الشعراء العلماء
(١) الشيخان: الأحدب والأسير
عاشا صديقين، وكأنَّهما كانا على موعد فلحق الأحدب بصفيِّه الأسير بعد أشهر. فالشيخ إبراهيم الأحدب طرابلسي المنشأ والمربى، دب ودرج على موسيقى نهر «بو علي» الثرثار، وعلِق بنفسه أريج بساتين الفيحاء. أعطته وأعطاها فردَّ إليها الكيل كيلين، وعرف بها وعرفت به حقبة من الزمن. كان لجمال طبيعتها يد في طبعه على حب الجمال، فاستيقظت فيه قريحة الشاعر العجيبة، فأرسل الشعر عفو الطبع، وهو لو شاء أن يكون حديثه كلامًا منظومًا لاستطاع؛ كذا قالوا، ولكنه قول يصدق فيمن بلغ مجموع ما نظم ثمانين ألف بيت، وكلها من الكلام الذي لا غبار عليه.
نشأ الأحدب في وكنات الكتَّاب، وما كان أكثرها في طرابلس، وأخذ لغة الضاد عن شيوخ زمانه. حفظ كتاب الله فأولى كلامه مسحة رائعة من جمال البيان والبديع، وتبحر في العلوم الدينية واللسانية، فصار حجة جيله في الفقة والتأويل والأحاديث المسندة، وكان له القول الفصل حين تختلف الآراء في الفرائض؛ فيأخذ الميراث من يستحقه.
وكأن طرابلس قد ضاقت على الشيخ، فرحل إلى عاصمة الخلافة فأحله علماؤها صدور مجالسهم، ثم زار مصر فلقي فيها الحفاوة والاحترام، ثم قفل إلى بيروت فكان محله من الأدباء والمتأدبين محل القطب من الرحى، فخدم الوطن والآداب بمن علم وهذب وثقف، وبما ألف وأنشأ وصنف من كتب جليلة كانت زاوية ضخمة في صرح النهضة الحديثة. وإذا كان لا بد لكل قرن من ثالوث، تبعًا للتقسيم التقليدي، فالشدياق والأحدب والأسير هم ثالوث الفصحى في القرن التاسع عشر.
أخرج الأحدب ثلاثة دواوين من الشعر، وثمانين مقامة نحا فيها نحو الحريري، فلم يقصر عنه بلاغة وصحة تعبير، وبارى الزمخشريَّ في كتابه «فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق» فبزه أو كاد، وجارى ابن مالك، ولكن في غير نظم النحو والصرف، فنظم ببيان مشرق الديباجة «أمثال الميداني» فجاء كتابه أنيق النظم والطبع، أخرجته المطبعة اليسوعية بحلة قشيبة، فكان آية من آيات الطباعة في ذاك الزمان وهذا العصر.
وكأني بثقافة الشيخ العربية قد دفعته إلى إحياء آثار السلف، فعمد إلى تحقيق وشرح رسائل بديع الزمان في كتاب سماه «كشف المعاني والبيان» فكشفت لنا حواشي الشيخ إبراهيم عن أدب وظرف فيما حشى وعلق، فصار الكتاب كتابين، وكثيرًا ما يحدث هذا حين تتقارب الشخصيتان.
لم تكن في ذلك الزمان سوق تنفق فيها بضاعة الشعراء، فحدث ما يحدث عادة في القرى النائية حين تهجم علينا الأثمار هجوم المستميت، فنحتار كيف نصرف وفودها المتدفقة فنعمد إلى تهاديها. وهذا ما أصاب أدباء القرن التاسع عشر، فمدح بعضهم بعضًا، وهكذا خلقوا نوعًا جديدًا سموه «المراسلات»، وما هو إلا مدح شاعر لشاعر، كما مر، فكان لشيخنا الأحدب في هذا الباب جولات عديدة. راسل شعراء عصره فأطراهم وأطروه، وحكَّ لهم وحكوا له. هاك ما كانوا يسمونه مراسلة، ثم قل لي بعدئذ إذا كان المتنبي وغيره قد بالغوا في المدح أكثر من هؤلاء. قال الأحدب مخاطبًا الشيخ ناصيف اليازجي حين أهدي إليه مجمع البحرين، فابتدأ بالغزل كعادة الشعراء في ذلك الزمان، إلى أن قال مقرظًا:
فانتفض ناصيف للإجابة مبتدئًا بالغزل أيضًا حتى قال:
وهكذا قعد شعراؤنا يتسلون بالترمس الأحلى من اللوز … ولكن الشيخ الأحدب لم يكن وكده هذا النوع من الشعر، بل كان يتطلع دائمًا إلى «الجديد» وإن لم يدركه أهل زمانه، فلأنهم كانوا يدورون على قطب واحد من أنفسهم.
