواق، اليوم لن يؤخذ منكم إلا نصف ما كنتم تعطون …
لتوقنوا أن العهد قد تغير وأن طيفون ساهر على راحتكم مدبر
لأموالكم. قولوا معي: النصر لطيفون!
أهل القرية
(صائحين)
:
النصر لطيفون!
شيخ البلد
:
الآن جئت إليكم أخبركم وأحذركم: تجوب القرى اليوم امرأة
مجنونة ساحرة، تزعم أنها تبحث عن زوجها، فلا تصغوا إليها!
سدوا آذانكم عن مزاعمها، وأغلقوا أبوابكم في وجهها، فإنها
حيث حلت تجر في أذيالها الشؤم والنحس. قولوا معي: الطرد
للمجنونة!
أهل القرية
:
الطرد للمجنونة!
شيخ البلد
:
البعد عن المشئومة!
أهل القرية
:
البعد عن المشئومة!
شيخ البلد
:
قد بلغتكم وحذرتكم. وأترككم في سلام يا أهل القرية
الآمنة.
(شيخ البلد ينصرف ويترك أهل القرية في
مكانهم ذاهلين لحظة، ثم يأخذ بعضهم في الانصراف إلى شأنه،
ويبقى البعض يتحادث فيما سمع.)
قروي
(لآخر)
:
ما كنا نرى من قبل شيخ البلد يعنى بالتحدث إلينا!
القروي الآخر
:
وما كان يأتي إلينا أحد يبشرنا بالرخاء المنتظر.
القروي الأول
:
لا ريب أنه عهد سعيد كما قال.
القروي الثاني
:
أسمعته وهو يقول إنه سيخفف عنا بعض ما كنا ندفع؟
القروي الأول
:
نعم … كنا في عهد ملك ذاهل … أما الآن …
القروي الثاني
:
قد تغير كل شيء. وأصبح لنا، كما قال شيخ البلد، ملك ساهر
على راحتنا وأموالنا.
قروية
(تقترب)
:
مَن هذه المرأة التي قال إنها تجلب معها الشؤم
والنحس؟
القروي الأول
:
لا ندري … لعلها امرأة ساحرة ممن يُحْدِث سحرُها الشر،
ولا شك أن لديه علمًا بخبرها … لعلها حلت بقرية أخرى فوقعت
فيها مصيبة.
القروية
:
فليبعدها الإله عن قريتنا … إني أُوجِس خِيفة … ابني خرج
في الليل مع صديق له ولم يعودا حتى الآن.
القروي الثاني
:
أي ابن من أبنائك؟
القروية
:
الأكبر … الغلام اليافع.
القروي الثاني
:
ربما يعمل في الحقل … نحن الآن في موسم الري بالليل كما
تعلمين.
القروية
:
صدقت … ربما يذهب لمعاونة صديقه في عمل عاجل في حقل من
الحقول … إنه أحيانًا يفعل ذلك.
القروي الثاني
:
ما دام يفعل ذلك أحيانًا، ففيم الخوف؟
القروي الأول
(ينظر ناحية الشجرة ويهمس)
:
انظر إلى شجرة الجُمَّيْز! … مَن المرأة التي جاءت تجلس
تحتها؟
(ينظران فيجدان امرأة قد جاءت وجلست تحتها
… هي إيزيس … وهي تخفي وجهها بنقابها الأسود.)
القروي الثاني
:
يبدو أنها امرأة غريبة عن القرية.
القروية
(في قلق)
:
غريبة!
القروي الأول
:
فلنسألها.
القروية
:
نعم فلنسألها من هي؟ … ولماذا جاءت؟ وعمن تبحث؟
القروي الثاني
:
اذهبي إليها أنت واسأليها.
القروية
(تتقدم إلى إيزيس)
:
يا خالة … أغريبة أنت عن القرية؟
إيزيس
:
نعم.
القروية
:
أتريدين أحدًا هنا؟
إيزيس
:
أريد أن أستريح قليلًا.
القروية
:
حقًّا أنت متعبة فيما أرى. أجئت من مكان بعيد؟
إيزيس
:
نعم … لقد طفت بقرى كثيرة على قدمي حتى كاد يقطر منهما
الدم.
القروية
:
تجوبين القرى؟! تبحثين عمن؟! … تبحثين عن زوجك؟
إيزيس
(بدهشة)
:
كيف عرفت؟
القروية
(صائحة)
:
هي … إنها هي … الساحرة المجنونة.
