الروَّاد الكتَّاب
برز روَّادنا في النثر أكثر منهم في الشعر، كانوا في ذاك زعماء تجديد، أما في القريض فظل بينهم وبين كبار زعمائه أشواط، وإن جددوا فيه، وإذا كان قد لقي شعرهم المدحي استحسانًا في عصرهم، وأجيزوا عليه بالمال والمراتب السنية، فما ذاك إلا من باب قول المثل: من قلة الرجال سموا الديك أبا قاسم …
أما أثرهم في النثر، فيسجل لهم في تاريخ الأدب اسم الفاتحين، أعانتهم على ذلك معرفتهم اللغات المتعددة، فطعموا الأدب هذا التطعيم الذي جنى ثماره «رجال النهضة».
وراح هؤلاء يطعِّمون ويطعمون حتى صارت روضة آدابنا فواحة العبير، دانية القطوف.
اللهم، زد وبارك.
اللهم، اجعل المستقبل أمامنا لا وراءنا.
يا فتاح، يا عليم.
(١) روادنا والقصة
أظن — وظني حق هو — أن أدبنا الحاضر كأكثر الآداب العالمية الحديثة، ترعرع وشب في حضن «الجريدة». فالأدب الإنكليزي الحديث، كان أولا أدبًا صحفيًّا، وما ظهر الكتاب عندهم إلا بعد ما اشتد ساعد المنشئين في ساحة النضال الصحفي.
أما الكتاب عندنا، في هذه الحقبة، حقبة النهضة الحديثة، فكان أول ما ظهر منه إما ترجمة كتاب ديني لا بد منه «لخلاص النفوس»، يخرجونه كما تخرج دول اليوم كتاب «الدليل» للسائحين والمصطافين لهدي الناس سواء السبيل … ودلهم على مفاتن بلادهم ومحاسنها، وأيَّة رحلة أجل وأخطر من الرحلة الأخيرة. وإما أن يكون تصحيح كتاب تعليمي أو تأليفه أو طبعه.
ولما عرفنا الصحف والمجلات كان أدب المقالة أولًا، فكتبت لتوجيه القراء في ميادين الحياة العديدة الشئون والشجون، ثم تلاه أدب القصة والأقصوصة والحكاية. وهذه الألوان كلها من «مقبلات» المأدبة الصحفية ليقبل عليها القارئ بنَهَم ولذة، يوم لم يكن يعني القارئ ما يعنيه اليوم من أنباء، ومشاكل اجتماعية مختلفة.
أما الكتاب العربي الأدبي الأول فخرج من دهليز الجاحظ البصري العراقي منذ ألف ومائة سنة ونيف، كما خرج الكتاب العربي الأدبي الحديث من كوخ أديب لبناني شردته عوادي الزمن عن وطنه، وهو أحمد فارس الشدياق الذي يربطه بالجاحظ أقرب النسب. أخرج الشدياق أبكار الكتب الطريفة — الواسطة، وكشف المخبا، والفارياق — قبل أن أخرج للناس جريدته «الجوائب» التي صارت فيما بعد، بطرفها النفيسة من مقالات وحكايات، ونوادر وأخبار، و«جمل» أدبية، وسياسية؛ مدرسة سيارة تثقف القارئ العربي تحت كل كوكب.
وعرف اللبناني، قبل غيره، لأسباب دينية، كثيرًا من الألسن الأجنبية، وتعرف إلى ما عند نوابغها من روائع، فترجم واقتبس واقتدى بهم في كل فن ومطلب.
تكلمت فيما مر عن شعر طلائع النهضة ونثرهم، ولا بد لي هنا من الكلام عن القصة، ذلك اللون الأدبي الذي يكاد يطغى اليوم على أدبنا الحديث. كان أكبر همِّ الأديب، فيما مضى، أن يكون شاعرًا، أما أقصى ما يروم، اليوم، فهو أن يحصى في عداد القصصيين.