كان مارون النقاش أول من ألَّف في الفن المسرحي بلغة الضاد — كما سيأتي — فأعجب ذلك أهل عصره فوقف الشعراء يتفرجون. أما إبراهيم الأحدب فأقدم ولم يقف. نظم مسرحية مدرسية مؤلفة من ثلاثة فصول ضمنها الكثير من الفوائد، وقد طبعت عام ١٢٨٥ وهي تبتدئ هكذا: يقف المؤلف ملخصًا موضوع مسرحيته، ثم يرفع الستار فيظهر اثنا عشر ولدًا يتحاورون بما يلائم سنهم، وتمشي الرواية.
ولم يقف الشيخ عند هذا الحد الأوَّليِّ، بل تجاوزه إلى تأليف مسرحية أدبية موضوعها ابن زيدون وصاحبته ولادة، وهي خليط من شعر ونثر مسجع.
أما قريحة الشيخ السيالة، فكانت كنهر بو علي الذي نشأ على ضفتيه كما قلنا. حدَّث الرواة عنه: أنه كان يملي ما يقترح عليه القول فيه بلا توقف، وكثيرًا ما كان ينظم القصيدة الطويلة، ويرتجل الرسالة أو الخطبة في أي موضوع كان، فيبرز ذلك تامًّا صحيحًا بلا تكلف.
أما كتابه النفيس «فرائد اللآل في مجمع الأمثال»، فرفعه هديةً إلى السلطان عبد الحميد، وقد افتتحه كابن مالك في ألفيته؛ قال ابن مالك:
وقال شيخنا:
ثم يتخلص إلى مدح السلطان فيقول:
أما الكتاب فهذا نموذج منه، والذي أضعه هنا بين هلالين، قد أخرجته المطبعة بالحبر الأحمر، للدلالة على أن الأمثال — حتى في الشعر — لا تتغير عن مواردها:
ثم يختم هذا الكتاب القيِّم الضخم بنبذ منظومة من حديث النبي الكريم، وكلام الخلفاء الراشدين وغيرهم.
وللشيخ أيضًا نظم فتاوى شعرية، وله ديوان مديح لم يغفل فيه عن نظم الموشحات. لقد عرفت شيئًا من شعره التعليمي، ولعلك رأيت فيه شيئًا لم تألفه؛ لأنك منه كمن يتفرَّس في متحف فيقع نظره على أزياء يستغربها أو ينفر منها؛ ولهذا أحبُّ أن تسمع شيئًا من ديوانه «النفح المسكي في الشعر البيروتي» قال متغزلًا:
وقال في آخر:
وقال أيضًا:
وللشيخ أيضًا «تواريخ»، وألغاز شعرية كما كانوا ينظمون في تلك الأيام.
وكأني أسمع من يقول لي: وأين هذا من غزل اليوم؟ فإلى هذا أقول: لكل زمان رجال، ويا ويل الأمة إذا كان الأبناء والأحفاد دون الآباء والأجداد؛ فحسب الشيخ أنه أسمعنا كلامًا فصيحًا في عهد كانت العجمة فيه تسوق الناس بعصاها، لقد عمل ما عليه، فلْنعمل ما علينا.
أما الشيخ يوسف الأسير، فولد في حجر بساتين صيدا، ثم انتقل إلى دمشق حيث أتمَّ دروسه الأولية، ورحل إلى مصر للتفقه في العلوم العقلية والنقلية، وعاد من الأزهر بعد سنين فكان شاعرًا وشيخ علم أكثر منه مؤلفًا ومصنفًا. شارك في بنيان هذه النهضة بتعليم الكثيرين الفقه وغير ذلك من العلوم، أما تآليفه فأكثرها في العلوم، وقد عرفت من تصفحي ديوان الأنسي أن للشيخ مسرحية عنوانها «سيف الأفكار».