إيزيس
:
الساحرة المجنونة؟
القروية
:
المجنونة المشئومة التي حدثنا عنها شيخ البلد … اخرجي من
هذه القرية أيتها المرأة!
إيزيس
:
شيخ البلد! … سبقني إلى هذه القرية أيضًا؟!
القروية
:
إنها هي … هي … فلنطردها قبل أن … قبل أن …
إيزيس
:
مهلًا يا أخت … لا تغضبي … إني سأترك القرية عما قليل …
إني لم أرتكب شرًّا … ولن تجدي مني إلا كل خير … اجلسي
بجانبي، ولا تخشي من أمري شيئًا!
القروية
(ناظرة إلى القرويين)
:
كيف أجلس بجانبها؟!
القروي الأول
:
ما دامت لم ترتكب بعد شرًّا فلا تخافي! … أي ضير في أن
نسمع ما تقول؟
القروية
:
وتحذير شيخ البلد؟!
القروي الأول
:
ربما كانت امرأة أخرى غير المقصودة؟
القروية
:
بل إنها هي … هي التي تبحث عن زوجها. إنها هي التي تحمل
الشقاء إلى كل القرى.
إيزيس
:
ما أبرعهم! سرعان ما نشروا عني الأقاويل! أتعرفين من أنا
أيتها الأخت الطيبة؟
القروية
:
لا.
إيزيس
(تخلع نقابها)
:
أنا إيزيس.
القروية
:
إيزيس … زوجة …
القرويان
(معًا)
:
زوجة الملك الذاهل.
إيزيس
(في ألم)
:
الذاهل؟ … أهكذا تسمونه الآن أنتم أيضًا؟! … في كل مكان
أذهب إليه أسمع مثل هذا الكلام.
القروي الأول
:
جئت إذن تبحثين عنه؟!
القروي الثاني
:
أتظنين أنه مدفون هنا؟! … لماذا تجهدين نفسك في البحث
هنا وهناك؟! … مكانك في قصرك … والملك طيفون المحبوب لا شك
سيشملك بعطفه في هذا العهد السعيد.
إيزيس
:
العهد السعيد؟!
القروي الأول
:
بالطبع … إذا كان الملك الجديد سيسهر على راحتنا نحن
الفلاحين، فما من ريب أن أرملة أخيه ستكون أول من يظفر
برعايته.
إيزيس
:
قالوا لكم: إن طيفون سيسهر على راحتكم؟!
القروي الثاني
:
وهل في هذا شك؟!
إيزيس
:
وملككم أوزيريس نسيتموه؟!
القروي الأول
:
إنه كان مشغولًا بنفسه!
إيزيس
:
بنفسه! وا أسفاه … نعم نعم … صدَّقتم سريعًا كل هذه
الدِّعايات …
القروي الأول
:
صدقنا ماذا؟!
إيزيس
:
معذورون أنتم! … إنهم بارعون مهرة!
القروي الثاني
:
لم أفهم لماذا تجوبين القرى أيتها السيدة الكريمة …
لماذا لا تَقَرِّينَ في بيتك؟ … ما جدوى طوافك
هذا؟!
إيزيس
:
لن يَقَرَّ لي قرار حتى أعثر على زوجي.
القروي الأول
:
أهو لم يمت كما قيل؟!
إيزيس
:
إنه حي.
القروية
:
حي؟!
إيزيس
:
في مكان ما، ولو وجدت منكم معاونة لاكتشفت مكانه.
القروية
:
ماذا تريدين منا؟
إيزيس
:
إجابة بسيطة: أن يخبرني كل فرد منكم عما إذا كان قد شاهد
شيئًا غريبًا أو مريبًا مر به.
القروي الأول
:
أما أنا فلم أر شيئًا.
القروي الثاني
:
ولا أنا.
القروية
:
ولا أنا الأخرى.
إيزيس
:
أنتم لستم كل القرية … يجب أن أسأل كل فرد في كل بيت من
بيوتكم.
القروية
:
حذار أن تطرقي هذه الأبواب.
إيزيس
:
أعلم أن أكثر الأبواب مسدودة في وجهي … ولكني أريد أن
أعتمد عليكم … لأني أرى الطيبة في وجوهكم!
القروي الأول
:
لسنا نضمن الآخرين.
إيزيس
:
أعلم … ولكن فلنحاول.
القروية
:
سأطرق باب صديقة لي.
(تتجه إلى أحد الأبواب وتطرقه، ثم تعاود
طرقه طويلًا وأخيرًا يفتح الباب ويظهر منه رأس غلام.)
الغلام
(مضطربًا)
:
من؟! … أنت يا خالة!