فأدب القصة الذي أضحى قبلة الشباب حين يقفون في هيكل الفن، قد كاد يطمس كل لون من الألوان الأدبية. إن هذا الضرب من ضروب الأدب يكاد يكون كل شيء في آداب الدنيا جمعاء. فحنيننا إلى رؤية أدب عربي عالمي لا يأتينا إلا من هذه الناحية، ناحية الأدب القصصي. قرأت كتابًا أوروبيًّا يتحدث عن الآداب العالمية مقارنًا بينها، ودالًّا على تراث كل أمة فيها، ولو لم يكن لنا كتاب ألف ليلة وليلة الذي يعدُّه أندره جيد بمنزلة الإلياذة، وغيرها من الكتب المحتلة أعلى قمم الخلود؛ ما كان هذا المؤلف أتى على ذكرنا، فالقصة اليوم على اختلاف أنواعها هي قوام الأدب الحديث وملاكه، رافقت الإنسانية من المهد، وسوف تماشيها إلى اللحد. كانت — في الأمس — أحلامًا بشرية حافلة بالجنِّ والعفاريت والمردة، مملوءة حنينًا إلى بساط الريح، وخاتم لبيك، والقضيب السحري، والقبع الأخفى وغيرها، فأصبحت الآن حقيقة، بل قل قطعة من الحياة، إذا لم نقل إنها الحياة بعينها. فأعظم بالروائي الحاذق مبدعًا يخلق عالمًا لا يموت! فالخطبة، والمقالة، والقصيدة، لا تستهوي الأطفال والصبيان والشباب، بل الرجال الذين نسميهم بحق أطفالًا كبارًا، كما تستهويهم تلك القصص الرائعة التي تلقي على الحياة أشعة ثاقبة تمزق ظلماتها ودياجيرها.
تذكر جدَّك الشيخ كيف كان يرى كل اللذة في أن يقص عليك وعلى غيرك حكايات حياته، وما فيها من مغامرات، ألم تر إلى غضون جبينه كيف كانت تمتلئ نورًا؛ إذا رأى في وجوه السامعين إصغاء إليه وارتياحًا لحديثه، وإعجابًا بقصصه.
فالقصة حديث البشرية منذ تجمع الناس في الكهوف، بل الإنسانية برمتها حكاية أبدية متشابكة الخطوط، جمة الألوان، أبطالها عباقرتها، ومن تأملها رأى جمالًا كثيرًا حتى في أشد مشاهدها قبحًا، وما هذه القصص الدهرية، ذلك الميراث الخالد، إلا فصول رائعة من هذه القصة الكبرى.
وفي نظري، أن القصة كلما شخصت الواقع، تكون قد قربت من الكمال الفني. فالروائيون مصورون بغير الألوان، وكم أوحى الملهمون منهم إلى نوابغ المصورين رسومًا رائعة، ولوحات خالدة في دنيا التصوير، والمصورون كالروائيين أيضًا، خيرهم مَن أحسن تقليد الأشباح والظلال، فحسن التقليد هو قمة الفنون الجميلة، فهنيئًا لمن أوتي من الروائيين سلامة الذوق ليختار من ألفاظ اللغة ألوانه، ويبدع من تزاوج ألفاظها قوس قزح.
الروائي خالق مبدع، ومصور مثالي، وشاعر كلي الخيال. يخلق عالمًا يتحرك، وينطق، ويحيا، ويخلد، وبخلوده يخلد الفنان معه، فالحياة والخلود متبادلان بين الروائي وشخوصه، فما يخلقه الفنان ويهب له جزءًا من حياته يحيا إلى الأبد، يتحرك كلما حركته يد مفكرة أو تداوله لسان، فبين دفتي كل كتاب من كتب القصص الخالدة عالم يتحرك كالبحيرة الساهية متى داعبها النسيم. الروائي الفنان يجعل من القصة ساحة لعالمه الذي يخلقه قلمه، فيتمثل لنا كل بطل من شخوصه بشرًا سويًّا. وتنتصب حولك تلك الأبطال فتنسيك العالم الخارجي حتى تصبح في عالم آخر لا يختلف عن العالم إلا أنه وهمي، ينقلك الروائي إلى الساحة التي خلقها فترى البيوت والأسواق، وترى الجبال والأودية، وتسمع خرير الأنهار، وتبصر كل شيء حتى نجوم السماء صلاةَ الظهر، والشمس في منتصف الليل.
