فلسفته
(١) رسل في تيار عصره
التجريبية هي طابع الفلسفة الإنجليزية في شتى مراحلها، فهكذا كانت عند «بيكن» في القرن السادس عشر، وهكذا كانت عند «لُكْ» في القرن السابع عشر، وهكذا كانت عند «هيوم» في القرن الثامن عشر، وهكذا كانت عند «ملْ» في القرن التاسع عشر، وهكذا هي اليوم عند «رسل» في القرن العشرين، فهؤلاء جميعًا عمادهم الأول هو الخبرة المباشرة يُدركونها في أنفسهم، وهو المعطَيات الحسية تتلقاها حواسُّهم من ظواهر الطبيعة الخارجية مرئية ومسموعة وملموسة … إلخ، فإن ركَّب الإنسانُ لنفسه بعد ذلك صورة عن العالم، جعل المعطَيات الحسية قوامها والخبرة المباشرة لُحْمتَها وسَداها، والأمر بعد ذلك بحاجةٍ إلى تحليلٍ نرى به كيف يرتدُّ عِلمنا بأنفسِنا وبالعالم إلى خبراتنا وحاضراتنا الحسية، وفي هذا التحليل وضروبه يكون اختلاف السبل بين هؤلاء الفلاسفة التجريبيين الذين يلتقون عند نقطة الابتداء.
على أن في هذه الصورة إسرافًا في التبسيط، فإنما أردت بها قبل كل شيء أن أُبرز العلاقة التي تربط «برتراند رسل» بأسلافه من مواطنيه، وأن أُبين في وضوح كيف جاء فيلسوفنا حلقةً من سلسلة تتابعت حلقاتها على تشابه بينها في الصورة العامة، وإن اختلفت في تفصيلاتها اختلافًا بعيدًا، غير أن ظهور هؤلاء الأعلام متتابعين على مرِّ القرون في مجرى الفكر التجريبي في إنجلترا لم يمنع ظهور موجات من الفلسفة المثالية حينًا بعد حين، بل قد بلغت تلك الموجات المثالية أحيانًا من الشدة في الفكر الإنجليزي، بحيث خُيِّل للدارس أنها قد طغت على ما عداها، فأغرقته إلى غير رجعة، لكنها كانت لا تلبث طويلًا، حتى يتصدى لها واحد من هؤلاء الفلاسفة التجريبيين، فما يزال بها مقاومة، حتى تنحسر ويعود للفكر الإنجليزي مجراه الأصيل.
ولنضرب لهذه الموجات من الفلسفة المثالية كيف تطغى على الفكر الإنجليزي حينًا لتعود فتنحسر عنه، موجتَين طغَتا على فترتَين متواليتَين إبان القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد جاءت أوائلَ القرن على أيدي نفر من الشعراء والكتَّاب الذين أعجبتهم المثالية الألمانية متمثلة في «كانت» و«هيجل» فراحوا ينقلونها تلخيصًا وتعليقًا في شعرهم ونثرهم، ومن هؤلاء «كولردج» و«كارلايل»، وإذا أردنا أن نضم الفكر الأمريكي الإنجليزي في حركة واحدة، قلنا إن «إمرسن» قام في أمريكا بنفس الدور الذي قام به «كولردج» و«كارلايل» في إنجلترا من حيث إشاعةُ المثالية الألمانية في المجال الفكري، لكن لم يلبث هذا الغزو الفكري أن تصدى له «جون ستيوارت مل» بفكره التجريبي، فأرجع التقاليد الإنجليزية إلى تيار الفلسفة كما كانت على يدَي «لُكْ» و«هيوم»، ومن أبرز أعماله في هذا السبيل كتابه في «المنطق»، وكتابه في المذهب المنفعي في الأخلاق.
لكن المثالية الألمانية عادت في أواخر القرن التاسع عشر إلى غزوة جديدة للفكر الإنجليزي، وكانت غزوتها هذه المرةَ أشدَّ توفيقًا وأرسخ جذورًا؛ لأنها هذه المرة لم تجعل أداتها نفرًا من الشعراء والكتاب غير المختصين بالدراسات الفلسفية، بل جعلت أداتها هذه المرةَ أساتذةَ الفلسفة في جامعة أكسفورد: «جرين» و«برادلي» و«كيرد» و«بوزانكت»؛ اتجه هؤلاء جميعًا نحو المثالية المطلقة في فلسفاتهم، حتى لتُسمَّى هذه الحركة الفكرية إلى يومنا هذا باسم «مدرسة أكسفورد» في التاريخ الفلسفي المعاصر، والذي يقرب من المعاصر، كما تُسمَّى أحيانًا باسم «الهيجلية الإنجليزية»؛ لأن فلسفة هيجل كانت أقوى سطوعًا في مؤلفات هؤلاء الأساتذة من أن تُخطِئَها العين العابرة، على أن «كانت» كان له كذلك في تلك الحركة أثرُه العميق، وما دمنا قد ضممنا الفكر الأمريكي إلى الفكر الإنجليزي في الغزوة الألمانية الأولى، وقلنا إن «إمرسن» كان وسيلتَها، فكذلك اجتمعت أمريكا إلى إنجلترا في حركةٍ فكريةٍ واحدةٍ هذه المرة أيضًا، وكان من أبرز مَن عاوَنوا الفلسفة المثالية الألمانية على الانتشار في غزوتها الثانية هو «جوزَيا رويس» الذي كان عندئذٍ أستاذًا للفلسفة في جامعة هارفارد.
سادت الفلسفة المثالية المطلقة في إنجلترا (وأمريكا) حتى سنة ١٩٢٠م، وكان لا بد لمنطق التاريخ أن يُغير مجرى الحوادث ليعود إلى الفلسفة الإنجليزية طابعها التجريبي مرة أخرى، لم يكن مما يتفق وطبائعَ الأشياء أن يظهر في إنجلترا — معقل الفكر التجريبي — فيلسوف مثل «برادلي» ويُخرج كتابَيه المشهورين في «أصول المنطق» و«المظهر والحقيقة» ليقول — كما قال هيجل — إن العقل وحده مستعينًا بمنطق فكره يستطيع أن يُنبئنا عن العالم شيئًا كثيرًا دون حاجةٍ منا إلى الحواسِّ وإدراكها، بل يذهب في كتاب «المظهر والحقيقة» إلى أن الفاحص المدقِّق يرى ظواهر الكون كما تُدركها الحواس متناقضة، وإذن فلا بد أن تكون وهمًا، وأما الكون على حقيقته — إذا كان حتمًا أن يتسق مع نفسه اتساقًا منطقيًّا — فلا مندوحة لنا عن وصفه بخصائصَ أخرى غيرِ الخصائص التي تُدركها الحواس؛ فالكون على حقيقته يستحيل أن يكون محصورًا في مكان أو محدودًا بزمان، كما يستحيل أن يكون قوامه هذه الكثرة من الأشياء يرتبط بعضها ببعض بعلاقات، بل يستحيل أن يكون هنالك حتى هذه التثنيةُ التي نزعمها بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ فما الكون — في أيِّه — إلا حقيقةٌ واحدة مطلقة لا تَجزُّؤَ فيها ولا فواصل ولا حدود.
هذه الثورة على الفلسفة المثالية قد جاءت إلى هؤلاء الثائرين على درجات؛ فليس منهم واحدٌ لم يبدأ حياته الفلسفية مغمورًا بالمثالية الكانتية أو الهيجلية، ثم أخذت تعمل في نفسه العواملُ الدافعة إلى رفضها، فثار عليها جميعًا أو على بعضها، حتى إذا ما جاء عام ١٩٢٠م كان الاتجاه الغالب بشكلٍ قاطعٍ جازمٍ نحو واقعيةٍ جديدةٍ، هي التي تتمثل في برتراند رسل إلى حدٍّ كبير، ولما كان عددٌ كبير من أنصارها من أساتذة كيمبردج، سُمِّيَت المدرسة أحيانًا «بمدرسة كيمبردج» ليتم التقابل بينها وبين «مدرسة أكسفورد» في الفلسفة؛ إذ كانت أكسفورد — كما أسلَفْنا لك القول — مركزًا للفلسفة المثالية، فقامت تُناهضها كيمبردج مركزًا للفلسفة الواقعية التحليلية، ولقد أسلفنا لك في الفصل الأول ما رواه «رسل» عن نفسه في خطوات تطوره الفكري؛ فمن ذلك قولُه: «لقد حدثَت لي خلال عام ١٨٩٨م عدة أحداث جعلتني أنفضُّ عن «كانت» وعن «هيجل» في آنٍ معًا … ولولا «تأثير جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلَت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز «مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتُها، ولكنها كانت عنده أقصرَ زمنًا منها عندي، فكان هو الإمامَ الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال «برادلي» عن كل شيء يُؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا إن كل ما يَفترض «الذوقُ الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك «الذوق الفطري» في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا — وفي أنفسنا شعورُ الهارب من السجن — نُؤمن بصدق «الذوق الفطري» فيما يُدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها.»
وكُتِب للواقعية الجديدة أن تسود في إنجلترا سيادة مطلقة مدى عشرة أعوام — من ١٩٢٠م إلى ١٩٣٠م — وبعدئذٍ جاورتها حركة أخرى تولدت عنها، هي حركة «الوضعية المنطقية».
ونستطيع أن نُجمِل المعالم البارزة في اتجاهات الفلسفة الواقعية الجديدة في ثلاث نقط أو أربع؛ فهي أولًا حركة تنصرف باهتمامها الأكبر إلى نظرية المعرفة بدل الميتافيزيقا، إلى الإنسان كيف يعرف ما يعرفه، فلئن كان الفلاسفة الميتافيزيقيون السابقون لهم يُعنَون بإقامة بناءاتٍ فلسفيةٍ متسقةٍ يُحاول البناءُ الواحد منها أن يشمل الكون كله بمن فيه وما فيه، كأنه حقيقة واحدة بغير تجزئةٍ ولا فواصل؛ فقد جاء هؤلاء الواقعيون الجددُ يُفتِّتون المشكلات الفلسفية ليُعالجوها واحدةً بعد واحدة، دون أن يُعنَوا في كثير أو قليل بأن تكون هذه المشكلات أو لا تكون أجزاءً من مسألةٍ واحدة كبرى، ومن هذه المشكلات الجزئية، بل في مقدمتها وعلى رأسها، مشكلة المعرفة الإنسانية كيف تكون.
وأهم ما تتصف به نظرية المعرفة عندهم هو بُعدها عن الذاتية بقدر المستطاع؛ فأنا حين أعرف شيئًا عن العالم الخارجي، فإنما أكشف عن شيءٍ موجود فعلًا خارج ذاتي، كان موجودًا قبل معرفتي إياه، وسيظل موجودًا بعدها، ولم تُغيِّر معرفتي تلك من حقيقة الشيء المعروف؛ لأنه كائنٌ مستقل عن العقل الذي يعرفه، وإن غيرتْ معرفتي لذلك الشيء شيئًا، فإنما غيرتْ من نفسي أنا، لا من ذلك الشيء الخارجي الذي عرَفتُه، وقد غيرَت من نفسي حين نقلتها من حالة جهل إلى حالة علم، المعرفة كشفٌ عما هناك، وليست هي بعملية من الخلق المنطقي الذي يتم تركيبه داخل عقلي بغضِّ النظر عما هو كائنٌ خارج العقل؛ كما يذهب المثاليون.
ولا بدَّ لمثل هذا القارئ المستنكِر المتعجِّب أن يذكر لنفسه أن هذا الذي يظنه إدراكًا فطريًّا لا يجوز فيه الجدل، هو بعينه الذي يتصدى لإنكاره المثاليون على كافة مدارسهم؛ فالمدارس المثالية كلها مُجمِعة على أن الشيء المعروف ليس مستقلًّا عن العقل العارف، وفي رأيهم أن العالم في حقيقته هو هذا الذي يعرفه الإنسان عنه بعقله لا الذي يُدرِكه من ظواهره بحسه، حتى «كانت» الذي هو مِن أكثر المثاليين اعتدالًا وبُعدًا عن التطرف في مثاليته، يجعل العالم صنيعة العقل ومقولاته إلى حد كبير.
إذن فنظرية المعرفة والرأي فيها والاهتمام بها هي من أهم ما يُميز المدرسةَ الواقعية الجديدة، لكن هذا الطابع فيها يستلزم مميزًا آخر، هو رأيها في معيار الصدق، فمتى يجوز لنا أن نقول عن عبارة إنها صادقة، سواءٌ كان ذلك في العلم أو في الحياة اليومية؟
كان المثاليون يأخذون بمعيار «الاتساق» أساسًا لصدق العبارة، أعني أن تكون العبارةُ على «اتساق» مع غيرها مما يُقال، بحيث لا يكون ثمة تناقض فيما نقوله عن الكون؛ خذ الهندسة — مثلًا — لتوضح لك فكرة المثاليين، فعلى أي أساسٍ نحكم على نظريةٍ هندسيةٍ من نظريات إقليدس بأنها صواب؟ الجواب هو: تكون النظرية صوابًا لو اتسقت مع سائر النظريات، ومع سائر الفروض والتعريفات والمسلَّمات، بحيث تجيء نتيجة محتومة لما سبقها ومقدمةً ضرورية لما بعدها، وإذا كان بين أجزاء البناء الهندسي مثلُ هذا «الاتساق» كان بناءً صحيحًا، وكان كلُّ جزء منه صادقًا، وهكذا قل في مجموعة العبارات التي نصف بها الكون؛ فهي صادقة إذا تكاملَت في بناء بين أجزائه اتساقٌ لا يسمح للواحدة أن تُناقض الأخرى … وإذا نحن أخذنا بهذا المعيار في صدق العلم والفلسفة، وشتى ما ننطق به عن أنفسنا وعن العالم الخارجي، نتَج إمكانُ أن يُوصِد الإنسان دون نفسه أبواب غرفته، ويظل ينسج من فكره أقوالًا مختلفة عن العالم، لا يتحرى فيها شيئًا سوى أن يتسق بعضُها مع بعض، حتى إذا ما تكامل له منها بناءٌ شامل، تقدم به على أنه وصف للكون … هذا ما يعمله الرياضيون حين يُنشِئون نظرياتهم في الرياضة، وهذا ما يعمله الميتافيزيقيون حين يُقيمون بناءاتهم الفلسفية، وهذا ما يُريدنا المثاليون على اصطناعه كلما أردنا تفكيرًا سليمًا.
أما المدرسة الواقعية الجديدة، فترى في معيار الصدق رأيًا آخر يتفق ورأيَها في عملية اكتساب المعرفة، فما دام الشيء الذي أعرفه موجودًا خارج ذاتي، وكل ما أفعله إزاءه هو أن أكشف عنه، ثم أضع ما عرَفتُه عنه في عبارة أو عباراتٍ فلا بد — لكي تكون تلك العبارة أو العبارات صادقة — أن يكون ثَمة «تطابقٌ» بين الوصف والموصوف؛ معيارهم في الصدق هو «التطابق» بين القول والموضوع الذي قيل فيه ذلك القول، وليس حتمًا أن تكون مجموعة الأقوال التي أقولها عن العالم مما يُكمل بعضه بعضًا في بناءٍ واحد؛ إذ قد لا يكون في العالم هذه «الواحدية»، بل قد يكون — كما هو رأي الواقعيين فيه — قوامه كثرة متجاورة، أو متعاقبة من أشياءَ أو من حوادث.
وصفة ثالثة يتميز بها المذهب الواقعي الجديد هي اهتمام أصحابه بالعلوم، وبصفةٍ خاصة اهتمامهم بعلم الطبيعة والرياضة؛ فكثيرون منهم أولئك الذين اشتغلوا بالفلسفة بعد دراستهم لعلم الطبيعة أو للرياضة دراسة تخصص، وعلى كل حال فليس المقصود باهتمام الفلسفة المعاصرة بالعلوم وبالرياضة أنها تسعى إلى ما يسعى إليه العلم من جمع الحقائق واستدلال القوانين، بل المقصود هو أنها تأخذ من العلم مبادئَه وطرائقه ومُدرَكاته الكلية، فلئن كان العلم يسعى إلى تصنيف الحقائق في مجموعاتٍ مستعينًا في ذلك بالقوانين العلمية، فهذه القوانين العلمية نفسُها هي بمثابة المادة الخامة للفلسفة، ولكن بأي معنًى؟ بمعنى أن الفيلسوف المعاصر يجعل فلسفته تحليلًا للعلوم في مبادئها وقوانينها، فإذا كان المبدأ الذي منه يبتدئ علمٌ ما طريقَ سيره هو «س»، فمهمة الفيلسوف هي أن يحفر الأرض تحت «س» هذه ليرى على أيِّ العناصر الأولية ترتكز، خذ لذلك مثلًا تحليل برتراند رسل للعدد؛ فعلم الحساب يبدأ سيره من سلسلة الأعداد: صفر، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة … إلخ، من هذه الأعداد يُجري عملياته جمعًا وطرحًا وضربًا وقسمة … إلخ، لكن ليس من شأن علم الحساب أن يُحلل هذه الأعداد ذواتها، تُرى هل تكون سلسلة الأعداد مفروضة علينا فرضًا كنقطة ابتداء أم ترانا إذا ما حللناها ألفيناها ترتدُّ إلى أولياتٍ سابقةٍ عليها في عملية التفكير؟ لكي يُجيب «رسل» عن هذا السؤال، غاص في تحليلاتٍ (ستكون موضوعَ الفصل التالي من هذا الكتاب)، وانتهى إلى نتيجةٍ هي أن العدد فكرة مركبة، عناصرها هي الفئات من الأشياء التي يُمثلها كل عددٍ على حِدَة؛ فمثلًا في العالم مجموعاتٌ من أشياء قوامُ كل مجموعةٍ منها سبعة أعضاء، كأيام الأسبوع، والسماوات السبع، وهذه المقاعد السبعة التي في غرفتي إلى آخر هذه المجموعات المسبَّعةِ الأعضاء في أنحاء العالم كله، ونُريد أن نرمز إلى هذه الفئات المسبَّعة باسمٍ واحد؛ لنضمَّها كلها في مجموعةٍ واحدة، أو في فئةٍ واحدةٍ؛ لما بينها من شَبه يجمعها، وهو كون كل واحدةٍ منها متطابقةً في عدد أفرادها مع سائرها، فإذا أطلقت عليها رمز «٧» كان تحليل هذا الرمز في حقيقيَّته هو أنه رمز دالٌّ على فئةٍ من فئات، أي مجموعةٍ من مجموعات أشياءَ بينها تشابُه في وجهٍ من الوجوه … إذن فالعدد الذي يبدأ عنده علم الحساب ليس في ذاته فكرةً أولية بسيطة، بل سبقته فكرة «الفئة» التي يكون بين أفرادها تشابه يُبرر وضعها في مجموعةٍ واحدة، ولما كانت فكرة «الفئات» من بين الأفكار الرئيسية في علم المنطق، كان علم الحساب — وكانت الرياضة كلها — نابتةً من جذورٍ ضاربةٍ فيما وراء الحساب والرياضة؛ إذ تمتدُّ إلى أوليات المنطق.
هذه التحليلات وأشباهها في أصول الرياضة والعلم الطبيعي هي ما نعنيه حين نقول إن فلاسفة الواقعية الحديثة يهتمُّون بالعلوم والرياضة، وينصرفون بمجهودهم إلى تحليل أصولها، وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم ما قلناه من أن مبادئ الرياضة وقوانين العلوم هي المادة الخامة للفلسفة وتحليلاتها، حتى لقد صح القولُ بأن الفلسفة لم تَعُد شيئًا سِوى المنطق التحليلي.
وهذا الاتجاه التحليلي في الفلسفة المعاصرة يُسلمنا إلى صفةٍ رابعةٍ تتميز بها هذه الفلسفة، وهي وضوح الأسلوب والتخلص من الزخارف اللُّغوية التي هي من خصائص العقل المهوَّش، ولا أظنني أُجاوز الصواب إذا زعمتُ بأن الفلاسفة المثاليين يجعلون غموض العبارة شرطًا للعمق الفلسفي؛ إذ كيف تكون — في رأيهم — عميق الفكر دون أن تكون صعب الفهم معقَّد الأسلوب غامضَ العبارة؟ أما أصحاب الفلسفة التحليلية المعاصرة، فلا يسمحون لأنفسهم بذكر كلمةٍ واحدةٍ بغير تحديد معناها، ولا بذكر عبارةٍ واحدةٍ لا تتسم بالوضوح، بل بالنصوع الذي لا يدع عند القارئ مجالًا للتخبط والضلال في تلمس المعنى المراد، كان مُحالًا عليهم أن يجعلوا مهمة الفلسفة الأساسية تحليلًا وتوضيحًا لقضايا العلوم دون أن يبدَءوا بأنفسِهم، فلا يكتبون إلا ما هو بينٌ واضح، وليس أدلَّ على وضوح الكتابة الفلسفية في كل ما أنتجه الفلاسفة على مرِّ القرون، من فيلسوفنا «برتراند رسل».
هذا المنهج التحليلي نفسُه، وهذه الكتابة التحليلية الواضحة التي تُحدد معانيها تحديدًا لا يدع سبيلًا إلى غموضٍ أو التِواء، هما نقطة الابتداء التي تفرَّعت عندها مدرسة جديدة تولَّدت عن الفلسفة الواقعية، وقد جعلت تلك المدرسة الجديدة التحليلَ والتحديد والتوضيح غايتَها الأولى والأخيرة التي لم تَعُد — في رأيها — للفلسفة غاية سواها، وإنما أعني بها مدرسة الوضعية المنطقية، فهي «وضعية»؛ لأنها ترفض الميتافيزيقا، وهي «منطقية»؛ لأن رفضها للميتافيزيقا قائمٌ على تحليل العبارات الميتافيزيقية نفسِها لبيان خُلوِّها من المعنى، فهي — إذن — لا ترفض «ما وراء الطبيعة» على أساس مذهبي، بمعنى إحلال مذهب محلَّ مذهب، بل ترفضها على أساس منطقي، ما دامت عباراتها لا تتوافر فيها شروطُ الكلام المقبول التي من أهمها أن تكون العبارة مما يُمكن تحقيقه للتثبت من صوابه أو خطئه.