القروية
:
عجبًا! أنت هنا في دارك؟ كنت أحسبك مع ابني في حقل من
الحقول … أين ابني إذن؟!
الغلام
:
ابنك؟
القروية
(صائحة)
:
ابني! … أين ابني؟
الغلام
:
ابنك … ابنك …
القروية
:
ابني … أين ابني؟ … ألم يكن معك؟
الغلام
:
نعم … يجب أن أقول لك كل شيء … لم يعد في إمكاني أن أخفي
عنك … إنه … لقد خرجنا معًا في الليل ليعاونني في الري …
ولكنه قال لي إنه شاهد صندوقًا كبيرًا يبرق في النيل، فنزل
يسبح خلفه … وكان التيار …
القروية
(في صرخة تفجع)
:
ابني غرق في النيل؟
الغلام
:
أقسم أني حاولت منعه من اللَّحاق بالصندوق … ولكنه لم
يستمع لنصحي.
القروية
(صائحة)
:
ابني … ابني … ابني غرق … مات … مات.
(جميع الأبواب تُفتَح، وتظهر نسوة يملأن
الساحة.)
نسوة
:
ما خطبك؟! ماذا جرى؟!
القروية
(مولولة)
:
ابني … مات … مات.
النسوة
:
متى؟ … متى حدث ذلك؟
القروية
(صائحة)
:
يا لليوم الشؤم! … يا لليوم النحس … الشؤم … النحس …
ابني … ابني … غلامي … أكبر أبنائي! … عماد داري … قوام
بيتي.
امرأة
(من بين النسوة تلمح إيزيس تحت
الشجرة)
:
من هذه المرأة الغريبة؟
القروية
(تنظر إلى إيزيس)
:
إنها هي … حل النحس بحلولها … صدق شيخ البلد … إنها هي …
هي المشئومة … جرت على قريتنا النحس.
النساء
(صائحات)
:
اطردوها! … اطردوها.
المنظر الرابع
(شاطئ النيل. الغلام يقود إيزيس.)
الغلام
(مشيرًا بيده إلى المجرى وهو يمسح
دمعه)
:
هنا … هنا غرق صديقي.
إيزيس
:
لا تبك … لقد قمت بالواجب عليك.
الغلام
:
أقسم لك أني نصحته أن لا يجازف بحياته.
إيزيس
:
والصندوق؟ … أكان حقًّا كبيرًا؟
الغلام
:
نعم.
إيزيس
:
وطوله؟ … أكان حقًّا كما وصفت؟
الغلام
:
نعم … نعم.
إيزيس
:
أكان في طول رجل؟
الغلام
:
كان في طول رجل مديد.
إيزيس
:
وكان يحمله رجال أربعة … معهم شيخ البلد.
الغلام
:
نعم … هكذا قال لي صديقي … ولكني لم أرهم بعيني.
إيزيس
:
ما دام صديقك قد رآهم، فهو لا شك صادق.
الغلام
:
ولكنه لم يقل إنه رآهم وهم يخفون الصندوق.
إيزيس
:
ولكنكما رأيتماه ملقى في مجرى النيل.
الغلام
:
نعم … كنا نحسبه مخبوءًا. وكنا موشكَيْن أن نبحث عنه في
دغل البردي … وفجأة أبصرناه والتيار يجرفه بعيدًا.
إيزيس
:
إلى أي جهة؟
الغلام
(مشيرًا بيده)
:
إلى الشمال.
إيزيس
:
الشمال؟
الغلام
:
لا ريب أنه ذهب الآن إلى مكان بعيد، فالتيار سريع
الجريان في هذا الوقت من العام.
إيزيس
:
وا حسرتاه.
الغلام
(ناظرًا إليها)
:
ألم تبصري هذا الصندوق من قبل؟
إيزيس
:
لا.
الغلام
:
وتهتمين بأمره هذا الاهتمام؟ … كيف لو رأيتِه إذن كما
رأيناه … لقد كان جميلًا باهرًا للبصر.
إيزيس
(بقوة وهي شاردة)
:
من هو؟
الغلام
:
الصندوق.
إيزيس
(تتنهد)
:
لو علمت ما بداخله أيها الغلام!
الغلام
:
أوَتعلمين أنت؟ … هذا ما كنا نريد نحن أن نعلم … ما كنا
نريد أن نسرق ما فيه … أقسم لك. ولكنا كنا نريد أن نرى ما
بداخله من أشياء رائعة … إن مثل هذا الصندوق لا بد أنه
يحوي أشياء رائعة … أليس كذلك؟
إيزيس
:
وأية روعة!