فحين تزج نفسك في عالم الروائي الأصيل لا تعود تعلم أين أنت. فقد يحملك الرخ بمخلبه، وقد تركب بساط الريح، وتلبس «القبع الأخفى»، فإذا بك تطير وتحط، وتقوم وتقعد، وأنت ما زلت في فراشك، أو مستلقيًا على كرسيك.
يخلق الروائي الموهوب أشخاصًا لا ينقصها غير الروح، بل قل لا تنقصها الروح لأنها تتقمص نفس قارئها فتحيا بها حينًا، كما عاشت زمنًا مع من أنشأها وأبدعها.
وبكلمة وجيزة نقول: إن أول آداب الأمم والشعوب هو القصص، والمشترع، ولو وثنيًّا، يفكر بقصة الخلق قبل عرض رسالته على البشر. فالحياة إذن كلها قصة، ووجودي ووجودك، يا سيدي القارئ، قصة طويلة عريضة، جعل الله خاتمتها خيرًا.
هل في الأدب العربي القديم قصة؟ هذا سؤال يرد على ألسنة الناس كثيرًا. أما الذين قرءوا منا أعاظم كتَّاب الغرب، وأغرموا بروائعهم، فلا يرون للعرب قصة، ولا يرون لهم خيالًا يحترم، ولا يرون شعرهم شعرًا يستحق أن يحيا.
هذا ضلال منا؛ إذ نحكم على أسلافنا هذا الحكم الطائش الجائر.
قال جيمس بريستد المتمشرق العظيم: إن انخذال المسلمين في إسبانيا كان بمثابة انخذال المدنية أمام الهمجية.
وقال السر تشارل باتريس في خاتمة تاريخه لإسبانيا: إن عصر الآداب الإسلامية فيها كان من أزهى عصور امتزاج العناصر في تاريخ الحضارة.
ويقرر المستر جبُّ المتمشرق الإنكليزي الذي لا يزال حيًّا يرزق، وهو عضو في المجمع العربي الملكي المصري: إن النثر العربي أخرج نثر أوروبا في القرون الوسطى من جموده وصرامته التقليديين، بما منحه إياه من خياله الذي يشبع الحواس. أما نحن فنقرِّر — ويا للأسف — غير ذلك، مماشين المتمشرق أُوليري القائل: العربي جامد العواطف ضعيف الخيال.
هذا من حيث نثرنا وشعرنا القديمان، أما القصة فالعرب هم الذين علَّموها الغربَ، وإن لم يكتبوها كما تكتب اليوم. وبرهاني على ذلك قول الأستاذ جبَّ أيضًا، وهو اختصاصي بدراسة القصة. قال: أسمع العرب أوروبا حكايات السندباد البحري، وما إليها، فكانت خميرة للأدب الخيالي الأوروبي الجديد الذي زحزح الأدب التقليدي، وحل محله، فنشأت في أوروبا الروايات الرومنطيقية.
ويقول أيضًا: إن قصة ألف ليلة وليلة التي ترجمت عام ١٧٠٤ كانت أقوى عضد للأدب الخيالي؛ ففتنت أوروبا، وقلدها كتابها في قصصهم، فأشبعوا نفوس الأمة، وميول العالم، واتَّلدت منها قصتا روبنصن وجيلفر، وغيرهما.
