هل هي بداية لغز؟
أخيرًا وصل القطار إلى «أبو قير» وبدأ الركاب ينزلون … وكان «تختخ» يحمل الولد بين يديه فقد نام … وأسرع «تختخ» يقف على رصيف المحطة تحت عمود الإنارة حتى تراه «أم شلبي» … وقد كان قرارًا صحيحًا لأنَّ «تختخ» وحوله الأصدقاء سمعوا صوتَ السيدة وهي تنادي: يا «شلبي» … يا واد يا «شلبي» …
ثم رأوها ورأتهم في نفس اللحظة … فأسرعت إليهم وهي تصيح: ابني «شلبي» … ابني …
وانتقل «شلبي» الصغير من أحضان «تختخ» إلى أحضان أمه التي أخذت تبكي وهي تحتضنه وتنهال عليه تقبيلًا … ثم نظرت إلى «تختخ» وقالت: كَتَّرْ خِيرَكْ يا ابني … كَتَّرْ خِيرَكْ!
تختخ: لا شيء يا ستِّي!
الأم: وأين وجدته يا ولدي؟
تختخ: في الزحام عندما ركبنا من محطة «مصر».
الأم: بارك الله فيك!
كان «سامي» ابن خال «محب» في انتظارهم، وقد أعدَّ «كَارِتَّة» جديدة يجرُّها حِصان قوي، وبعد تبادل التحية أخذوا في الركوب … وكانت «أم شلبي» قريبةً منهم فقال لها «تختخ»: تعالَيْ نوصلك!
أم شلبي: إلى أين أنتم ذاهبون؟
ردَّ «سامي»: عند «التقسيم الجديد» بجوار الكنيسة.
أم شلبي: إنني أسكن قُربَ هذا المكان.
سامي: اتفضلي نوصَّلك!
عندما ركبت السيدة وهي تحمل «شلبي» … وما زالت «السميطة» في يده … أحسَّ «تختخ» كم هي مُجْهَدَة وحزينة وتبادل هو والمغامرون النظرات.
سألها «تختخ»: سألت «شلبي» عن أبيه فقال إنه مسافر.
أم شلبي: نعم يا ابني … سافر من خمسة أشهر إلى «اليونان» للبحث عن عمل … ولم يَعُدْ حتى الآن!
تختخ: ولم يرسل لكم نقودًا؟
أم شلبي: لا … وكنَّا في «الإسكندرية» اليوم للسؤال عنه في المحافظة … فقد سمعنا أنَّ بعض المصريين في «اليونان» تمَّ ترحيلُهم لأنهم بلا عقود عمل.
تختخ: وزوجك سافر بلا عقد عمل؟
السيدة: نعم!
تختخ: وكيف سافر إذَنْ؟!
السيدة: سافر مثل بقية الصيَّادين على مركب المعلم «سيد القصَّاص».
تختخ: ولماذا لم تسألي «سيد القصاص»؟!
السيدة: دُخْت السبع دوخات … وردُّه الوحيد أنه أوصله إلى مركب يوناني حمله إلى «اليونان»، وانتهت مهمته عند هذا الحد.
تختخ: وكم دفعتم ﻟ «سيد القصاص»؟
السيدة: «كِتِير» … بِعنا التليفزيون والغسَّالة وبعضَ الحلي الذهبية!
تختخ: كل هذا؟
السيدة: نعم … عشرة آلاف جنيه!
كان صوت دقَّات حوافر الحِصان واضحًا في المساء المبكِّر في شوارع «أبو قير» … والمغامرون ينظرون هنا وهناك … لقد كانت «أبو قير» مشهورةً بالفيلَّات وحدائق الجوافة والليمون بالإضافة إلى الأسماك … ولكنها تحوَّلت إلى مدينة من الأبراج العالية احتلَّت الشاطئ … وأضاعت جمال المدينة الصغيرة … وأوصل المغامرون «أم شلبي» إلى مسكنها.