«لما التقيت لقاء التعارُف بفتجنشتين أخبرني أنه معتزم أن يكون مهندسًا، وذهب إلى مانشستر، وهذا الهدف نُصْب عينَيه، غير أنه خلال دراسته للهندسة أُغرِم بالرياضة، ثم خلال دراسته للرياضة أُغرِم بأصول الرياضة، وسأل الناس في مانشستر — كما أنبأني — إن كان ثمة موضوعٌ كهذا، وإذا كان قد تناوله بالدرس واحدٌ من العلماء، فأجابوه بأنَّ مِثل هذا الموضوع قائم، وأنه يستطيع أن يزداد بالأمر علمًا إذا هو زارني في كيمبردج، وهكذا فعل … (وأخذ في الدراسة معي) وسرعان ما تقدم في المنطق الرياضي بخُطًى واسعة، ولم يلبث أن ألمَّ بكل ما كان عندي من علمٍ أستطيع تعليمه إياه، وأظنه لم يكن حينئذٍ يعرف «فريجه» معرفة شخصية، لكنه قرأه وأُعجب به إعجابًا شديدًا، ولم أعُد أراه بطبيعة الحال خلال حرب ١٩١٤–١٩١٨م، لكنني تلقيت منه خطابًا بعد الهدنة بقليل، كتبه من «مونت كاسينو» أخبرَني فيه أنه وقع في الأسر، وكان معه — لحسن الحظ — مخطوطُه (الذي هو كتابه «رسالة في الفلسفة والمنطق») فاستخدمت كل ما أملك من قوةٍ لأحمل الحكومة الإيطالية على إطلاق سَراحه من الأسر، ثم التقيت به في لاهاي، حيث ناقشنا كتابه «رسالة …» سطرًا سطرًا …»
هذه «الوضعية المنطقية» التي جاءت فرعًا عن «الواقعية الجديدة»، ونتيجة متأخِّرة للتحليلات المنطقية التي قام بها رسل في كتابَيه «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة»، هي في الحقيقة مزيجٌ من تجريبية ومنطق رياضي، فأهم ما أنتجته هذه المدرسة الجديدة هو — في اعتقادي — هذا الكشف التحليلي الرائع الذي ثبَّت أساس الفلسفة التجريبية إلى الأبد، وأعني به الكشف عن طبيعة الرياضة والمنطق بواسطة تحليل قضاياهما؛ ذلك أن أكبر مشكلةٍ كانت تقف في وجه التجريبيين هي هذه: إذا قلنا إن العلم أساسه التجرِبة الحسية، فبماذا نُعلل يقين الرياضة والمنطق مع أن قضايا هذَين العِلمَين لا تأتي عن طريق الحواس؟ فالنتيجة التي انتهت إليها «الوضعية المنطقية» في ذلك هي أنه بتحليل قضايا هذَين العلمَين تبين أنها جميعًا تحصيلُ حاصل، ولا تقول شيئًا جديدًا، فالقضية في الرياضة — مثل قولنا ٢ + ٢ = ٤ هي قضية «تَكْرارية»، وليست قضية «إخبارية»، إنها تُكرر شيئًا واحدًا في لفظَين، وإنما اتفقنا على أن يكون اللفظان أو الرمزان بمعنًى واحد بحكم تعريفنا لهما، كقولك مثلًا إستانبول هي القُسطنطينية، والصِّدِّيق هو أبو بكر، فمصدر اليقين في الرياضة هو أنها لا «تُخبرنا» بجديد، وإذن فلم يَعُد هنالك ما يُبرر الاحتجاج بالرياضة، ويقينها على الفيلسوف التجريبي الذي يقول إن مصدر كل علمٍ جديدٍ هو الحواس، وبالخبرة الحسِّية وحدها يكون حُكمنا على الكلام الذي ينطق به الناس بالصدق أو بالكذب، والنتيجة النهائية التي ينتهي إليها «الوضعيون المنطقيون» هي أنه إذا لم تكن العبارة التي أمامك «إخبارية» تعتمد في خبرها على الحواس، ولم تكن «تَكرارية» — كما في الرياضة — تُحصِّل حاصلًا، ولا تُضيف علمًا جديدًا، إذن فهي كلام فارغ من المعنى، وهذا هو ما قصد إليه هيوم في عبارته التي ذكَرها، في ختام كتابه «بحث في العقل البشري»: «إذا تناولنا بأيدينا كتابًا كائنًا ما كان، في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلًا، فلنسأل أنفسَنا: هل يحتوي هذا الكتاب على شيءٍ من التدليل المجرد فيما يختص بالكَمية والعدد؟ كلا، هل يحتوي على شيءٍ من التدليل التجريبي فيما يختص بأمور الواقع والوجود؟ كلا! إذن فألقِ به في النار؛ لأنه عندئذٍ يستحيل أن يحتويَ على شيءٍ سوى سفسطةٍ ووهم.»
تيار الفكر الفلسفي المعاصر — إذن — يُمكن تلخيصه في هذه العبارة الآتية: موجةٌ مثاليةٌ من فلسفة «كانت» وفلسفة «هيجل» سيطرَت على إنجلترا (وأمريكا) منذ سنة ١٨٨٠م إلى ١٩٢٠م، فثورة واقعية أخذت تفعل فعلها في مقاومة تلك الموجة المثالية منذ بداية القرن العشرين، حتى إذا ما كان عام ١٩٢٠م كانت لها السيادة، وعلى رأس هذه الثورة «رسل» و«مور»، وأضرابهما من فلاسفة «مدرسة كيمبردج»، وعن هذه «الواقعية الجديدة»، ومنهجها التحليلي تفرَّعَت شعبة أطلقَت على نفسها اسم «الوضعية المنطقية»، استمدَّت بدايتها وهدايتها من المنهج التحليلي الذي استخدمه فلاسفة «الواقعية الجديدة»، وإن تكن قد استقلَّت وحدها بنتائجَ — كإنكار الميتافيزيقا — قد لا يُوافقها عليها رجال «الواقعية الجديدة»، ومنهم «رسل».
(٢) الفلسفة الرياضية١١
سنقوق إلى القارئ في هذا الفصل شرحًا لتحليل «العدد» عند «رسل» لنضع به أمامه نموذجًا مصغَّرًا لما يقوم به فيلسوفنا من تحليلاتٍ في فلسفة الرياضة؛ إذ يتعذر أن نجعل فصلًا واحدًا من كتابٍ صغيرٍ شاملًا لكل ما قام به الفيلسوف في هذا الباب.
وبتطبيق ذلك على الرياضة يكون الفرق بين الرياضة وفلسفتها هو أن الرياضة تستخدم رموزًا وعلامات، مثل الأعداد وأحرف الهجاء والعلامات الدالة على الجمع والطرح والضرب والقسمة والتساوي وما إلى ذلك، ثم تُركب من تلك الرموز والعلامات صيغات ومعادلات دون أن تقف عند هذه الرموز والعلامات نفسِها بالتحليل؛ بعبارةٍ أخرى هي التي تستخدم الرموز والعلامات المعروفة مادةً لحديثها، لكنها لا تصبُّ الحديث على الرموز والعلامات ذواتها، فتقول الرياضة — مثلًا — إن «١ + ٠ = ١»، لكنها تستبعد من مجالها تحليلَ معاني الواحد والصفر والزيادة والتساوي، فإذا ما تناول باحثٌ هذه الرموزَ ببحثه، وجعلها هي نفسَها موضوع حديثه، كان قوله «فلسفة رياضية».
والأعداد هي نقطة الابتداء في دراسة الرياضة، عندها يبدأ الطفل دراسته، حتى ليُخيَّل إلينا أنها — كما تبدو في ظاهر أمرها — أبسط المدرَكات الرياضية، بمعنى أنها الأساس الأول الذي لا تسبقه خطوة أخرى، مع أنها في الحقيقة على درجةٍ بعيدةٍ من التركيب، ولا يظهر ذلك فيها إلا بعد تحليل طويل دقيق، كالذي قام به كثيرون من علماء الرياضة والمنطق المحْدَثين، وعلى رأسهم «رسل»، الذين أظهَروا بتحليلاتهم أن فكرة العدد لا تأتي إلا بعد أن تسبقها خطواتٌ عقلية أبسطُ منها، ثم بيَّنوا أن هذه الخطوات العقلية السابقة إنما تقع كلها في مجال المنطق، وإذن فالخطوة الأولى من التفكير الرياضي إن هي إلا مرحلة متقدمة من شوطٍ فكري يبدأ مع الأصول الأولى للمنطق، وبهذا تكون الرياضة في حقيقة أمرها استمرارًا للمنطق.
ويَجمُل بنا قبل أن نخوض في تعريف العدد، أن نقول كلمة مختصرة في المقصود «بالتعريف» في الرياضة.
وننظر الآن في تعريف العدد؛ لنرى كيف أمكن ردُّه إلى مدركات منطقية:
- (١)
المجموعة التي نعدُّها.
- (٢)
العدد نفسُه الذي نعدُّ به تلك المجموعة.
- (٣)
فكرة العدد بصفة عامة.
ولتوضيح هذه الأشياء الثلاثة التي لا بد من التمييز بينها؛ أقول: افرض أن أمامك ثلاثة رجال، فهذا الثالوث من الرجال هو المجموعة المعدودة، وهو شيء غير العدد «٣» الذي نعدُّ به تلك المجموعة، بدليل أن هذا العدد «٣» نفسه يُمكن تطبيقه على ثالوثاتٍ أخرى غير الرجال الثلاثة الذين تراهم أمامك الآن، فتُطلقه على ثلاثة طيور وثلاثة أحجار وثلاثة مصابيح وغير ذلك، وما دمنا نُطلق رمزًا واحدًا هو «٣» على هذه المجموعات المختلفة من أشياء، فلا بد أن يكون بين تلك المجموعات صفةٌ مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستخدم الرمز «٣»، ثم نعود فنُفرق بين عدد معين مثل «٣» أو «صفر» أو «٩» وبين فكرة العدد بصفة عامة، فهذه الأعداد المختلفة إن هي إلا أفرادٌ من فئة تجمعها، وما كانت لتجتمع في فئة واحدة لولا أن بينها صفةً مشتركة هي التي نقصد إليها إذا ما تحدثنا عن «العدد» بصفة عامة، فالعدد «٣» والعدد «صفر» والعدد «٩» أفراد مختلفة الدلالات بعضها عن بعض، لكنها على اختلافها تنطوي تحت فئة واحدة هي «العدد»؛ لأن بينها جانبًا مشتركًا، وهذا الجانب المشترك في سلسلة الأعداد كلها هو المعنى المراد «بالعدد» إذا استعملنا الكلمة بصفة عامة، كما أن «طه» و«الحكيم» و«العقاد» أسماء لأفراد ينطوون — على ما بينهم من اختلاف — تحت فئة واحدة؛ هي مجموعة الأدباء، وإذن فلا بدَّ أن يكون بينهم صفةٌ مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستعمل كلمة «أديب» بصفةٍ عامة.
و«العدد» الذي سنتناول تحليله وردَّه إلى مدركاتٍ منطقية، هو «العدد» بالمعنى الثاني من المعاني الثلاثة السابقة، أو «العدد» الذي يكون متعينًا محدد القيمة مثل «١» أو «٣» أو «صفر»، كان الرياضيون إلى عهدٍ غير بعيد، إذا أرادوا العدد استثنَوا من الأعداد العدد «١»، وجعلوه غير قابلٍ للتعريف ليُعرِّفوا به سائر الأعداد، فيكون العدد «٢» مثلًا هو «١ + ١»، والعدد «٣» هو «٢ + ١» وهكذا، لكنها طريقة معيبة من عدة وجوه؛ فهي فضلًا عن أنها تُفرق بين العدد «١» وبين بقية الأعداد، كأنه ليس واحدًا منها، وفضلًا عن أنها تستخدم فكرة الجمع المرموز لها بالعلامة + دون تعريف وتحديد، كأنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، أقول إنها فضلًا عن هذَين العيبَين فيها، فإنها لا تنطبق إلا على الأعداد النهائية دون الأعداد اللانهائية، فلئن صح أن أي عدد نهائي من سلسلة الأعداد الطبيعية مثل «٧» أو «٥٣٢» يُمكن تعريفه بتَكرار العدد «١» كذا من المرات، فذلك لا يصح على العدد اللانهائي مثل مجموعة النقط في الخط المستقيم.
وللسير في محاولة تعريف الأعداد طريقان؛ كلاهما يتخلص من عيوب الطريقة التي أسلفناها: طريق سلكه «كانتور» و«بيانو»، وطريق آخر سلكه «رسل» لعله أقربُ إلى الكمال في تلافي كل ما يُمكن تلافيه من أوجه النقص.
أما الطريق الأول فهو محاولة تعريف العدد بالتجريد، ومعنى ذلك أن تفحص مجموعة أو أكثر من المجموعات التي تنطوي تحت عددٍ معين، كالعدد «٣» مثلًا، فتتناول بالبحث ثلاثة رجال وثلاثة طيور وثلاثة أشجار إلخ، ثم تُجرِّد هذه المجموعات الثلاثية من الصفات الخاصة المميزة لكلٍّ منها صفةً بعد صفة، حتى يتبقى لديك بقية لا تكون صفة خاصة بمجموعة الرجال الثلاثة أو بمجموعة الأشجار الثلاثة، فتكون هذه الصفة الباقية بعد عمليات التجريد، هي التي نُسميها بالعدد «٣».
غير أن «رسل» يُوجه إلى هذه الطريقة نقده، فيقول: إنه قد يتبقى لدينا بعد عمليات التجريد صفاتٌ لا حصر لعددها؛ إحداها فقط هي الصفة التي تصف طبيعة العدد، وعندئذٍ لا نجد بين أيدينا ما نُميز به هذه الصفة الواحدة المطلوبة من سائر الصفات التي بقيت معها بعد عمليات التجريد.
فتعريف «رسل» للعدد على هذا النحو، هو في الحقيقة بمثابة تعريف الاسم بالإشارة إلى مسمَّاه، ولشرح ذلك أقول: افرض أنك تريد أن تشرح كلمة «أخضر» لطفل صغير، فلو حاولت أن تُحدد له معنى الكلمة بصفات مجرَّدة، كنت تتبع الطريقة التي اتبعها «كانتور» و«بيانو» في تعريف العدد، وهي طريقة التجريد، أما إذا أخذته إلى بُقعة خضراء، وقلت له: انظر إلى هذه البقعة، فاللون «الأخضر» معناه هو الفئة التي تشتمل على جميع الأشياء الملونة بلون شبيهٍ بهذا اللون الذي تراه أمامك، فهذا بعينه ما يُريده «رسل» في تعريفه للعدد، إذ هو يُعرِّف أي عددٍ بأنه الفئة التي تشمل جميع الفئات التي تكون شبيهة بفئةٍ معينة، فإذا أردت أن تُعرِّف معنى العدد «٣» فانظر إلى ثالوث من الرجال مجتمعين معًا، وقل إن العدد «٣» معناه هو الفئة التي تشمل كل الفئات التي تكون كلٌّ منها شبيهةً بهذه الفئة من الرجال التي أراها أمامي.
قد يسأل سائل: ألسنا حين نضم الفئات ذوات العدد الواحد في فئة كبيرة تشملها، فتكون هذه هي معنى ذلك العدد؟ ألسنا بذلك نفرض أسبقية علمنا بمعنى العدد قبل محاولة تحديد معناه؟ فنحن نقول — مثلًا — إن العدد «٣» معناه هو الفئة الكبيرة التي تحتوي على فئات صغيرة كلٌّ منها ثالوث معين، فتصور أننا حزمنا ثلاثة رجال في حزمة، وثلاثة طيور في حزمة، وثلاثة كتب في حزمة إلخ، ثم تناولنا هذه الحُزْمات جميعًا فربطناها في حُزمة واحدة كبيرة، فإن هذه الحزمة الكبيرة تكون هي مدلول العدد «٣»، والاعتراض الذي نُقدمه الآن هو هذا: كيف أُتيح لنا أن نجمع هذه الثالوثات في حزمة واحدة ما لم يكن لدينا علمٌ سابق بمعنى العدد «٣»؟ وإذا كان لدينا هذا العلم السابق به، فما فائدة تعريفه بعد ذلك ما دمنا قد فرَضنا معرفة سابقة به؟ والرد على هذا الاعتراض هو أننا لا نضم هذه الحزمات الصغيرة معًا على أساس عددها، بل على أساس التشابه الذي بينها، وليس التشابه هو نفسه العدد، إنما تكون الفِئتان متشابهتَين إذا كان بين أفراد الواحدة منهما وأفراد الأخرى علاقة واحد بواحد، أعني أن يكون كل حدٍّ من حدود إحدى المجموعتَين مقابلًا لحدٍّ واحد لا أكثرَ من حدود المجموعة الأخرى، فمثلًا إذا فرضنا في مجتمعٍ ما أن كل رجاله وكل نسائه متزوجون، وأنه لا يُباح في هذا المجتمع إلا زوجة واحدة لكل زوج، وإلا زوج واحد لكل زوجة، فعندئذٍ نحكم بأن عدد الرجال مساوٍ لعدد النساء دون أن يكون بنا حاجةٌ إلى عدِّ الأفراد في كلٍّ من المجموعتَين؛ إننا نحكم على هاتَين المجموعتَين بالتشابه، أي بأنَّ بينهما علاقةَ واحد بواحد، ولا يقتضي ذلك منا أن يكون لنا سابقُ علم بعدد كلٍّ منهما.
وقد يعود الاعتراض من جديد بأنه إذا كنا سنبدأ الشوط في تعريفنا للعدد بجمع الفئات المتشابهة، وإذا كان التشابه معناه المنطقي هو أن تكون بين أفراد الفئتَين المتشابهتَين علاقةُ واحد بواحد، فإن إدراك هذه العلاقة نفسها بين الفئات المتشابهة يفترض إدراكنا للعدد «١»، لكن هذا الاعتراض لا يقوم على أساسٍ قويم؛ لأن كل ما نطلبه لكي نحكم بوجود علاقة واحد بواحد بين مجموعتَين هو أن تكون لدينا القدرة على تمييز الأفراد في كلٍّ من المجموعتَين، وبعدئذٍ نستطيع أن نربط فردًا من هذه بفردٍ من تلك، حتى إذا ما وجدنا أن كل فرد من هذه المجموعة قد ارتبط بفرد من تلك المجموعة، بحيث استُنفِدَت الأفراد في كلتا المجموعتَين، قلنا إن هاتَين المجموعتَين متشابهتان، دون أن نعلم عدد الأفراد هنا أو هناك، ودون أن يكون لدينا أيُّ علمٍ بفكرة العدد إطلاقًا.
وواضح أننا إذ نُعرِّف العدد بأنه فئة من فئات، فالعدد «صفر» هو رمز لمجموعة الفئات الفارغة، والعدد «١» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والعدد «٢» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضوَين كالأزواج، والعدد «٣» هو رمز لمجموعة الثالوثات وهلم جرًّا، أقول إننا إذ نُعرِّف العدد بأنه فئة من فئات، فإننا بذلك نكون قد حلَّلنا هذا المدرَك الرياضيَّ الأساسي إلى مدركاتٍ ليست من الرياضة، بل هي مدركات من علم آخر هو المنطق؛ لأن «فئة» مدركٌ من مدركات المنطق لا الرياضة.
•••
كان حديثنا فيما مضى يتناول الأعداد النهائية المحددة المعلومة القيمة، وها نحن أولاء نتناول الآن نوعًا آخر من الأعداد، هو العدد اللانهائي؛ لنرى ماذا يكون من أمره في ضوء التحليل الحديث.
٠ | ١ | ٢ | ٣ | ٤ | … | إلى ما لا نهاية |
١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | … | إلى ما لا نهاية |
نقول إن هاتَين الفئتَين سترتبطان إحداهما بالأخرى بعلاقة واحد بواحد، أي إن كل عضو من الفئة الأولى سيُقابله عضو من الفئة الثانية، دون أن نُضطَرَّ إلى حذف حدٍّ من حدود الأخرى، ومعنى ذلك أن الفئتَين متساويتان، رغم كون الأولى بادئةً بحلقة سابقة على الحلقة التي تبدأ منها الثانية.
والخلاصة هي أن الفئة اللانهائية هي التي لا تتغير بحذف أحد حدودها ولا بإضافة حدٍّ جديد إليها.
ومن هنا تنشأ المشكلات والنقائض في نظر الفلاسفة؛ ذلك لأنهم لا يعلمون عن طبيعة العدد ما قد كشَف عنه الرياضيون في عصرنا الحديث، فيَحسب الفيلسوف من هؤلاء أن الأعداد كلَّها سواءٌ، فإن كان العدد النهائي — كالعدد ٩ مثلًا — يتغير بإضافة واحد إليه كما يتغير بحذف واحد منه، فكذلك يتغير العدد اللانهائي — في ظن أولئك الفلاسفة — بالإضافة إليه أو بالحذف منه، ومن ثَم تبدأ المشكلة عندهم.
- فأولًا: لا تخضع الأعداد اللانهائية — كما تخضع الأعداد النهائية — لما يُسمى بالاستقراء الرياضي الذي خلاصته أنه إذا كان «ن» عددًا نهائيًّا، فالعدد الناتج من إضافة «١» إلى «ن» يكون نهائيًّا كذلك، ويكون مختلفًا عن «ن»، وبهذا يمكن أن نبدأ بالصفر، ثم نكون سلسلة أعداد بإضافاتٍ متوالية، في كل خطوةٍ منها نضيف «أ»، بحيث يستحيل أن يشترك عددان مختلفان من أعداد السلسلة في تالٍ واحد؛ فلكل عدد تاليه الذي يتكوَّن بإضافة «أ»، والذي يختلف عنه، أما الأعداد اللانهائية فليست كذلك، فالعدد اللانهائي لا يتغير بإضافة «أ» إليه، ولا تتكون من الأعداد اللانهائية سلسلةٌ بمثل هذه الإضافات المتوالية.
- وثانيًا: أن العدد اللانهائي — على خلافٍ في ذلك مع العدد النهائي — يُساوي جزءه، فالكل والجزء في هذه الحالة يكونان مؤلَّفَين من حدودٍ عددها في الكل مساوٍ لعددها في الجزء.
ونُعيد هذا القول في عبارةٍ أيسرَ فهمًا، فنقول إن مشكلة اللانهائي قد نشأت عند الفلاسفة؛ لأنهم ظنوا أن ما ينطبق على الأعداد النهائية لا بد كذلك أن ينطبق على الأعداد اللانهائية، كأنما يتحتَّم أن تكون الأعداد كلها من صنفٍ واحد، وكأنما يستحيل أن يكون بينها اختلاف يُجيز لنا أن نقول في بعضها ما لا نقوله في بعضها الآخر.
نعم، إن القول بأن الكل وجزءه يُمكن أن يتساويا في عدد الحدود، قول لا يسهل قَبوله عند الإدراك الفطري الساذَج، كأنما الإنسان بفطرته مهيَّأ للحكم على الجزء بأنه أصغرُ حتمًا من الكل الذي يحتويه، مهما يكن نوع هذا الكل وذلك الجزء، لكن تحليلنا للأعداد اللانهائية ينتهي بنا إلى أن الإدراك الفطري لا ينبغي أن يُركَن إليه في هذا الموضوع؛ لأن الحقيقة التي لا مناص من قَبولها هي أن الكل والجزء يتساويان في الأعداد اللانهائية، وأن عدم تساويهما إنما يكون محتومًا في مجال الأعداد النهائية وحدها.
(٣) المنطق وعالم الواقع٣٦
أمامك ألفاظ وعبارات مكتوبة مقروءة، أو منطوقة مسموعة، وسؤالنا الآن هو هذا: إلى أي حدٍّ يُمكن استدلالُ حقيقة العالم الخارجي من هذه الألفاظ والعبارات؟ أتكون اللغة مرآةً للعالم الواقع أو لا تكون؟
- (أ)
فلاسفة يستدلون خصائص العالم من خصائص اللغة، وهؤلاء هم من بين الصفِّ الأول من كبار الفلاسفة، أمثال بارمنيدس وأفلاطون وسبينوزا وليبنتز وهيجل وبرادلي.
- (ب)
وفلاسفة يرون أن المعرفة الإنسانية كلها محصورة في دائرة ما يعرفه الناس من ألفاظٍ وعبارات، أعني أنهم لا يرون وسيلة يَنفُذون بها خلال اللغة إلى حيث الحقيقةُ الخارجية التي تُعبر عنها تلك اللغة، ومن هؤلاء فريق «الاسميين»، وطائفة من رجال الوضعية المنطقية.
- (جـ)
وطائفة ثالثة من الفلاسفة تذهب إلى أن ثمة جانبًا من المعرفة يستحيل على اللغة أن تُعبر عنه، مع أنهم إذ يُقررون ذلك تراهم يُحاولون استخدام هذه اللغة نفسِها ليدلوا بها على تلك المعرفة ذاتها، ومن هؤلاء جماعة المتصوفة، وبرجسون، وفتجنشتين.
فأما هذه الطائفة الثالثة، فيُمكن أن نغضَّ عنها النظر لما في موقفها من تناقض صريح، وأما الطائفة الثانية فليس من اليسير قَبول وجهة نظرها لما تكتنفها من مشكلات، أقلُّ ما يُذكَر منها هو أنني أعلم عن عبارات اللغة نفسِها حقائقَ ليست في ذاتها جزءًا من اللغة، كأن أعرف مثلًا أي الألفاظ قد ورد في هذه العبارة وبأي ترتيب ورد، وأما الطائفة الأولى التي تعتقد أن من اللغة وتركيبها يُمكن استدلال حقيقة العالم وطبيعته، فهي التي تستحق النظر والتحليل، ذلك أن «رسل» يعتقد — كما يعتقد أفراد هذه الطائفة من الفلاسفة — بأن للغة دلالةً على حقيقة العالم الخارجي وطبيعته، غير أنه يتخذ لنفسه في هذا الاتجاه موقفًا خاصًّا به، هو الذي سنتناوله بالشرح فيما يلي.