ونحن كغيرنا من أمم الأرض قد مررنا في أطوار ومآزق، وقد خرجنا منها بقوة الفكر والخيال الذي لا يفتأ يعمل حتى في أدجى الظلمات، فمنذ عرف الشرق الطباعة والصحافة ألمَّ كتَّابه بمقدار من القصة والأقصوصة والرواية، فترجم أحمد فارس لجريدته «الجوائب» بعض حكايات، ولما ظهرت «الجنان»، بعد عشر سنوات، شرع سليم البستاني ابن المعلم بطرس يعرِّب ويؤلف لها الروايات والقصص، فما خلا منها عدد منذ مولدها حتى مماتها، ومثله فعل جرجي زيدان في هلاله ناحيًا نحو إسكندر ديماس في رواياته التاريخية، ومثل هؤلاء ألَّف صروف قصصًا لمقتطفه، وكذلك فعل شيخو في مشرقه فنشر روايات شرقية مؤلفة ومعرَّبة.
أما فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فكان ميالًا إلى الفلسفة ومشاكلها، فألف لمجلته رواياته الفلسفية الاجتماعية، ثم كان إلى جانب هؤلاء كتاب كثيرون يترجمون القصص على اختلاف أشكالها وألوانها، فراجت الروايات البوليسية؛ لأن فيها مغامرات وعقدًا تستثير فضول الناس حين ينتظرون النهاية، ولعل طانيوس عبده كان المترجم المجلي في هذا المضمار الأدبي.
أما الأقصوصة، وهي التي يهاجمها اليوم المبرَّز والمقصِّر، فجبران خليل جبران كان أول من حاول تأليفها وفقًا لأصولها الحديثة، فأخرج مجموعته الأولى «عرائس المروج»، ثم أتبعها بالأرواح المتمردة وغيرها، فهذه الأقاصيص تمتاز بخيالها الرفيع، وبما يشيع فيها من ألوان يندر وجودها عند الكتاب الآخرين؛ لأن مؤلفها مصور، يفكر بالصور، ويكتب بالألوان لا بالحبر والورق، أما مواضيع أقاصيصه فكانت اجتماعية تحارب تقاليد يقدسها المجتمع. إن أقاصيص جبران كالواقعية في حوادثها، ولكن خيال صاحبها يخرج فكرته الاجتماعية بقالب خيالي يبعدها كثيرًا عن الواقع، ولعل هذا هو عيبها الصارخ.
وبعد تلك الآونة بوقت قليل ظهرت في مصر أقاصيص لمحمد تيمور الذي مات ولما ينضج. والقصة اليوم تكاد تكون هدف كل كاتب موهوب، يلجأ إليها في تأدية أغراضه، وبث فكرته، إن كانت له فكرة. وإنني كبير الأمل بالشباب، وأرجو أن يبدعوا في هذا الفن، فتبلغ القصة والأقصوصة والرواية عندنا المستوى الذي يجب أن تبلغه أمة كان أدبها فيما مضى منارة للشعوب، كما يعترف بذلك رجال الفكر المنصفون.
لو جئت أعدد القَصصِيين لضاق المقام، ثم إنني أخاف أن أنسى أحدًا منهم فتقوم القيامة؛ ولذلك اكتفيت بمن ذكرت من الرواد، أما الأحياء فالقراء يعرفونهم جميعًا، وهم يحسنون الحكم عليهم دون أن أكون لهم مستشارًا.
