أبو هول نيوجيرسي
قال صديقي ثورندايك ونحن ننعطف إلى ميدان «أبر بيدفورد بليس»: «هذا حيٌّ غريبٌ بعض الشيء يا جِرفيس؛ أشبه بقفصٍ كبير للطيور المُهاجرة، لا سيَّما تلك الطيور التي تنتمي إلى الأنواع الشرقية؛ فالوجوه الآسيوية والأفريقية التي يراها المرء عند نوافذ دور الإقامة في حي بلومزبري تكاد تُوحي بوقوع فيضان من معارض وصف الأعراق البشرية في المتحف البريطاني المُجاور لها.»
اتَّفقت معه قائلًا: «نعم، لا شك أن بلومزبري فيه عددٌ كبير جدًّا من السكَّان الأفارقة واليابانيِّين والهنود، لا سيَّما الهنود.»
وبينما كنتُ أتحدَّث، وفي مشهدٍ بدا كأنه مَثلٌ توضيحي لكلامي، اندفع رجلٌ داكن البشرة خارجًا من نُزلٍ يقع في الشارع نفسه على بُعدِ بضعة أبنية، وبدأ يتقدَّم نحونا بمِشيةٍ سريعة مُرتبِكة، وكان يتوقَّف لينظر إلى كل باب أمامي حين يصل إليه. وقد لفت خروجه بلا قبَّعة — مع أنه كان حسن الهندام للغاية — وسلوكه المتوتِّر، انتباهي، وانتباه ثورندايك أيضًا؛ إذ قال: «يبدو أن صديقنا في ورطة؛ ربما حادث أو مرض شديد مُفاجئ.»
وهنا ركض ذلك الغريب، الذي كان يُراقِب اقترابنا منه، نحونا ليُقابلنا، وسألَنا بنبرةٍ مُرتبِكة: «هلَّا تُخبرانني، من فضلكما، أين يُمكنني العثور على طبيب؟»
أجابه ثورندايك: «أنا طبيب، وكذلك صديقي.»
فقبض الرجل، الذي عرَّفناه بأنفسنا للتَّو، على كُمِّ ثورندايك وصاح بلهفةٍ: «إذن، فلتأتِ معي بسرعةٍ إذا سمحت. لقد وقع حادثٌ مروِّع للغاية.»
أسرَع بنا في مشية هي بين الهرولة والسير السريع، وبينما كُنَّا نسير، أضاف بانفعال: «إنني مشوَّش ومذعور جدًّا، الأمر كله غريب ومُفاجئ وفظيع للغاية.»
فقال له ثورندايك: «حاوِلْ أن تُهدِّئ من رَوعك قليلًا، وتُخبِرنا بما حدث.»
ردَّ عليه بانفعال: «حسنًا. إنه ابن عمي ديناناث بيرامجي، وهو يشترك معي في اسم العائلة. لقد ذهبت للتَّو إلى غرفته، وانتابَني الذُّعر حين وجدته مُستلقيًا على الأرض يُحدِّق إلى السقف وينفخ هكذا.» وعندها ملأ خدَّيه بالهواء مُحدِثًا صوت زفير خافتًا، ثم أضاف: «كلَّمته وهززت يده، لكنه كان كالميت. هذا هو النُّزل.»
اندفع راكضًا على العتبات الخارجية نحو بابٍ مفتوح كان يحرسُه خادمٌ صبي يبدو في وجهه الذُّعر، ورَكَض بطول البَهو وصعد الدَّرج بسرعة. تبِعناه من كثبٍ حتى وصلنا إلى بسطة درج مُعتِمة بعضَ الشيء في الطابق الأول، حيث كانت خادمة تقف عند بابٍ نِصف مفتوح وهي تستمع بقسَماتٍ مذعورة إلى صوتِ شخيرٍ إيقاعي يصدُر من الغُرفة.
كان الرجل الفاقد الوعي مُستلقيًا على الأرض يُحدِّق بثبات إلى السقف بعينَين فاغرتَين ولامعتين كالزجاج، وينفخ خدَّيه قليلًا عند كل زفير، مثلما قال السيد بيرامجي، لكن التنفُّس كان ضحلًا وبطيئًا، وازداد بعد ذلك بُطئًا ملحوظًا بينما ازدادت فترات توقُّفاته طولًا. وفي اللحظة التي كنت أقيس فيها وقت التنفُّس بساعة يدي، بينما كان ثورندايك يتفحَّص بؤبؤَي العينين باستخدام عود ثقاب شمعي، توقَّف تمامًا. وضعت إصبعي على معصمه وشعرت باختلاج نبضة بطيئة، أو اثنتين، ثم توقَّف النبض أيضًا.
قلت: «لقد فارَق الحياة. لا بد أن أحد شرايينه الكبيرة قد انفجر.»
فقال ثورندايك: «أجل، هذا صحيح على ما يبدو، مع أن ذلك مستبعَد الحدوث لشخص في عمره، ولكن مهلًا! ما هذا؟»
أشار إلى الأذن اليُمنى، التي كان يوجد في تجويفها بضع قطرات متجمِّعة من الدم، وبينما كان يتكلَّم، سحب يده إلى رأس الميت وحرَّكها برفقٍ من جانب إلى آخر.
وقال: «يوجد كسرٌ في قاع الجمجمة، وعلاماتٌ بارزة جدًّا على وجود كدمة في فروة الرأس.» التفت إلى السيد بيرامجي الذي كان يفرك إحدى يدَيه بالأخرى ويُحدِّق إلى الميت بنظراتٍ لا تُصدِّق ما حدث، وسأله: «ألديك أي توضيح بخصوص ذلك؟»
فنظر إليه الهندي باندهاش، وقد بدا أن الفاجعة المُفاجئة شلَّت دماغه، وقال: «لا أفهم. ماذا يعني ذلك؟»
أجاب ثورندايك: «يعني أنه تلقَّى ضربةً قوية على رأسه.»
ظلَّ السيد بيرامجي يُحدِّق باندهاش إلى زميلي بضع لحظات أخرى، ثم بدا أنه قد أدرك أهميةَ ملحوظةِ ثورندايك فجأةً؛ إذ انتصب بانفعال وتوجَّه نحو الباب الذي كان الخادم الصغير والخادمة يقفان خارجه.
وسألهما: «أين ذهب الشخص الذي جاء مع ابن عمي؟»
قالت الخادمة للخادم: «لقد رأيتَه يخرج يا ألبرت. أخبر السيد بيرامجي بالوجهة التي ذهب إليها.»
دخل الخادم إلى الغرفة على أطراف أصابعه بعينين خائفتين تُحدِّقان إلى الجثَّة، وأجاب بتردُّد: «لم أرَ سوى ظهره وهو يخرج، وكلُّ ما أعرفه أنه اتَّجه نحو اليسار. ربما ذهب بحثًا عن طبيب.»
فسأله ثورندايك: «هل تستطيع أن تُعطينا أي وصف له؟»
فكرَّر الخادم كلامه قائلًا: «لم أرَ سوى ظهره. لقد كان رجلًا قصير القامة، وكان يرتدي حُلةً داكنة، ويعتمر قُبعةً صلبة من اللُّباد. هذا كل ما أعرفه.»
قال له ثورندايك: «شكرًا لك. قد نرغب في أن نطرح عليك مزيدًا من الأسئلة قريبًا.» وبعدما أوصل الخادم إلى الباب، أغلقه واتجه إلى السيد بيرامجي.
سأله: «هل تعرف أي شيء عن هُوية الشخص الذي كان مع ابن عمك؟»
أجابه قائلًا: «لا، إطلاقًا. لقد كنت جالسًا أكتب في غرفتي المقابِلة لهذه الغرفة، حين سمعت ابن عمِّي يصعد الدَّرج مع شخصٍ آخر كان يتحدَّث إليه، لكني لم أستطع سماع ما كان يقوله. بعد ذلك دخلا غرفته — أي هذه الغرفة — وكنت أسمع أصواتهما من حين إلى آخر. وفي غضون ربع ساعة تقريبًا، سمعت الباب يُفتَح ويُغلَق، وسمعت أحدًا ينزل الدَّرج بهدوء وسرعةٍ بعض الشيء. أنهيت الرسالة التي كنت أكتبها، وحين وضعت عليها العنوان المطلوب، جئت إلى هنا لأسأل ابن عمي عن هُوية الزائر. ظننت أنه ربما يكون شخصٌ ما قد أتى للتفاوض بشأن الياقوتة.»