حلِّل اللغة إلى وحداتها الأولية، تجد وحدتها هي «القضية» أي الجملة التي تدل على «واقعة» من وقائع العالم، وما «القضية» إلا مركب رمزي قِوامه رموز هي الألفاظ، والعلامة المميزة للقضية هي إمكان وصفها بالصدق أو بالكذب، فالمركب الرمزي، أي اللفظي، لا يكون وحدة لُغوية إذا استحال علينا بحكم طبيعته أن نقول عنه إنه صادق أو كاذب، فإذا كان لديك قضية كهذه: «هذه البقرة صفراء»، ثم إذا كان في عالم الأشياء بقرة صفراء هي التي تُشير إليها تلك القضية، كان لديك جانبان لو حلَّلتهما ألفيتَ بينهما شبهًا كالذي يكون بين شيءٍ مصوَّر وصورته، وماذا نعني «بالتشابه»؟ نعني به أن يكون بين الشبيهَين «علاقة واحد بواحد» أي إن لكل جزء من أجزاء الشبيه جزءًا يُقابله في شبيهه، فإذا كان الأمر كذلك، ثم إذا كانت اللغة مركبة من أجزاء، وليست هي بالكائن الواحد البسيط، كان عالم الواقع كذلك مركبًا من أجزاء، وليس هو بالكائن الواحد البسيط.
وليست القضايا الذرية (البسيطة) كلها من نوعٍ واحد، بل هي تتدرج في تسلسل متصاعد بالنسبة إلى عدد حدودها التي ترتبط بنوع العلاقة المذكورة فيها، ويُقابل هذا التسلسلَ المتصاعد في القضايا الذرية تسلسلٌ متصاعد شبيه به في وقائع العالم؛ فأول الدرجات في تسلسل القضايا الذرية (البسيطة) قضية قوامها شيء وصفته، كقولنا: «هذه البقعة صفراء» فها هنا تجد «حدًّا» واحدًا هو «هذه البقعة» والصفة المنسوبة إليه وهي اللون الأصفر، ويُمكن تسمية هذه القضية بالقضية «الواحدية»، ويتلوها في سلم الصعود قضية «ثنائية» يكون قوامها حدَّين بينهما علاقة تربطهما، كقولي «القلم على يمين الدواة»، ويتلو هذه قضيةٌ «ثلاثية» يكون قِوامها ثلاثةَ حدود بينها جميعًا علاقة واحدة تربطها في مجموعةٍ واحدة، مثل «الكتاب بين الدواة والقلم»، ويتلو هذه قضية «رباعية»، فقضية «خماسية» وهكذا. وأُحب قبل أن أترك هذه النقطة أن أُنبه القارئ إلى حقيقةٍ هامة، وهي أن أرسطو في «منطقه» حين حلَّل القضايا قد فاتته هذه الفوارق، وجعل القضايا كلها من النوع الأول، الذي تكون القضية فيه مؤلَّفة من حدٍّ واحدٍ وصفته، أو بالاصطلاح المنطقي مؤلفة من موضوع ومحمول … وكما يكون هذا التسلسل في القضايا، يكون كذلك في وقائع العالم الخارجي، فهكذا العالم مؤلَّف من وقائع كثيرة بسيطة، تختلف فيما بينها باختلاف عدد «الحدود»، أو قل عدد «الأشياء» التي ترتبط بعلاقةٍ ما في مجموعة واحدة.
وينبغي أن نُلاحظ ها هنا إذا ما ضُمَّتْ قضية ذرية إلى غيرها بأداة مثل واو العطف أو كلمة «أو» أو كلمة «إذا» إلخ، فإنه يتكون لنا بذلك قضية مركبة، لا يكون لها ما يُقابلها بين وقائع العالم، إذ وقائع العالم كلها بسيطة، وإنما يكون ضم بعضها إلى بعض في عبارات اللغة وحدها، ولكي أزيد ذلك شرحًا أقول: إنني إذا شاهدت أمامي واقعتَين مثل (١) غياب الشمس و(٢) نزول المطر، ثم ربطت بين الواقعتَين في عبارة واحدة مركبة بواسطة واو العطف، فقلت: «غابت الشمس ونزل المطر»، فإن ذلك لا يجعل من الواقعتَين واقعة واحدة، بل سيظلان في العالم الخارجي واقعتَين، وبعبارةٍ أخرى ليس هنالك في عالم الأشياء شيء يُقابل «واو العطف»، بل إن هذه «الواو» التي تضم حقيقة إلى حقيقةٍ أخرى هي مجرد أداة منطقية نستخدمها نحن لربط الحقائق البسيطة، دون أن تكون هي نفسها دالة على حقيقة قائمة بذاتها. وخلاصة القول هي أن القضايا الذرية يُقابلها في العالم وقائعُ ذرية، فإذا ما رُكِّبتُ من الذرات مجموعة كان هذا التركيب مقتصرًا عليَّ وعلى طريقتي في تركيب الكلام دون أن يكون له مقابلٌ في عالم الأشياء، فهذا العالم قوامه بسائط، ولهذا كان صدق القضية الذرية البسيطة متوقفًا على مطابقتها للواقعة التي جاءت تلك القضية لتصفها، وأما صدق القضية المركنة، فمرهون بصدق أجزائها، كل جزءٍ على حدة، فلو أردت التحقق من صدق العبارة المركبة «غابت الشمس ونزل المطر» كان لا بد لي من حلها إلى جزأَيها؛ لأُطابق بين كل جزءٍ بسيطٍ من هذَين الجزأَين وبين الواقعة الخارجية التي تُقابله، فأتحقق من «غياب الشمس»، ثم من «نزول المطر» إذ قد تَصدُق الأولى وحدها دون أن تصدقَ معها الثانية.
إذا أردت التثبُّت من صدق عبارةٍ صادفَتك، فلا مندوحةَ لك عن تحليلها أولًا — إذا كانت عبارة مركَّبة — إلى بَسائطها التي تتركب منها، أي تحليلها إلى القضايا الذرية التي منها تتألَّف، ما دامت القضية الذرية وحدها هي التي يُمكن المطابقة المباشرة بينها وبين الواقعة الخارجية التي تُقابلها، ويتحتَّم بالبداهة أن يكون موضوع القضية الذرية اسمًا جزئيًّا، أعني أنه لا بد للقضية الذرية — لكي تبلغ آخر درجات البساطة — أن يدور الحديثُ فيها عن كائن جزئي واحد، بحيث أستطيع أن أُدير إلى ذلك الكائن الجزئي حواسي؛ لأُدرِك إدراكًا مباشرًا إن كان ذلك الكائن الجزئي في الخارج على الحالة التي تزعمها العبارة المقولة عنه.
لسنا نُخطئ إذا قلنا إن مهمة الفلسفة عند «رسل» هي تحليل القضايا — وبخاصةٍ قضايا العلوم — تحليلًا يردُّ موضوعاتها إلى الأوليات البسيطة التي منها تتألف، فإذا كانت القضية تتحدث عن «س»، ثم أمكن تحليل «س» إلى عناصرَ أبسط هي «أ، ب، ﺟ» وجب حذف «س»؛ حتى لا تتعدَّد الكائنات التي نفترض وجودها كمقومات للعالم، وهكذا نظل نحذف ما لا تستدعيه الضرورة إلى أن ننتهي إلى الحد الأدنى من المقومات التي لا بد من افتراضها لنُفسر بها العالم … وهذا هو ما اصطُلِح على تسميته ﺑ «نصل أوكام» الذي أصبحت تتميز به فلسفةُ «رسل».
ولقد سُمِّي هذا «النصل» بنصل «أوكام» نسبة إلى «وليم الأوكامي» الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابعَ عشر، وعُرِف في تاريخ الفلسفة بمبدئه المشهور الذي شاع في صورة النص الآتي: «لا يجوز لنا أن نُكثر من الكائنات بغير ضرورة تدعو إلى ذلك» غير أن النص الذي ورد في كتاباته مختلف عن هذه العبارة التي شاعت عنه، وإن تكن خلاصة الرأي في النصَّين واحدة، والنص المذكور في كتاباته هو:
وتطبيقًا لهذا المبدأ الهام حذف «رسل» ما حذف من الكائنات التي افترض وجودَها الفلاسفةُ بغير موجِب، بل التي افترض وجودها «رسل» نفسه في بدء حياته الفلسفية، ومن هذه الكائنات المحذوفة مسميات الألفاظ الكلية، ولشرح ذلك أقول:
هنالك أفراد من الناس، زيد وعمرو وخالد، لكل فرد منهم اسمه الخاص كما ترى، فلو صادفَنا اسم من هذه الأسماء، وأردنا أن نعرف مدلوله في عالم الواقع أشَرنا إلى الشخص المسمَّى بذلك الاسم، لكن إلى جانب أسماء الأعلام هذه توجد ألوف من أسماء كلية مثل إنسان وشجرة ومنزل وكتاب، ماذا تعني كلمة «إنسان» مثلًا؟ أو بعبارةٍ أخرى: ما المسمَّى الذي تُشير إليه هذه الكلمة؟ هَبْني زعمت لك أني قابلت «إنسانًا» في الطريق، فستفهم عني ما أُريد، دون أن يكون في مستطاعك أن تعلم أي فردٍ من أفراد الناس قابلت في الطريق؛ لأن كلمة «إنسان» تنطبق على هذا وهذا وذلك من أفراد الناس، وإذن فهي كلمة بغير مدلولٍ متعيِّن، هي اسم بغير مسمًّى معلوم في عالم الأشخاص، ولهذا وجد الفلاسفة المثاليون أنفسهم مضطرِّين إلى افتراض وجود كائن عقلي يُضاف إلى الأفراد المشخصة، هو الذي نقصد إليه، ونُسميه حين نستخدم كلمة «إنسان»، وهكذا قل في «شجرة» و«منزل» و«كتاب» وألوف الأسماء الكلية الأخرى، وبهذا نخلق لأنفسنا عالمًا بأسره إلى جوار عالمنا هذا الذي يُحيط بنا ونعيش فيه، عالم الأفراد الجزئية.
أقول إن الفلاسفة المثاليين قد اضطُروا إلى هذا الفرض، على أساس أن لكل كلمةٍ من كلمات اللغة مدلولَها، وإلا لكانت لغوًا باطلًا، وما دامت هذه الكلمات الكلية مفهومة المعنى حين ترد في الحديث، فلا بد أن يكون لها مدلولاتها، ثم ما دمنا لا نجد هذه المدلولات في عالم الجزئيات، فلا بد لنا من افتراض عالم فكري يحتوي على مدلولات تلك الكلمات الكلية.
وقد كانت هذه تكون نتيجةً سليمة لو صحَّت مقدماتها، وهي أن الكلماتِ الكليةَ «أسماء»، وإذن فلا محيصَ لنا عن افتراض وجود مسمَّياتٍ لها، لكن ها هنا يأتي «رسل» بتحليله المنطقي لهذه الكلمات ليدلَّ به على أن الكلمة منها ليست اسمًا، بل هي «وصف»، وقد يوجد الفرد الذي يُوصَف بذلك الوصف، وقد لا يوجد، أو بعبارةٍ أخرى، كلمة مثل «إنسان» هي في الحقيقة عبارةٌ وصفية بأسرِها، وليست العباراتُ الوصفية بذاتها دليلًا على وجود أفرادٍ لها؛ إذ في مُستطاعي أن أنسج من الخيال عبارةً وصفية لا تنطبق على أي فردٍ من أفراد العالم الواقع.
قارن بين عبارة تحدثك عن فردٍ واحدٍ مثل «العقَّاد مستقيم على ساقين»، وعبارة تُحدثك عن اسم كلِّي مثل: «الإنسان مستقيم على ساقَين» تجد أن العبارة الأولى قضية ذَرية بسيطة تُقابلها واقعة ذرية بسيطة، بحيث إذا أردت التحقُّق من صدقها كان عليك — وفي مستطاعك — أن تُقارن القضية التي هي بمثابة الصورة اللفظية بالواقعة التي هي بمثابة الحقيقة المصوَّرة، كان عليك — وفي مستطاعك — أن تقصد إلى الفرد الواحد الذي يُسمونه بالعقَّاد لترى إن كان حقًّا يستقيم على ساقَين كما تزعم الصورة اللفظية أو لم يكن، فإن كان صدَقَت القضية وإلا فقد كذَبت.
أما إذا أردت التحقُّق من صدق العبارة الثانية «الإنسان مستقيم على ساقين»، فلن يكون أمامك سبيلٌ إلى ذلك إلا أن تقع على فردٍ من مجموعة الأفراد الذين ينطوون جميعًا تحت كلمة «إنسان»، وإذن فأنت بمثابة من يُحلل كلمة «إنسان» إلى صورةٍ كهذه: «س إنسان» و«س مستقيم على ساقَين»، أعني أنك بمثابة مَن يقول إنه لا سبيل إلى تحقيق ما يُقال عن «الإنسان» إلا إذا وجدتَ له أفرادًا أولًا، ثم بعد ذلك ترى إن كان لهؤلاء الأفراد مِن الصفات ما هو مزعومٌ لهم في العبارة الأصلية.
الكلمة الكلية بمثابة عبارةٍ ناقصة، هي وصف ينتظر الفرد المعين الذي يُوصَف به، وقد لا يكون لمثل هذا الفرد وجودٌ، وعندئذٍ تظل الكلمة الكلية بغير مدلول، وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالةٍ على أوصاف عامة وجودَ كائنات تكون بمثابة المسمَّيات لتلك الكلمات، قد أخطَئوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، فالجملة المحتوية على كلمةٍ كلية، أي على عبارةٍ وصفية (لأن الكلمة الكلية هي في حقيقتها عبارة وصفية) هي دالة قضية، أعني أنها رمز ناقص، ولا يجوز الحكم عليها بصدقٍ أو بكذب إلا إذا ردَدْناها أولًا إلى قضية بأن نملأ مكان الرمز المجهول باسم فردٍ معلوم، لو قلنا عبارة كهذه مثلًا عن «الإنسان»: «الإنسان فانٍ»، وأردنا أن نجعل منها رمزًا كاملًا في دلالته، تحتَّم علينا أن نضع مكان الكلمة الكلية «إنسان» اسم علم يدل على فردٍ معينٍ مثل «العقاد»، وعندئذٍ فقط يُصبح الكلام مما يجوز التحققُ من صدقه أو كذبه؛ إذ في مستطاعنا الرجوعُ إلى عالم الواقع، لنجد فيه فردًا اسمه «العقاد» فنُلاحظه لنعلم إن كان فانيًا حقًّا كما تزعم لنا العبارة الأصلية، وبهذا نكون قد تخلصنا من كلمة «إنسان»، على حين أننا إذا أبقَينا كلمة «إنسان» على حالها، وظللنا نصفها بكذا وكذا، ثم رجعنا إلى عالم الأفراد المحسوسة، ولم نجد بينها هذا «الإنسان» العام الذي ليس فردًا بذاته من الأفراد، شطح بنا الوهم إلى افتراض وجود كائن عقلي هو الذي نعنيه بكلمة «إنسان» الكلية، وافتراض أن وجود ذلك الكائن الموهوم يقتضي عالمًا عقليًّا يقوم فيه، كما فعل أفلاطون مثلًا في نظرية المثُل، هكذا نبتر بنصل أوكام مُسمَّيات الألفاظ الكلية، إذ لم نَعُد نرى ضرورةً تستلزم افتراض وجود هذه الكائنات.
معرفة الأفراد الجزئية هي معرفة بالاتصال المباشر، ومعرفة الكليات هي معرفة بالوصف، ولا بد لكل معرفة بالوصف أن ترتدَّ إلى معرفة بالاتصال المباشر إذا ما أردنا التثبُّت من صدق دلالتها، فإن وجدنا أن التركيبة العقلية الوصفية المتمثلة في لفظة كلية لا تنطبق على أفراد جزئية مما يقع في عالم الواقع لم يجز لنا أن نفرض لتلك التركيبات العقلية مدلولاتٍ خارجيةً، وتحتَّم علينا أن نُبقيَها هكذا على حالها تركيبات منطقية بغير مدلولات جزئية، فتظل رموزًا ناقصة غير ذات معنًى كامل، حتى تجد الأفراد الجزئية التي تجعل لها معنًى، فإن استحال بحكم التركيبة الوصفية نفسها أن تجد لها أفرادًا جزئية مما يُمكن الوقوع عليه بالخبرة المباشرة، كانت تلك التركيبة الوصفية كائنًا ميتافيزيقيًّا، ووجب حذفُها؛ لأنها يستحيل أن تكون بين مقومات العالم.
من هذه الكائنات الميتافيزيقية الواجبِ حذفُها لاستحالة وقوعها في الخبرة المباشرة، تلك العناصر التي افترض الفلاسفة — بل التي افترض رجل الشارع بإدراكه الفطري — أنها قائمةٌ في الأشياء لتلتفَّ حولها ظواهرُ تلك الأشياء، وأضرب لذلك مثلًا للتوضيح فأقول: هذه منضدة أمامي، أفترض فيها أنها «شيء مادي» على درجةٍ تزيد أو تقلُّ من الثبات والدوام، فهي اليوم ما كانت بالأمس وما ستكون غدًا، فماذا يأتيني منها في تيار خبرتي المباشرة؟ كل ما يأتيني منها لمعاتٌ متلاحقة من اللون تختلف درجة لمعانها باختلاف الضوء الساقط عليها، وباختلاف وقفتي منها، ودرجات من الصلابة أُحِسها حين أضغطها بأصابعي، ودرجات من الصوت أسمعها إذا ما نقرتُها بيدي أو بغيرها وهكذا، إن سطحها المستطيل لَتختلفُ «استطالته» باختلاف الزاوية التي أنظر إليه منها، وإذن فالذي يأتيني منها في خبرتي المباشرة هي هذه المعطَيات الحسية التي تجيء مُتتابِعةً في مجموعات يختلف بعضُها عن بعض كثيرًا أو قليلًا، لكني إذا أردتُ التحدث عنها، فأردت مثلًا أن أقول إن الدواة قائمةٌ عليها، تراني مَسوقًا بفطرتي إلى جعلِها «شيئًا» متماسكًا صُلبًا ثابتًا أُطلق عليه كلمة واحدة لتكون له اسمًا، ثم أُشير إلى هذا الاسم في حديثي، فأقول — مثلًا — الدواة على المنضدة، كأنما «المنضدة» وكأنما «الدواة» شيئان ثابتان، وكأنهما ليستا مجرد «تركيبتَين» من مجموعة معطياتٍ حسية جاءتني عن طريق هذه الحاسة أو تلك.
ولما وجد الناس، بل لما وجد الفلاسفة، أنفسَهم يتحدثون عن «الأشياء» على هذا النحو، بحيث يجعلون «للشيء» كِيانًا واحدًا، ثم لما أدركوا تغير ظواهر الشيء بتغير وجهات النظر إليه، زعموا أن «للشيء» عنصرًا أو جوهرًا ثابتًا تتعلق به تلك الظواهر المتغيرة، وهذا العنصر أو هذا الجوهر الثابت هو الذي أعنيه حين أستخدم كلمة واحدة أُسميه بها، وإذن فليس معنى كلمة «منضدة» عندهم هو هذه اللمعات اللونية، وهذه اللمسات بالأصابع، بل هو ذلك المركز الخفيُّ الذي لا تُدركه الحواس، ومع ذلك يرون أنفسَهم مضطرين إلى افتراض وجوده ليستقيم لكلامِهم معناه، وليستقيم للأشياء وجودها وثباتها ودوامها.
وبهذا تعدَّدَت الكائنات، ففي العالم — في رأي هؤلاء الفلاسفة وفي رأي رجل الشارع صاحب الإدراك الفطري — جانبان: ظاهر وحقيقة، أو قُل: فيه مجموعتان من الكائنات؛ مجموعة المعطيات الحسية العابرة المتغيرة، ومجموعة العناصر التي تحفظ للأشياء ذاتيَّتها وكِيانَها.
وتطبيقًا لمبدأ «نصل أوكام» الذي نبتر به كلَّ كائن نفرض وجوده بغير موجِبٍ يدعو بالضرورة إلى ذلك الفرض، ينتهي «رسل» إلى الاكتفاء في تفسيره للعالم بمجموعات ظواهره، مستغنِيًا عن «العنصر» أو «الجوهر» أو «النواة» التي كان يفرض وجودها في كلِّ «شيء» ليسهل تصوُّره «شيئًا» متصلَ الوجود، وإذن «فالمنضدة» عند «رسل» هي ظاهرتُها الحسية تتجمَّع في مجموعات لا يربطها رِباط سوى «وجهة النظر» إليها، إننا مضطرُّون إلى الاكتفاء بهذه الظاهرات ما دمنا نُحدد أنفسنا بحدود خبراتنا المباشرة؛ لأن هذه الظاهراتِ وحدها هي التي تجيء عن طريق الخبرة المباشرة، وأعود فأُذكرك بنوعَيِ القضية عند «رسل»: قضية ذرية، وقضية مركبة، وبأن القضية الذرية البسيطة وحدها هي التي يُمكن التحقُّق من صدقها، فإذا كان لدينا قضية مركبة وجب تحليلها إلى أجزائها الذرية لنُقابل بين كل جزء وبين ما يُقابله من واقعة بسيطة في العالم الخارجي، وإذا كان ذلك كذلك، فكل جملةٍ أقولها لك عن «شيءٍ» ما، كقولي مثلًا إن المنضدة مستطيلة؛ لا بد من تحليلها إلى أجزائها الذَّرية، وتحليل «المنضدة» إلى العناصر الأولية التي منها تركبَت في ذهني «شيئًا»، يقتضيني أن أُفتِّتها إلى المعطيات الحسية المتعاقبة التي جاءتني منبعثة منها، بحيث أنتهي إلى سلسلة طويلة من قضايا ذرية، الواحدة منها تكون على هذه الصورة الآتية أو ما يُشبهها «هذه اللمعة الضوئية مستطيلة» إلخ؛ إذ من سلسلة اللمعات الضوئية، وما إليها من معطيات حسية أُقيمَت «التركيبة» المنطقة التي أطلقتُ عليها كلمة «منضدة».
المحور الأساسي الذي يدور حوله المجهود الفلسفي عند «رسل» هو — كما أسلَفْنا — أن يتعقَّب بالتحليل صنوف الكائنات التي يفرض الناس وجودها، حتى يردَّ منها ما يُمكن ردُّه إلى سواها، بحيث ينتهي آخِرَ الأمر إلى أقل عدد ممكن من تلك الكائنات، أعني الكائنات الأوليَّة التي نُدركها بالخبرة المباشرة، والتي لا بد من الاعتراف بوجودها أساسًا للكون، ولمعرفتنا بالكون، وقد بدأ «رسل» حياته الفلسفية بالتسليم بوجود عدد من هذه الكائنات الأولية؛ إذ سلم في كتابه «مشكلات الفلسفة» بوجود «المعاني الكلية» و«العلاقات الكائنة بين الأشياء» و«الذات الإنسانية» إلى جانب تسليمه بالمعطيات الحسية؛ ظنًّا منه عندئذٍ أن المعطيات الحسيةَ وحدها لا تُغني عن افتراض وجود تلك الأوليات المزعومة، لكنه راح بعدئذٍ يُحلل هذه الأشياء ليجد أن بعضها فروض زائدة يُمكن الاستغناءُ عنها بغيرها، فالذات الإنسانية فرضٌ لا ضرورة له ما دام التزامنا بالمعرفة اليقينية يقتضينا أن نقف عند الخبرة الحسية المباشرة، وليس في هذه الخبرة المباشرة «ذات»، بل كلها معطيات حسية تأتينا من صاحب تلك «الذات» المزعومة، و«المعاني الكلية» لا ضرورة لافتراض وجودها كائنات مستقلة قائمة بذواتها ما دام المعنى الكلي يمكن تحليله إلى صيغة رمزية تعتمد على الأفراد الجزئية في اكتسابها لمعناها، وهكذا.