وبعد فَلِي كلمة أوجهها إلى القصصين عندنا، وهي أن اللغة ليست جمادًا ساكنًا، ولكنها حيٌّ نامٍ، فيجب أن يوفق بينها وبين ضرورات التعبير التي تتغير بتغير العصور والبيئات، فالإسراف في التمسك بالأساليب اللغوية العتيقة لا يلائم قصتنا اليوم، وهو يؤدي حتمًا إلى تغلب الأسلوب المبتذل. فليكن إذن أسلوب القصة صحيحًا، أولًا، ثم قريبًا من التعابير المألوفة في الحياة، والتي تدور على الألسنة. وإني أذكرهم بأن القصة العالية هي قطعة فنية لا بد لها من العنصر الشعري، فليست القصة حكاية تروى كما هي في الحياة والواقع، ولكنها تصور الواقع كما يراه الكاتب الملهم. نعم ليست القصة مقالًا ولا فصلًا تاريخيًّا، فعلينا أن نجعلها لابسة أجمل أثواب الأدب الرفيع.
ولا يعني قولنا هذا أن نجعل الحوار شعريَّ التعبير، فللحوار لغته، وللوصف أسلوبه، وبهذين العنصرين تحيا القصة، وبدونهما لا تعيش. إن بث الحياة في أشخاص قصصنا يقتضينا هذا وذاك، فلنكن حكماء.
وقبل أن نطوي سجلَّ هذا البحث الوعر نقول للقارئ العزيز بلسان فلوبير وتورغنيف: «لا تكتب القصة ليُتسلى بها، ولكنها قطعة فنية يجب أن تكتب جيدًا.»
أجل، على قدر ما في القصة من شاعرية يكون نجاحها، أما شعرها، وما نعني إلا النثر الشعري، فيجب أن يكون منبثقًا من أعمق أعماق الكاتب الأصيل، وأن ينفجر من شخوص الرواية ومشاهدها لا من شخصية المؤلف.
وهنا لا بد من لفت النظر إلى أمر مهم وهو أنه على القصصي أن يقطع السرة بينه وبين أبطاله؛ فيجب ألا ننطق بلساننا إلا عما لا يمكن أن ينطق به أشخاص قصتنا، فالحوار كما قلت هو ملاك القصة وروحها وفيه فنها كله.
طبعًا تريد أن تعرف ما هي مقوِّمات القصصي لتعرف نفسك، وعليه أقول لك يا عزيزي: إن الروائي خلاق كما قلت لك سابقًا، فإذا كانت الطبيعة لم تهبك قوة الإبداع فلن تستطيع أن تكون قصاصًا، كما أنك إذا تجاوزت الحد في الخلق الغريب كنت كمن يخلق مسوخًا وعجائب، ثم إذا استطعت أن تخترع ولم تحسن القص تعرقل سير شخوصك ووقفت حركة قصتك، والجمود قتَّال.
فعلى القصصي أن يمسك سلك قصته ثم لا يفلته، وإذا أقبل وأدبر وكان غير لبق «تشركل» الخيط … فالقصة محتاجة إلى حسن وتنوع في الموضوع، وإلا قُتلَ القارئ صبرًا.
والقصصي محتاج إلى كل علم وخصوصًا علم النفس، وعلم الاجتماع، وقوة الملاحظة؛ ليستطيع خلق أبطال لهم مميزاتهم الخاصة، وعلاماتهم الفارقة، وبغير تصوير هؤلاء أتمَّ تصوير لا تحيا القصة مهما أسبغنا عليها من حلل الفصاحة والبلاغة.
وبعد كل هذا، بل قل قبل كل هذا، عليك أن تقرأ روائع القصص العالمية قراءة عميقة، وتطالع كتب النقاد، وما علقوه على هوامشها.
وأخيرًا إذا سألتني: كيف أكتب القصة؟ أجبتك: اعمل بباعك وذراعك، فالفن لا يعرف المقاييس، والأم عندما تضع ولدها لا يعنيها أن تبحث عن كيفية تكوينه من بويضة إلى كتلة لحم ذات محرك — موتور — يعمل بلا انقطاع عشرات الأعوام.
إن المقاييس لا تخلق الفنان ولكنها تهذب من خُلق فنانًا، ونصيحتي لك هي أن تكون قارئًا مدمنًا لا يفرِّق بين قديم وحديث، فالفن الصحيح كالخمرة، كلما عتقت جادت.