صاح ثورندايك: «ياقوتة! أيَّ ياقوتةٍ تقصد؟»
أجاب بيرامجي: «الياقوتة الكبيرة، لكنك بالطبع لا …» سكت فجأةً، ووقف بضع لحظات يُحدِّق إلى ثورندايك بشفتَين مفتوحتَين وعينَين فاغرتين، ثم استدار فجأةً وجثا على ركبتَيه بجوار الرجل الميت، وبأسلوبٍ غريب مُلاطف شبيه بالاعتذار، بدأ يُمرِّر يديه برفق على الجثة عند الخصر أولًا، ثم حلَّ أزرار ثيابه، وقد كشف ذلك عن حزامٍ جِلدي أنيق ناعم، من الواضح أنه مصنوع في وطنه. كان الحزام مربوطًا على جِلده مباشرةً، وبه ثلاثة جيوب قد فكَّ السيد بيرامجي أزرارها وتفقَّدها واحدًا تِلو الآخر بسرعة، وكان واضحًا أنها كانت فارغةً كلها.
تحدث بنبرةٍ خافتةٍ حادَّة تعبِّر عن حسرته قائلًا: «لقد ذهبت أدراجَ الرياح! ذهبت! آه! ويا لَضآلة أهميتها! فأنت يا عزيزي ديناناث، أنت يا أخي، يا صديقي، قد ذهبت أيضًا!»
رفع يد الميت وضغطها على خدِّه، مُهمهِمًا بكلماتٍ مُحِبة بلُغته. وسرعان ما وضعها على الأرض بتبجيلٍ شديد، ثم نهض وقد أذهلني التغيُّر الذي طرأ على هيئته؛ إذ تحوَّل الوجه المُرهَف اللطيف الرقيق فجأةً إلى وجهٍ غاضب شرس شرِّير انتقامي.
صاح بصوتٍ أجشَّ: «هذا الحقير يجب أن يموت! هذا الوحش الخسيس الذي سحق حياةً ثمينة دون ندم مِثلما يسحق المرء ذبابةً بلا مُبالاةٍ من أجل بلورة تافهة يجب أن يموت، حتى لو اضطررت إلى أن أُلاحقَه وأخنقه بيديَّ.»
فوَضع ثورندايك يده على كتف بيرامجي، وقال له: «إنني أقدِّم لك خالص التعازي في مُصابك. وإذا صحَّ ظنُّك، وكذلك ما تُوحي به الشواهد الظاهرية بأن ابن عمك قد قُتِل في حادثة بغرض السرقة، فسيدفع القاتل حياته ثمنَ فعلته، وستصرخ العدالة بعلو صوتها مُطالبةً بالقصاص. ستتَّضح حقيقة القتل، سواءٌ بالتأكيد أو النفي، بإجراء تحقيق مُناسب. وفي هذه الأثناء، علينا أن نعرف هُوية هذا الرجل المجهول، وما حدث حين كان مع ابن عمك.»
أومأ بيراجمي إيماءةً يائسة، وقال: «لكن الرجل قد اختفى، ولم يرَه أحد! ماذا بوسعنا أن نفعل؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «دَعنا ننظر حولنا ونرى ما إذا كان بوسعنا اكتشاف ما حدث في هذه الغرفة. ما هذا على سبيل المثال؟»
التقط شيئًا جِلديًّا صغيرًا من رُكنٍ قريب إلى الباب، وناوَله إلى السيد بيراجمي، فأمسكه الهندي بلهفة، وصاح قائلًا: «آه! إنها الصُّرَّة الصغيرة التي كان ابن عمي يحفظ فيها الياقوتة؛ إذن، فقد أخذها من حزامه.»
فاقترحت قائلًا: «أليس من المُمكن أن تكون قد سقطت؟»
وهنا سرعان ما جثا السيد بيرامجي على ركبتَيه، وبدأ يُحدِّق إلى الأرض ويتلمَّسها، وانضممت أنا وثورندايك إليه بحثًا عن الياقوتة، لكننا لم نجد لها أثرًا مِثلما كان متوقَّعًا على الأرجح، ولا وجدنا أي شيء آخر في حقيقة الأمر عدا قبعة التقطتُها من أسفل المِنضدة.
نهض السيد بيرامجي مُغتمًّا، وقال: «لا. لقد ذهبت أدراجَ الرياح، لقد ذهبت بالطبع، والقاتل الشرير …»
حينئذٍ لمح القبعة، التي كنتُ قد وضعتها على المنضدة، وانحنى إلى الأمام ليتأمَّلها.
سأل وهو يُلقي نظرةً خاطفة على الكرسي الذي كانت قبعتي وقبعة ثورندايك موضوعتين عليه: «قُبعة مَن هذه؟»
فسأله ثورندايك: «أليست قبعة ابن عمك؟»
ردَّ قائلًا: «نعم، ليست قبعته بالتأكيد. لقد كانت قبَّعته مثل قبعتي؛ فقد اشتريناهما معًا، وهي مُبطَّنة ببطانةٍ حريرية بيضاء، وتحمل الأحرُف الأولى من اسمه: «دي بي» مكتوبين بخطٍّ ذهبي. أما هذه القبعة، فهي بلا بطانةٍ وأقدم بكثير. لا بد أنها قبعة القاتل.»
قال ثورندايك: «إذا صحَّ ذلك، فستكون هذه حقيقةً مهمة للغاية، وستكون مهمةً من ناحيتين. أتسمح لنا برؤية قبعتك؟»
أجاب بيرامجي وهو يمشي نحو الباب بخطواتٍ سريعة هادئة: «بكل تأكيد.» وعندما خرج مُغلِقًا الباب وراءه بصمت، أمسك ثورندايك القبعة المتروكة، وجرَّبها بسرعةٍ على رأس الرجل الميت. وقد كنتُ أرى أنها مناسبةً لحجم رأسه، وهذا ما أكَّده ثورندايك وهو يُعيد وضعها على المنضدة.
قال لي: «إنها تُناسِب حجم رأسه مِثلما ترى، وإن كان ذلك بدرجةٍ ما على الأقل، وتلك حقيقةٌ تحمل قدرًا من الأهمية.»
وحينها عاد السيد بيرامجي بقبعته، ووضعها على المنضدة بجوار القبعة الأخرى، وبعدما صارت القبعتان موضوعتين على ذلك النحو، بحوافَّيهما في الأسفل وتاجَيهما في الأعلى، بدا أن بينهما تشابهًا كبيرًا؛ فقد كانت كلتاهما سوداء مصنوعة من اللباد الصلب على طراز «قبَّعات بولر» الشائع، ومن نوعيةٍ فاخرة، ولم يكن الفارق في العمر والحالة العامة بينهما لافتًا، لكن حين قلَبهما بيرامجي رأسًا على عقب، وعرَض تجويفَيهما الداخليَّين، لاحَظنا أن تجويف القبعة الغريبة لم يكن مُبطَّنًا باستثناء عصابة الرأس الجِلدية، فيما كانت قبعة بيرامجي مُبطَّنة ببطانةٍ حريرية بيضاء، وتحمل الحرفين الأوَّلَين من اسم صاحبها بكتابةٍ مُطرَّزة مُذهَبة.
قال ثورندايك وهو يُقارن بين القبعتَين بإمعان: «ما حدث يبدو واضحًا بعض الشيء. حين دخل الرجلان إلى الغرفة، وضعا قبعتَيهما، بحوافِّهما في الأسفل وتاجَيهما في الأعلى، على المنضدة. وبطريقةٍ ما — ربما في أثناء شجارٍ بينهما — سقطَت قبعة الزائر وتدحرجت إلى أسفل المنضدة. وحين همَّ ذاك الرجل الغريب بالمغادَرة بعد ذلك، أخذ القبعة الوحيدة التي كانت في مَرمى بصره آنذاك — والتي تكاد تُشبِه قبعته تمامًا — واعتمرها.»
فسألته: «أليس غريبًا بعض الشيء أنه لم يشعر بإحساسٍ مختلف حين اعتمر قبَّعةً غريبة على رأسه؟»
أجاب ثورندايك: «لا أظنُّ ذلك. وإذا كان قد شعر بأي شيء غريب، فالأرجح أنه افترض أنه اعتمرها بوضعيةٍ مُعاكِسة. تذكَّرْ أنه كان مُتعجِّلًا ومُرتبكًا للغاية، ولم يكن ليجرؤ على المجازَفة بالعودة إلى المنزل بعد أن غادَره، مع أنه أدرك خطورة الخطأ الذي ارتكبه بلا شك.» ثم أضاف مُخاطِبًا السيد بيرامجي: «والآن، هلَّا تُعطِينا بضع تفاصيل. لقد تحدَّثت عن ياقوتةٍ كبيرة كانت لدى ابن عمك، ويبدو أنها مفقودة.»
«نعم، فلتتفضَّلا بالمجيء إلى غرفتي، وسأُحدِّثكما عنها، لكن دعونا أولًا نضع ابن عمي المسكين على فراشه في وضعيةٍ لائقة احترامًا له.»
قال ثورندايك: «أعتقد أنه لا يَنبغي تحريك الجثة إلى أن تتفحَّصها الشرطة.»