(٤) الإنسان ظاهرًا وباطنًا٥٠
يقول رسل في مقدمة كتابه «تحليل العقل» ما يأتي: «هذا الكتاب نتيجة محاولة أردتُ بها أن أُوفق بين اتجاهَين مختلفَين؛ أحدهما اتجاهٌ في علم النفس، والآخر في علم الطبيعة؛ إذ أراني عاطفًا على الاتجاهَين معًا، ولو أنهما عند النظرة الأولى قد يبدوان متعارضَين، فمن جهةٍ يميل كثير من علماء النفس — وبخاصة أتباع المدرسة السلوكية — نحو موقف هو في جوهره مادي، على الأقل في منهجه إن لم يكن كذلك في أصوله الميتافيزيقية؛ فهم يجعلون علم النفس مرتكزًا على علم وظائف الأعضاء وعلى الملاحظة الخارجية، وهم يميلون إلى النظر إلى المادة على أنها شيء أكثرُ صلابة وأبعدُ عن الشك من العقل، لكن علماء الطبيعة في الوقت نفسه — وخصوصًا أينشتين وغيره من أنصار نظرية النسبية — ماضون شيئًا فشيئًا في جعل «المادة» أقلَّ ماديةً مما كانت، وعالمهم يتألف من «حوادث» منها نشتق «المادة» بطريقة التركيب المنطقي …
ولئن كان هذا الوصف بَرنامجًا لكتابه «تحليل العقل»، فهو كذلك صورة مختصرة لرأي «رسل» في الإنسان؛ لأنه في رأيه هذا يمزج بين النظرتَين؛ النظرة التي تجعل من الإنسان سلوكًا صِرفًا يخضع للملاحظة الخارجية، والنظرة التي تجعل بعض جوانب الإنسان أحداثًا نفسية يُدركها صاحبها بالملاحظة الباطنية دون أن تظهر إلى المشاهد الخارجي في صورة سلوكية، فالإنسان تتناوله بالبحث طائفةٌ من علوم، فيتناوله التاريخ الطبيعي باعتباره حيوانًا كسائر الحيوان له موضعه من سلسلة التطور، ويتناوله علم وظائف الأعضاء باعتباره جسدًا يردُّ على البيئة المحيطة به ردودًا تحفظ له الحياة، ويتناوله علم الاجتماع باعتباره عضوًا في جماعات مختلفة كالأسرة والأمَّة، ويتناوله علم النفس باعتباره فردًا يسلك ضُروبًا معينة من السلوك، وفي مستطاعه أن يتجه بانتباهه إلى باطن نفسه؛ ليُدرك ما يدور في نفسه، ولا ريب في أن هذه الملاحظة الباطنية التي يقوم بها الإنسان إزاء نفسه هي التي أوحت إلى الناس بالرأي التقليدي الذي يُفرق بين العقل والجسم، فالجسم هو جانبنا الذي يستطيع أن يشهده الآخرون، والعقل هو جانبنا الخاص الذي لا يستطيع إدراكَه إلا صاحبُه.
وقد جرى العُرف بين الكثرة الغالبة من الفلاسفة بأن «المعرفة» شيء باطني ينظر إليه من الداخل، فنُلاحظه في أنفسنا بأنفسنا، وليس هو بالظاهرة البادية التي يستطيع مشاهدتَها الآخرون، وقد شاء لنا حسن الحظ أن يكون الناس في حيواتهم اليومية أكثرَ موضوعية وأقربَ إلى الواضع من هؤلاء الفلاسفة، فتراهم ينظرون إلى «المعرفة» نظرتَهم إلى الشيء الذي يُمكن أن يُشاهَد ويُختبَر، ومن ثَم كانت الامتحانات مثلًا، وكان اهتمامنا بالطرائق التي يردُّ بها الناس على العوامل المختلفة في بيئاتهم، فهذه الردود التي تردُّ بها على بيئتك هي نصيبك من «المعرفة».
- (١)
انتقلَت موجات ضوئية من مصدرٍ خارجيٍّ إلى عينَيك.
- (٢)
واهتزت الأعصاب بين العينَين والمخ.
- (٣)
وحدثَت حوادثُ في المخ.
- (٤)
وانتقلت اهتزازات من المخ إلى حلقك ولسانك، فكانت منك تلك الصيحة …
والمرحلة الأولى من هذه المراحل الأربع تتبع علم الطبيعة؛ لأنها تابعة لعلم الضوء، والمرحلتان الثانية والرابعة تتبعان علم وظائف الأعضاء، وأما المرحلة الثالثة فهي وإن تكن كذلك مما يجوز أن يبحثه علم وظائف الأعضاء، إلا أن علم النفس قد تناولها، وجعلها جزءًا من ميدان بحثه، ولعله فعل ذلك حين قصر علم وظائف الأعضاء في مدى دقته العلمية بالنسبة إلى ما يجري في المخ من حادثات … هذه المراحل الأربع في تلك الحادثة، وإن تكن شديدةَ التعقيد في تفصيلاتها، إلا أنها أبسطُ ما يُمكن ضربُه من أمثلة على عمليات المعرفة البشرية.
وقد أراد السلوكيون في علم النفس — وعلى رأسهم واتسنْ — أن يُعللوا ضروب المعرفة كلها، عند الإنسان والحيوان على السواء، بمبدأ واحد، وهو مبدأ «الأفعال المنعكِسة الشرطية»، أو «ردود الأفعال المكتسَبة»، ونصه كما يلي: «إذا تعرض جسم حيوان أو جسم إنسان مدةً كافية لمؤثِّرَين، فإن أحدهما يُصبح كافيًا وحده لاستدعاء الرد الذي كان يستدعيه المؤثر الثاني.» وموقف رسل إزاء هذا المبدأ في تعليل «المعرفة» هو أنه لا يراه وحده كافيًا لتعليل المعرفة بشتى ضروبها، لكنه يُوافق على أنه مبدأ غاية في الأهمية؛ لأنه يُفسر شرطًا كبيرًا جدًّا من عمليات التعلم، وهو ينظر إليه على أنه الصورة الحديثة لمبدأ قديم، هو مبدأ «ترابط المعاني» أو «تداعي الأفكار» الذي كانت له أهمية بالغة في الفلسفة، وفي الفلسفة الإنجليزية بنوعٍ خاص، غير أن هذا المبدأ قد ظهر الآن على ضوء مبدأ الأفعال المنعكِسة الشرطية، فانطوى تحته باعتباره أحد نتائجه.
ذلك أن المبدأ الجديد — مبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية — يشمل ميدانًا أوسعَ جدًّا من الميدان الذي يشمله مبدأُ «تداعي الأفكار» القديم؛ فالذي «يتداعى» أو «يترابط» بعضُه مع بعض ليس «أفكارًا»، بل «حركات جسدية»، وأول ما يمتاز به هذا النظر الجديد هو أن الحيوان يدخل مع الإنسان في تفسير واحد إذا كان التعلُّم عند كِلَيهما حركاتٍ جسديةً تترابط؛ لأن «الأفكار» إن جازت بالنسبة للإنسان فافتراضها في الحيوان إمعانٌ في التخمين، هذا إلى أن الحركات الجسدية يُمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية، على حين أن «الأفكار» لا سبيل إلى ملاحظتها إلا من الداخل، بحيث يُلاحظ الإنسان نفسه دون أن يُتاح لغيره أن يُشاركه في تلك الملاحظة.
ومهما يكن من أمر الأفعال المنعكسة الشرطية من حيث كفايتُها أو عدمُ كفايتِها لتفسير السلوك بشتى ضروبه، فهي مميز واضح يُميز الكائنات الحية من الأشياء الأخرى التي تشترك مع تلك الكائنات في القدرة على الإحساس بالبيئة المحيطة، فليست الكائنات الحية وحدها هي التي تستطيع أن تُحِس ما حولها وتردُّ عليه ردودًا مناسبة؛ فللآلات العلمية — مثلًا — كمقاييس الضغط والحرارة، حساسيةٌ دقيقة؛ ذلك أننا نصف الشيء بالحساسية لمؤثرٍ معين إذا كان سلوكه في حضور ذلك المؤثر يُخالف سلوكه في غيابه، فلوحة آلة التصوير حساسةٌ للضوء، والبارومتر حسَّاس للضغط الجوي، والترمومتر حساس للحرارة وهكذا، حتى ليجوز لنا القول في هذه الحالات وأمثالها إن الآلة «تُدرك» إدراكًا حسيًّا ذلك المؤثر الذي أُعِدَّت الآلة لتكون حساسة له، غير أننا نقول ذلك على سبيل المجاز، ونشعر بأن الإدراك الحسي عند الكائن الحي يختلف عنه في الآلة العلمية، فأين يكون موضوع الاختلاف؟
الجواب التقليدي عن هذا السؤال هو أن الكائن الحي يختلف عن الآلة العلمية الحساسة لمؤثراتها بما لدى الكائن الحي من «شعور»، لكن هذا الجواب — سواءٌ أخطأ أو أصاب — قائمٌ على استدلال لا على ملاحظة موضوعية خارجية؛ لأنك لا ترى «شعورًا» في الكائن الحي الذي يسلك سلوكًا يردُّ به على بيئته نتيجةً لما تلقَّاه من تلك البيئة من مؤثرات، أما الإجابة التي تعتمد على الملاحظة الموضوعية وحدها، فهي أن الكائن الحي يختلف في «إدراكه الحسي» عن الآلة العلمية بأنه حساس لمجموعة منوعة من المؤثرات، على حين أن الآلة العلمية يغلب أن تكون حساسة لمؤثرٍ من نوعٍ واحد، فعلى الرغم من أن الآلة العلمية قد تكون أشدَّ حساسية من حاسة الإنسان المختصة بإدراك نفس الأثر الذي تُحِسه تلك الآلة العلمية، فلوحات آلات التصوير تلتقط من المرئيات البعيدة ما لا تستطيع التقاطَه عينُ الإنسان، والترمومتر يُسجل من الاختلافات في درجات الحرارة ما يعجز عن إدراكه الإنسان بحاسة لمسِه، وهكذا. أقول إنه على الرغم من ذلك، فإنه ليس من سبيلٍ إلى ربط الصِّلات بين آلة التصوير الميكروسكوبية والميكروفون والترمومتر إلخ، في كائنٍ واحد يرد بطريقةٍ مطَّرِدة على مجموعة المؤثرات المختلفة التي تتلقَّاها «حواسه»، مع أن للإنسان هذه القدرةَ على ربط الصورة المرئية بالصوت المسموع وبالإحساسات اللمسية.
على أن هذا الفارق بين الكائن الحي وبين الشيء المادي الحساس قد يُعترَض عليه بأننا قد نصل بمقدرتنا العلمية في المستقبل إلى حدٍّ يُمكِّننا من صنع الجهاز الآلي الذي يشتمل على مجموعة «الحواس» في آنٍ واحد، ويربط تأثراتها ربطًا شبيهًا بما يتم عند الكائن الحي، فها هنا نُضيف فارقًا آخر — لعله الفارق الأساسي، أو ربما كان الفارقَ الوحيد — بين الكائن الحي والآلة الحساسة، وهو القدرة على القيام بأفعال منعكسة شرطية، فانظر — مثلًا — إلى آلة أُعِدت لتكون حساسة للقروش، بحيث يُوضَع فيها القرش فتردُّ عليه بإخراج قطعةٍ من الحلوى، ثم حاوِل أن تُكوِّن فيها فعلًا منعكسًا شرطيًّا، بحيث يكفي أن تُبرز أمامها قرشًا، أو تنطق أمامها بكلمة قرش لتُخرج لك قطعة الحلوى، فالأفعال المنعكسة التي تُؤديها الآلة ستظل دائمًا أفعالًا مباشرة لا يُمكن أن تتم إلا نتيجة للمؤثر الأصلي، وما كذلك الكائن الحي، الذي إذا قرنت له الطعام بصوت الجرس عدة مرات، كان صوت الجرس بعد ذلك كافيًا وحده لإحداث رد الفعل، وهو إفراز اللعاب.
الأفعال المنعكسة الشرطية، أو ردود الأفعال المكتسبة، هي من أهم المبادئ التي تستطيع بها أن تفهم الإنسان فَهمًا يقوم على التجارِب العلمية، ولا يعتمد على الضرب في غيبٍ مجهول وروحانيات غامضة مُلغِزة، لكن «رسل» على الرغم من أنه يتجه هذا الاتجاهَ في تفسير الإنسان وسلوكه، إلا أنه لا يراه وحده كافيًا، ومن الجوانب التي يَقصُر فيها ذلك المبدأ عن التعليل المقبول — في رأي «رسل» — جانبُ الذاكرة؛ كيف يتذكر الإنسان حادثًا مضى؟
تُستعمَل كلمة «الذاكرة» بمعانٍ مختلفة، فهي أحيانًا تُستعمَل بمعنًى واسع حين يُراد بها القدرة على تَكرار عادة اعتدناها، فأنت مثلًا تستعين بالذاكرة على ربط رِباط الرقبة، وعلى السباحة والمشي والكلام، لكنها أحيانًا أخرى تُستعمَل بمعنًى ضيق، بحيث يُراد بها القدرة على استعادة حادثة مضت، فبينا ترى المعنى الواسع للكلمة يُبيح للناس أن يستخدموها في حالة الحيوان — كالكلب مثلًا — حين «يتذكر» وجه صاحبه، أو يتذكر اسمه حين يُنادي به، بل يُبيح لهم أن يُعللوا الأفعال الغريزية بالذاكرة؛ إذ هي في رأيهم تذكُّر الفرد الواحد لتَجارِب أسلافه، وإن «دارون» ليذهب في هذا الاستعمال للكلمة بمعناها الواسع إلى حدٍّ يستبيح معه لنفسه أن يتحدث عن «ذاكرة النبات»، ترى فيلسوفًا مثل «برجسون» يرفض هذا الاستعمال للكلمة، ولا يجعل «العادة» نوعًا من الذاكرة، ويُصِر على أن الكلمة لا تعني معناها الحقيقي، إلا إذا أردنا بها استعادة حادثة وقعت في الماضي، وربما وقعت مرة واحدة، بحيث لم ينشأ عنها «عادة»؛ لأن العادة تتطلب التَّكرار.
ومثل تجريبي آخر؛ قرد وُضِع في صندوقٍ من صناديق التجارِب، فاحتاج أول مرةٍ إلى عشرين دقيقة ليفتح الصندوق، وظل القائمون بالتجرِبة يُعيدونه إلى الصندوق مرةً بعد مرة، وفي كل مرة يقل الزمن الذي يتطلبه القرد لفتح الصندوق، حتى كانت المرة العشرون استطاع أن يفتحه بعد ثانيتَين، ثم أُبعِد عن الصندوق ستة أشهر، فلما أُعيد إليه استطاع أن يفتحه في أربع ثوانٍ.
هكذا يتعلم الحيوان، ويحتفظ بما تعلمه، وإنما الذي تعلمه واحتفظ به هو عادات جسدية، فإن قلنا عن الفأر أو عن القرد إنه بعد ستة أشهر «تذكَّر» خبرة الماضي، كان معنى قولنا هذا هو أن العادة التي تعوَّدها بقيت لديه، وكذلك الحال في الإنسان؛ فهكذا يتعلم، وهكذا يحتفظ بتجارِبه، وفي هذا الاحتفاظ بعاداته التي تعودَّها يكون ما نُسميه بالذاكرة، ولم يكن «برجسون» على صواب حين اعترض بالحادثة التي تحدث مرة واحدة، ويستعيدها الإنسان بعد ذلك؛ لأن «العادة» قد يكفي لتكوينها فعلُ الشيء مرة واحدة، بحيث إذا عاد المؤثرُ مرةً ثانية عاد الفعل على النحو الذي تم به في المرة الأولى.
هذه خُلاصة ما قاله السلوكيون، وهو رأي في الذاكرة لا يُوافق عليه رسل إلا إلى حدٍّ محدود، إذ يرى أن هنالك حالاتٍ كثيرةً يصعب تفسيرها بمجرد الترابط الحركي في الجسد؛ فقد أتذكر حادثة وأُعبر عنها بصورٍ لفظية مختلفة، فلو كان التذكر مجرد ترابط آلي ربطَ بين الحادثة وعاداتٍ كلامية، لاقتضى الأمر أن أُعبر عن الحادثة الماضية بصيغة كلامية واحدة هي التي اقترنَت بها عند حدوثها أول مرة.
إنه إذا كانت الأمانة العلمية تقتضينا ألا نندفع في انتصارنا لمبدأ بعينه — كمبدأ السلوكيين في الأفعال المنعكسة الشرطية وتفسيره للسلوك الإنساني — بحيث نغضُّ النظر عن الاستثناءات التي تعترض إطلاقنا لذلك المبدأ إطلاقًا بغير قيد، فإنه كذلك ينبغي لنا ألَّا نُقلل من شأن مبدأ بعينه إذا رأيناه منافيًا لما نود أن يثبت صوابه، فما أكثرَ الناسَ الذين يتمنون أن يُقال لهم عن الإنسان إنه كائن روحاني ملغز، ويكرهون أن يزعم لهم زاعم بألَّا روحانية في الإنسان ولا إلغاز، وأنه ممكن التفسير والتعليل بمبدأ تجريبي علمي كمبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية الذي أخذ به السلوكيون، وموقف «رسل» من هذا المبدأ هو أن يأخذ به إلى آخر حدٍّ يستطيع أن يذهب معه إليه، حتى إذا ما بقيَت بقيةٌ من جوانب الإنسان يتعذَّر تعليلها بهذا المبدأ، حاول تعليلها على أساسٍ آخر.
فمن أوجُهِ النشاط الإنساني التي كثيرًا ما تُؤخَذ على أنها دليل على أن للإنسان «عقلًا»، وأن الإنسان ليس مجرد كائن عضوي يُمكن تدريبه بردود الأفعال المكتسبة، بحيث يُصبح سلوكه كله بمثابة عاداتٍ جسدية، قدرته على استدلال نتيجةٍ من مقدمتها، فتسمع قائلًا يقول: كيف يتم هذا الاستدلال إذا لم يكن هنالك «عقل» يستدل؟ إن الآلة مهما دقَّت لا تستدل شيئًا من شيء، ولو كان الإنسان آلةُ تردُّ على مؤثراتٍ معينة ردودًا معينة بالغريزة أو بالتدريب، لما كان الاستدلال في مقدوره.
لكن انظر إلى الأمر نظرة أدقَّ تجد هذا «الاستدلال» إن كان استدلالًا قياسيًّا من النوع الذي أخذ به أرسطو في منطقه، فهو بمثابة إثبات للحقيقة الواحدة في عبارتين مختلفتَين، إذ هو تَكْرار في النتيجة لما جاء في المقدمة، وليس في هذا ما يرفع الإنسانَ عن مستوى الآلات الحاسبة، وأما إن كان استدلالًا استقرائيًّا مستمَدًّا من الخبرة، فهو يرتدُّ إلى الصورة الآتية، وهي: إن «أ» و«ب» ظاهرتان تلازمتا دائمًا، فالمرجح أنهما سيظلَّان دائمًا متلازمَين، بحيث إذا وقعت «أ» أمكن الاستدلال بأن «ب» كذلك ستقع معها؛ مثال ذلك أن أرى وضع الورق في النار، واحتراقه متلازمَين دائمًا، فإذا ما وضعت ورقة في النار توقَّعت لها أن تحترق.
فإن كانت هذه هي صورةَ الاستدلال الاستقرائي في صميمه، لم يكن الاستدلال سوى صديقِنا القديم، وهو قانون الترابط، أو بعبارةٍ أخرى هو قانون الأفعال المنعكسة الشرطية، ونُعيد هنا ذكر هذا القانون، وهو أنه إذا استدعى حادثٌ معين ردًّا معينًا، ثم إذا اقترَن هذا الحادث بشيءٍ آخر، فإن هذا الشيء الآخر وحده يُصبح كافيًا لاستدعاء ذلك الرد الذي لم يكن يستدعيه بادئ ذي بدء إلا الحادثُ الأول، هذا مبدأ ينطبق على الإنسان في جهازه العضلي، وفي إفراز غُددِه، ومن ثَم فهو يُفسر ما للإنسان من سلوكٍ وعواطف. فمثلًا لو أنزلتَ الأذى بطفلٍ وثار فيه الغضبُ منك، فإن مجرد الطلوع عليه بوجهك بعد ذلك كافٍ لإثارة غضبه، حتى ولو لم تُنزِل به أذًى، ثم يكون اسمك بعد ذلك — الذي سيرتبط عند الطفل بوجهك — كافيًا لإثارة سخطه، وإن اقترن اسمك بعد ذلك بصناعة معينة كطب العيون، كان طبُّ العيون وحده مثيرًا لسخطه، وقد يقرأ بعد ذلك فلسفة اسبينوزا، فيعلم عن اسبينوزا أنه كان صانعًا لعدسات المناظير فيكرهه ويكره فلسفته معه، وقد تنتقل هذه الكراهية إلى الفلسفة كلها، ثم إلى اليهود؛ لأن اسبينوزا يهودي … وهكذا يمضي الترابط في سلسلةٍ طويلة، في كل حلقةٍ من حلقاتها يقترن المؤثر الأصلي بمؤثر مصاحِب، فينتقل الأثر بعد ذلك إلى هذا المؤثر المصاحب، بحيث يكفي وحده لإثارة رد الفعل الذي كان يُثيره المؤثر الأصلي.
وليس في هذا الترابط شيء لا تُلاحظ مثله في الحيوان، فيكفي أن تذهب إلى حيوان بطعامه عدةَ أيام، حتى ترتبطَ عنده صورتُك بالطعام، فإذا ما رآك بعد ذلك جرى وراءك كما يجري وراء الطعام سواءً بسواء، والصورة الرمزية لهذه الحالات كلها هي ما يأتي: كان المؤثر «أ» يُنتج رد الفعل «ﺟ»، ثم اقترن «أ» بعامل مصاحب هو «ب»، فأصبح «ب» وحده كافيًا لاستدعاء ردِّ الفعل «ﺟ»، كما كان يستدعيه «أ» سواء بسواء، وكل شيءٍ يُمكن أن ينوب عن كل شيءٍ في إحداث الأثر المطلوب، وكلمات اللغة هي من أحسن الأمثلة التي تُوضح لنا كيف يُمكن أن يقوم شيء مقام شيء آخر في استدعاء رد الفعل نفسِه، فإن كان لشيءٍ ما عندك ردُّ فعلٍ معين، كالخوف أو الغضب أو الحب إلخ، ثم اقترن ذلك الشيء باسمه، فإن اسمه بعد ذلك يُصبح كافيًا لإثارة العاطفة نفسِها أو الانفعال نفسه الذي كان يُثيره المؤثر الأصلي، فلو قال لك قائل: «إن بيتك قد شبَّت فيه النار» كان وقع هذه العبارة عندك مساويًا لرؤية النار بعينَيك وهي تشتعل في بيتك.
والاستدلال الاستقرائي هو هذه العملية الترابطية نفسُها، فلك إن شئت أن تُسمِّيَه بالاستدلال الفسيولوجي؛ لاعتماده على أعضاء الجسد، وما تُؤديه من وظائف.
فعملية الاستدلال — ما أخطأ منه وما أصاب — يُمكن تحليلها في كثير جدًّا من الحالات إلى نفس المبدأ الذي رأيناه يُفسر لنا جوانبَ أخرى من سلوك الإنسان، وهو مبدأ ردود الأفعال المكتسبة الذي تتساوى فيه الكائنات العضوية جميعًا من إنسانٍ وحيوان.
•••
غير أن هذه المبدأ، وإن استطاع تعليل الشطر الأكبر من السلوك الإنساني، فهو — كما رأينا — يعجز عن تفسير نواحٍ من الإنسان، وإذن فلا بد — في رأي «رسل» — من النظر إلى الإنسان نظرة «داخلية» نُكمل بها نظرتنا إليه نظرة «خارجية» موضوعية سلوكية، أو بعبارة أخرى، لا بد من إضافة «التأمل الباطني» إلى «الملاحظة الخارجية» لنظفر بالطريقتَين متعاوِنتَين بحقيقة الإنسان الشاملة لشتى نواحيه.
كلنا يعرف أن يقين ما نعلمه عن طريق التأمل الباطني هو الأساس الذي بنى عليه ديكارت فلسفته التي كانت فاتحةَ الفلسفة الحديثة؛ ذلك أن ديكارت كان حريصًا على أن يبني فلسفته على يقين بحتٍ لا يُداخله الشك؛ لذلك جعل يشك في كل ما أمكن أن يشك فيه، فشك في حقيقة العالم الخارجي كلِّه، لكنه لم يستطع أن يشك في وجود نفسه؛ لأنه مهما تشكَّك في ذلك فستظل أمامه حقيقة لا مجال للشك فيها، وهي حقيقة كونه في حالةٍ من الشك، ولو لم يكن موجودًا لما استطاع أن يشك، وإذن فهو موجود ما دام يشك، أو هو موجود ما دام يُفكر … فلما أدرك هذه الحقيقة اليقينية أخذ يبني العالم من جديد باستدلالاتٍ يتلو بعضُها بعضًا، ومما يَلفِت النظر أن عالمه الجديد الذي انتهى إليه لم يختلف في كثيرٍ عن العالم الذي كان يعتقد في وجوده قبل أن يأخذ في شكِّه.