(٢) المسرح
(٢-١) مارون النقاش
أمامي «أرزة لبنان»، وهي مجموعة روايات مارون النقاش أبي المسرح العربي. احتفلت مصر بالذكرى المئوية لروايته الأولى، منذ ثلاثة أعوام — ١٩٤٨، وكي لا أطيل المقدمة، وأزعجك بشقشقة الكلام عما أحدثته مسرحيات مارون النقاش، أدع الكلام لمعاصره الشيخ يوسف الأسير الذي قال فيها:
فلو لم يكن الفضل للمتقدم لما عنانا شيء من أمر هذه المسرحيات لضعف أسلوبها، ولكنَّ فهم مؤلفها للفن يشفع لها، فقد تعرَّف إلى أصوله في كتب القوم، ثم عندما زار أوروبا وخصوصًا إيطاليا. تعلَم ذلك حين تقرأ مقدمة «أرزة لبنان»، وتصل إلى التعبير عن خشبة المسرح ﺑ «البانكوشينكو».
ثم يقول في تلك المقدمة بعد أن يتحدث عن التمثيل الأمثل: «نحن الآن لا نطلب من أصحابنا الوصول لهذه الدرجة بل نرجوهم الانتباه لذلك قليلًا، وأشور عليهم ألا يزيدوا الحد أيضًا بتكثير الإشارات والانفعالات، بل الموافق أن يكون كل شيء سائر طبيعيًّا بالاعتدال كما لو كان الحادث الواقع أكيدًا؛ حتى لا يضيع رونق الرواية، وتعب المؤلف؛ لأنه إذا لم تحسن الإشارات فالرواية هي كالعَدَم.»
أما كيف مشى التمثيل في ظهور الليالي يرجو التلاقي، كما قال المتنبي لكافور، فهو أن مارون جعل من بيته مسرحًا، ثم بنى آخر في جوار بيته، ولكن هذا صار كنيسة، بعد موته. وهنا لا بد لنا من وقفة؛ لِنُفهم القارئ أن هناك معاصرين لمارون اقتدوا به وألفوا مسرحيات، وهناك أعيان كمارون جعلوا مثله دُورهم مسارح. فهذا ديوان عمر الأنسي ينبئنا أن رواية مثلت في دار بني الغندور، وإن رواية ثانية كتبها الأمير محمد أرسلان، ومثلت في دار بني حمادة. وقد مر بنا ذكر الرواد الذين ألفوا مسرحيات، ثم احتضنت المدرسة المسرح، وانصرف إلى تأليفها وترجمتها معلمون كثيرون.
أما المسرحيات الشعرية فتصدَّى لها خليل اليازجي، ثم المعلم عبد الله البستاني الذي نظم خمس مسرحيات أشهرها «رواية الوردتين» التي «قرَّظ» مقرظيها شاكر بك الخوري كما مر بك.
أنشأ مارون مسرحياته؛ ليجذب الناس إلى محبة هذا الفن لأنهم أعداء كل جديد، ثم تنوعت المسرحيات بعده مع أديب إسحاق، والحداد، وفرح أنطون وغيرهم ممن ترجموا وألَّفوا.
أما في سوريا فأبو خليل أحمد القباني كان أول من أحيا هذا الفن في دمشق عام ١٨٦٥، فاستمد مواضيع مسرحياته من التاريخ العربي، فأقبلوا عليه في مصر، ولم يُخرج منها كما أخرج يوسف الخياط الذي مثل رواية «المظلوم» بحضرة الخديو إسماعيل.
(٢-٢) نجيب الحداد
ولد في بيروت عام ١٨٦٧، ومضى لسبيله عام ١٨٩٩ فكان خاتمة كتَّاب القرن التاسع عشر، دبَّ في حجر خاليه إبراهيم وخليل اليازجي؛ فتلقى منهما أصول اللغة العربية، ثم هاجر إلى مصر وهو صغير السن فأدخله ذووه إحدى مدارس الإسكندرية فأتقن اللغة الفرنسية، ولما نشبت ثورة عرابي باشا عاد إلى بلده، وأتم دروسه في المدرسة البطريركية ببيروت.