كان شيخنا خفيف الروح، يستطرف مجلسه ويستظرف، وكان شاعرًا كالأحدب وإن لم تكن له غزارة مادته. شعره رائق فصيح، أكثره مدح حتى يكاد يكون ربع ديوانه في مدح صديقه أحمد فارس. وللشيخ في النقد أشياء طريفة كتبها يوم دارت رحى المعركة الأدبية بين الشدياق واليازجي والبستاني، فجلى الشيخ يوسف في ذلك المضمار منتصرًا لحليفه الشدياق، وإن كان الشيخ ناصيف قد امتدح ديوانه «الروض الأريض» قائلًا:
وكأني بك تقول لي: والشيخ يوسف شاعر أيضًا؟ نعم يا سيدي، فقلما تجد واحدًا من هؤلاء الجهابذة لم يقل الشعر، ناهيك أن الشيخ يوسف الأسير شاعر مجيد وفي ديوانه القصائد والموشحات والمقطعات الحكمية، وهاك شيئًا مما قاله في شعراء عصره:
وللشيخ الأسير أبيات في وصف لبنان ونهضته الحديثة، بعد مذابح سنة ١٨٦٠ التي عقبها ما كان يعدُّ استقلالًا في ذلك الزمان:
وللشيخ أيضًا رسائل نثرية وشعرية، وتلك خطة كان لا بد للأديب من ركوبها في ذلك الزمان.
(٢) عمر الأنسي
فليت الدكتور ترك لنا ديوان أبيه بعفشه ونفشه؛ لتبدو لنا نفس الشاعر المرحة كما خلقت. فلولا الترك والشدياق لم تَبِنْ للأدب سن في هذا العصر، حتى خلنا أن الضحك محرم على هؤلاء، إن شعر الأنسي رصين التعبير، بريء من الركاكة. قال الشعر المدحي مثل معاصريه، مهتديًا بالصناعة اللفظية التي كانت نجمة قطب الشعراء. قال كرامة قصيدته الخالية، فقال الأنسي قصيدة أطول منها، قافيتها لفظة «العين»، وهي في مدح الأمير أمين أرسلان، وهذا مطلعها:
ثم يطلع الأنسي علينا بمعجزة لفظية جديدة، فيقول قصيدة من أبحرٍ متعددة، وقواف مختلفة تنقل منها مطلعها:
ليس هذا ما يعنيني من الأنسي فهو في كل ذلك كغيره من الرواد، ولكن شيئًا لم يبد له أثر في شعر هؤلاء قد رأينا أثره واضحًا جليًّا في شعر الأنسي، فلو أبقاه لنا ولده لعثرنا على كنز من الهجاء جزيل؛ فالأنسي هجَّاء روَّاد هذه الحقبة، ولعله هو الذي أوحى ما قيل في الشاعر إلياس صالح، كما سيرد في حينه. قال الأنسي في قهوجي اسمه هلال:
كان شيخنا يدخِّن النارجيلة كما يستدل من بيته الأول، والمولع بها يولع طبعًا بالقهوة؛ حتى يرى إساءة طبخها والبخل بالبن كفرًا لا غفران له؛ ولهذا قال الأنسي يهجو قهوة أحدهم:
وقال في أقرع:
ومما قاله في هجو بيت وصاحبه، وهي طويلة جدًّا، مع أن ابنه يقول: حذفت منها جملة أبيات:
وبعد أن قلب ذلك الرجل على نار هجائه حتى صار كسفُّود النابغة، ختم كلامه بقوله له:
لقد صدق الشيخ في وصف قصيدته، ففيها الكثير من الألفاظ الغريبة الخشنة، ولهذا قدَّم أحسن العذر بين يديها، فكأنه ابن الرومي حين اعتذر لصاحب المهرجان عن خفة الأوزان بأشرف المعاني.
ونلحق بهذا الباب من شعره بعض أبيات من قصيدة قالها في رثاء برذون:
قلنا إن شيخنا كان يدخن النارجيلة، وها نحن نقرأ خمسة أبيات قالها بلسانها فنكتفي بثلاثة منها للدلالة على إبداعه:
كان مجلس الشيخ الأنسي — كما أرى في شعره — مجلسًا حافلًا بالأنس، تستهوي صاحبه الطرافة فيصفها بكل طريف؛ فاقرأ هذين البيتين من قصيدة بين بين في الطول بنى «عروضها» على السين، و«ضربها» على الثاء؛ لتكون محاورة طريفة بينه وبين ألثغ اسمه سليم. قال الشاعر:
ثم يمضي في هذه القصيدة بين قلت وقال ويقول، حتى يقول عشرين بيتًّا مطبوعة على هذا الغرار، وأظنه مبتدعًا في هذا غير متبع أحدًا، أما في الغزل فله تفنن قصصي من نوع آخر. قال:
وللشيخ أحاجي كما لشعراء زمانه، وله غير ديوانه الشعري رواية تمثيلية عنوانها «كشف الظنون عما جرى بين الأمين والمأمون» دلنا عليها ذكره لها في ديوانه.
هذا هو الرائد الأنسي الذي ابتسم معه الشعر في القرن التاسع عشر، كما ضحك مع الترك قبله.