وها هنا نلتمس مجالًا طريفًا للمقارنة إذ نقارن بين «ديكارت» و«واتسن» صاحبِ المذهب السلوكي، فكلا الرجلَين يُريد أن يبنيَ على أساس سليم يقينيٍّ لا يتطرق إليه الشك، وكلا الرجلَين قد أدرك كم يعتقد الناس في صحة أشياء دون أن يُقيموا ذلك الاعتقادَ على مبرر من المنطق، غير أن الرجلَين يختلفان فيما يراه كلٌّ منهما جديرًا باليقين، وصالحًا أن يكون نقطةَ ابتداء؛ فما اعتقد «واتسن» أنه يقيني لا شك فيه هو بعينه ما اعتقد «ديكارت» أنه موضع للشك، والعكس أيضًا صحيح، أي إن الجانب الذي تنكر له «واتسن» واطَّرحه ونبذه، هو بعينه الجانبُ الذي جعله «ديكارت» يقينًا يُؤخَذ به في غير ريبةٍ ولا شك، فالدكتور واتسن لا يُسلم إلا بالجسد، وما يظهر عليه من سلوك، قاذفًا في اليم بكل «الباطنيات» الغيبية التي لا ترتكز على ملاحظة خارجية يشترك فيها كلُّ من أراد أن يُلاحظ، «كالشعور» و«الفكر» و«العقل» وما إلى ذلك، على حين أن «ديكارت» قد غضَّ النظر أول ما غضه عن الملاحظة الخارجية وما تأتينا به من علم؛ لأن وسيلة تلك الملاحظة الخارجية هي الحواس، والحواس قد تخدع، وجعل أساسه اليقيني هو ملاحظته الباطنية لما يدور في نفسِه، فكان «الشك»، أو قُل كان «الفكر» عنده أساسَ اليقين كلِّه … فلئن كان «ديكارت» قد برهنَ على وجود نفسه بفكره، فإن «واتسن» قد برهن على وجود نفسه بما يُؤديه جسده من سلوك، فمقدمات اليقين عنده هي الفئران في المتاهات، وهي الغُدد والعضلات وما إليها، فماذا نحن قائلون إزاء رجلين كهذَين يُوقن أحدهما بما يشك فيه الآخر؟ أيَّ الموقفين نختار، أم أن لكلٍّ منهما جانبًا من الصواب وجانبًا من الخطأ؟
هذا الأخير هو موقف «رسل»؛ ليس الصوابُ كله في الملاحظة الخارجية التي تحصر نفسها في سلوك الإنسان الظاهر، وليس الصواب كله في التأمل الباطني لحالات الشعور، إنما الصواب وسيلته الطريقان معًا، وليس هنا مجال النقد التفصيلي «لدريكارت» أو «واتسن»؛ فحسبُنا أن نقول إن «ديكارت» خرج على مبدئه في الاعتماد على التأمل الباطني منذ عبارته الأولى: «أنا أفكر»؛ لأن الحالة الباطنية التي برَّرَت له أن يقول هذه العبارة إنما هي حالة واحدة جزئية من حالات التفكير، وإذن فلم يكن هناك «أنا» ولا كان هناك «فكر» بمعناه الكلي، فكل ما كان له الحقُّ في تقريره بِناءً على خبرته الباطنية المباشرة هو «ثمة حالة شك»، أو «ثمة حالة تفكير»، إن كلمة «أنا» وكلمة «أُفكر» كلاهما نتيجة لعملية استدلالية، وليست هي بالمعطى المباشر، فلو اقتصر ديكارت على المعطيات المباشرة وحدها، أعني المعطيات الشعورية الجزئية التي تَرِد على الذهن واحدة بعد أخرى، دون أن يستخلص من هذه السلسلة «عنصرًا» دائمًا ثابتًا يُطلِق عليه كلمة «أنا»، ودون أن يُطلق على مجموعة الجزئيات كلمةً واحدة هي «أُفكر»، ثم لو جعل هذه المعطيات الشعورية الجزئية يقينية لا يتطرَّق إليها الشك، لكان موقفه هو موقفَ «رسل» إزاء المعطيات الشعورية؛ لأنها عنده أساسٌ لليقين، على شرط ألا أستدلَّ من وجودها على وجود مسمياتها الخارجية؛ فاللمعة الضوئية التي تقع في خبرتي حين أصف تلك الخبرة بأنها «رؤية الشمس» يقين لا شك فيه، ما دمت لا أستدل من حدوث هذه الخبرة الداخلية على وجود مؤثر خارجي هو «الشمس»، فإذا فسرنا «الفكر» الذي جعله ديكارت أساس اليقين، بأنه هو الحالات الشعورية التي تقع في خبرتنا الباطنية، فنُدركها إدراكًا مباشرًا، كان ديكارت على صواب حين لم يُخالجه الشك في يقين تلك الخبرة.
وكما يُوافق «رسل» على يقين الخبرات الباطنية المباشرة، يرى كذلك أن السلوكيِّين قد أصابوا بعضَ الصواب في اعتمادهم على الملاحظة الخارجية. إن موقف السلوكيين يتلخص فيما يأتي: (١) أكثر الحقائق نصيبًا من اليقين هي تلك التي يستطيع مشاهدتَها عددٌ كبير من الناس، أعني أنها هي الحقائق «العامة» المعروضة للجميع، وليست هي بالحقائق «الخاصة» التي يُدركها صاحبها وحده بتأمله الباطني؛ فمثل تلك الحقائق الموضوعية هي أساسُ العلوم الطبيعية. (٢) والعلوم الطبيعية قادرة على شرح كل الحقائق المشاهَدة التي يُمكن ملاحظتها في السلوك البشري، أو بعبارةٍ أخرى يُمكن تفسير الإنسان بتلك العلوم وحدها. (٣) ليس هنالك ما يُبرر الاعتقادَ بأن للإنسان جوانبَ لا يُمكن معرفتها بالملاحظة الخارجية، وأنه لا بد لنا من التماس طرق أخرى غير الملاحظة الخارجية إذا أردنا العلم بتلك الجوانب. (٤) والتأمل الباطني بصفةٍ خاصة، باعتباره طريقةً يُمكن بواسطتها ملاحظة ما لا يُمكن ملاحظته من الخارج، إنما هو وهم وخرافة لا بد من اقتلاعها من جذورها لكي نصل إلى علم صحيح بالإنسان. (٥) ونتيجةً لهذا فلا مبرر يدعونا إلى الظن بأن للإنسان جانبًا خفيًّا اسمه «فكر» إذا أردنا بهذه الكلمة شيئًا غير السلوك الجسدي الظاهر في شتى ضروبه ومنها الكلام.
ويُوافق «رسل» على الثلاثة الأولى من المبادئ الخمسة المذكورة، ويرفض الرابعَ والخامس منها، ويعتقد أن خطأ السلوكيين راجعٌ إلى عدم إلمامهم التام بما يقوله علم الطبيعة الحديث، ولو قال السلوكيون «إن كل ما يُمكن معرفته عن الإنسان تكون معرفته بنفس الطريقة التي نعرف بها حقائق علم الطبيعة» لوافقهم «رسل»؛ لأنه يعتقد أن حقائقَ الطبيعة — كحقائق النفس — إنما يكون العلمُ بها في الواقع عن طريق الملاحظة الباطنية، ولو أنه قد يتَبادر إلينا للوهلة الأولى أننا في علمنا بالطبيعة نعرف أشياء خارجية؛ ذلك لأنك حين تُدرك بحواسِّك شيئًا خارجيًّا، فسينتهي بك التحليلُ لعمليتك الإدراكية حتمًا إلى هذه النتيجة، وهي أن إدراكاتك كلَّها من بصرية وسمعية ولمسية إلخ، هي في رأسك، فحين تقول: «أرى الشمس» فالأمر في الواقع هو إدراك لشيءٍ حدث في باطن نفسك.
ففيما يتعلَّق بالصور الذهنية، فإن السلوكيين يُنكرون قيامها، فيحسن أن نُحدد المراد «بالصور الذهنية» في رأي مؤيديها قبل الرد على السلوكيين بشأنها. إننا إذا أقفلنا عيوننا أمكنَنا أن نستعيد بعض الصور البصرية عن المناظر والوجوه التي مرت بها في تَجارِبنا الماضية، كذلك نستطيع استعادة أنغامٍ وأصوات سمعناها فيما مضى، كما نستطيع أن نستعيد الصورة اللمسية لفراء ننظر إليه دون أن نلمسه، لكننا نعلم ماذا تكون الخبرة اللمسية لو مرَرْنا عليه بأكفنا … هذه تَجارِب في حياتنا لا سبيل إلى إنكارها، لكن موضع الاختلاف في الرأي هو كيف نصف هذه التجارِب وأشباهَها.
يقول السلوكيون في تفسير الصور الذهنية إنها نتيجة حوادث تحدث في الأعصاب والمخ على نحو ما حدث بالضبط حين أدركنا المؤثرات الخارجية التي تكون هذه الصور الذهنية صورها، ماذا يحدث في شبكية العين مثلًا حين تنظر إلى صورة لنابليون فتراها؟ الجواب عن هذا السؤال هو نفسُه الجواب عن السؤال الآخر وهو: ماذا يحدث حين أستعيد صورة نابليون التي رأيتها في لحظةٍ ماضية؟ فلو كان الإدراك الحسي عند وقوعه عبارة عن حركة مادية في أجزاءَ معينة من جسم الإنسان الرائي، فكذلك تكون استثارة الصورة الذهنية في حالة غياب المدرَك الحسي؛ هذا تفسير، وتفسير آخر يأخذ به السلوكيون أيضًا هو أنك إذ تنظر إلى صورة نابليون — مثلًا — تتحرك أعضاء النطق بكلمة نابليون (سواءٌ تمَّ النطق بصوت مسموع، أو اقتصر على نطق داخلي لم يبلغ درجة الصوت المسموع)، وعندئذٍ يحدث ارتباط عضَلي عصبي بين الحركات الجسدية التي تحدث عند رؤية الصورة والحركات الجسدية التي تحدث عند النطق بالكلمة، بحيث يكفي فيما بعد أن أنطق بالكلمة وحدها، فتعود الصورة لعودة مجموعة الحركات الجسدية التي تُؤدي إليها.
هذا ما يقوله السلوكيون في تفسير الصور الذهنية، ويراه «رسل» غيرَ كافٍ للتفسير في كثيرٍ من الحالات، وفي ذلك يقول إنه إذا سُئل سؤالًا عن غرفة مرَّت عليه في خبرته الماضية، وأراد الإجابة عنه، وجد نفسه مُضطرًّا إلى أن يستعيد صورة الغرفة في ذهنه ليُجيب، كما يحدث تمامًا لو أنه سُئل السؤالَ نفسَه عن غرفة مرئية، ثم نظر إلى أثاث الغرفة ليُجيب، ويُؤكد «رسل» أنه إذ يستعيد صورة ذهنية لتجربة ماضية، فإن الصورة تأتيه أولًا والكلمات المتعلقة بها ثانيًا، بل إن هذه الكلمات قد لا تأتي مصاحبة للصورة أبدًا، مما يدل على خطأ السلوكيين في ظنهم بأن الأمر كله ارتباط بدني حركي بين مجموعتَين من الحركات العضلية العصبية؛ المجموعة التي تُكوِّن الكلمات، والمجموعة التي تُكون صورة.
وننتقل إلى موضوع الذاكرة؛ فها هنا أيضًا يرى «رسل» أن النظرية السلوكية إن أمكن الأخذُ بها إلى حدٍّ بعيد، فهي وحدها لا تكفي لتعليل هذه الظاهرة تعليلًا كاملًا، إن السلوكي لا يرى ضرورةً لاستعمال كلمة «ذاكرة»؛ لأن الأمر فيها هو نفسُه الأمر في «العادات»، فإذا «تذكر» الفأر طريقه في المتاهة نتيجة لخبرته الماضية، فليس في «تذكره» هذا عنصرٌ إضافي يُضاف إلى «العادات» الجسدية التي تعوَّدها الفأر، بحيث إذا ما كرر حدوثها كان له السير في الطريق الصواب، ولا فرق بين الفأر وهو يُكرر هذه العادات الجسدية المحفوظة وبين الطفل وهو يُكرر قوله: «٧ × ٦ = ٤٢»؛ فهذا التَّكرار اللفظي — أي العضلي؛ لأن «العادة» هنا تكون في حركات اللسان وعضلات النطق إلخ — هو من قبيل تَكرار الفأر لمجموعة الحركات التي تُؤدي به إلى التماس طريقه في المتاهة، إذن فما نُسميه «ذاكرة» هو عند السلوكي «عادات»، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنها تتوقف على الحركات الجسدية وحدها بغير داعٍ إلى افتراض حقيقة «عقلية» تستحيل على الملاحظة الخارجية.
ويسأل «رسل»: كيف إذن نستطيع أن نُفسر شعورها في حالة التذكر بأن ما نتذكره حادثة «مضت»؟ من أين يأتي هذا الشعور «بالماضي» مع أنه لم يكن ضمن العناصر المدرَكة حين وقعت الحادثة أولَ مرة؟ لو كان الأمر في «التذكر» شبيهًا بتسجيل حوادث صوتية على قرص الحاكي، بحيث إذا ما أدَرنا القرص مرة أخرى حدثت الحوادث الصوتية نفسُها في المرة الثانية كما حدثت في الأولى، لما وجدنا هذا التباين في الشعور بين الحالتَين؛ لأنه لا شك في أننا نشعر إزاءَ الحادثة عند وقوعها أولَ مرة أنها حادثة «حاضرة»، ثم نشعر عند «تذكرها» أنها حادثة «ماضية» بدليل أننا نُغير في الكلمات التي نستخدمها في الوصف في كلٍّ من الحالتَين؛ ففي الحالة الأولى نستعمل الفعل المضارع، وفي الحالة الثانية نستعمل الفعل الماضي، إن قرص الحاكي لا يفعل ذلك، فإذا سجل الآن صوتك وأنت تقول لحبيبتك: «إني أحبُّكِ»، ثم أدرته بعد أيام لما غيَّر في العبارة بحيث يقول: «إني أحببتك يوم الأربعاء الماضي»، وإذن فهناك في التذكر عنصر «ذاتي»، وليس الأمر كله موضوعيًّا صرفًا يخضع للملاحظة الخارجية وحدها.
(٥) عالم من حوادث٦٠
إن ما يقوله علم الطبيعة عن المادة، بل عن العالم الطبيعي بصفةٍ عامة، مما يُهِم الفيلسوف، إنما يقع في قسمَين أساسيَّين هما: بناءً المادة أولًا، ونظرية النسبية ثانيًا.
أما عن بناء المادة، فقد كانت نظرياته حتى عام ١٩٢٥م قائمة على الفكرة القديمة، وهي أن المادة لا تتعرض للزوال، وأنها مؤلَّفة من ذراتٍ صُلبة لا تقبل الانقسام، ثم تغيَّر الرأي على يدَي عالِمَين ألمانيَّين هما «هايزنبرج» و«شريدنجر»، بحيث أصبحت المادة أبعدَ ما تكون عن تلك الصلابة المزعومة لها وباتت أقربَ ما تكون إلى ما يقوله الروحانيون عن الروح.
كانت الصورة التي اتخذتها النظرية القديمة في القرن التاسع عشر هي أن الطبيعة المادية مؤلَّفة من عددٍ معينٍ من العناصر، وأن كافة المواد مركبةٌ من تلك العناصر الأولية، فالمادة من المواد المركبة مؤلَّفة من مجموعات ذرية، وكل مجموعة منها مؤلفة من ذرات تنتمي إلى عناصرَ مختلفة من تلك العناصر الأولية، فالماء — مثلًا — مادة مركَّبة من مجموعات ذرية، كل مجموعة منها مؤلفة من ذرتَين من الأيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين، ويمكن فصل هذَين النوعَين من الذرات أحدهما عن الآخر بالتحليل الكهربائي، وكان المفروض أن الذرة الواحدة من عنصر ما وحدة لا تقبل التغير أو الزوال، والعناصر الأولية التي منها كانت تتألف سائرُ المواد يبلغ عددها اثنَين وتسعين عنصرًا (أو هذا هو العدد الذي كان ينبغي للعناصر الأولية أن تبلغه لو مُلِئت الفجوات الشاغرة في سلسلة العناصر المعروفة فعلًا، وكان عددها سبعة وثمانين عنصرًا)، وكان لكل عنصر من تلك العناصر الأولية رقمٌ يدل عليه، فالأيدروجين أولها، والهليوم ثانيها، واليورانيوم ثالثها، وهكذا حتى تبلغ العنصر الثانيَ بعد التسعين.
فلما أن كشف العلم عن فاعلية الراديوم، اضطُرَّ إلى تغيير نظره إلى الذرات، فلم تعد الذرة — كما كانت — غير قابلة للزوال أو التغير، إذ وُجِد أن الذرة من عنصر معين يُمكن تحليلها إلى ذرةٍ من عنصر آخر، فمثلًا إذا ما تحللت ذرة الراديوم نشأ عنها نوعٌ من الرَّصاص يختلف بعض الاختلاف عن الرصاص الذي نستخرجه من مناجمه، هذه الظواهر وأمثالها انتهت بالعلم إلى نتيجة جديدة، هي أن الذرة بناء مركَّب يُمكن تحويله إلى نوع آخرَ غيرِ نوعه إذا فصَلنا عنه بعض أجزائه.
وتتابعت بعد ذلك الكشوف الحديثة عن المادة وطبيعتها، فإذا هي ترتدُّ بالتحليل إلى نوعَين من الوحدات هما الإلكترونات والبروتونات (أو الكهارب السالبة والكهارب الموجبة)، وكلٌّ من هذين النوعَين متشابهُ الوحدات، أي إن الإلكترونات كلها على شبهٍ تام بعضها ببعض، وكذلك البروتونات على شبه تام بعضها ببعض، والفرق بين البروتون والإلكترون — فوق أن الأول يحمل كهرباء موجبة والثانيَ يحمل كهرباء سالبة — هو أن كتلة البروتون تُساوي كتلة الإلكترون ١٨٣٥ مرة، ومن خصائص هذين النوعَين من الوحدات الكهربية أن أجزاء كلِّ نوع منها ينفر بعضها من بعض، لكنها تنجذب للنوع الآخر، فالإلكترونات يطرد بعضها بعضًا، والبروتونات يطرد بعضها بعضًا، لكن الإلكترون والبروتون يجذب أحدهما الآخَر.
والذرة هي بناء مركَّب من النوعين معًا؛ فذرة الأيدروجين — وهي أبسط الذرات تركيبًا — تتألف من بروتون واحد وإلكترون واحد يدور حوله كما يدور كوكبٌ حول الشمس، وأما سائر العناصر فالذرة منها تتركب من نواةٍ مؤلَّفة من عدد من البروتونات والإلكترونات، وحول هذه النواة يدور عددٌ من الإلكترونات، والبروتونات التي في النواة تزيد عددًا عن الإلكترونات التي في النواة، وهذا النقص في عدد إلكترونات النواة يُعوضه الإلكترونات التي تدور حول النواة، وعدد البروتونات التي في النواة هو الذي يُحدد وزن العنصر.
هذا ما يقوله علم الطبيعة اليوم عن تركيب المادة، والذي يُهم الفيلسوفَ من هذا الوصف هو أن «المادة» لم تعد «شيئًا». بل زال عنها ذلك الشيء القديم، وأصبحَت كهاربَ وإشعاعات، وإذن فهذه المناضد والمقاعد، وهذه الأشجار والأنهار، والشمس والقمر والنجوم، بل وهذا الخبر الذي نأكله، كل هذه الأشياء قد أصبحت في حقيقتها إشعاعاتٍ كهربائية، أو إن شئت فقل إن كل «شيء» من هذه «الأشياء» قد فقد «شيئيته»، وبات في حقيقته سلسلةً من حوادث، لكننا سنعود إلى فكرة «الحوادث» هذه بعد قليل.
وأما ما يُهم الفيلسوفَ من نظرية النسبية في علم الطبيعة الحديث، فذلك أنها قد تخلَّصَت من الزمان الواحد الذي يشغَل الكون كله، والمكان الواحد الذي يمتد ما امتد الكون كله، فاستَبدلت نظرية النسبية بهما فكرةً جديدة هي فكرة المكان المندمج في الزمان اندماجًا يجعلهما حقيقة واحدة يكون الزمان فيها بُعدًا رابعًا يُضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة.
وهذه النسبية في الزمن لها مقابلها في المكان أيضًا، فما المكان؟ هل مدينة لندن مكان؟ إذا قلت نعم فتذكَّر أن الأرض تدور حول نفسها، وأن مدينة لندن تُواجه الشمس آنًا وتبعد عنها آنا، أي إنها تدور مع دوران الأرض، ولا يكون لها مكانٌ واحد مستقر ثابت، فهل الأرض مكان؟ لكن الأرض تدور حول الشمس، فهي آنًا هنا وآنًا هناك، وإذن فهي الأخرى لا تستقر في مكان واحد ثابت، فهل الشمس مكان؟ لكنها تتحرك بالنسبة للنجوم، وإذن فكل ما نستطيعه إذا أردنا أن نتحدث عن مكانٍ ما هو أن نقرنه بزمن معين، فنقول — مثلًا — «مدينة لندن في اللحظة الفلانية»، وبهذا تحدد مكانها في العالم.
هكذا أصبح المكان — كما أصبح الزمان — نسبيًّا، ولم يعد في الإمكان أن نتحدث عن الكون كله على أنه بأسره في لحظة زمنية واحدة معينة، ومما أدت إليه نسبية المكان والزمان أن وجبَت مراجعة قانون الجاذبية كما وضعه نيوتن؛ لأن ذلك القانون كان يستند — فيما يستند إليه — إلى كون المكانَين اللذَين بينهما مسافة يشتركان في لحظة زمنية بعينها، بحيث تستطيع حساب الجاذبية لجسمٍ في المكان الأول إذا ما سقط إلى المكان الثاني، وكذلك تجب مراجعة الهندسة لتُوضَع على أساسٍ جديد؛ إذ كانت هندسة إقليدس تفرض ثبات المكان وشمولَه للكون كله، فالخط المستقيم — مثلًا — كان المفروض فيه أنه مسار معين يمتدُّ في مكان ثابت، أجزاؤه كلها — أي نُقَطُه — موجودة معًا في آنٍ واحد، أما الآن فقد بات ما يبدو خطًّا مستقيمًا عند مُشاهد لا يكون كذلك بالنسبة لمشاهد آخر في مكانٍ آخر.
عالم الطبيعة هو مجموعة كبرى من الحوادث، غير أن هذه الحوادث يرتبط بعضُها ببعض بأنواعٍ من العلاقات ارتباطًا يُوحي إلينا بفِكرتَي الزمان والمكان، تتعاقب الحوادث في نقطة مكانية فنقول: «ماضٍ وحاضر ومستقبل.» وتتجاور الحوادث بحيث تكون واحدةٌ على يمين الأخرى أو يسارها أو فوقها أو تحتها، فنقول: «هذا المكان أو ذاك.»
ويكون بين الحادثتَين المتجاورتَين (والتجاور يكون في الزمان كما يكون في المكان) مسافةٌ يُمكن قياسها، وهذه المسافة التي تفصل الحادثتَين قد تكون مسافة من مكان، وقد تكون فترة من زمن، وإنما تكون المسافة زمنية حين يكون الجسم الواحد بعينه موجودًا في الحادثتَين معًا، أعني حين تكون الحادثتان جزءَين من تاريخ ذلك الجسم، وتكون المسافة مكانيةً حين تكون الحادثتان في جسمَين، أعني أن تكون إحداهما جزءًا من تاريخ شيءٍ ما، وتكون الأخرى جزءًا من تاريخٍ آخر لشيءٍ آخر.
ولكي تُحدد لحادثة من حوادث العالم وضعها مكانًا وزمانًا، يلزمنا أربعةُ أرقام؛ أحدهما يدل على اللحظة الزمنية والثلاثة الأخرى تدل على أبعاد المكان الثلاثة، فافرض مثلًا أن حدثَت حادثةٌ لطائرة، فلا يتحدد وضع هذه الحادثة إلا بأربعة أرقام هي خط الطول وخط العرض والارتفاع عن سطح البحر، ثم الوقت بحساب جرينتش.