ولما هدأت عاصفة تلك الثورة رجع إلى الإسكندرية، وانصرف إلى الكتابة فخاض غمار الصحافة وبرز في ميدانها. كانت المقالة في زمن نجيب بضاعة الوقت الرائجة في سوق الأدب، فأنتجت منها قريحته روائع وطرائف، فطارت شهرته وبعد صيته. وكان المسرح في طور صباه فغذاه نجيب بروايات تمثيلية عديدة كان لها أحسن وقع في النفوس، فطغت على مسارح الشرق العربي.
كان بلبل هذه الروايات الشادي الشيخ سلامة حجازي آية دهره في الإنشاد، فاستيقظنا نحن على أسطواناته ذات الاهتزازات الساحرة تغنِّي لنا من شعر نجيب الحداد.
هذه من رواية صلاح الدين الأيوبي التي راع السلطنة التركية تمثيلها، ثم الأنشودة الثانية من رواية روميو وجولييت:
وهناك روايات أخرى عديدة شهدت تمثيلها في بيروت لجوقة رحمين بيبس.
أتم نجيب الحداد ما بدأ به مارون وسليم النقاش وأديب إسحاق، فمضى بالمسرحية قدمًا، كما أحسن إنشاء المقالة، وإن قصر عن أديب إسحاق فيها. فالفرق بين الأديب والنجيب هو أن أديب إسحاق كفرس سبوح جموح، والنجيب يمشي مشيًا وئيدًا. في نجيب الحداد شيء من نفَس خاله إبراهيم فيسير الهوينى حين يكتب، وقد رأيت ابن الأخت هذا يترسم خطى الخال في مقالاته الأدبية. إن هؤلاء الذين أسميهم أساطين كتاب المقالة — بعد أبيها الشدياق — وهم سليم البستاني، والمراش، وإسحاق، وتقلا، وإبراهيم اليازجي، ونجيب الحداد، وخاتمتهم المنفلوطي قد ساروا بالمقالة إلى أمدها البعيد، أما الذين جاءوا بعدهم، وإن كتبوا المقالة مثلهم، فقد تغيرت عناصرها على يدهم، وبرزت من تحت سن قلمهم فاتنة مغرية كما نلحظ حين نقرأ الريحاني — أبا الشعر المنثور — وجبران وولي الدين يكن وعمر الفاخوري، وغيرهم.
كان للمقالة الشأن الأول في فجر النهضة؛ ولهذا نرى أثر الشدياق وإسحاق ظاهرًا في جميع من أتوا بعدهم، فقد كان يوصينا أساتذتنا بقراءة مقالات هؤلاء، وخصوصًا درر الأديب ومنتخبات النجيب، فكان هذان الكتابان في قماطرنا — طبقاتنا — إلى جانب نهج البلاغة، نظل ننهل منها، ونعلُّ حتى نخرج من قاعة الدرس جارِّين الذيل تيهًا كالتغلبي …
كان يعجبنا الحداد أولًا لسهولته وليونته، حتى إذا تمكنا من ناصية لساننا المبين مِلْنا إلى أديب، ثم عدلنا عن الاثنين إلى نهج البلاغة، وأمسينا ولا كفء له في نظرنا، لقد أجملنا فلنفصل الكلام عن الحداد الناثر.