وافَق بيرامجي على مضض قائلًا: «ربما تكون مُحِقًّا، غير أن تركه مُستلقيًا هناك بهذه الطريقة يبدو قاسيًا.» توجَّه بعد ذلك إلى الباب بتنهيدةٍ مُتحسِّرة، وتبعه ثورندايك حاملًا القبعتَين.
قال مُضيفنا حين جلسنا في غرفته الكبيرة المخصَّصة للنوم والجلوس: «كنت أنا وابن عمي مُهتمَّين بالأحجار الكريمة؛ فأنا أُتاجر في كل أنواع الأحجار التي توجد في الشرق، أما ديناناث فقد كان يُتاجر في الياقوت وحده تقريبًا. لقد كان خبيرًا شديد البراعة في هذه الأحجار الكريمة الجميلة، وكان من عادته أن يذهب إلى بورما في جولاتٍ استكشافية دورية بحثًا عن ياقوتٍ غير مصقول ذي حجم غير عادي أو جودة استثنائية. ومنذ حوالَي أربعة أشهر، حصل من مدينة موجوك، في بورما العُليا، على ياقوتةٍ رائعة ذات لون خلَّاب للغاية وخالية تمامًا من العيوب تَزِن أكثر من ثمانية وعشرين قيراطًا. وصحيحٌ أنها لم تكن مصقولة، لكن ابن عمي كان يعتزم إعادة صقلها ما لم يتلقَّ عرضًا مُربِحًا لشرائها قبل ذلك.»
فسألته: «ما قيمةُ حجرٍ كريم كهذا؟»
«من المُستحيل الجزم بذلك؛ فياقوتةٌ كبيرة فاخرة ذات لون مثالي أثمنُ بأضعافٍ مُضاعفة من أفخر ماسة بالحجم نفسه. إنها أثمن الأحجار الكريمة، ربما باستثناء الزمرد؛ فياقوتةٌ فاخرة تَزِن خمسة قيراطات تُقدَّر بثلاثة آلاف جنيه تقريبًا، لكن الثمن يرتفع بشدة مع زيادة الحجم بالتأكيد؛ ومن ثَم فربما يكون الثمن المعتدل لياقوتة ديناناث هو خمسين ألف جنيه.»
وفي أثناء هذا السَّرد، لاحظتُ أن ثورندايك كان يُقلِّب قبعة الرجل الغريب بين يديه مُتفحِّصًا إيَّاها بدقةٍ من الداخل والخارج وهو يُصغي باهتمام. وحين اختتم بيرامجي كلامه، علَّق ثورندايك قائلًا:
«يجب أن نُبلغ الشرطة بما حدث، لكن لأننا سنُستدعى أنا وصديقي بصفتنا شاهدَين، فأنا أرغب في تفحُّص هذه القبعة بدقةٍ أكبر قبل أن تُسلمها إليهم. هلَّا تتكرَّم بإحضار فرشاة صغيرة صلبة لي. أظنُّ أن فرشاة أظافر جافَّة ستَفي بالغرض.» فامتثل مُضيفنا على الفور، وبلهفة في حقيقة الأمر. كان من الواضح أن طريقة ثورندايك الموثوقة الهادفة قد بَهرَته؛ ذلك أنه تحدَّث إلى زميلي وهو يُعطيه فرشاة أظافر جديدة، وقال: «إنني أشكرك على مساعدتك وأقدِّرها. يجب ألا نتَّكل على الشرطة فقط.»
ولأنني كنت قد ألِفتُ أساليب ثورندايك، فلم يُفاجِئني تصرُّفه. أما السيد بيرامجي فقد ظلَّ يُراقبه باهتمامٍ شديد ودهشةٍ كبيرة وهو يضع ورقةَ كتابة على المنضدة ويُقرِّب القبعة منها ويَفرشها بقوة على مهل؛ كي يتساقط التراب المُتطاير عنها على الورقة. ولأن القبعة لم يكن مُعتنًى بها جيدًا، فقد كانت كمية التراب الناتج كبيرة، لا سيَّما حين سحب ثورندايك الفرشاة أسفل الطرف المُلتوي من حوافِّ القبعة، وسرعان ما أصبحت الورقة تحمل كومةً صغيرة من التراب. طوى ثورندايك الورقة على هيئة ظرف صغير، وبعدما كتب عليها «الخارج» وضعها في محفظته.
سأله السيد بيرامجي: «لماذا تفعل ذلك؟ ما الذي ستعرفه من التراب؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «قد لا يُخبرني بأي شيء، لكن هذه القبعة هي مفتاحنا المباشر الوحيد لمعرفة هُوية الرجل الذي كان مع ابن عمك، ويجب أن نستفيد منها بأقصى استفادة. ومِثلما تعلم، فالتراب ليس سوى مجموعة من فُتاتٍ منفصِلة عن الأشياء المُحيطة. وإذا كانت هذه الأشياء غير عادية، فربما يكون التراب مميًّزًا جدًّا؛ لذا يُمكنك أن تُميِّز قبعة الطحَّان أو المُشتغل بالأسمنت بسهولة.» وبينما كان يتكلم، قلَب القبعة، وطوى بطانة عصابة الرأس الجلدية إلى الأسفل، فسقطت عدة قصاصات ورقية مطوية داخل تجويف التاج.
فصاح بيرامجي قائلًا: «آه! ربما سيدلُّنا ذلك إلى شيء.»
أمسك القصاصات المطوية وبدأ يفتحها بلهفة، وتفحَّصناها نحن بنظام، واحدةً تِلو الأخرى، غير أنها كانت مُخيِّبة لآمالنا بشدة، وخالية من أي معلومات مفيدة. كان معظمها يتألف من أشرطةٍ مُقتطَعة من صُحُف، مع منشور إعلاني أو اثنين، وصفحةٍ من قائمة أسعار لمواقد الغاز، وقطعةٍ من ظرفٍ كبير كان يحمل بقايا عنوان تُقرَأ هكذا: «…ﻦ …دن، دبليو سي» وقصاصة ورقية كان من الواضح أنها اقتُطعت رأسيًّا، وتحمل النصف الأيمن من قائمةٍ ما، وقد جاء فيها:
«…ﻴﻞ ٣ أوقيات. ٥ وحدات وزن بنس ترويسي.
…ﺎسة ٩ أوقيات ونصف.»
سألت ثورندايك وأنا أُعطيه الورقة: «هل تستطيع أن تفهم أيًّا من هذا؟»
فتأمَّلها، وأجاب وهو يُدوِّن مضمونها في دفتر ملاحظاته: «إنها تحمل طابعًا ما، على الأقل. وإذا وضعناها في الحُسبان مع المُعطَيات الأخرى، سنستخلص منها تلميحًا ما، لكنَّ هذه القُصاصات الورقية لا تُخبِرنا بالكثير. ربما تكون أكثر سماتها إيحاءً بشيءٍ معيَّن هي كميتها والكيفية التي رُتِّبت بها في جوانب القبَّعة الداخلية، كما لاحظتَ بلا شك. من الأفضل أن نُعيدَها إلى مكانها كما وجدناها، من أجل مصلحة الشرطة.»
لم تكن طبيعة الإيحاء الذي أشار إليه واضحةً لي، لكن وجود السيد بيرامجي أثناني عن مناقشة زميلي بشأن هذا الأمر، وكذلك لم تسنح أي فرصة لذلك؛ فحالما أعَدنا القصاصات إلى مكانها في القبعة، شعرنا بعددٍ من الأشخاص يصعدون الدَّرج، ثم سمعنا صوت قرع آمِر بعضَ الشيء على باب غرفة الرجل الميت.
فتح السيد بيرامجي باب غرفته المُقابلة وخرج إلى بسطة الدرج، حيث كان يُوجد عدة أشخاص مجتمعين، من بينهم الخادمة والخادم وشُرطي.
فقال الشرطي: «عرفتُ أن ثَمة مُشكلةً هنا، أهذا صحيح؟»
أجاب بيرامجي: «لقد وقع حادثٌ شديد الفظاعة، لكن الطبيبَين يستطيعان إخبارك بما حدث أفضل منِّي.» وحينها نظر باستنجاد إلى ثورندايك، فخرجنا وانضممنا إليه.
قال ثورندايك: «ثَمة رجلٌ مُهذَّب — يُدعى السيد ديناناث بيرامجي — قد لقيَ حتفَه في ظروفٍ مُريبة بعضَ الشيء.» وبعدما ألقى نظرةً خاطفة على زمرة الأشخاص الذين دفعهم فضولهم الطبيعي إلى الاحتشاد في ردهة الطابق، أضاف قائلًا: «إذا تفضلتَ بدخول الغرفة التي وقعت فيها الوفاة، سأعطيك الحقائق التي نعرفها حتى الآن.»
فتح الباب، ودخل الغرفة معي ومع السيد بيرامجي والشرطي. ومع فتح باب الغرفة، مدَّ المُتفرِّجون الواقفون أعناقهم إلى الأمام ليرَوا ما بداخل الغرفة، وأطلقت امرأةٌ في منتصف عُمرها صرخةَ ذُعْر، وتبعتنا إلى داخل الغرفة.