إنه لا مندوحة لنا — إذا ما أردنا أن نفهم عالم الطبيعة فهمًا صحيحًا على أساس العالم الحديث — من تدريب خيالنا تدريبًا جديدًا، بحيث يتصور الأشياء كما يُريد له العلم الحديث أن يتصورها، وإنما نحتاج إلى هذا التدريب؛ لأن التصور الجديد لا يجري مع الإدراك الفطري في طريقٍ واحد؛ فالإدراك الفطري ينظر إلى المنضدة على أنها «شيء» صُلب متماسك متعين الحدود، وأما العلم الحديث فيُريد لنا أن نتصور المنضدة إشعاعات تتابع حوادثها في خيطٍ طويلٍ يمتد مع الزمن كما هي الحال في النَّغْمة الموسيقية سواء بسواء، إننا حين نتحدث عن «الذرَّة» ترانا أميلَ إلى تصورها شيئًا ثابتًا ككرة صغيرة لها حدودها وأوضاعها الثابتة، مع أنها شِحنةٌ كهربائية لا تفتأ إلكتروناتها تُغير من مواضعها كأنها خلية من النحل لا تستقر نحلة فيها على حالة واحدة في مكان واحد، إن قولنا عن ذرة بأنها موجودة هو بالضبط كقولنا إن نغمة موسيقية موجودة، فإن كانت النغمة تتطلب خمس دقائق لعزفها، فنحن لا نقول عنها إنها شيء معين، فردٌ موجود كله طول الدقائق الخمس، بل نتصورها سلسلة نبرات متصل بعضها ببعض في تعاقب، بحيث يتكون من خيطها نغمة واحدة، وهكذا الذرَّة سلسلة من حادثات متعاقبة يتكون من خيطها حقيقةٌ واحدة، ولئن كانت الرابطة في نبرات النغم هي الوحدة الجمالية، فإن الرابطة في حوادث الذرة هي الوحدة السببية.
وها هنا نقع على كلمة خطيرة، هي كلمة «السببية»؛ إذ يستحيل أن نفهم الطبيعة فهمًا صوابًا إلا إذا غيَّرنا وجهة نظرنا إلى هذه العلاقة السببية التي تصل الحوادث بعضها ببعض، والنقطة الجوهرية في هذا التغير هي أن نستلَّ من «السببية» ما كنا نفرضه فيها من «قوة» أو «إلزام» يربط السببَ بالمسبب، فقد كنا إذا ما قرَعَتْ كرةٌ كرةً أخرى فحركَتها، نتصور أن الكرة الأولى قد «ألزمت» الكرة الثانية بالحركة، وأنها استخدمت «قوة» في تحريكها، كذلك كنا إذا ما سقط حجر من أعلى إلى أسفل نتصور أن «قوة» الجاذبية قد أرغمت الحجر إرغامًا على السقوط، هكذا كنا نتصور السببية «قوة» تنتقل باللمس المباشر من السبب إلى نتيجته، أو تنتقل على بُعد كما هي الحال في الجاذبية.
لا بد أن تُستَلَّ هذه «القوة» المزعومة من العلاقة السببية، إذ ليس هناك إلا تتابعٌ بين الحوادث لُوحِظ اطِّرادُه، فجعلناه قانونًا من قوانين الطبيعة، نعم إن «القوة السببية» طريقة يستخدمها الإدراك الفطري في فهم الحوادث، فترانا نقول مثلًا إن الناس يُشيدون المنازل ويُعبِّدون الطرق، ونقصد بذلك أنهم بقوة إرادتهم كانوا سببًا في حدوث ما حدث، ونقول عن رجل إنه «قوي» الإرادة حين نعني أن إرادته سببية في مجالٍ واسع، وترانا كذلك لا نستغرب أن تتحرك كرة البلياردو إذا دفعناها بالعصا، وأن تتحرك العربة إذا شدها حصان، وأن يرتفع الحمل إذا حمله إنسان بقوة ساعدَيه، كل هذه أمثلة لا نستغرب حدوثها؛ لأنها تقع كما يتصور الإدراك الفطري حدوث الحوادث، وهو أن يكون هناك سبب ذو «قوة» يلزم عنه مسبب بحكم الضرورة، ومن أمثال هذه الحوادث التي يتدخل فيها الإنسان بإرادته نشأت فكرة «القوة» في الأسباب التي تكون بين حوادث الطبيعة، أو بعبارةٍ أخرى، قد خلعنا إرادتنا البشرية على الحوادث في عالم الطبيعة، بحيث تصورنا الحادثة التي تكون سببًا لوقوع حادث آخر كالإنسان الذي يدفع الكرة بعصاه، أو كالحصان الذي يجر العربة وراءه.
لكن لا سبيل إلى فَهمِك الطبيعةَ على حقيقتها إلا إذا أخرجتَ منها هذه الفكرة البشرية، فكرة «القوة»؛ إذ الطبيعة كلُّ ما فيها حوادثُ تتعاقب أو تتعاصر، فإذا ما رأينا ضربًا من التجاور بين الحوادث قد اطَّرَد، قِسْنا ما بين الحوادث من مسافة مكانيَّة أو فترة زمانية واستخرجنا ما قد يكون واحدًا من قوانين الطبيعة، دون أن نزعم أنَّ واحدة من الحوادث قد «ألزمَت» أخرى على أن تتبعها أو تقعَ معها في آنٍ واحد؛ ولذلك ليس ما يمنع منطقيًّا أن تكون الحوادث على ترتيب آخرَ غير الذي وقعت عليه، وعندئذٍ تتغير قوانين الطبيعة التي نُسجل بها ما نُلاحظه.
وإذا أردتَ أن تفهم العلاقة بين «أ» التي هي السبب و«ب» التي هي المسبب؛ كيف أنها علاقة لا «إلزام» فيها، فاقلب الوضع مسببًا لسبب، وذلك جائز؛ لأننا كما يجوز أن نستنتج من السبب نتيجتَه، كذلك نستنتج من النتيجة سببها، فإذا جاءك خطابٌ فأنت على حق إذا استنتجت من ذلك أن أحدًا قد كتب هذا الخطاب، ولكنك لا ترى أن تسلُّمك للخطاب قد «ألزم» الراسل أن يكتبه، وإذا كانت فكرة «الإلزام» منتقية بين النتيجة وسببها، فكذلك تنتفي بين السبب ونتيجته، ونعود فنقول إن فكرة «الإلزام» هذه صفة بشرية لا تعرفها حوادثُ الطبيعة، وهي ذات معنًى في حياة الإنسان؛ إذ نقول عن الإنسان إنه «ملزم» بكذا وكذا من الأفعال حين يُضطَر إلى فعله اضطرارًا رغم ميوله الطبيعية ورغباته الغريزية، ولو لم يكن عند الإنسان هذه الميولُ والرغباتُ التي قد يجيء ما يُقاومها لمَا كان للإلزام معنًى في حياته، ولمَّا كانت ظواهر الطبيعة ليست مما له «ميول» أو «رغبات» إذن فهي ليست مما يوصَف بالإلزام والاضطرار، وإذا أردتَ توضيحًا لما نُريده حين نقول إن حوادث الطبيعة إنما تحدث حدوثًا وتقع وقوعًا، ولا «قوة» هناك ولا «إلزام» يُرغمها على ذلك الحدوث وهذا الوقوع، فانظر إلى صورتها في المرآة، انظر مثلًا في المرآة إلى صورة رجلٍ يدفع كرة البلياردو بالعصا فتتحرك الكرة، فأنت عندئذٍ لا تقول إن تتابع الحوادث كما يبدو في المرآة يتضمن «قوةً» في العصا هي التي حرَّكَت الكرة، إنما تنظر إليها في تتابعها فقط تتابعًا منزوعًا منه كلُّ ضرورة واضطرار، وهكذا تكون العلاقة بين الحوادث في الطبيعة ذاتها، وإن أوهمَتك طبيعتك البشرية بغير ذلك.
على أنه إذا لم يكن بين مجموعتَي الحوادث اللتَين نُطلق عليهما لفظتَي «سبب» و«مسبب» قوةٌ في الأولى تضطر الثانيةَ إلى الحدوث، فبينهما علاقات ترتبطان بها، وهذه العلاقات هي التي نقيسها ونصوغ من أرقام المقاييس قوانين الطبيعة، وقد تكون هذه العلاقات السببية قائمةً بين ذرات الشيء الواحد، فنتوهَّم لارتباطها بعضها مع بعض أنها تكون «شيئًا»، وهي في الواقع حوادثُ تجمع بعضها إلى بعض، فليس هنالك فارقٌ جوهري من حيث الشيئيةُ أو العنصرية بين الإلكترون في الذرة الواحدة وبين شعاع الضوء؛ فكلٌّ منهما في حقيقته خيط من حوادث، ومع ذلك ترانا في حالة شعاع الضوء نميل إلى تصوره على هذه الصورة، على حين أننا في حالة الإلكترون نود أن نتصوره «شيئًا» متحركًا، مع أنه لا فرق بين الحالتَين، وبالتالي لا فرق بين شعاع الضوء في تكوينه من سلسلة من حوادث وبين المنضدة التي هي مجموعةٌ من ذرات، كل ذرة منها كشعاع الضوء في تكوينها.
ويترتب على هذا التغير في وجهة نظرنا إلى تكوين الأشياء بعضُ التغييرات الجوهرية في اعتقاداتنا عن العالم الطبيعي، فمثلًا ترانا بحكم إدراكنا الفطري لا نتصور كيف يُمكن أن تكون هنالك حركة بغير «شيءٍ» يتحرك، لكن وجهة النظر الحديثة تقتضي هذا رغم ما يُوهمنا به إدراكُنا الفطري، والعجيب في أمرنا هو أننا نستسيغ فكرة وجود الحركة بغير وجود «الشيء» المتحرك في بعض المجالات دون بعضها، فمثلًا نُجيز الحديث عن «الحركة» في المسرحية، أو في القطعة الموسيقية دون أن نتطلب لهذه «الحركة» متحركًا يكون موجودًا وجودًا كاملًا في كل لحظةٍ من لحظات الأداء، وذلك هو ما نُريد لأنفسنا أن نتصوره في سائر «الأشياء»؛ لا بد لنا من تصوُّر «الشيء» كائنًا ما كان على أنه كالمسرحية أو كالقطعة الموسيقية، خيط من حوادث يرتبط بعضُها ببعض بعلاقات سببية معينة، فيكون بينها من الوحدة ما يُبرر لنا أن نُطلق على «الشيء» اسمًا واحدًا، لكن لا يجوز أبدًا أن نزلَّ في الخطأ حين نرى «اسمًا» أو «كلمة» فنقول إن مسمَّى ذلك الاسم، أو مدلول هذه الكلمة لا بد أن يكون شيئًا واحدًا بذاته، فما أطلقنا الاسم الواحد على مجموعة كبرى من الحوادث، أو من الحالات، إلا على سبيل التيسير في التعبير والتفاهم، وكما نُخطئ حين نتصور «الشيء» وحدة واحدة متماسكة، لا خيطًا من حوادث، نُخطئ مرةً أخرى حين نقول عن ذلك «الشيء» إنه «تحرك» حين نرى مجموعة الحوادث التي هي مؤلَّفٌ منها ليست في مكان واحد، ولعل أبسط ما يوضح لك الموقف على حقيقته هو أن ترى شريط السينما، وطريقة تصويره للحوادث، فأنت إذا رأيت رجلًا يسقط من قمة بناء مرتفع، قلت مدفوعًا بإدراكك الفطري إن «الجسم» الواحد قد تحرك من مكان إلى مكان، لكن صوِّرْ ما وقع على شريطٍ سينمائي، تجد أن ما صورته عدد كبير من الأحداث المتعاقبة، وأن ظنك الأول بأنه «شيء» واحد قد تحرك إنما هو ظن خاطئ لا يُصور حقيقة الواقع، فحقيقة الواقع هي هذا الذي صورته آلة السينما على شريطها: حوادث تتابعَت خيطًا طويلًا.
•••
وما دامت الطبيعة قد ارتدَّت بالعلم الحديث إلى مجموعات من حوادث بعد أن كانت «أشياء» مادية لها صلابة وتماسك، ثم ما دامت الحياة العقلية هي كذلك خيط من حوادث، أو سلسلة من حالات فكرية وشعورية، دون أن يكون هنالك «شيء» واحد يُمسكها في وحدةٍ مما يصحُّ أن نُطلق عليه «عقلًا» أو «وعيًا» قائمًا بذاته، أفلا تكون المادة والعقل من طبيعة واحدة متجانسة؟
هكذا نشأت نظرية «الواحدية المحايدة» أو «الهيولى المحايدة» عند رسل، مستوحيًا إيَّاها من المقال المشهور الذي كتبه وليم جيمس بعنوان «هل للوعي وجود؟»
«الواحدية المحايدة» نظرية مؤدَّاها أن العقل والمادة ليسا ضَربَين من الموجودات مختلفَين اختلافًا جوهريًّا، بل العقل والمادة كلاهما مشتقٌّ من «هيولى» محايدة لا هي عقلٌ ولا هي مادة، لكنَّ أجزاءها إذا ما ارتبطت بمجموعة معينة من العلاقات أسميناها عقلًا، وإذا ارتبطت بمجموعة أخرى من العلاقات أسميناها مادة، وأما المادة الخامة، أو «العجينة» أو المبدأ الذي منه يتكون العقل والمادة كلاهما فعلى الحياد، لا هو هذا ولا تلك، لا هو عقل ولا مادة، والأمر في ذلك شبيهٌ بأن تتناول عددًا من الحصى المتجانس، وترصَّه مرةً على هيئة مربَّع، ثم ترصه مرةً أخرى على هيئة دائرة، فالمربع والدائرة بالطبع بناءان مختلفان، لكنهما معًا مؤلَّفان من مادة بعينها لم يُصِبها تغيرٌ بين الحالتَين، وإنما الذي تغير هو العلاقات الكائنة بين قِطَع الحصى، كانت علاقات من نوع معين، فكان الناتج مربعًا، ثم كانت من نوعٍ آخر، فكان الناتج دائرة، وهكذا قُل في العقل والمادة، يتألفان من مقومات هي هي بعينها لم تتغير في كِلتا الحالتَين، وإنما ارتبطت أجزاؤها بنوع من العلاقات، فكانت «عقلًا»، ثم ارتبطت بنوع آخر من العلاقات، فكانت شيئًا ماديًّا.
إن ما نُسميه شيئًا ماديًّا — كالمنضدة التي أمامي مثلًا — هو كما أسلفنا خيطٌ من حوادث، فهذه المنضدة هي سلسلة طويلة من لمعات ضوئية تختلف قليلًا أو كثيرًا حسب النقطة التي يراها منها الرائي، وهي سلسلة طويلة من لمسات بالأصابع أو براحة اليد مثلًا، وهي سلسلة طويلة من موجات صوتية تحدث حين تنقرها بأصبعك أو تخبطها بأي جسم آخر، وهكذا، هي باختصار هذه الحُزمة الكبيرة جدًّا من معطَيات حسية تُبعثرها في كل نقطة من نقط المكان يصلها بها خط مستقيم، ولا تنتظر إلا جهازًا عصبيًّا لكائن حي يوضَع في أية نقطة من هاتيك النقط المكانية، فيكون لها وجود عقلي عند من يُدركها، فليست المنضدة إلا هذه «الظاهرات» من لمعات الضوء والشكل واللمس والصوت، وليس وراء «الظاهرات» عنصر غيبيٌّ خفيٌّ يُمسكها في «شيء» واحد كما يتصور الإدراك الفطري.
وأما ما نُسميه «بالعقل» في فرد من الأفراد، فهو أيضًا سلسلة طويلة من حاضرات حسية، وصور ذهنية، دون أن يكون هنالك عنصرٌ غيبي خفيٌّ يُمسك تلك السلسلة المتتابعة في وعاء واحد يدوم على الزمن.
ولكي نفهم نظرية الواحدية المحايدة فَهمًا واضحًا، افرض أن العالم الطبيعي قوامه شيئان فقط: كتاب نرمز له بالرمز «أ»، ومنضدة نرمز لها بالرمز «ب»، فأينما وقفتَ سترى الكتاب وسترى المنضدة، على اختلاف يسير أو كبير في درجة اللون وفي الشكل وفي الحجم، فهذه كلها ستختلف بقربك مما ترى أو بُعدك عنه، فما معنى ذلك؟ معناه أن الكتاب له «ظاهر» موجود في كل نقطة مكانية؛ أي إنه موجود بظواهره في كل أرجاء المكان، وكذلك المنضدة موجودة بظواهرها في كل أرجاء المكان؛ الكتاب والمنضدة هما بمثابة مركزَين يشعَّان خيوطًا من لون وشكل وحجم، فإذا جاء إنسان مدرك ووقف في نقطة معينة التقط ما في تلك النقطة من ظواهر الكتاب، أو ظواهر المنضدة، أو ظواهرهما معًا إن كانت الخيوط المنبعثة منهما متلاقية في تلك النقطة؛ تلك الظواهر المنبعثة من المركزين موجودة في كل أرجاء المكان غير مُدرَكة، ثم تُصبح ظواهرَ مدرَكة حيثما تلقَّاها بصرٌ في كائن حي، وإذن ففي كل نقطةٍ من أرجاء الكون يتكون «منظور» للكون على استعداد أن يُضاف إليه جهاز عصبي وأعضاءُ حس، فينشأ كونٌ مدرَك … ولك الآن أن تَزيد من عدد أشياء الكون، بدل أن تقتصر على كتاب ومنضدة يشعان الظواهرَ فتتلاقى في نقاط الكون، لك أن تَزيد من عدد الأشياء كما تريد، فلا يتغير الموقف؛ إذ ستظل كل نقطة من نقاط الكون مكانًا «لمنظور» تتلاقى فيه الظواهر المنبعثة من كافة الأشياء التي تصلها بذلك المكان خطوط مستقيمة، فإذا ما أُضيف إلى ذلك المكان جهازٌ عصبي بما فيه من أعضاء الحس، تكوَّن كونٌ مدرَك.
فالإشعاعات التي تنبعث من الأشياء، أي الظاهرات التي تنتشر من الأشياء في أرجاء المكان هي الهيولى المحايدة التي تتكون منها المادة والعقل معًا، فإذا جُمِعت الظاهرات التي انبعثت من مصدر بعينه كان لك بذلك «شيء» مادي، وإذا جمعت هذه الظاهرات كما تتلاقى في نقطة معينة موضوع فيها جهاز عصبي وأعضاء حس كان لك بذلك «عقل»، فالمقومات في كلتا الحالَين هي هي لم تتغير، تُجمع على نحوٍ فتكون شيئًا ماديًّا، وتتجمَّع على نحوٍ آخر فتكون عقلًا.
بهذه النظرية المحايدة استطاع «رسل» أن يتغلَّب على مشكلات ثلاث مما كانت تصطدم به الفلسفاتُ السابقة؛ فهو أولًا قد تخلَّص من الثنائية التي كانت لا تجد سبيلًا إلى وصلِ المادة بالعقل، أو العقل بالمادة، مما أدى إلى شقِّ العالم إلى نصفَين بينهما فجوةٌ مستحيلة العبور، كهذه الفجوة التي خلقها ديكارت بين المادة من جهة، والعقل من جهةٍ أخرى؛ إذ هما عنده مختلفان في الكيف اختلافًا لا سبيل إلى التوفيق فيه، فالعقل في جوهره مفكِّر لا يَحلُّ في مكان، المادة في جوهرها تحلُّ في مكانٍ ولا تُفكر.
ثم استطاع «رسل» بفلسفته — ثانيًا — أن يتخلص من العنصر الغيبي الخفي، الذي كان يلجأ إليه الفلاسفة دائمًا في تفسير الأشياء الجوامد والأحياء على السواء؛ فهذه المنضدة مثلًا لم تكن مجردَ مجموعة من ظاهراتٍ لا ترتكز على شيء، بل كان لا بد للظاهرات المفكَّكة من مِشجب داخليٍّ تتعلق به وتستند إليه، حتى يكون للمنضدة ذاتيةٌ ودوام، وكذلك قل في الإنسان؛ فلم يكن مقبولًا عند الفلاسفة كما هو ليس بمقبولٍ عند الإدراك الفطري في الحياة اليومية أن يكون الفرد من الإنسان سلسلةً من حالات، وخيطًا من حوادث دون أن يكون وراء ذلك «عقل» أو «وعي» قائمٌ بذاته يُمسك هذه الحالات، ويربط هذه الحوادثَ في شخصٍ له ذاتيتُه واستمراره، وثالثًا حلَّ «رسل» بنظرية «الهيولى المحايدة» مشكلة قديمة هي نسبية الإدراك الحسي؛ فقد كان مما أشكل على الفلاسفة أن يكون الشيء الواحد مختلفًا عند مختلِف الأفراد الذين يُدركونه بحواسهم، بحيث لو نظر عدة أفراد إلى هذه المنضدة التي أمامي، فكلُّ واحدٍ من هؤلاء يرى استطالة سطحها على صورةٍ غير التي يراها زميله، ويرى درجة لونها على نحوٍ يختلف عما يرى زميله وهكذا، وهو اختلاف يتبدَّى واضحًا إذا ما همَّ هؤلاء الأفرادُ برسم المنضدة كلٌّ كما يراها، فعندئذٍ تجد الرسوم متباينة لتباين وجهات النظر، وها هنا كان ينشأ السؤال: ما حقيقة المنضدة ما دامت تبدو على هذه الصور المختلفة عند مختلف الأفراد، بل تبدو مختلفة في اللحظات المختلفة من حياة الفرد الواحد؟ لكن الإشكال يزول إذا أخذنا بنظرية «الهيولى المحايدة»؛ لأن حقيقة المنضدة — كما أسلفنا — هي ظواهرها المنتشرة في أرجاء المكان، ففي كل نقطة مكانية لها ظاهر ممكنُ الإدراك، وهذه الظواهر المتعددة مختلفة باختلاف أجزاء المكان، وإذن فلو ظهرت المنضدة على صورتَين مختلفتين لمشاهِدَين عند نقطتين مختلفتين فلا إشكال هناك؛ لأنهما لا يرَيان «شيئًا» واحدًا كما كان يُظَن قديمًا حين كان يُظَن أن الشيء المادي جسم متعين المكان، أما وقد انحلَّ إلى حوادث، أي إلى ظاهرات أو معطَياتٍ حسية، فكل حادثة منها، أو كل ظاهرة، هي إحدى الحقائق الكثيرة التي من مجموعها تتكوَّن المنضدة.
(٦) في التربية والأخلاق والسياسة٦٤
لو كنا لنُلخص الأهداف التي جاهد برتراند رسل كلَّ هذا الجهاد الطويل في سبيل تحقيقها في حياة الناس أفرادًا وجماعات، كلما جعل حياة الناس موضوعَ بحثه وحديثه، لانحصرت هذه الأهداف في كلمة واحدة؛ هي «الحرية»، حتى لقد ظن كثير من ناقديه أن الرجل قد أسرف في دفاعه عن الحرية وهجومه على خصومها إسرافًا حدا بهم أن يصفوه بالفوضى، فما أكثرَ ما يُقال عن «رسل» إنه يُوهن بمَعاوِله من قوائم المجتمع، وإن الحالة التي تُشيع في نفسه الرضا هي أن ينمحيَ من المجتمع تماسُكُه، وأن ينطلق الأفراد أحرارًا حرية مطلقة بغير القيود الضابطة والشكائم الملجِمة التي بغيرها لا يكون مجتمعٌ ولا تستقر حياة، دع عنك أن ترقى تك الحياةُ وتتقدم.
لكن ليقُل هؤلاء الناقدون ما شاءوا؛ فالرجل نصيرٌ للحرية، جادٌّ في نُصرته لها، فالنظام الاجتماعي كثيرًا ما يكون في حقيقته مؤامرة كبرى على حرية الأفراد، فلا يكاد يُولَد الطفل وينشأ، حتى يغمسه ذَووه ومُواطِنوه غمسًا في ثقافة المجتمع الذي جاء عضوًا فيه، ولا ينفكون يُلقِّنونه ماذا يعتقد وكيف يسلك، بغض النظر عن سلامة تلك العقائد أو صواب هذا السلوك، فليس المهم عندهم أن تكون العقيدة سليمة، أو أن يكون السلوك صوابًا، بل المهمُّ هو أن تكون هذه هي عقائدَ سائر أفراد المجتمع، وهكذا يسلكون، وإذن فحتمٌ محتوم على الناشئ الجديد أن ينصبَّ مع غيره في قالَبٍ واحد، وإلا فهو الشاذ الذي يستحق أن يُوضَع موضع السخرية، ويكون الطفل في أعين الناس جديرًا بالإعجاب والثناء، حين يكون وادعًا يُؤدِّي ما يُؤمَر بأدائه، ولا يُبيح لنفسه أن يُناقش الكبار في صواب ما يأمرونه بفعله، وبهذا تُصبح عملية التربية قائمة على أساس التجانس بين هذا الناشئ وبين بقية أفراد المجتمع، وعمل المربي — والدًا كان أو معلمًا — هو أن يُقلم في الناشئ شذوذه ويُشذِّب ما قد يبدو في منحاه من غرابة عن المألوف، نعم، فهنالك نمطٌ معين، وعمل التربية هو أن تصوغ الناشئين على غرار ذلك النمط القائم، والناشئون إنما يكونون بلا حول أو قوة وهم بعدُ في مرحلة الطفولة، وإذن فعملية التربية هي في صميمها استغلالٌ لهذه الطفولة العاجزة، حتى عن وقاية نفسها.