(٣) القاسم الكستي
كل هؤلاء الرواد من الملتين إن لم يكونوا تلاميذ «مدرسة تحت السنديانة» فهم تلاميذ مدرسة تشبهها، فلا حاجة إلى التكرار والمراجعة، والشيخ الكستي، كفطاحل زمانه شاعر له ديوانان: مرآة الغريبة، وترجمان الأفكار، وله أيضًا رواية تمثيلية عنوانها: «حكمة الأفكار» يدلنا عليها تقريظ لها في ديوان الأنسي.
وللشيخ الكستي أراجيز طويلة أشهرها مقصورة كأنه يعارض بها المقصورة الدريدية في حكمها، والكستي يجاري صديقه الأنسي في مواضيعه، فيقول أرجوزة فكاهية في وصف الملوخية، منها:
وكما بارى الأنسيُّ ابن الرومي في الهجاء، رأينا شيخنا الكستي يباريه في وصف المآكل، ثم يتفق مع الأنسي في رثاء العجماوات، ولكنه لا يرثي كديشًا بل كنارًا، ولا يهجو صاحبه كالأنسيِّ بل يعزِّيه، وهاك بعض ما قال:
ويصف شكل ذلك الكنار، فيقول:
أشهد أنني شممت رائحة شعراء «يتيمة الدهر» في هذا القريض — رحم الله من قاله.
(٤) محمود قبادو والدحداح
رشيد الدحداح: رائد هاجر فأفاد الأدب من هجرته، كان كاتبًا شاعرًا من طراز معاصريه فصار كاتب سرِّ الأمير أمين ابن الأمير بشير، ثم هاجر فاستحال تاجرًا في مرسيلية، وأدركته حرفة الأدب كهلًا فأنشأ جريدة برجيس باريس، ونشر معجم المطران جرمانوس بعدما أصلح ما أفسدته فيه يد النساخ، ثم نشر أيضًا شرحي ديوان ابن الفارض للشيخين الصوفيين البوريني والنابلسي، وهو أول من نشر بالطبع كتاب فقه اللغة، وله كتاب قمطرة طوامير مع كتب أخرى.
ومتى ذكرت «القمطرة» تداعت الأفكار، فذكرنا اسم السيد محمود قبَّادو التونسي صديق الدحداح الذي نشر له في القمطرة تصديره وتشطيره — ارتجالًا — القصيدة المنسوبة لبشر بن عوانة: أفاطم لو شهدت ببطن خبتٍ.
لقد أحسن الكونت رشيد الدحداح تقديم صديقه الشيخ محمود إلى القراء قبل نشر التصدير والتشطير. ليست القمطرة عندي لأنقل تلك المحاورة الطريفة، ولكني أذكر العبارة التي اعتذر بها قبادو عن ركوب هذا المركب الخشن، قال قبادو: قريحتي صدئت، فأجابه الدحداح: اجْلُها بالنظم، فقال: اكتب إذن على خيرة الله، ثم كان ذاك التشطير فتكافأ الشاعران قبادو وابن عوانة، وزاد عليه رائد النهضة تصديره الجميل، والناس يذكرون عن قوة ذاكرة قبادو مثل ما ذكروا عن أبي العلاء.
ولهذا الشيخ ديوان كبير جمعه تلميذ له في جزأين، وهو من أصحاب «المعجزات التاريخية»، وقد فاتنا أن نشير إليه مع أصحاب تلك الخوارق، في مقال «التأريخ الشعري».
(٥) يوسف الشلفون
رائد متسلسل من جدٍّ حكم ساحل لبنان تحت ولاية الأمير بشير، وقد أصدر أربع صحف: الزهرة، والنحلة، والنجاح، والتقدم، بالاشتراك مع المطران الدبس، ثم إسحاق، وصابونجي، وأنشأ المطبعة الكلية.
له ديوان عنوانه «أنيس الجليس» قال أكثره في مدح ذوي السلطان، وكبار أولي الأمر في زمانه، وقد «راسل» أدباء وشعراء عصره. أما غزله فأراه يقلد فيه معاصره الشاعر خليل الخوري، فهو يقول مثله، وإن قصر عنه في الإبداع:
ويذكر لبنان مثل خليل، ولكنه لا يبلغ شأوه في وصفه، ولا بدع في تقصيره فقد كان — أولا — عاملًا في مطبعة الخليل كمنضد حروف ومصحح مسودات.
وقد حاول كغيره من «الرواد» اجتراح العجائب البيانية فنظم قصيدة تقرأ من الكامل ومجزوئه، وله أيضًا موشحات. وقد نظم «تواريخ» من ذوات الطلق الواحد …!