صاحت وهي تنظر نظرةً سريعة مُرتعِدة إلى الجثة: «هذا مُروِّع! لقد أخبرني الخُدَّام بذلك حين أتيت إلى النُّزل للتَّو، فأرسلتُ ألبرت إلى الشرطة في الحال، ولكن ماذا يعني ذلك؟ أتظنون أن السيد ديناناث المسكين قد قُتِل؟»
قال الشُّرطي وهو يُخرِج دفتر ملاحظات أسود كبيرًا ويضع خوذته على المنضدة: «من الأفضل أن نجمع الحقائق يا سيدتي.» ثم التفت إلى السيد بيرامجي، الذي كان قد ارتمى على كرسي وجلس يُحدِّق إلى جثَّة ابن عمه بحزنٍ عميق، وسأله: «هلا تتفضَّل بإخباري بما تعرفه عن كيفية حدوث ذلك.»
كرَّر بيرامجي خُلاصة ما قاله لنا، وحين دوَّن الشُّرطي أقواله، أدليتُ أنا وثورندايك بالتفاصيل الطبية القليلة التي استطعنا تقديمها بخصوص الحادث، وأعطينا الشرطي بطاقتَينا. وبعدما ساعدنا في وضع الجثة على الفراش وغطَّيناها بملاءة، تهيَّأنا للرحيل.
قال السيد بيرامجي وهو يُصافحنا بحرارة: «لقد كُنتما كريمَين معي للغاية. خالصُ امتناني لكما.» واختتم كلامه بنبرةٍ مُتكتِّمة، قائلًا: «إذا سمحتما لي، فربما أزوركما لأعرف ما إذا … إذا توصَّلتُما إلى أي شيء جديد.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «سنَسعد برؤيتك وتقديم أي مساعدة ممكنة لك.» رحلنا بعد ذلك وظلَّ النزلاء والخُدَّام، الذين كانوا ما يزالون منتظرين بجوار غرفة الوفاة، يُراقبون نزولنا على الدَّرج بفضول.
قلت بينما كنا نسير عائدين إلى مكتبنا: «إذا لم يكن لدى الشرطة معلوماتٌ أكثر ممَّا لدينا، فلن يكون لديهم خيوطٌ كثيرة يُمكنهم الانطلاق منها في التحقيق.»
قال ثورندايك: «لا، لكن يجب أن تتذكَّر أن هذه الجريمة — التي يحقُّ لنا افتراض أنها هكذا بناءً على أسبابٍ وجيهة — ليست جريمةً مُنعزلة، بل هي الجريمة الرابعة من النوع نفسه تقريبًا في الأشهر الستة الأخيرة. وأنا أعرف أن الشرطة لديها معلوماتٌ ما عن المشتبَه به، مع أنها قد لا تكون ذات قيمة كبيرة؛ نظرًا إلى عدم إلقاء القبض على أحد حتى الآن، لكن يُوجد بعض الأدلة الجديدة هذه المرة؛ فتبديل القبعتَين قد يُساعد الشرطة مساعدةً جمَّة.»
«كيف؟ ما الدليل الذي تُقدِّمه؟»
«إنها تُشير في المقام الأول إلى رحيله على عَجَل، وهو ما يَربط بين الرجل المفقود والجريمة على ما يبدو. وثانيًا، فهو يعتمر قبعة الرجل الميت، وصحيحٌ أنه من المُستبعَد أن يُواصِل اعتمارها، لكنها قد تُرى وتُقدِّم دليلًا. ونحن نعرف أيضًا أن تلك القبَّعة تُناسب حجم رأسه جدًّا، ونعرف حجمها؛ أي أننا نعرف حجم رأسه. وأخيرًا، لدينا القبَّعة الخاصة بالرجل نفسه.»
قلت له: «لا أظنُّ أن الشرطة ستستخلص من هذا معلوماتٍ كثيرة.»
اتَّفق مع رأيي قائلًا: «هذا صحيح على الأرجح، لكنه يُقدِّم تلميحًا مُهمًّا أو اثنين، ولعلك لاحظتَ ذلك.»
قلت له: «كلا، لم أستخلص من ذلك أيَّ تلميحات على الإطلاق.»
فقال ثورندايك: «إذن، لا يُمكنني إلا أن أوصيك بتذكُّر الفحص البسيط الذي أجريناه، والتفكير في دلالة ما وجدناه.»
كان عليَّ تقبُّل إنهاء نقاشنا آنذاك بهذه العبارة، ولأنني كنت مضطرًّا إلى الذهاب إلى المكتبة لأتسلَّم بعض التقارير التي تركتها كي تُغلَّف، فقد افترقت عن ثورندايك عند ناصية زقاق «تشيتشستر رينتس»، وتركته يُواصل طريقه وحده. استغرق قضاء حاجتي في المكتبة وقتًا أطول ممَّا كنت أتوقَّع؛ إذ كان عليَّ الانتظار حتى إتمام الكتابة على الأغلفة الخلفية، وحين وصلت إلى مكتبنا في شارع «كينجز بنش ووك»، وجدت ثورندايك في المرحلة الأخيرة على ما يبدو من تجربةٍ كان من الواضح أنها مرتبطة بالمغامرة التي خُضناها مؤخرًا. كان المِجهر على الطاولة، فيما كانت توجد شريحةٌ على منضدته وشريحةٌ أخرى بجواره، ولكن كان من الواضح أن ثورندايك أنهى فحوصه المجهرية؛ إذ كان يحمل أنبوب اختبار مليئًا بمائعٍ دُخاني اللون حين دخلت عليه.
قلت له: «أرى أنك كنت تفحص الغبار الذي استخرجته من القبَّعة. أيوضِّح أي شيء جديد في القضية؟»
أجاب: «قليلًا جدًّا. إنه مجرَّد غبار شائع: أليافٌ متنوِّعة وجُسيماتٌ عضوية معدنية، غير أنني قد وجدت في تجويف القبَّعة الداخلي شعرتين كلتاهما بُنِّية فاتحة، وإحداهما من نوع الشعر الضامر الشبيه بعلامة التعجُّب الذي يجده المرء على حوافِّ بُقَع الصَّلع، فيما يُظهِر الغبار المُستخلَص من سطح القبعة الخارجي آثارًا دقيقة للرصاص، في شكل الأكسيد حسب ما يبدو. ما رأيك في ذلك؟»
فاقترحت قائلًا: «ربما يكون الرجل سبَّاكًا أو دهَّانًا.»
ردَّ قائلًا: «كلاهما مُمكن وجدير بأن نضعه في حُسباننا.» لكن نبرته أوحت إليَّ بأن هذا لم يكن استنتاجه الشخصي، وكنت قد رأيت صفًّا من خمسة سجلات مُتتالية من «سجلات دليل مكاتب البريد» مُمتدةً بطول حافَّة المنضدة، فأدركت منها أنه قد شكَّل فرضية بخصوص القضية بالفعل، وربما أكَّدها أو دحضها أيضًا؛ ذلك أن دليل مكتب البريد كان أحد الكتب المَرجعية المُفضَّلة لدى ثورندايك، وقد كان مقدار المعلومات الغريبة المُستعصية التي نجح في استخلاصها من صفحاته، والتي تحوي حقائق مُثبَتة، لتُفاجئ جامعي هذا الدليل أنفسهم أكثر ممَّا قد تُفاجئ أيَّ شخصٍ آخر.
حينئذٍ سمعنا صوت خطوات أقدام تصعَد الدَّرج المؤدي إلى مكتبنا. كان الوقت متأخرًا على مجيء زُوَّار من أجل العمل، لكننا كذلك لم نكن مُعتادين استقبال ضيوف في وقتٍ متأخر، ثم سمعنا طَرقةً مألوفة بمطرقة بابنا النُّحاسية الصغيرة تُفسِّر هذه الزيارة التي جاءت في وقتٍ غير مناسب.
قال ثورندايك وهو يسير بخطواتٍ طويلة عبر الغرفة ليفتح الباب: «تبدو هذه كطَرقة المُشرِف ميلر.» واتَّضح أن المُشرِف هو الطارق بالفعل، لكنه لم يكن وحده.
فحين فُتِح الباب، دخل المُشرِف الشرطي مع رجلين مُهذَّبين، كلاهما مواطنٌ هندي، وكان أحدهما هو صديقنا السيد بيرامجي.
قال ميلر: «ربما من الأفضل أن آتيَ بعد قليل.»