متى ترى الرجل مطرقًا مهمومًا يفكر في مستقبل أيامه، وحزينًا يحسب لغده قبل عامه، ويحرص على صحته كما يحرص على رأس ماله؛ إذ لا مال له سواه، وهو مع ذلك ينفقها عرقًا يسيل من ثنايا الجبين العابس، ونورًا ينبعث من حدقة تلك العين الكليلة، وفكرًا تقسم بين عمله المندوب إليه بدافع العيشة والاحتياج، وبين عيلته المدفوع إليها بداعي الحنو والتسخير، فقل هذا هو الخادم رب البيت والأولاد، يعمل لطعام اليوم من شغل اليوم، ويسأل الله السلامة في الغد ليعمل في الغد، ولا أمل له في هذه الحياة الدنيا سوى مخدوم أوى إليه، وعافية يستعين بها عليه، وصبية صغار يرجو أن يقوى على قوتهم وسدِّ حاجاتهم، قبل أن يرجو لهم بلوغ الشباب، ويأمل منهم النفع والإسعاف.
ومتى رأيت الرجل يمشي في الأرض مرحًا، ويختال في مشيته فرحًا، ويرفع أبصاره إلى العلاء كبرًا، قبل أن يرفعها شكرًا، ويدخل إلى حانوته آمرًا ناهيًا، يسخط على خادم لا يرضيه، أو يتظاهر بالغضب عليه لكي لا يطمع فيه، أو يدعي القلة والخسران لكي لا يزيد في راتبه ما يكفيه، فقل هذا هو المخدوم، أو البعض من أمثاله.
يحاسب على الدرهم ويخزن في الكيس، ويعدُّ مئونة الدهر، ويجمع لآخر الأبد، وقد أنساه الغنى أن في الأرض موتًا دائرًا، وقضاءً محتومًا، وأن وراءه خادمًا عاملًا لا أمل له بعد الله إلا به، ولا معوَّل إلا عليه، ولا رجاء إلا عنده، ولا طمع بمستقبل العمر والاستعانة على شدائد الدهر إلا فيه، وفي مكارم أخلاقه، وقد لا يكون من أصحاب تلك الأخلاق كما يكون خادمه من أصحاب تلك الآمال.
أرأيت أيَّ مشكلة يعالج نجيب الحداد في ذلك الزمان، إنها مشكلة اليوم بعينها؛ ولهذا نقول: إن الأدب الحي لا يموت، بل يصلح للقراءة في كل زمان ومكان، أظنك أدركت معي بعدما سمعت تلك الفقرات أن هذا الجيل من الأدباء متأثر بكتَّاب القرن الرابع؛ أي مدرسة ابن العميد، وقد دلك على ذلك دلالة واضحة تفننه في استخدام حروف الجر كما كانوا يتفننون.
وهناك أيضًا نجيب الحداد الشاعر وهو في نظمه الهيِّن اللين متأثر جدًّا بجده المرحوم ناصيف اليازجي، وهذا ما يؤيد مزعم النقادة الفرنسي «تين» في العرق، انظر إلى ديباجتيهما فتحسب أنهما نسجتا على نول واحد، ففي شعر نجيب سهولة وبساطة كلام جده، تأمل كيف يفتتح رائعة مسرحياته «صلاح الدين الأيوبي»:
ونجيب الحداد شاعر مطبوع، وله ديوان كنا نقتله مدارسة، نطوف به من الجلد إلى الجلد مرات، وأشهر قصائده قصيدة في وصف القمر، كأنها نظمٌ لمقالة خاله الشيخ إبراهيم التي هي أروع نثر القرن التاسع عشر الشعري، وسترى منها نموذجًا.
أما أسْيَرُ قصائد نجيب وأروعها، فهي التي قالها في وصف القمار فدارت على كل لسان.
لقد غذَّى نجيب النهضة بما ألف وترجم من مقالات طريفة ومسرحيات رائعة. عاش زهاء ثلث قرن صرفه في خدمة أمته ووطنه، ومرت ذكرى وفاته الخمسينية، كما مرت ذكرى الشدياق من قبل، فلم يأبه لها أحد، فكأنَّ الرجل لم يكن ذلك الرائد العامل.