إذن فالمشكلة الرئيسية في التربية — كما هي المشكلة الرئيسية في السياسة والأخلاق — هي كيف ينبغي للعلاقة بين الفرد والمجتمع أن تكون، فأمامنا الناشئ الذي نُريد تنشئته وتربيته من ناحية، وأمامنا من ناحيةٍ أخرى هذه الهيئات التي تتسابق إلى اغتصاب عقله وقلبه، فعلى الرغم من تعدد المدارس الفكرية في التربية، فأهم ما يُهمنا منها مدرستان متعارضتان: إحداهما تجعل التربية مواءمةً بين الطفل وبيئته وثقافة تلك البيئة، والأخرى تجعل التربية تنمية لنفس الطفل واستعداداته الطبيعية؛ بعبارةٍ أخرى، يريد الفريق الأول من رجال التربية أن تكون الغاية من عملية التربية هي أن يحدث التجانس بين الطفل والمجتمع المحيط به، وبديهيٌّ أن هذا التجانس لا يكون بتغيير أوضاع المجتمع ليتفق مع طبائع الطفل، بل يكون بتهذيب طبائع الطفل وتغييرها، حتى تلتئم مع أوضاع المجتمع، بينما يريد الفريق الثاني أن تحصر عملية التربية اهتمامها في الطفل ذاته لتنمو طبيعته بغض النظر عن ملاءمة تلك الطبيعة مع ثقافة المجتمع المحيط به أو عدم ملاءمتها، أو بعبارةٍ أخرى فإن موضع الخلاف بين المدرستَين هو هذا: أنُربي الطفل ليكون «مواطنًا» أم نُربيه ليكون «فردًا»؟ أما النوع الأول فيقتضي أن أحدَّ من فرديته بما فيه مصلحة الجماعة التي هو عضوٌ فيها، وأما النوع الثاني فمؤدَّاه أن تنموَ الفردية بما يُحقق طبيعتها بغير أن يُحدد مجرى نمائها ولاءً لهذا أو لذلك من مختلف العوامل الاجتماعية.
لكننا حين نهمُّ باختيار أحد الطرفين، لا نلبث أن نتبيَّن أن الوضع على حقيقته ليس هو اختيارًا لهذا الطرَف أو ذاك؛ إذ الحياة لا تكون إلا جماعةً، والجماعة لا تكون بغير تعاون أفرادها، وإذن فسرعان ما يتحول سؤالنا فلا يُصبح: أيكون الإنسان مواطنًا أم فردًا؟ بل يُصبح: كيف يُمكن للإنسان أن يكون فردًا ومواطنًا في آنٍ معًا؟
للإجابة عن هذا السؤال الأخير، نقول على سبيل التقديم إن خير الإنسان إنما يكون بإشباع جوانبه الثلاثة: العقل والوجدان والإرادة، لقد عبر الإنسان عن أمله في نفسه حين صوَّر الله بخياله؛ لأنه إذا رسم لنفسه تلك الصورة، وضع فيها الكمال الذي يَصْبو إليه، فكيف تخيَّل الإنسان صورة الله؟ تخيله «حكيمًا رحيمًا قويًّا» أي تخيله كائنًا ذا عقلٍ يُدرك الحكمة، وذا وجدانٍ يبعث على الرحمة، وذا إرادة لها قوة العمل والتنفيذ، وهكذا يريد الإنسان أن يكون.
أما جانب العقل وجانب الوجدان فلا يُثيران إشكالًا؛ لأن الفرد يستطيع أن يبلغ بهما أقصى حدودِهما دون أن يطغى بهما على سائر أفراد المجتمع، فلا ضير على هؤلاء الأفراد أن تبلغ بعقلك أسمى مراتب الحكمة، ولا ضير عليهم أن يرقَّ وجدانك، بحيث يُحقق الرحمة والحب والعطف، وأما الجانب الثالث — جانب الإرادة — فهو صميم المشكلة وأساسها؛ لأنك إذ تُمارس قوة الإرادة من نفسك كان حتمًا أن يتأثر غيرك من أعضاء المجتمع؛ لأنه كلما اتسع نطاق تنفيذك لما تُمليه إرادتك ضاق تبعًا لذلك مجال الحرية عند الآخرين، إن المشكلة محلولة بالنسبة لله كما تصورناه؛ لأنه وحده في الكون، فيستطيع أن يُنفذ إرادته كيف شاء، فلا يحتاج لشيءٍ أن يكون سوى أن يقول له كن فيكون … وهكذا يتمنى الإنسان لنفسه لولا أن معه آخرون، فربما قال الإنسان لشيءٍ كن، فيكون على غير ما يُريده الآخرون، وعندئذٍ تتعارض الإرادات وتتضارب؛ ولذلك كان أكثر الحالات إشباعًا لطبيعة الفرد هي أن يكون دكتاتورًا مطاعًا لو استطاع.
لو كان الفرد من الإنسان يعيش في كون وحده كما هي الحال مع الله لما كان هنالك إشكالٌ في التربية أو الأخلاق بالنسبة لذلك الفرد الواحد، فتربيته هي أن يبلغ بجوانبه الثلاثة من عقل ووجدان وإرادة حدودها القصوى، ولا تلزمه «أخلاق»؛ لأنه ليس إلى جانبه سواه تتطلب معاملته تحديدًا لسلوكه، لكن الفرد من الناس لا يعيش وحده، وإذن فلا مناص من تحديد إرادته بالتربية وبالأخلاق، حتى لا يطغى بها على سواه؛ بعبارةٍ أخرى يُمكن للفرد من الناس أن يتشبَّه بالله في مداركه العقلية وفي عواطفه الوجدانية، لكنه يستحيل عليه أن يتشبه به في ممارسة قوة إرادته.
وتطبيق هذا المبدأ متروك للمدرس في دروسه، فهو الذي يُطلق العِنان لطبيعة التلميذ آنًا لكي تُعبر عن نفسها تعبيرًا فرديًّا حرًّا، وهو الذي يُلجِم تلك الطبيعة آنًا آخر حرصًا على صوالح الآخرين، وهو الذي يَزِنُ المقدار الذي يُجرِّعه للطفل من ثقافة قومِه، بحيث لا تنطمس شخصيته الناقدة انطماسًا يقضي عليها … لكن ما أضخمَ العبءَ الذي ألقاه «رسل» على المدرس؛ فما أهون أن تضع المبدأ قائلًا: ينبغي أن يكون هنالك اتزانٌ بين جانب الفرد من التلميذ وجانب المواطن منه! وما أعسر أن ترسم الحدود الفاصلة عند التطبيق، بحيث تُخرج الناشئ فردًا مستقلًّا بشخصيته، ومواطنًا مستعدًّا للتضحية بشخصيته في آنٍ معًا!
•••
قواعد الأخلاق تخلف باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف الجنس والعقيدة، وهي بصفةٍ عامة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالعمل، فمتى يجوز الكذب مثلًا؟ قد يُجيب مجيبٌ بغير رويَّة: إنه لا يجوز أبدًا، لكنك تكذب إذا قابلتَ مغتالًا يعدو في جنون وراء رجل يريد أن يقتله، ثم سألك: هل رأيت إلى أين مضى فلان؟ ثم أليس الكذب مقبولًا في فن الحروب؟ بل ألا يكذب القساوسة حين يكتمون سرَّ مَن اعترف لهم بسره؟ ألا ينبغي أن يكذب الأطباء ليُطمئِنوا مرضاهم؟ كل هذه ظروف تقتضي الكذب، لكن الذي يُقرر صواب الكذب في ظروفٍ معينة هو الوعظ والإرشاد الاجتماعي، وليس هو من علم الأخلاق.
خذ مثلًا آخر لتغيُّر القواعد الخلقية بتغير الظروف ووجهات النظر: هل يجوز أن يقتل الزوجُ عاشق زوجته؟ تُجيب الكنيسة أنْ لا، ويُجيب الإدراك الفطري السليم أن لا، لكن القانون يُجيب أن نعم؛ إذ إنه كثيرًا ما يُبرِّئ القاتل في مثل هذه الظروف.
تلك أمثلة تُبين كيف تتغير قواعد الأخلاق، أما مبادئ الأخلاق التي هي من شأن الفلسفة أن تُقررها فثابتةٌ وشاملة، فمهما تغيرت القواعد الخلقية من عصرٍ إلى عصر، ومن مكانٍ إلى مكان، فهي دائمًا تتخذ صيغة الأمر أو ما يُشبهها، فترى القاعدة الخلقية توجب على الناس أن يفعلوا كذا، وألا يفعلوا كَيْت، فماذا يعني «الوجوب» في مثل هذه الحالة؟ لو استطعنا الجوابَ عن هذا السؤال على هذه الصورة أو تلك، فجوابنا سيكون مقرِّرًا لمبدأ الأخلاق الذي نعنيه حين نقول إن مبادئ الأخلاق بمعناها الفلسفي أثبتُ من قواعد الأخلاق وأشمل.
كان معنى «الوجوب» الأخلاقي، الذي يجعل من الفعل فضيلة، بادئ ذي بدء طاعة صاحب السلطان، ولا فرق بين أن يكون صاحب السلطان الذي «يوجب» على الناس قواعدَ سلوكهم إلهًا أو حاكمًا أو عادةً من العادات التي جرت بها التقاليد، لكن الفلسفة ترفض هذا المعنى للوجوب الخلقي، أعني أنها ترفض أن يكون مبدأ الأخلاق هو طاعةَ صاحب الأمر كائنًا مَن كان، ورفضها قائم على عدة أسباب؛ منها أن الأوامر الخلقية التي يأمرنا بها صاحب السلطان — مهما يكثر عددها — فهي أقلُّ من أن تشمل ظروف الحياة كلها، خذ لذلك مثلًا الوصايا العشر، فلو أخذت بهذه الأوامر العشرة على أنها أساس السلوك الخلقي، فهل تعلم إن كان جائزًا للناس أو غير جائزٍ أن يتبعوا قاعدة الذهب في معاملاتهم الاقتصادية؟ وإذا أردنا أن نجعل الوصايا العشر أساسًا لسلوكنا إلى الحد الذي تمتد إليه تلك الوصايا، ثم لنا بعد ذلك أن نتبع قاعدة المنفعة الاجتماعية في الحكم على أنواع السلوك التي لا تدخل في نطاق تلك الوصايا كان ذلك مما لا يرضى عنه الفيلسوف؛ لأنه يُحاول أن يجد للسلوك الصواب كله مبدأً واحدًا، ومن الأسباب التي تجعلنا نرفض أن يكون الوجوب نتيجة أمر من صاحب الأمر، أننا إذا ما سألنا: كيف عرَفنا أن هذه هي الأوامر التي أمر بها صاحب الأمر؟ كان الجواب أنها تُعرَف بالوحي إن كان مصدرها الله، وتُعرَف بالعُرف إن كان مصدرها التقاليد، وتلك من مصادر المعرفة التي لا يُقِرها فيلسوف.
وهنالك جواب ثالث عن سؤالنا: ما مصدر الوجوب الخلقي؟ ما الذي يجعل الفعل خيرًا أو شرًّا؟ إذ هنالك فريقٌ يجعل مبدأ الحكم على الفعل بخيرٍ أو بشرٍّ ليس هو ما سبق الفعل من أمرٍ صدر من آمر، أو من عاطفةٍ انبثق منها الفعل، بل أساس الحكم هو ما يلحق الفعل من نتائج، فهكذا يقول المذهب المنفعي في الأخلاق الذي يرى أن السعادة هي الخير، وأن أساس السلوك إذن ينبغي أن يكون ما ترجح به كِفة السعادة في هذه الدنيا، فإن أردت الحكم على فعلٍ ما بالخير أو بالشر، فاسأل أولًا، ما نتائجه من حيث تحقيقُ السعادة لبني الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟
الخير بالنسبة إلى الفرد الواحد هو التنسيق بين رغباته، خذ مثلًا لذلك فردًا واحدًا يعيش وحده مثل روبنسن كروسو، تجدْ تضاربًا عنده في بعض لحظات حياته بين التعب والجوع، فهو الآن راغبٌ في الراحة، لكنه لو استراح وأمسك عن العمل، فقد ينتج عن ذلك انعدامُ القوت في يومٍ مقبل، فلا يجد ما يُشبع به الجوع عندئذٍ، فإذا ما غلب نفسه الآن وحملها على العمل، موازنًا في ذلك بين رغبتَين؛ رغبةٍ حاضرة في ترك العمل، ورغبةٍ مستقبَلة في الحصول على القوت، ثم غلَّب رغبة على رغبة على هذه الصورة التي يُضحي بها رغبة حاضرة أقلَّ في سبيل رغبة مستقبلةٍ أكبر، كان في عمله هذا كل الخصائص التي يتسم بها المجهود الخلقي، وترانا أحسنَ ظنًّا بمن يبذل مثل هذا الجهد منا بمن لا يبذله؛ لأن في بذله ضبطًا للنفس، وتحكمًا فيها، وهكذا تستطيع أن تتصور الحياة الخلقية لرجلٍ مثل روبنسن كروسو كائنةً في الموازنة بين رغباته، وتغليب بعضها على بعض على صورة تُحقق له اتساقًا في شتى جوانبِ حياته، والظاهر أن الإدراك الفطري السليم وحده كافٍ لهداية الإنسان إلى الحكم الصواب في أي الرغبات أولى بالتحقيق من غيرها، فمن ذا يتعذر عليه الحكم حين تكون الموازنة مثلًا بين رغبتين؛ إحداهما رغبة في توسيع المعرفة، وأخرى في تخدير الإنسان لنفسه بمخدر؟! فكلتا الرغبتَين تستهدفان شعورًا بالسعادة، لكننا نُدرك على الفور أن السعادة المتحققة من الرغبة الأولى أدوم وأفضل من السعادة المتحققة من الرغبة الثانية، فلو رسَونا بَغتة على الجزيرة التي يسكنها روبنسن كروسو، ووجدناه يقضي فراغه في دراسة النبات على تلك الجزيرة، كان ذلك في رأينا أفضلَ مما لو وجدناه مخمورًا، وأساس التفضيل هو مبدأ اتساق الحياة.
وكذلك قل في المجتمع؛ فالخير بالنسبة للمجتمع هو أيضًا قائم على أساس التنسيق بين رغبات أفراده المتضاربة، وإذن فالمبدأ الأخلاقي الأسمى هو هذا: «اعمل العمل الذي ينشأ عنه التنسيق بين رغبات أفراد المجتمع؛ فذلك أفضلُ من العمل الذي يُؤدي إلى التنافر بين هؤلاء الأفراد»، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجتمع، صَغر أو كبر، ينطبق على مختلف رغبات الفرد الواحد، وينطبق على أفراد الأسرة، والمدينة، والوطن، كما ينطبق على العالم كله إذا كان العمل الفردي ذا أثر في العالم كله.
ولتحقيق هذا المبدأ وسيلتان: الأولى أن نُنشئ من النظم الاجتماعية ما يُساعد على التنسيق بين رغبات الأفراد، بحيث لا يعود أمامها مجال تتنافر فيه إلا بأضيقِ حدٍّ ممكن، والثانية أن نُربيَ الأفراد تربيةً تحملهم على الاتجاه برغباتهم وجهة لا ينتج عنها التضاربُ مع رغبات الآخرين بقدر المستطاع، والوسيلة الأولى هي من شأن السياسة والاقتصاد، والوسيلة الثانية هي مجال التربية.
ومع ذلك كله فليست العبارات الدالة على أحكام خلقية هي من قبيل العبارات الذاتية الصِّرفة، التي لا تعدو حدود قائلها؛ لأنه مما يُميز العبارة الأخلاقية أن قائلها يُعبر بها عن رغبة يتمنى أن يُطبقها الناس جميعًا في سلوكهم، وفي هذه الرغبة في تعميم القاعدة ظل من الموضوعية طفيف.
•••
إذن فهذه ثنائية واضحة في النظر إلى الحياة الإنسانية؛ فللإنسان مجالان يقضي فيهما حياته، ويَنشُد فيهما مثله العليا، لكنهما مجالان بينهما هوَّة سحيقة يوشك ألا يكون بينهما صلة تربط بينهما؛ فمن جهةٍ هنالك عالم الطبيعة وما يُقابله من علوم تنشُد الحقيقة العاريةَ التي لا تعرف القيم من خيرٍ أو شر أو جمال أو قبح، ومن جهةٍ أخرى هنالك عالم القيم الأخلاقية والجمالية التي هي صنيعة الإنسان، وميوله الذاتية، ومن ثَم كان النِّتاج الفكري لهذا الفيلسوف منقسمًا قسمَين لا يعتمد الواحد منهما بالضرورة على الآخر، فله منطق تحليلي ومذهب فلسفي في الطبيعة، وتفسيرها من ناحية، وكذلك له من ناحية أخرى مجموعة قيمة من آراء في الأخلاق والتربية والسياسة والاجتماع، دون أن يكون بين الناحيتَين رِباط يربطهما في نسقٍ واحد، ولا عجب؛ فهو أحد الفلاسفة المعاصرين الذين نبَذوا الفكرة التقليدية في الفلسفة، وأعني بها فكرةَ أن يُقيم الفيلسوف من أشتات فكره بِناءً واحدًا متماسك الأطراف؛ إذ الفلسفة في رأي هؤلاء المعاصرين تحليل يُواجه كل مشكلةٍ على حدةٍ بما تقتضيه طبيعتها.
على أن هذه الآراء الكثيرة التي أدلى بها «رسل» في كثيرٍ من كتبه عن الحياة الإنسانية ليست بغير محورٍ تدور حوله على اختلافها وتعددها، فالمحور الواضح في كل تفكيره الإنساني من أخلاق وتربية وسياسة واجتماع هو الدفاع عن حرية الفرد ما استطاع إلى ذلك من سبيل؛ كانت حرية الفرد هي مدارَ فِكره حين فكَّر في التربية، وهي مدارَ فكره حين فكر في الأخلاق، وهي كذلك مدار فكره حين فكر في السياسة والاجتماع.
ولعل أقصر طريقٍ نصل به إلى لُباب فكره في السياسة هو أن نسأل السؤال الآتي: ما موقفه إزاء المذهب الماركسي؟ ذلك لأن هذا المذهب هو بغير شكٍّ أقوى المذاهب السياسية الاجتماعية التي سادت العالم في القرن الأخير، أعني في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ويستحيل على فيلسوف سياسي اجتماعي أن يتجاهله، بل حتمٌ عليه أن يُلاقيَه مؤيدًا أو معارضًا أو مُعدِّلًا.
وإذا كان قد رفض الشيوعية نظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا، فبديهي أنه كذلك يرفض النظم الفاشية على اختلافها؛ ذلك لأنه في حالة الشيوعية قد يقبل الغاية منها، ولكنه لا يُوافق على الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية، كما بدَت هذه الوسائل في الروسيا مثلًا، نعم إنه قد يقبل الغاية من الشيوعية؛ لأنه لا يكتم ثورته على الرأسمالية سواءٌ كانت في صورتها التنافسية التي سادت القرن التاسع عشر، أو في صورتها الاحتكارية التي تسود اليوم، فأما النظُم الفاشية فهي مرفوضةٌ غايةً ووسيلة؛ لأنها رأسمالية وهي قائمة على إشعال روح القومية، وهي منافية للديمقراطية، ثم هي فوق ذلك كلِّه تُفرِّق بين الناس أجناسًا وطبقاتٍ، فالجنس الآري ممتاز عندها بالقياس إلى غير الآري، والصفوة ممتازة بالقياس إلى غِمار الناس وسوداهم.
هكذا يمضي «رسل» في رسم صورة المستقبل كما يتوقعها ما لم يُلجِم الإنسان نزعته العلمية بالقيم التي ينبغي أن يخلقها لنفسه خلقًا؛ ليرسم لنفسه مُثلَه العليا، وعلى رأسها الحرية الفردية، ثم يَكِلَ إلى التربية بثَّها في النفوس.
قائمة بأهم مؤلفات برتراند رسل
-
(1)
German Social Democracy (v. 7 of “Studies in Economics and Political Science”.) Longman, Green & Co., 1896. p. 204.
وهو مجموعة محاضرات أُلقِيَت في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
-
(2)
An Essay on the Foundations of Geometry. Cambridge, at the University Press, 1897. p. 201.
-
(3)
A Critical Exposition of the Philosophy of Leibniz. Cambridge, at the University Press. XVI, p. 311 (Second edition: George Allen & Unwin, 1937).
-
(4)
The Principles of Mathematics. Cambridge, at the University Press, 1903. IX, p. 534.(Second edition (with a new introduction), 1938; George Allen and Unwin.)
وهو يحتوي على ما يأتي:
-
الجزء الأول: اللامعرفات في الرياضة.
(١) تعريف الرياضة البحتة، (٢) المنطق الرمزي، (٣) اللزوم وحالات اللزوم الصوري، (٤) أسماء الأعلام والصفات والأفعال، (٥) دلالة اللفظ، (٦) الفئات، (٧) دالات القضايا، (٨) المتغيرات، (٩) العلاقات، (١٠) التناقض.
-
الجزء الثاني: العدد.
(١١) تعريف الأعداد الأصلية، (١٢) الجمع والضرب، (١٣) النهائي واللانهائي، (١٤) نظرية الأعداد النهائية، (١٥) جمع الحدود وجمع الفئات، (١٦) الكل والجزء، (١٧) الكليَّات اللانهائية، (١٨) النسبة والكسور.
-
الجزء الثالث: الكمية.
(١٩) معنى المقدار الكمي، (٢٠) مدى الكمية، (٢١) الأعداد باعتبارها رموزًا تدل على المقدار الكمي: المقاييس، (٢٢) الصفر، (٢٣) اللانهاية، اللامتناهي في الصغر والاستمرار.
-
الجزء الرابع: الترتيب.
(٢٤) أصول التسلسل، (٢٥) معنى الترتيب، (٢٦) العلاقات اللاتماثلية، (٢٧) الاختلاف في اتجاه العلاقة والاختلاف في العلامة، (٢٨) في الفرق بين السلسلة المفتوحة والسلسلة المقفلة، (٢٩) المتواليات والأعداد الترتيبية، (٣٠) نظرية «ددكند» في العدد، (٣١) المسافة.
-
الجزء الخامس: اللانهاية والاستمرار.
(٣٢) ترابط السلسلة العددية، (٣٣) الأعداد الحقيقية، (٣٤) النهايات والأعداد الصمَّاء، (٣٥) التعريف الأول للاستمرار عند «كانتور»، (٣٦) الاستمرار الترتيبي، (٣٧) الأعداد الأصلية فيما بعد النهائي، (٣٨) الأعداد الترتيبية فيما بعد النهائي، (٣٩) حساب اللامتناهي في الصغر، (٤٠) اللامتناهي في الصغر واللانهائي الزائف، (٤١) حجج فلسفية حول اللامتناهي في الصغر، (٤٢) فلسفة العنصر المستمر، (٤٣) فلسفة اللانهائي.
-
الجزء السادس: المكان.
(٤٤) الأبعاد والأعداد المركبة، (٤٥) الهندسة الفراغية، (٤٦) الهندسة الوصفية، (٤٧) الهندسة العشرية، (٤٨) العلاقة بين الهندسة العشرية والهندسة الوصفية والفراغية، (٤٩) تعريفات المكان بمعانيه المختلفة، (٥٠) استمرار المكان، (٥١) حجج منطقية ضد النقط، (٥٢) نظرية «كانت» في المكان.
-
الجزء السابع: المادة والحركة.