قال بيرامجي: «أتمنَّى ألا يكون ذلك بسببي؛ فليس لديَّ سوى بضع كلمات سأقولها، ولا يوجد سرٌّ في المسألة التي أتيتُ من أجلها. هل تأذنان لي بأن أقدِّم قريبي، السيد خامباتا، أحد طُلاب جمعية «إنر تمبل»؟»
انحنى رفيق السيد بيرامجي انحناءةً رسمية متأدِّبة، ثم قال: «لقد أتى بيرامجي إلى مكتبي للتَّو ليَستشيرني بشأن هذه القضية المُروِّعة، وتصادَف أنه أراني بطاقتك. لم يكن قد سمع عنك، وإنما ظنَّ أنك مجرد طبيب عادي. لم يُدرك أنه قد استضاف ملاكًا دون أن يعرف، لكنني لمَّا كنت على دراية بصِيتك العظيم، فقد نصحته بأن يأتمنك على قضاء حاجته.» ثم أضاف بسرعة وهو ينحني للمُشرِف الشرطي: «دون الإضرار بالتحقيقات الرسمية.»
فقال السيد بيرامجي: «وأنا قرَّرت على الفور أن آخُذ بنصيحة قريبي. لقد جئت لأتوسَّل إليك أن تبذل قصارى جهدك لضمان مُعاقبة قاتل ابن عمي. ولا تكترث بشأن النفقات؛ فأنا ثريٌّ، وممتلَكات ابن عمي المسكين ستُصبِح مِلكي. أما بخصوص الياقوتة، فاسترجعها إن استطعت، لكنها ليست مهمة. ما أطلبه هو الانتقام، العدالة. سلِّمْ ذاك الحقير إلى يديَّ، أو أيدي العدالة، وسأُعطيك الياقوتة، أو ثمنها طواعيةً وبكل سرور.»
قال ثورندايك: «لا داعي إلى هذا الإغراء الاستثنائي. إذا كنتَ تُريدني أن أحقِّق في هذه القضية، فسأفعل ذلك وسأستخدم كلَّ الوسائل المُتاحة لديَّ، دون الإضرار بالحقوق الأصيلة للسُّلطات مِثلما يقول صديقك، لكنك تعي أنني لا أستطيع تقديم أي وعود؛ إذ لا يُمكنني ضمان النجاح.»
فقال السيد خامباتا: «إننا نتفهَّم ذلك، لكننا نعلم أنك إذا تولَّيت القضية، فستفعل كل ما هو مُمكِن. والآن، يجب أن نترككما لتَتشاوَرا.»
وحالَما رحل عميلانا، نهض ميلر من كرسيِّه وهو يضع يده في جيبه المُلاصق لصدره، وقال: «أعتقد أيها الطبيب أنك تستطيع تخمين سبب مجيئي. لقد أُرسلتُ للتحقيق في قضية بيرامجي، وسمعت من السيد بيرامجي أنك كنت هناك، وأنك تفحَّصت قبعة الرجل المفقود فحصًا دقيقًا. لقد فحصتها أنا أيضًا، وأستطيع إخبارك بأنني لم أعرف أي معلومة منها.»
فقال ثورندايك: «أنا نفسي لم أعرف الكثير منها.»
فحثَّه ميلر على الحديث بقوله: «لكنك توصَّلت إلى شيءٍ ما، حتى وإن كان مجرَّد تلميح طفيف، أما نحن فلا نملك سوى خيطٍ ضعيف. إننا نكاد أن نكون مُتأكِّدين في أن هذا هو الرجل نفسه الذي نفَّذ تلك السرقات الأخرى: «أبو هول نيوجيرسي.» كما تُسمِّيه الصُّحف. وهو من نوعية المُجرمين الذين يستعصون للغاية على قبضة الشُّرطة؛ فهو جريء وحذِر ويرتكب جرائمه بمفرده، ويفعل أي شيء قد يخطر ببالك لتحقيق غايته. ليس لديه شركاء، وهو يقتل في كل سرقة يرتكبها. إن الشرطة الأمريكية لم تقترب من القبض عليه أبدًا سوى مرةٍ واحدة، وتلك المرة هي التي أعطتنا الخيط الوحيد الذي نملكه.»
فسأله ثورندايك: «بصمات أصابع؟»
«نعم، وبصماتٌ رديئة للغاية أيضًا؛ فهي ضبابيةٌ جدًّا لدرجةٍ تُعجزك عن رؤية نمطها، بل إننا لسنا متيقِّنين تمامًا من أنها بصماته، غير أن بصمات الأصابع لا تُفيد كثيرًا على أي حال إلى أن نقبض على الرجل. توجد أيضًا صورةٌ فوتوغرافية للرجل نفسه، لكنها مجرد لقطة خاطفة، فضلًا عن أنها صورةٌ رديئة أصلًا؛ فكل ما تُظهِره هو أن لديه شعرًا كثيفًا أشعث ولحيةً مدبَّبة، أو هكذا كان على الأقل وقت التقاط الصورة، لكنها بلا جدوى تقريبًا في تحديد هويته. على أي حال، هذه هي حقيقة الموقف، وها هو الاقتراح الذي أقدِّمه إليك: نحن نريد هذا الرجل كما تُريده أنت، وقد عملنا معًا من قبل، ويستطيع كِلانا أن يثق بالآخر. سأكشف أوراقي، وأطلب منك أن تردَّ بالمِثل.»
قال ثورندايك: «لكنني يا عزيزي ميلر لا أملك أي أوراق. ليس لديَّ أي حقيقة راسخة واحدة.»
حينها بدا الإحباط جليًّا على المُحقِّق، غير أنه وضع صورتين على الطاولة ودفعهما نحو ثورندايك، الذي تفحَّصهما عبر عدسته، ومرَّرهما إليَّ.
علَّق ثورندايك عليهما قائلًا: «نمط البصمات ضبابيٌّ جدًّا ومتقطِّع.»
قال ميلر: «نعم، لا بد أن هذه البصمات تُرِكت على سطحٍ شديد الخشونة، وإن كان من المُمكِن الحصول على بصماتٍ مُشابهة من أصابع الميكانيكيِّين أو غيرهم من الرجال الذين يستخدمون المَبارد أو يشتغلون بالمعادن الخشنة. والآن، أيُّها الطبيب، ألا يُمكنك أن تُعطينا خيطًا استرشاديًّا من أي نوع؟»
فكَّر ثورندايك بضع ثوانٍ، ثم قال: «أنا فعلًا لا أمتلك أيَّ حقيقة راسخة، ولا أرغب في افتراض محض تخمينات تكهُّنية.»
ردَّ ميلر بابتهاج: «آه، لا بأس في ذلك. أعطِنا طرف الخيط، ولن أتذمَّر إذا لم يُوصِّلنا إلى شيء.»
قال ثورندايك على مضض: «حسنًا، كنت أفكِّر في الحصول على بضع تفاصيل بخصوص المُستأجرين المختلفين في المبنى رقم ٥١ في مجمع «كليفوردز إنَّ». لعلَّك إذن تستطيع فعل ذلك بسهولةٍ أكبر، ولعله يستحقُّ عناءك.»
صاح ميلر ببهجة الانتصار: «رائع! لقد «أعطى المجهول المُطلَق سكنًا محليًّا واسمًا.»»
ذكَّره ثورندايك قائلًا: «إنه الاسم الخاطئ على الأرجح.»
قال ميلر: «أنا لا أمانع ذلك، لكن لمَ لا نذهب معًا؟ لقد صار الوقت مُتأخرًا جدًّا على الذهاب الليلة، ولن أستطيع الذهاب في صباح الغد، لكن ما رأيك أن نذهب عصرًا؟ فرأسانِ أفضلُ من رأسٍ واحد كما تعلم، لا سيَّما إذا كان الثاني هو رأسَك أنت.» ثم أضاف بنظرةٍ خاطفة إليَّ: «أو ربما ستكون ثلاثة رءوس أفضل بكثير.»
فكَّر ثورندايك ثانيةً أو اثنتين، ثم نظر إليَّ.
وسألني: «ما رأيك يا جِرفيس؟»
ولمَّا لم يكن لديَّ أي مشاغل في عصر اليوم التالي، فقد وافقت بحماسة؛ إذ كنت أنا أيضًا كالمُشرِف أرغب في معرفة الكيفية التي تمكَّن بها ثورندايك من ربط هذا المكان تحديدًا بالمُجرم المجهول المختفي. وهكذا رحل ميلر سعيدًا بموعد في الساعة الثالثة من عصر الغد.
وبعد مغادَرة المُشرِف، جلست لبعض الوقت مُستغرِقًا في تفكيرٍ عميق؛ فبطريقةٍ غامضةٍ ما، انبثق العنوان، أي المبنى رقم ٥١ في مجمع «كليفوردز إنَّ»، من البيانات العديمة المَعالم التي أسفرت عنها القبعة المتروكة، لكن ما هي العلاقة بين هذا وذاك؟ يبدو أنَّ قصاصة الظرف المُعنوَن قد قدَّمت هذا الخيط، لكن كيف فسَّر ثورندايك كلمة «…ﻦ» على أنها تعني «المبنى رقم ٥١ في مجمع كليفورد إنَّ»؟ كان ذلك لُغزًا مستغلقًا عليَّ للغاية.