الغلام
:
إنك تعلمين ما فيه إذن … إنك ساحرة، كما يقولون
عنك.
إيزيس
:
لست ساحرة.
الغلام
:
لا تغضبي … إني أصدقك وأطمئن إليك … لقد طردوك من القرية
بسببي … إنك لم تأت بالنحس، إن النحس هبط على القرية في
الليل ساعة أن غرق صديقي … وأنت لم تهبطي القرية إلا في
الصباح … أنا وحدي الذي أعرف أنهم ظلموك.
إيزيس
:
ما أطيبك أيها الغلام!
الغلام
:
في نظرتك حزن … لماذا؟
إيزيس
:
لأني … فقدت شيئًا عزيزًا.
الغلام
:
ماذا فقدت؟ … لعله هذا الصندوق الذي اهتممت بأمره منذ
سمعتني أذكره في القرية؟ … أهو مسروق منك؟
إيزيس
:
مسروق مني؟ ماذا أقول لك؟ … إنك تلقي الكلام ببساطة
وبراءة … ومع ذلك …
الغلام
:
إنك تعلمين ما بداخله … إني الآن على يقين … هي جواهر …
جواهرك … أليس كذلك؟ … خطفوها منك … إن شيخ البلد اعتاد أن
يخطف من الناس.
إيزيس
(مطرقة تمسح دمعة)
:
حقًّا … خطفوه مني!
الغلام
:
هو جوهر إذن … ذلك الذي في الصندوق!
إيزيس
:
وأي جوهر!
الغلام
(ببراءة)
:
صفيه لي!
إيزيس
:
هو جوهر يضيء للناس … ويكتشف لهم ما ينفعهم … وا
أسفاه!
الغلام
(بسذاجة)
:
يضيء؟ … نعم حقيقة … إنه كان يضيء ويبرق وسط التيار …
وقد بهر صديقي. فألقى بنفسه خلفه ومات من أجل هذا الشيء
دون أن يعلم ما فيه.
إيزيس
(وقد سالت من عينها دمعة)
:
لقد مات من أجل شيء عظيم دون أن يعلم.
الغلام
:
أتبكين؟
إيزيس
(تمسح عينيها بقوة)
:
لا … لا ينبغي أن أبكي … صاحبك لم يبك وهو يلقي بنفسه في
اليم خلفه؟
الغلام
:
لا … بل كان يبتسم.
إيزيس
:
أرأيت؟ … هذا درس لنا … يجب أن ننهض نحن أيضًا ونلقي
بأنفسنا خلفه … في الجهاد … دون أن نبكي … الجهاد من أجل
البحث عنه.
الغلام
:
ولكنه ذهب بعيدًا … إن الصندوق قد ذهب بعيدًا … حمله
التيار إلى الشمال.
إيزيس
:
سنسير إلى الشمال … على أقدامنا الدامية … إلى
الشمال.
الغلام
:
سوف نسير طويلًا.
إيزيس
:
سأسير الحياة كلها إذا لزم الأمر … سأسير وحدي … اذهب
أنت إلى قريتك … لا شأن لك بكل هذا … سأسير … وسأصمد أمام
كل عقبة حتى أعثر عليه.
الغلام
:
تسيرين وحدك؟ … ألا تخافين الليل … وعواء الذئاب من
حولك؟ … وصرخات ابن آوى.
إيزيس
:
لن أخاف … اذهب أنت إلى أهلك أيها الغلام الطيب … إني لك
شاكرة … لن أنسى وقوفك إلى جانبي وخروجك معي … والقرية
ترجمني بالحجارة!
الغلام
:
لولا خشيتي أن تقلق أمي لسرت معك حتى الغد. ولكني أتمنى
لك حظًّا حسنًا، وليكن الإله لك معينًا.
(ينصرف الغلام وتحاول إيزيس أن تسير بقوة
وعزم، ولكنها تلتفت إلى النيل في الموضع الذي ظهر فيه الصندوق
… وتتخاذل وتنهار وتقع على ركبتها مادة يدها نحو ذلك الموضع من
النهر صائحة باكية مولولة نائحة.)
إيزيس
(نائحة)
:
أوزيريس … أين أنت يا أوزيريس أين أنت؟ … أين
أنت؟
كان لك بيت!
كان لك ملك!
كان لك حب!
في كل قلب.
عد إلى بيتك يا أوزيريس.
عد إلى ملكك أيها العزيز.
عد إلى زوجك أيها الحبيب.
عد إلى التي تحبك إيزيس.
عد … عد … عد!