(٥٣) المادة، (٥٤) الحركة، (٥٥) السببية، (٥٦) تعريف العالم الديناميكي، (٥٧) قوانين الحركة عند نيوتن، (٥٨) الحركة المطلقة والحركة النسبية، (٥٩) ديناميكا هيرتس.
ملحق (أ) النظريات المنطقية والرياضية عند «فريجه».
ملحق (ب) نظرية الأنماط.
-
(5)
Principia Mathematica v. I, with Alfred North Whitehead. Cambridge, at the University Press, 1910. X VI, p. 674 (Second edition, 1935).
وهو يحتوي على ما يأتي:
مقدمة: قائمة أبجدية للقضايا مشارًا إليها بأسماء:
-
(١)
تفسير مبدئي للأفكار والرموز.
-
(٢)
نظرية الألفاظ المنطقية.
-
(٣)
الرموز الناقصة.
-
الجزء الأول: المنطق الرياضي.
(أ) نظرية الاستنباط، (ب) نظرية المتغيرات الظاهرة، (ﺟ) الفئات والعلاقات، (د) منطق العلاقات، (ﻫ) جمع الفئات وضربها.
-
الجزء الثاني: الحساب في الأعداد الأصلية.
(أ) الفئات ذوات العضو الواحد وذوات العُضوَين، (ب) الفئات الفرعية، والعلاقات الفرعية، والأنماط النسبية، (ﺟ) علاقات واحد بكثير، وكثيرٍ بواحد، وواحد بواحد، (د) المختارات، (ﻫ) العلاقات الاستقرائية.
ملحق (أ): نظرية الاستنباط في القضايا المشتملة على متغيرات ظاهرة.
ملحق (ب): الاستقراء الرياضي.
ملحق (ﺟ): دالات الصدق وغيرها، قائمة من تعريفات.
-
(4)
Philosophical Essays, Longmans, Green & Co., 1910. VI, p. 185.
وهو مجموعة الفصول الآتية:
-
(١)
عناصر علم الأخلاق (نُشِرَت سنة ١٩٠٨م).
-
(٢)
عبادة رجل حر (نُشرت سنة ١٩٠٣م).
-
(٣)
دراسة الرياضة (نُشرت سنة ١٩٠٧م).
-
(٤)
المذهب البراجماتي (نُشرت سنة ١٩٠٩م).
-
(٥)
تصور وليم جيمس لمعنى الصدق (نُشرت سنة ١٩٠٨م).
-
(٦)
النظرية الواحدية في الصدق (نُشرت سنة ١٩٠٦م).
-
(٧)
في طبيعة الحق والباطل (نُشرت سنة ١٩٠٦م).
ملحوظة: أُعيدَ نشر بعض هذه الفصول في كتب أخرى، وسيلي ذكر ذلك في حينه.
-
(8)
Principia Mathematica, v. II, with Alfred North Whitehead. Cambridge, at the University Press, 1912, XXXI, p. 742 (Second edition, 1927).
وهو يحتوي على ما يأتي:
-
الجزء الثالث: (الجزءان الأول والثاني في المجلد الأول) حساب الأعداد الأصلية.
(أ) تعريف الخصائص المنطقية للأعداد الأصلية، (ب) الجمع والضرب والتحليل الإيضاحي، (ﺟ) النهائي واللانهائي.
-
الجزء الرابع: حساب العلاقات.
(أ) التشابه الترتيبي وأعداد العلاقات، (ب) جمع العلاقات وحاصل ضرب علاقتَين، (ﺟ) مبدأ الفوارق الأولى، وضرب العلاقات وتحليلها الإيضاحي، (د) حساب أعداد العلاقات.
-
الجزء الخامس: التسلسل.
(أ) النظرية العامة للتسلسل، (ب) في القطاعات والأجزاء والامتدادات والمشتقَّات، (ﺟ) في الاتجاه نحو نقطة واحدة، ونهايات الدالة.
-
(9)
The Problems of Philosophy; Home University Library, 1912. VIII, p. 255.
للكتاب ترجمة عربية بقلم الدكتور عطية هنا والدكتور عماد الدين إسماعيل، وهو يحتوي على ما يأتي:
مقدمة
(١) المظهر والحقيقة، (٢) وجود المادة، (٣) طبيعة المادة، (٤) المثالية، (٥) المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف، (٦) في الاستقراء، (٧) في معرفتنا بالمبادئ العامة، (٨) كيف تكون المعرفة القَبلية ممكنة، (٩) عالم الكليات، (١٠) في علمنا بالكليات، (١١) في المعرفة الحَدْسية، (١٢) الحق والباطل، (١٣) المعرفة والخطأ والرأي المحتمل، (١٤) نهايات المعرفة الفلسفية، (١٥) قيمة الفلسفة.
-
(10)
Principia Mathematica, v. III; with Alfred North Whitehead. Cambridge, at the University Press, 1913. VIII, p. 491 (Second edition, 1927).
وهو يحتوي على ما يأتي:
-
الجزء الخامس: (بقية ما جاء بالمجلد الثاني) التسلسل.
(د) السلسلة الكاملة الترتيب، (ﻫ) السلسلة النهائية واللانهائية، وكذلك الأعداد الترتيبية، (و) السلسلة المحكمة، والسلسلة الجذرية، والسلسلة المستمرة.
-
الجزء السادس: الكمية.
(أ) تعميم العدد، (ب) المجموعات الموجَّهة، (ﺟ) المقاييس، (د) المجموعات الدورية.
-
(11)
Our Knowledge of the External World As a Field For Scientific Method in Philosophy.George Allen and Unwin, 1914. IX. p. 245.
وهو مجموعة المحاضرات التي يُطلَق عليها اسم «محاضرات لاؤل»، وقد ألقاها في مدينة بوستن في شهرَي مارس وأبريل عام ١٩١٤م.
والكتاب يحتوي على ما يأتي:
مقدمة
(١) الاتجاهات المعاصرة، (٢) المنطق باعتباره جوهرَ الفلسفة، (٣) علمنا بالعالم الخارجي، (٤) عالم الفيزياء وعالم الحس، (٥) نظرية الاستمرار، (٦) مشكلة اللانهائية منظورًا إليها من وجهة تاريخية، (٧) النظرية الوضعية في اللانهاية، (٨) في فكرة السبب، مع تطبيقها على مشكلة الإرادة الحرة.
-
(12)
Principles of Social Reconstruction, George Allen and Unwin, 1916. p. 252.(Published in America under the title: Why Men Fight.)
-
(13)
Justice in War-Time. George Allen and Unwin, 1916. IX, P. 243.
وهو مجموعة مقالات نُشِرت متفرقة.
-
(14)
Political Ideals. New York, The Century Co., 1917. p. 172.
-
(15)
Mysticism and Logic and Other Essays. Longmans and Green & Co., 1918, VI, p. 243.
ثم نُشِر في طبعاتٍ أخرى.
وهو مجموعة فصول نُشِرت متفرقة، ويحتوي على ما يأتي:
-
(١)
التصوف والمنطق (نُشِرت سنة ١٩١٤م).
-
(٢)
مكان العلم في تربية حرة (نُشرت سنة ١٩١٣م).
-
(٣)
عبادة رجل حر (نُشرت سنة ١٩٠٣م).
-
(٤)
دراسة الرياضة (نُشرت سنة ١٩٠٧م).
-
(٥)
الرياضة والميتافيزيقا (نُشرت سنة ١٩٠١م).
-
(٦)
في المناهج العلمية في الفلسفة (نُشرت سنة ١٩١٤م).
-
(٧)
مقومات المادة كما ينتهي إليها التحليل (نُشرت سنة ١٩١٥م).
-
(٨)
علاقة المعطيات الحسية بعلم الطبيعة (نُشرت سنة ١٩١٤م).
-
(٩)
في فكرة السبب (نُشِرت سنة ١٩١٣م).
-
(١٠)
المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف (نُشِرت سنة ١٩١١م).
-
(11)
Roads to Freedom: Socialism, Anarchism and Syndicalism. George Allen and Unwin, 1918. XVIII, p. 215.
-
(12)
Philosophy of Logical Atomism. Monist v. 28, Oct. 1918, pp. 495–527; also Monist, July 1919; v. 29, pp. 32–63.
-
(13)
Introduction to Mathematical Philosophy. George Allen and Unwin. VIII, p. 208.
ويحتوي على ما يأتي:
مقدمة
(١) سلسلة الأعداد، (٢) تعريف العدد، (٣) النهائية والاستقراء الرياضي، (٤) تعريف الترتيب، (٥) أنواع العلاقات، (٦) تشابه العلاقات، (٧) الأعداد الجذرية، والأعداد الحقيقية، والأعداد المركبة، (٨) الأعداد الأصلية اللانهائية، (٩) السلسلة اللانهائية والأعداد الترتيبية، (١٠) النهايات والاستمرار، (١١) النهايات واستمرار الدالات، (١٢) المنتخبات وبديهية التكاثر، (١٣) بديهية اللانهاية والأنماط المنطقية، (١٤) عدم الاتساق ونظرية الاستنباط، (١٥) دالات القضايا، (١٦) الوصف، (١٧) الفئات، (١٨) الرياضة والمنطق.
-
(14)
The Practice and Theory of Bolshevism. George Allen and Unwin, 1920. p. 192.
-
(15)
The Analysis of Mind. George Allen & Unwin, 1921. p. 310.
وهو مجموعة محاضرات أُلقِيَت في لندن وبكين، ويحتوي على ما يأتي:
(١) أوجُه النقد التي وُجِّهت حديثًا إلى «الشعور»، (٢) الغريزة والعادة، (٣) الرغبة والشعور، (٤) تأثير التاريخ الماضي على الحوادث الراهنة في الكائنات العضوية الحية، (٥) القوانين السببية في علمَي النفس والطبيعة، (٦) التأمل الباطني، (٧) تعريف الإدراك الحسي، (٨) الإحساس والصور الذهنية، (٩) الذاكرة، (١٠) الألفاظ والمعنى، (١١) الأفكار الكلية والفكر، (١٢) الاعتقاد، (١٣) الحق والباطل، (١٤) الانفعالات والإرادة، (١٥) خصائص الظواهر العقلية.
-
(16)
The Problems of China. The Century Co. (New York), 1922. p. 276.
-
(17)
Introduction to Ludwig Wittgenstein’s “Tractatus Logico-Philosophicus”, 1922, pp. 7–23.
-
(18)
The Prospects of Industrial Civilization. In Collaboration with Dora Russell. George Allen & Unwin, 1928. V. p. 287.
-
(19)
The ABC of Atoms. Kegan Paul, 1928, p. 175.
-
(20)
The ABC of Relativity. Harper & Bros; Kegan Paul, 1925. p. 237.
-
(21)
What I believe. New York, Dutton & Co., 1925. p. 87. Kgan Paul, 1925. p. 95.
-
(22)
On Education Especially in Early Childhood. George Allen & Unwin, 1926. p. 319.
-
(23)
The Analysis of Matter. Kegan Paul, 1927. VIII, p. 408.
ويحتوي على ما يأتي:
(١) طبيعة المشكلة (مقدمة).
-
الجزء الأول: التحليل المنطقي لعلم الطبيعة.
(٢) علم الطبيعة فيما قبل النسبية، (٣) الإلكترونات والبروتونات، (٤) نظرية الكَم (الكوانتا)، (٥) النظرية الخاصة في النسبية، (٦) النظرية العامة في النسبية، (٧) طريقة الشد والجذب، (٨) المساحة التطبيقية، (٩) الثوابت وتفسيرها الفيزيائي، (١٠) نظرية قابل، (١١) مبدأ قانون التفاضل، (١٢) المقاييس، (١٣) المادة والمكان، (١٤) التجريد في علم الطبيعة.
-
الجزء الثاني: علم الطبيعة والإدراك الحسي.
(١٥) من الإدراك الحسي الأوَّلي إلى الإدراك الفطري، (١٦) من الإدراك الفطري إلى علم الطبيعة، (١٧) العلم التجريبي، (١٨) علمنا بأمور الواقع الجزئية، (١٩) المعطيات الأولية، الاستدلالات، الفروض، النظريات، (٢٠) النظرية السببية في الإدراك الحسي، (٢١) الإدراك الحسي والنظرة الموضوعية، (٢٢) الاعتقاد في قوانين عامة، (٢٣) الجوهر، (٢٤) أهمية التكوين البنائي في الاستدلال العلمي، (٢٥) الإدراك الحسي من وجهة نظر علم الطبيعة، (٢٦) أشباهٌ للإدراك الحسي من أشياء غير عقلية.
-
الجزء الثالث: التكوين البنائي للعالم الطبيعي.
(٢٧) الجزئيات والحوادث، (٢٨) تكوين النقط، (٢٩) الترتيبات الزمان مكانية، (٣٠) القوانين السببية، (٣١) القوانين السببية الخارجية، (٣٢) الزمان مكان الفيزيائي والإدراكي، (٣٣) الدورية والتسلسل الكيفي، (٣٤) أنماط الحوادث الطبيعية، (٣٥) السببية والفاصل في الزمان والمكان، (٣٦) أصل الزمان مكان، (٣٧) علم الطبيعة والواحدية المحايدة، (٣٨) تلخيص وخاتمة.
-
(24)
An Outline of Philosophy. George Allen and Unwin, 1927. p. 307.
ويحتوي على ما يأتي:
(١) الشكوك الفلسفية.
-
الجزء الأول: الإنسان من خارج.
(٢) الإنسان وبيئته، (٣) عملية التعلم في الحيوان والصغار، (٤) اللغة، (٥) الإدراك الحسي منظورًا إليه نظرة موضوعية، (٦) الذاكرة منظورًا إليها نظرة موضوعية، (٧) الاستدلال باعتباره عادةً، (٨) المعرفة مبحوثةً من وجهة نظرٍ سلوكية.
-
الجزء الثاني: العالم الطبيعي.
(٩) بناء الذرة، (١٠) النسبية، (١١) القوانين السببية في علم الطبيعة، (١٢) علم الطبيعة والإدراك الحسي، (١٣) المكان الفيزيائي والمكان الإدراكي، (١٤) الإدراك الحسي والقوانين السببية الطبيعية، (١٥) طبيعة ما نعلمه عن الفيزياء.
-
الجزء الثالث: الإنسان من داخل.
(١٦) ملاحظة الإنسان لنفسه، (١٧) الصور الذهنية، (١٨) الخيال والذاكرة، (١٩) تحليل الإدراك الحسي عن طريق الملاحظة الباطنية، (٢٠) هل هناك شعور؟ (٢١) الانفعال والرغبة والإرادة، (٢٢) الأخلاق.
-
الجزء الرابع: الكون.
(٢٣) بعض فلسفات الماضي العظيمة، (٢٤) الحق والباطل، (٢٥) سلامة الاستدلال، (٢٦) الحوادث والمادة والعقل، (٢٧) مكانة الإنسان في الكون.
-
(25)
Sceptical Essays. George Allen and Unwin, 1928. p. 256.
ويحتوي على ما يأتي:
-
(١)
تمهيد في قيمة الشك (نُشِرت سنة ١٩٢٨م).
-
(٢)
الأحلام والواقع.
-
(٣)
هل يأخذ العلم بالخرافة؟ (نُشِرت سنة ١٩٢٦م).
-
(٤)
هل يُمكن للإنسان أن يلتزم العقل؟
-
(٥)
الفلسفة في القرن العشرين (نُشِرت سنة ١٩٢٤م).
-
(٦)
السلوكية والقيم.
-
(٧)
المثل الأعلى في السعادة عند الشرقيين والغربيين.
-
(٨)
ما يقترفه أخيار الناس من شر (نُشِرت سنة ١٩٢٦م).
-
(٩)
الحاجة إلى شك سياسي (نُشِرت سنة ١٩٢٣م).
-
(١٠)
الفكر الحر والدعاية الرسمية (نُشِرت سنة ١٩٢٢م).
-
(١١)
الحرية والمجتمع (نُشِرت سنة ١٩٢٦م).
-
(١٢)
المقابلة بين الحرية والسلطة في التربية.
-
(١٣)
علم النفس والسياسة (نُشِرت سنة ١٩٢٤م).
-
(١٤)
خطر الحروب المذهبية.
-
(15)
Marriage and Morals. George Allen and Unwin, 1929. p. 320.
ويحتوي على ما يأتي:
(١) ضرورة أخلاقية جنسية، (٢) حيث تكون الأبوة مجهولة، (٣) المجال الذي يُسيطر فيه الوالد، (٤) عبادة الجنس، والزهد والخطيئة، (٥) الأخلاقية المسيحية، (٦) حب العاشقين، (٧) تحرير المرأة، (٨) إحاطة المعرفة الجنسية بالتحريم، (٩) مكان الحب من حياة الإنسان، (١٠) الزواج، (١١) العَهْر، (١٢) زواج التجرِبة، (١٣) الأسرة في يومنا الراهن، (١٤) الأسرة في سيكولوجية الفرد، (١٥) الأسرة والدولة، (١٦) الطلاق، (١٧) السكان، (١٨) تحسين النسل، (١٩) الحياة الجنسية وسعادة الفرد، (٢٠) مكان الجنس في القيم الإنسانية، (٢١) خاتمة.
-
(16)
The Conquest of Happiness. George Allen and Unwin, 1930. p. 249.
-
(17)
The Scientific Outlook. New York, Norton & Co., 1931. X, p. 277.
ويحتوي على ما يأتي:
تمهيد
-
الجزء الأول: المعرفة العلمية.
(١) أمثلة من الطريقة العلمية، (٢) خصائص الطريقة العلمية، (٣) تصور الطريقة العلمية، (٤) الميتافيزيقا العلمية، (٥) العلم والدين.
-
الجزء الثاني: الأساليب العلمية.
(٦) بدايات الأساليب العلمية، (٧) الأساليب المتبَعة في المادة الجامدة، (٨) الأساليب المتبَعة في علم الحياة، (٩) الأساليب المتبعة في علم وظائف الأعضاء، (١٠) الأساليب المتبعة في علم النفس، (١١) الأساليب المتبعة في المجتمع.
-
الجزء الثالث: المجتمع العلمي.
(١٢) المجتمعات المتكونة بطرائقَ مصطنَعة، (١٣) الفرد والكل، (١٤) الحكومة العلمية، (١٥) التربية في مجتمع علمي، (١٦) التكاثر بطريقة علمية، (١٧) العلم والقيم.
-
(18)
Education and Social Order. George Allen & Unwin, 1933. p. 245.(Iin Norton’s edition, called “Education and the Modern World”.)
-
(19)
Freedom and Organization 1814–1914, George Allen and Unwin, 1934. VIII, p. 471.
-
(20)
In Praise of Idleness, New York, W.W. Norton & Co., 1935. VIII, p. 270.
-
(21)
Religion and Science. New York, Henry Holt & Co., 1935. p. 271.
ويحتوي على ما يأتي:
(١) أسس النزاع، (٢) ثورة كوبرنيق، (٣) الثورة، (٤) الخرافة والطب، (٥) النفس والجسم، (٦) الجَبْرية، (٧) التصوف، (٨) غائية الكون، (٩) العلم والأخلاق، (١٠) خاتمة.
-
(22)
Which Way to Peace? London, Michael Joseph Ltd., 1936. p. 224.
-
(23)
Power: A New Social Analysis. New York, W.W. Norton & Co., 1938. p. 315.
ويحتوي على ما يأتي:
(١) الحافز إلى القوة، (٢) القادة والتابعون، (٣) صور القوة، (٤) قوة الكهَنة، (٥) قوة الملوك، (٦) القوة السافرة، (٧) قوة الثورة، (٨) القوة الاقتصادية، (٩) القوة فوق الرأي، (١٠) مصادر القوة، (١١) نماء المنظمات، (١٢) قوى الحكومات وأشكالها، (١٣) المنظَّمات والفرد، (١٤) التنافس، (١٥) القوة وقوانين الأخلاق، (١٦) فلسفات القوة، (١٧) أخلاقية القوة، (١٨) ترويض القوة.
-
(24)
An Inquiry Into Meaning and Truth. George Allen and Unwin, 1940. p. 445.
وهي مجموعة المحاضرات التي يُطلَق عليها «محاضرات وليم جيمس»، ألقاها في جامعة هارفارد، ويحتوي الكتاب على ما يأتي:
تمهيد
(١) ما اللفظة؟ (٢) الجمل والتركيب اللفظي وأجزاء الكلام، (٣) الجمل التي تصف الخبرة، (٤) اللغة الشيئية، (٥) الكلمات المنطقية، (٦) أسماء الأعلام، (٧) الجزئيات المتمركزة في الذات، (٨) الإدراك الحسي والمعرفة، (٩) المقدمات العرفانية، (١٠) القضايا الأساسية، (١١) المقدمات الواقعية، (١٢) تحليل المشكلات الخاصة بالقضايا، (١٣) دلالة الجمل: (أ) نظرة عامة، (ب) التحليل النفسي للدلالة، (ﺟ) التركيب اللفظي والدلالة، (١٤) اللغة كأداة للتعبير، (١٥) ماذا «تعني» الجمل؟، (١٦) الحق والباطل، (١٧) الحق والخبرة، (١٨) المعتقدات العامة، (١٩) الماصدقات والذرية، (٢٠) قانون الثالث المرفوع، (٢١) الصدق وطريقة التحقق منه، (٢٢) الدلالة وإمكان التحقق من الصدق، (٢٣) إمكان الإثبات الجائز، (٢٤) التحليل، (٢٥) اللغة والميتافيزيقا.
-
(25)
History of Western Philosophy. George Allen and Unwin, 1946. p. 916.
وللكتاب ترجمة عربية بقلم الدكتور زكي نجيب محمود.
-
(26)
Human Knowledge: Its Scope and Limits. George Allen and Unwin, 1948. p. 538.
ويحتوي على ما يأتي:
تمهيد
-
الجزء الأول: عالم العلم.
(١) المعرفة الفردية والاجتماعية، (٢) عالم الفلَك، (٣) عالم الفيزياء، (٤) التطور البيولوجي، (٥) فسيولوجيا الإحساس والإرادة، (٦) علم العقل.
-
الجزء الثاني: اللغة.
(١) استعمالات اللغة، (٢) التعريف بالإشارة، (٣) أسماء الأعلام، (٤) الجزئيات المركَّزة في الذات، (٥) ردود الأفعال المؤجلة: المعرفة والاعتقاد، (٦) الجمل، المدلولات الخارجية للأفكار والمعتقدات، (٨) الصدق: صوره المبدئية، (٩) الكلمات المنطقية والباطل، (١٠) المعرفة العامة، (١١) الوقائع والاعتقاد والصدق والمعرفة.
-
الجزء الثالث: العلم والإدراك الحسي.
(١) معرفة الوقائع ومعرفة القوانين، (٢) الانعزال الذاتي، (٣) الاستدلال الاحتمالي كما يُمارسه الإدراك الفطري، (٤) الفيزياء والخبرة، (٥) الزمن في الخبرة، (٦) المكان في علم النفس، (٧) العقل والمادة.
-
الجزء الرابع: المدرَكات العلمية
(١) التفسير، (٢) الألفاظ الأولية، (٣) البناء التكويني، (٤) البناء التكويني والألفاظ الأولية، (٥) الزمن: العام منه والخاص، (٦) المكان في الفيزياء الكلاسيكية، (٧) الزمان مكان، (٨) مبدأ التفرد، (٩) القوانين السببية، (١٠) المكان زمان والسببية.
-
الجزء الخامس: الاحتمال
(١) أنواع الاحتمال، (٢) الاحتمال الرياضي، (٣) نظرية التَّكرار المحدود، (٤) نظرية ميزس ورايشنباخ، (٥) نظرية كينز في الاحتمال، (٦) درجات التصديق، (٧) الاحتمال والاستقرار.
-
الجزء السادس: مصادرات الاستدلال العلمي
(١) أنواع المعرفة، (٢) أهمية الاستقراء، (٣) مصادرة الأنواع الطبيعية، (٤) المعرفة المجاوِزة للخبرة، (٥) الخيوط السببية، (٦) البناء التكويني والقوانين السببية، (٧) التفاعل، (٨) الاستدلال بالتمثيل، (٩) خلاصة المصادرات، (١٠) حدود الاتجاه التجريبي.
-
(27)
Authority and the Individual. George Allen and Unwin, 1949. p. 125.
-
(28)
Human Society in Ethics & Polities George Allen, and Unwin, 1954. p. 239.