وفي هذه الأثناء، كان ثورندايك قد جلس أمام منضدة كتابة، ولاحظتُ أن إحدى الرسالتين اللتين كتبهما قد كُتِبت على ورقةٍ معنوَنة من الأعلى بشعار مكتبنا، وكُتِبت الأخرى على ورقةٍ فارغة عادية. وبينما كنت أحاول تخمين سبب ذلك، نهض من كرسيه، وقال لي وهو يَلصق الطوابع البريدية: «سأخرج الآن لأُرسل هاتين الرسالتين. هل تودُّ الخروج في نزهةٍ قصيرة عبر ظلال أشجار شارع «فليت ستريت»؟ ما زال المساء في بدايته.»
أجبته وأنا آخذ قبَّعتي من على المكتب المُجاوِر: «إن الأماكن الريفية المنعزلة من شارع «فليت ستريت» تجذبني في كل الأوقات.» وبهذا قد انطلقنا معًا، وتمشَّينا في شارع «كينجز بنش ووك»، ثم دخلنا شارع «فليت ستريت» عَبر طريق «ميتر كورت». وحين ألقى ثورندايك رسالتَيه في صندوق مكتب البريد، وقف يُحدِّق بُرهةً إلى الأعلى في اتجاه بُرج كنيسة سانت دونستان.
وسألني: «هل زُرْت مجمع «كليفوردز إنَّ» من قبلُ يا جِرفيس؟»
فأجبته (وقد كنا نمرُّ عليه حوالَي عشر مرات في الأسبوع): «كلا، لكن الأوان لم يفُت على إجراء زيارة استكشافية.»
فعبَرنا الطريق، وبعدما دخلنا زقاق «كليفورد إن باساج»، مررنا عبر البوَّابة التي كانت ما تزال مُواربة، وعبَرنا الفناء الخارجي، ثم دلَفنا خلال المَدخل النفقي مرورًا بالرواق إلى الفناء الداخلي، حيث توقَّف ثورندايك في منتصفه، وقال بينما كان ينظر إلى الأعلى نحو منزل قديم: يحمل «رقم ٥١».
قلت: «إذن، هنا يسكُن صديقنا.»
فاحتجَّ قائلًا: «آه، كُنْ منطقيًّا يا جِرفيس. إنني مُتفاجئ منك، فأنت سيئ مثل ميلر تمامًا. إنني لم أقترح سوى علاقة محتملة بين هذه المباني والقبعة التي تُرِكت في نُزُل «بيدفورد بليس». أما بخصوص طبيعة هذه العلاقة، فأنا لا أعرف عنها أيَّ شيء، وربما يتبيَّن عدم وجود علاقة أصلًا. أؤكِّد لك يا جِرفيس أنني أسير على أرقِّ حبلٍ ممكن. أعمل على فرضيةٍ تخمينية للغاية، وكان ينبغي ألا أُعطي ميلر أيَّ تلميح، لكنه كان مُتلهِّفًا جدَّا، وراغبًا بشدة في تقديم المساعدة، إضافةً إلى أنني كنت أريد الحصول على بصمات الأصابع التي يَحُوزها، غير أننا ما زِلنا في البداية فقط في حقيقة الأمر، وقد لا نتقدم قيد أنملة أبدًا.»
نظرتُ إلى النُّزل القديم فوجدته مُعتمًا تمامًا باستثناء الطابق العُلوي، حيث ظهر من وراء نافذتين مُضاءتين ظلُّ رجلٍ يتحرك بسرعة في أرجاء الغرفة. عبَرنا إلى المدخل وتفحَّصنا الأسماء المَطلية على إطار الباب. كان الطابق الأرضي تشغله شركة لنقش الصور، وكان الطابق الأول يسكنه السيد كارينجتون، الذي كان اسمه بارزًا بوضوحٍ لافت على خلفيَّته المستطيلة ذات الطلاء الجديد نسبيًّا. أما الطابق الثاني، فقد كان يسكنه السيدان بيرت وهايلي خبيرا المعادن، واللذان بدا أنهما ساكنان قديمان؛ لأن اسمَيهما كانا مكتوبين بطلاءٍ باهت تغيَّر لونه.
وبينما كنت أقرأ الأسماء، قال ثورندايك مُشيرًا إلى شَطبتَين حمراوَين لم ألحظهما في الضوء الخافت: «لقد رحل بيرت؛ لذا فمن المفترض أن ذاك الرجل النشيط في الأعلى هو السيد هايلي، وبوسعنا أن نفترض أنه يستأجر هنا محلًّا لسَكنه ولعمله أيضًا. أتساءل الآن عمَّن يكون السيد كارينجتون وما تكون مهنته، لكنني أظنُّ أننا سنعرف ذلك غدًا.»
بعد ذلك، انصرف عن الحديث عن الجوانب المهنية في مجمع «كليفوردز إن»، وراح يتحدَّث عن تاريخ المجمع والمؤسَّسات التي شغلته، وظلَّ يُدردش بأسلوبه الخلَّاب الذي لا يُضاهى حتى أوصلنا تسكُّعنا المُتمهل أخيرًا إلى بوَّابة مجمع «إنر تمبل».
وفي صباح اليوم التالي، أنجزنا عملنا على عجَل لئلا يكون لدينا أي مَشاغل في وقت العصر؛ فأجرينا عدة زيارات مشتركة إلى مُحامين كنا نتلقَّى منهم توجيهات. وبينما كنا عائدين من زيارتنا الأخيرة، والتي كنا قد قصدنا فيها أحدَ محاميَّ المدينة، دخل ثورندايك مبنى «سانت هيلين بليس»، وتوقَّف عند مدخل يحمل اللوحة النحاسية لإحدى شركات المُقايَسة والتكرير. تبعته إلى المكتب الخارجي، حيث جاء رجلٌ مُسِنٌّ إلى النُّضُد عند ذكر اسمه.
تحدَّث قائلًا: «لقد ترك لك السيد جرايسون بعض العيِّنات يا سيدي. إن تركيزها يبلغ حوالَي ثلاثين حبَّةً في الطن — لقد قلتَ إن محتوى العيِّنات نفسه ليس مُهمًّا — وأودُّ إخبارك بأنك لست مُضطرًّا إلى إعادتها؛ فهي لا تستحقُّ المعالَجة.» اتَّجه بعد ذلك إلى خزنةٍ كبيرة أخذ منها كيسًا كتَّانيًّا، وحين عاد إلى النُّضُد، أفرَغ عليه محتويات الكيس التي كانت تتمثَّل في اثنتَي عشرة كتلةً كبيرة من الكوارتز وكَسرةٍ صفراء مُتلألئة أخذها ثورندايك ووضعها في جيبه.
سأله الرجل: «هل ستَفي هذه المجموعة بالغرض؟»
أجاب ثورندايك: «ستُلبِّي غرضي تمامًا.» وحين أُعيدَت العيِّنات إلى الكيس، ووضعه ثورندايك في حقيبة يده، شكر المُساعد، ومَضينا في طريقنا.
قلت له: «يبدو أننا نُوسِّع نشاطنا إلى مجال علم المعادن.»
فابتسم ثورندايك ابتسامةً غامضة، وقال: «ونستخدم أيضًا مضخَّة الشفط كأداةٍ بحثية. على أي حال، فإن الاستخدامات الاستراتيجية لكُتَل الكوارتز — بخلاف استخدامها كقذائف — ستكشف عن نفسها في الوقت المُناسب، ويُمكن اغتنام الوقت المتبقِّي حتى ذلك الحين في التفكير.»
فعلتُ ذلك، لكن تفكيري لم يُسفر عن إجابة. ومع ذلك، فقد لاحظتُ حين خرجنا في الساعة الثالثة عصرًا مع المُشرِف أن الكيس قد جاء معنا، وبعدما عرضتُ أن أحمله، وقبِل ثورندايك عرضي بلمعةٍ خبيثة في عينَيه، أكَّد لي وزنه أن الكوارتز ما يزال داخله.
قرأ ثورندايك بصوتٍ عالٍ ونحن ندنو من حجرة البوَّاب: «غُرَف ومكاتب للإيجار. أظنُّ أن ذلك يسمح لنا بالدخول. والبوَّاب يعرف الدكتور جِرفيس ويعرفني من مَظهرنا؛ لذا سيتكلَّم بحرِّيةٍ أكبر.»
قال المُشرِف: «إنه لا يعرفني، لكني مع ذلك سأبقى في الخلفية.»
سَحبنا الجَرس، فخرج رجلٌ ذو مَظهرٍ أشبه برجال الدين يعتمر قبَّعةً طويلة، ويرتدي سترةً طويلة مشقوقة الذيل، وكان يُحدِّق عبر نظارته إلى ثورندايك وإليَّ بانطباعٍ ودِّيٍّ يوحي بأنه عرفنا.