أخيرًا وصلوا إلى حيث يسكن «سامي» … كان شقيقه الذي يعمل في «السعودية» قد أعدَّ شقَّةً جميلةً بها ثلاثُ غُرفٍ للنوم … وجميع لوازم الحياة … ولأنه سافر فقد نزل المغامرون الخمسة في الشقَّة الجميلة التي تقع في الطابق الثالث بالقرب من الشاطئ … ووقف الجميع في الشُّرْفة العريضة يتأمَّلون البحر الذي كان ساكنًا وليس به إلا بعضُ التموُّجات الخفيفة.
كان «تختخ» يقف في آخر الشُّرْفة يرى ضوء القمر ينعكس على صفحة المياه … ولكن هذا المنظر الجميل لم يشغله عن التفكير في «شلبي» الصغير وأمه المسكينة … نظر إلى ساعته … كانت التاسعة مساءً؛ موعد العشاء في أكثر البيوت … وتصوَّر أنَّ «شلبي» وأمَّه بلا طعام وقد يقضيان الليلة جائعَيْن.
طلب «تختخ» عقْدَ اجتماع سريع للمغامرين … وشرح لهم ما يشعر به، وأنه لن يستطيع النوم إلَّا إذا وفَّر ﻟ «شلبي» وأمه عشاءً، وأعطَى «أم شلبي» بعض النقود … ولأنه يحمل نقود ميزانية الرحلة معه فهو يستأذنهم في إنفاق بعضها من أجل السيدة «أم شلبي» وابنها.
وافق الجميع في حماس … وقال «سامي» ابن خال «محب»: من فضلكم أنتم ضيوف عندنا … وسيكون كل ما تطلبونه تحت أمركم … وأبي مسافر لأيام وقد ترك لي الكثير من النقود، ومواد الطعام في الثلاجة … وسوف أساهم معكم في شراء ما تحتاجه «أم شلبي» وبجوارنا سوبر ماركت صغير يمكننا أن نشتريَ منه ما نشاء …
فجأة ارتفع صوت «لوزة» قائلة: جميل أن نساعدَ «أم شلبي»، ولكن الأجمل أن نبحث لها عن زوجها الغائب.
ارتسمت ابتسامةٌ واسعةٌ على وجوه المغامرين و«سامي».
وقال «محب»: إنه لغز يا «لوزة» … اختفاء «أبو شلبي» … لغز لم تستطع السلطات المسئولة حلَّه … فهل نستطيع نحن؟!
لوزة: وما هو عملُنا إذا كان هناك لغزٌ لا نحلُّه؟!
عاطف: إنه أكبر من إمكانيَّاتنا!
لوزة: ولماذا لا نطلق «زنجر» للبحث عنه؟
ضحك الجميع … وقال «محب»: هل سيشم رائحته في «اليونان»؟!
احمرَّ وجه «لوزة» وقالت: ربما!
سامي: سأُعدُّ لكم عشاءً خفيفًا بسرعة!
تختخ: لا تشغل بالك بطعامنا … أولًا: تعالَ نذهب إلى «أم شلبي» … إنَّ مسكنها قريب.
خرج «تختخ» و«سامي» وانهمك بقيةُ المغامرين في إعداد الطعام … وفي الطريق سأل «تختخ»: ما هي حكاية «أم شلبي» هذه؟
سامي: ليس زوج «أم شلبي» وحده هو الغائب … هناك عشرات من الشباب والرجال سافروا إلى «اليونان» ولم يعودوا!
تختخ: وماذا فعلت الشرطة؟
سامي: لقد حقَّقوا في الأمر ولم يصلوا إلى نتيجة؛ فهؤلاء الشبَّان يخرجون بعيدًا في قواربهم الصغيرة … وتقابلهم سفن أحد المهربين وتأخذهم إلى شواطئ «اليونان»!
تختخ: ولكني سمعت أنَّ بعضهم غرِق!
سامي: وبعضهم وجد نفسَه على الشاطئ الشمالي وقد ظنُّوا أنَّهم وصلوا «اليونان»!
تختخ: ومن هم زعماء التهريب هنا؟
سامي: كثيرون … وبعضهم يُهرِّب المخدِّرات أيضًا!
تختخ: ولم تصل إليهم الشرطة؟
سامي: وصلت إلى بعضهم … ولكنهم يَلجئون إلى طُرقٍ غريبةٍ في التهريب … وبعضهم يملك لنشات سريعة يمكنها الهرب … خاصَّةً في «البحر الميت» تحت جنح الظلام!