(ترتمي على وجهها باكية في غير شهيق …
وتمكث بلا حراك لحظة كأنها في إغماء … وإذا صوت غناء ملاح يشد
حبل مركب يقترب منها فتنهض في الحال.)
إيزيس
(تنادي بقوة وعزيمة)
:
أيها الملاح!
الملاح
(يقف)
:
من يناديني؟
إيزيس
:
من أين أنت قادم؟
الملاح
:
من الشمال … كما ترين.
إيزيس
(كالمخاطبة لنفسها)
:
نعم … من الشمال؟
الملاح
:
نسير كما ترين عكس التيار … ولا ريح تدفع في شراعنا …
فبدلًا من أن يجرنا المركب بالشراع نجره نحن
بالحبال.
إيزيس
:
ومن أي جهات الشمال جئتم؟
الملاح
:
من قرب البحر الكبير.
إيزيس
:
نعم … نعم، أخبرني أيها الملاح … أما صادفتم شيئًا
غريبًا في النيل وأنتم سائرون؟
الملاح
:
شيئًا غريبًا؟! … نحن لا نصادف غير الريح … تارة في
ظهورنا. وتارة في وجوهنا … ثم تختفي فلا نجدها هنا ولا
هناك.
إيزيس
:
في النيل … أما وقع بصركم على شيء؟
الملاح
:
علام تريدين أن يقع بصرنا في النيل … إن الأسماك لا تخرج
رءوسها من الماء … ولا ألسنتها.
إيزيس
:
لا أقصد الأسماك.
الملاح
:
ماذا تقصدين إذن؟ … أفصحي!
إيزيس
:
ألم تلمحوا شيئًا يبرق في التيار؟
الملاح
:
يبرق؟
إيزيس
:
شيئًا يبهر البصر؟
الملاح
:
رأينا قرب البحر الكبير البرق في السماء … ولكن البرق
الذي في الماء لم نره بعد.
إيزيس
:
لا أقصد هذا البرق.
الملاح
:
إنك تقصدين أن تعوقينا عن سيرنا … لقد آمنت أن الملاحة
لا يعطلها غير شيئين: سكوت الهواء وانطلاق لسان
امرأة.
إيزيس
(متوسلة)
:
انتظر أيها الملاح! … كلمة واحدة!
الملاح
:
تكلمي وأسرعي.
إيزيس
:
ألم تصادفوا … شيئًا يسبح؟
الملاح
:
نحن لا نصادف إلا أشياء تسبح … أوَتظنين أننا المركب
الوحيد الذي يسبح في النيل!
إيزيس
:
لست أعني المراكب، أعني شيئًا آخر يسبح … صندوقًا
مثلًا.
الملاح
:
صندوقًا؟!
إيزيس
:
نعم … ألم تروا صندوقًا سابحًا في التيار؟
الملاح
:
صندوقًا كبيرًا؟!
إيزيس
(بلهفة)
:
نعم.
الملاح
:
لم أره بعيني.
إيزيس
:
سمعت؟
الملاح
:
كلامًا مما يقال بين الملاحين للسمر … بعد
العَشاء.
إيزيس
:
ماذا قالوا؟ … أسرع … أتوسل إليك!
الملاح
:
قابلنا مركبًا متجهًا نحو الشمال، كان ملاحوه يتحدثون عن
صندوق كبير وجدوه عائمًا … كاد يصدمهم فأخرجوه.
إيزيس
:
ماذا صنعوا به؟
الملاح
:
لا أدري … لعلهم وضعوه في مركبهم.
إيزيس
:
وأين هذا المركب؟
الملاح
:
رحل.
إيزيس
:
إلى أين رحل؟ … إلى أين؟
الملاح
:
خرج هذا المركب إلى البحر ميممًا شطر بِبلُوس.
إيزيس
:
بِبلُوس؟!
الملاح
:
نعم … مملكة بِبلُوس … ألا تعرفين أين تقع مملكة
بِبلُوس؟!
إيزيس
(كالمخاطبة لنفسها)
:
نعم … بِبلُوس!
الملاح
:
والآن … هل لديك سؤال آخر؟!
إيزيس
(كالشاردة)
:
لا … شكرًا لك!
الملاح
:
ها هي ذي نسمة ريح تهب … إذا سكتت المرأة نطقت الريح …
فلنغتنم هذه النسمة … تركتك بخير أيتها المرأة!
(ينصرف جاذبًا حباله وهو يغني
أغنية.)
إيزيس
(صائحة في أمل وعزم)
:
بِبلُوس … أوزيريس!