قال ثورندايك: «مساء الخير يا سيد لاركن. لقد طُلِب منِّي معرفة تفاصيل غُرَف شاغرة؛ فما الغُرف المُتاحة للإيجار لديك؟»
فكَّر السيد لاركن، ثم قال: «دعني أرى. يوجد طابقٌ أرضي مُتاح في المبنى رقم ٥ — مُعتِمٌ بعض الشيء — وتوجد شقةٌ صغيرة من غرفتَين في الطابق الثاني بالمبنى رقم ١٢. وتوجد أيضًا … آه، تذكَّرت، توجد شقةٌ جيدة من غرفتين في الطابق الأول بالمبنى رقم ٥١. كان من المفترض ألا تُصبحا شاغرتَين قبل عيد الملاك ميخائيل، لكن السيد كارينجتون، المستأجِر، اضطرَّ إلى السفر خارج البلاد فجأةً. لقد تلقَّيتُ صباح اليوم رسالةً منه تحوي المفتاح، وهي رسالةٌ مُضحِكة أيضًا بالمناسبة.» ثم غاص بيده في جيبه، وأخرج حزمة من الرسائل، واختار منها واحدة، وسلَّمها إلى ثورندايك بابتسامةٍ عريضة.
سيدي العزيز
سأترك غرفتيَّ في المبنى رقم ٥١ لأنني قد استُدعيت فجأةً إلى خارج البلاد. وقد أرفقتُ المفتاح مع رسالتي، لكني لن أُزعجك بدفع الإيجار؛ فبيعُ أثاثي الغالي سيُغطِّي قيمة الإيجار وزيادة، ويُمكنك إنفاق الفائض على طلاء سياج الحديقة الحديدي.
فأعاد ثورندايك وضع الرسالة والمفتاح في الظرف مُبتسمًا، وسأل البوَّاب: «ما حالة الأثاث؟»
قال البوَّاب ضاحكًا: «سترى بنفسك، إذا كنت ترغب في رؤية الغرفتَين. وأظنهما ربما يُناسبانك؛ فهُما غرفتان رائعتان.»
«هل هما هادئتان؟»
«نعم، هادئتان جدًّا. يقع فوقهما مكتبُ خبيرٍ مُتخصص في المعادن — هايلي — وقد كان المكتب يُدعى «بيرت وهايلي»، لكن بيرت ذهب إلى المدينة، ولا أظنُّ أن هايلي يُمارس الكثير من العمل الآن.»
قال ثورندايك: «دعني أخمِّن، أظنني كنت أقابل هايلي أحيانًا، أهو رجلٌ طويل القامة وأسمر البشرة؟»
«لا، لقد كان هذا بيرت. أما هايلي، فهو رجلٌ قصيرٌ أشقر أصلع بعض الشيء وذو بشرةٍ نضرة.» وهنا نقَر على أنفه بطريقةٍ تُوحي بدرايته بسرٍّ ما، ورفع إصبعه الأصغر ثم أكمل قائلًا: «وربما كان هذا سببًا في تدهور العمل.»
فقاطَعه ميلر بشيءٍ من نفاد الصبر، قائلًا: «أليس من الأفضل أن نتفقَّد الغرفتَين؟»
سأله ثورندايك: «هل يُمكننا رؤيتهما يا سيد لاركن؟»
أجابه قائلًا: «بالطبع. لديك المفتاح. رُدَّه إليَّ حين تنتهي من رؤية الغرفتين.» ثم أضاف بابتسامةٍ عريضة: «وأيًّا كان ما ستفعله، فاحرص على عدم المساس بالأثاث.»
قال المُشرِف ونحن نعبر الفناء الداخلي: «يبدو كما لو أن السيد كارينجتون قد أمطَر رذاذًا خلفه. هذا مُبشِّر.» وأضاف وهو يُلقي نظرةً خاطفة على الطلاء الجديد على إطار الباب بينما كنا نعبر المدخل: «وأرى أنه لم يكن مُقيمًا هنا منذ فترةٍ طويلة. وهذا أيضًا مُبشِّر.»
صعدنا إلى الطابق الأول، وحين فتح ثورندايك القفل، وفتح الباب، قهقه ميلر؛ إذ كان «الأثاث الغالي» يتألَّف من طاولة مطبخ صغيرة، وكرسي وندسور، وكرسيٍّ قابل للطيِّ مُتهالك. وكان المطبخ يحوي موقدًا غازيًّا صغيرًا ذا عينٍ واحدة، وقِدرًا صغيرة، ومِقلاة. أما غرفة النوم، فقد كان أثاثها يتمثَّل في سرير تخييم بلا مُلاءات أو لِحاف، وحوضٍ صغير موضوع على صندوق شحن، ووعاء مياه بلاستيكي.
فصاح المُشرِف: «أهلًا! لقد ترك وراءه قبَّعة، بل قبعةً جيدة جدًّا أيضًا.» أخذها من على المشجب، وألقى نظرةً خاطفة عليها من الخارج، ثم قلَّبها وتفحَّص داخلها؛ ففغر فاه بارتعاشة.
وشهق قائلًا: «يا نسر سليمان العظيم! أترى أيُّها الطبيب؟ إنها تلك القبَّعة التي نبحث عنها.»
أبرزها لنا ليُرينا إيَّاها، وكما توقَّعنا، كان الحرفان المُذهبان «دي. بي.» مُطرَّزين على البطانة الحريرية البيضاء للتاج، مِثلما وصفهما السيد بيرامجي تمامًا.
وبينما انتزع المُشرِف كيسَ خضروات ورقي من أرضية المطبخ وأقحَم القبَّعة داخله، اتفق معه ثورندايك قائلًا: «نعم، إنها الحلقة المفقودة بلا شك، لكن ماذا ستفعل الآن؟»
صاح ميلر: «أفعل! حسنًا، سأُمسك بخِناقه؛ إذ ترسو هذه السفن البلطيقية عند ميناءَي هال ونيوكاسل — وهو ربما لا يعرف ذلك — وهي سُفنٌ بطيئة جدًّا أيضًا. سأبعث ببرقية إلى نيوكاسل لاحتجاز السفينة، وسأصطحب المُفتش بادجر إلى هناك لاعتقال الرجل المطلوب. سأتركك لتُوضِّح للبوَّاب ما حدث، وأنا مَدين لك بألف شكر على تلميحك القيِّم.»
انطلق بعد ذلك مُتشبِّثًا بالقبعة الثمينة، ورأيناه من النافذة يُهروِل عبر الفناء، ويندفع عبر الباب الخلفي إلى شارع «فيتر لين.»
قال ثورندايك: «أظنُّ أن ميلر كان مُتسرِّعًا بعض الشيء. كان ينبغي أن يتأنَّى ليعرف أيَّ وصفٍ للرجل وبعض التفاصيل الأخرى.»
قلت: «نعم، كان من الأفضل أن ينتظر ميلر حتى تُنهي الأمر مع السيد لاركن، لكنك قد تحصل على مزيدٍ من المعلومات حين نُعيد المفتاح.»
«بل سنحصل على مزيدٍ من المعلومات من الرجل الفاضل الذي يسكن في الطابق العلوي، وأظنُّ أننا سنصعد الآن ونُحاوِره. لقد بعثت إليه برسالة في الليلة الماضية، وحدَّدت معه موعدًا لإجراء محادثة عن المعادن، ووقَّعت على الرسالة باسم دبليو. بولتون. وإذا سأل عن اسمك، فسوف نقول إنه ستيفنسون.»
وبينما كنا نصعد الدَّرج إلى الطابق التالي، فكَّرت في الحِيَل المُلتوية بعض الشيء التي اتبعها زميلي، الذي عادةً ما يكون مُستقيمًا. لقد اتَّضحت آنذاك فائدة كتل الكوارتز، ولكن ما فائدة هذه الحِيَل الغامضة؟ ولماذا، قبل أن يطرقَ ثورندايك الباب، قرأ قراءة عدَّاد الغاز الموجود في رواق الطابق بعناية؟
فُتِح الباب ردًّا على طَرْقنا، وبدا منه رجلٌ قصير القامة حليق الذقن، تبدو في سيمائه النباهة، ويرتدي حُلةَ عملٍ بيضاء كان ينظر إلينا نظراتٍ حادَّةً غير مرحِّبة، غير أن ثورندايك كان اللطف كله مُجسَّدًا في إنسان.