تختخ: إنني أشعر بالأسى من أجل «أم شلبي»، فكيف تعيش؟!
سامي: بعض المُحسنين من أمثالك يُرسلون لها الطعام أحيانًا …
كانا قد وصلا إلى حارةٍ ضيقةٍ تنحدر إلى البحر … وقال «سامي»: أظنُّ أنَّ مسكنها هنا!
سألا هنا وهناك حتى وصلا إلى كشكٍ خشبيٍّ يكاد يتهاوى، وكانت تنبعث منه أضواء خافتة واضح أنها من لمبة جاز … ولكن قبل أن يدقُّوا الباب، قال «تختخ»: ما رأيك أن نشتريَ أولًا بعضَ الطعام نحمله لها؟
سامي: فكرة عظيمة!
عادا بسرعة حيث ذهبا إلى سوبر ماركت صغير قريب من المسكن، فاشتريا جُبنًا وحلاوة وزيتونًا وبَيْضًا وخُبزًا ساخنًا، ثم ذهبا إلى مطعمٍ قريبٍ فاشتريا فولًا وطعمية … وحملا كلَّ هذا وذهبا إلى منزل «أم شلبي» وطرقا الباب!
سمعا صوت «أم شلبي» تقول: من الطارق؟
سامي: افتحي يا «أم شلبي» … نحن أصدقاء!
فتحت «أم شلبي» الباب، وعلى ضوء هذا المصباح الخافت ظهر «شلبي» وبجواره فتاةٌ تكبره سِنًّا.
تختخ: اسمحي لنا يا «أم شلبي» … نحن مثل أولادك … وقد أحضرنا بعض الطعام لصديقنا «شلبي».
كانت البنت الصغيرة الجميلة تقف بجوار أمها وقد اتسعت عيناها عندما شاهدت الطعام.
قال «تختخ» لها: تعالَيْ يا حبيبتي … ما اسمك؟
الفتاة: «سلمى».
تختخ: خذي يا «سلمى».
وأعطى «تختخ» «سلمى» الصغيرة وأمها الطعام، ثم دسَّ في يدِ الأمِّ مبلغًا من المال … وقبل أن يتلقَّيا أيَّ شكرٍ غادرا المكان …
كان «تختخ» سعيدًا جدًّا لِما فعل … ولمَّا وصلا إلى المنزل وجدا الطعام الذي أعدَّه بقية المغامرين … وانهمك الجميع في الأكل.
بعد سهرة في لعب «الشِّطْرنج» الذي تتفوَّق فيه «نوسة» على الجميع … نام المغامرون الخمسة في انتظار صباح جديد … وطَوال السهرة لم تكفَّ «لوزة» عن الحديث عن الرجل الذي اختفى أو سافر ولم يَعُدْ.
وقال «سامي»: الظاهرة بدأت منذ أعوام … وبعض الذين سافروا عادوا … وبعضُهم لم يَعُدْ … وبعضهم غرِقَ في البحر!
لوزة: كيف يغرقون وهم صيَّادون يُجيدون السباحة؟!
سامي: المسألة أنَّ المهرِّبين يضعون عشرين شخصًا مثلًا في قارب يتسع لخمسة أو سبعة أشخاص … ويغرق القارب بعيدًا عن الشاطئ بكثير … ولا يتمكن الركاب من العوم هذه المسافة الطويلة، خاصة في البرد القارس أو العاصفة الهوجاء!
محب: إنها مسألة خطيرة!
كان «تختخ» يستمع إلى الحوار الدائر بين «لوزة» و«سامي» وهو يفكر في هؤلاء الذين ذهبوا ولم يعودوا … خاصةً والدَ «سلمى» و«شلبي» وزوج السيدة المسكينة «أم شلبي».
وعندما استسلم «تختخ» للنَّوْم أخذت الكوابيس تطارده … الغرقى والريح والعاصفة والأطفال الذين فقدوا آباءهم … ولكن الصباح التالي كان يحمل له ولبقية المغامرين مفاجأةً لم تكن متوقَّعة!