قال وهو يمدُّ يده، التي صافَحها خبير المعادن ببرودة: «تشرَّفت بلقائك يا سيد هايلي. أعتقد أنك قد تلقَّيت رسالتي، أليس كذلك؟»
«بلى، لكنني لست السيد هايلي. إنه في الخارج وأنا أُواصل العمل. أفكِّر في تولِّي العمل الذي كان سيُنجزه، إن كان يوجد عملٌ يحتاج إلى من يتولَّاه. اسمي شيروود. هل أحضرت العيِّنات؟»
أخرج ثورندايك الكيس الكتَّاني، الذي أخذه منه السيد شيروود وأفرغه على دِكَّة، ثم أمسك كتل الكوارتز واحدةً تِلو الأخرى وتفحَّصها من كثب. وفي أثناء ذلك، مسح ثورندايك المكان بعينَيه سريعًا؛ إذ كان يوجد أمام الجدار فُرنان للتنقية البوتقية وفرنٌ ثالث أكبر يُشبه أتونًا فخَّاريًّا صغيرًا، وكانت توجد مجموعةٌ من الأرفف الضيِّقة تحمل عدة صفوف من البوتقات المصنوعة من رماد العظام تُشبِه أُصص الزهور البيضاء الصغيرة، ويُوجَد بالقُرب منها مَكبس البوتقات — وهو جهازٌ يُنقَل إليه مسحوق رماد العظام، ويُضغَط بمكبس لتشكيل البوتقات — بينما كان يوجد بجوار المكبس حوضٌ يحوي مسحوقًا من رماد العظام، لاحظت أنه أخشن كثيرًا من المسحوق الناعم المُعتاد. وقد لاحظ ثورندايك هذه الخشونة أيضًا، فتقدَّم نحو الحوض وغمس يده في الرماد، ثم مسح أصابعه على منديله.
قال السيد شيروود مُتحدِّثًا عن العيِّنات: «لا يبدو أن هذه المادة تحوي الكثير من الذهب؛ لكننا سنتيقَّن حين نتفحَّصها.»
أخرج ثورندايك من جيبه تلك القطعة الصغيرة من المعدن اللامع ذي المظهر الذهبي التي انتقاها من بين العيِّنات الأخرى عند خبير المقايَسة، وسأله: «ما رأيك في هذه؟» فأخذها السيد شيروود وتفحَّصها من كثب، ثم قال: «تبدو هذه مُبشِّرةً بخيرٍ أوفر، إنها غنيةٌ بعض الشيء في الواقع.»
تلقَّى ثورندايك هذه العبارة بمُحيَّا جامدٍ كالصخر. أما أنا، فحدَّقت إلى السيد شيروود بذهول؛ وذلك لأن هذه القطعة من المعدن اللامع كانت مجرَّد كسرة من بيرت الحديد الشائع! فهي لم تكن لتخدع تلميذًا صغيرًا، لا خبيرًا مُتخصصًا في المعادن.
أخذ السيد شيروود عدسةَ ساعاتيٍّ من على أحد الأرفف وهو ما يزال مُمسكًا بالعيِّنة، وتوجَّه إلى النافذة. وفي الوقت نفسه، سار ثورندايك بهدوءٍ نحو أرفف البوتقات، وطاف بعينَيه سريعًا بين صفوف البوتقات. وسرعان ما توقَّف عند أحدها، وتفحَّصه من كثب، ثم أخذه من على الرف وبدأ ينبش فيه بظفره.
وحينئذٍ استدار السيد شيروود ورآه، فاكتسى وجه خبير المعادن بمزيجٍ من أمارات الغضب والانزعاج.
أمره بلهجةٍ قاطعة قائلًا: «اتركه من يدك!» لكن ثورندايك واصَل فَرْكه بظفره، فصاح الرجل غاضبًا: «أتسمع؟ دَعه!»
فنفَّذ ثورندايك قولَ الرجل حرفيًّا، وترك البوتقة تسقط على الأرض، فتحطَّمت إلى فتاتٍ لا حصر لها، وتفرَّقت واحدةٌ من أكبر هذا الفتات عن البقية؛ فانقضَّ عليها ثورندايك، وبينما كان يرفعها عن الأرض، تبيَّن لي بلمحةٍ سريعة أنها سنٌّ مُكلَّس.
خيَّم صمتٌ دراميٌّ غريب لبضع لحظات. وقف ثورندايك، وهو يُمسِك السنَّ بين سبَّابته وإبهامه، مُحدِّقًا إلى عينَي خبير المعادن، بينما وقف الأخير، الذي كان شاحبًا كجثَّة، ينظر إلى ثورندايك بغضب، وراح يفكُّ أزرار حُلَّة العمل خلسةً.
وفجأةً تحوَّل هذا الصمت إلى جلبةٍ مُذهِلة كجلبة اصطدام قطارَين؛ فقد دفع شيروود يده اليمنى أسفل حُلَّته، فانتزع ثورندايك بوتقةً أخرى ورماها بدقَّةٍ بالغة حتى إنها تكسَّرت على جبين خبير المعادن. وحالَما أطلق تلك القذيفة، اندفع إلى الأمام، وسدَّد لكمةً سريعة إلى الرجل. وحينها دوَّى صوت ارتطام كالرعد، وتصاعدت غيمة من الغبار الأبيض، وانزلق مسدسٌ آلي على الأرض مُقعقِعًا.
انتزعت المسدَّس وهرعت لمساعدة صديقي، لكنه كان في غِنًى عن مساعدتي؛ فبفضل قوَّته الهائلة وبراعته الخارقة — فضلًا عن تأثير اللكمة القاضية — كان ثورندايك قد ثبَّت الرجل على الأرض بلا حراك.
قال بنبرةٍ رزينة هادئة بدت مُتنافِرة مع الظروف المحيطة تنافرًا مُثيرًا للسخرية: «حاوِلِ العثور على حبلٍ إن استطعت يا جِرفيس.»
لم يكن ذلك صعبًا في حقيقة الأمر؛ إذ كان أحد أركان المُختبَر يحتوي على عدة صناديق مربوطة بالحبال؛ فقطعت قطعتين طويلتين، ثم قيَّدت بإحداهما ذراعَي الرجل المُنبطِح أرضًا، وربطت بالأخرى ركبتَيه وكاحلَيه.
قال لي ثورندايك: «والآن، إذا تولَّيتَ إمساك يدَيه، سنُجري تفتيشًا أوَّليًّا. دعنا نرى أولًا ما إذا كان يرتدي حزامًا، أم لا.»
فكَّ أزرار صِدار الرجل ورفع القميص إلى أعلى، فكشف عن حزامٍ شبكي عريض على الطراز العسكري مُزوَّد بعدة جيوب جِلدية، وتحسَّس أغطية هذه الجيوب المُقفلة بأزرار، غير مُبالٍ بسيل التهديدات واللعنات الذي كان يُغدق من شفتَي ضحيتِنا المتورِّمتين. أنهى التفتيش في الجيوب الأمامية، ثم انتقل إلى الجيوب الخلفية ممرِّرًا يده الاستكشافية أسفل الجسد المتلوِّي.
ثم صاح فجأةً: «آه! اقلبه حالًا، وانتبِه لعقبَيه.»
دحرجنا أسيرنا وقلبناه على بطنه، وبينما كان ثورندايك «يسلخ الأرنب»، رأينا جيبًا في وسط الحزام، فدسَّ ثورندايك أصابعه فيه بعدما فكَّ زرَّه، وأضاف: «نعم، أظنُّ أن هذا ما نَبحث عنه.» ثم أخرج أصابعه، حاملًا بينها صرًّةً ورقيةً صغيرة من الورق الياباني المَطوي، فراقبته بإثارةٍ محمومة وهو يفكُّ هذه التغليفة الليِّنة طبقةً تِلو الأخرى. وبينما كان يبسط الطيَّة الأخيرة، لمحتُ بريقًا قرمزيًّا رائعًا أخبرني بأننا عثرنا على «الياقوتة الكبيرة».
قال ثورندايك وهو يحمل الجوهرة الرائعة في راحة يده: «أرأيتَ يا جِرفيس! انظر إلى هذا الشيء الجميل المشئوم المُحمَّل بشرورٍ كامنة لا تُعَد ولا تُحصى، واشكر الآلهة على أنه ليس مِلكك.»
غلَّفها مرةً أخرى بعناية، وبعدما دسَّها في جيبٍ داخلي، قال: «والآن، أعطِني المسدس، واركض إلى مكتب التليغراف، وحاول إيقاف ميلر إن استطعت؛ فأنا أودُّ أن يُنسَب إليه الفضل في ذلك.»
أعطيته المسدس، وشققت طريقي خارجًا إلى شارع «فيتر لين»، ثم نزولًا إلى شارع «فليت ستريت»، حيث أرسلت رسالتي العاجلة من مكتب البريد إلى مَقرِّ شرطة سكوتلانديارد في الحال. وفي غضون بضع دقائق، جاء الردُّ بأن المُشرِف ميلر لم يكن قد غادَر حتى ذلك الحين، وأنه توجَّه على الفور إلى «كليفورد إن». وبعد ذلك بربع ساعة، وصل إلى بوَّابة شارع «فيتر لين» في عربةٍ يجرُّها حِصان، فأخذته إلى الطابق الثاني، حيث عرَّفه ثورندايك إلى سجينه، وشهد الاعتقال الرسمي.
قال لي ثورندايك ونحن في طريق عودتنا إلى المنزل بعدما أعدنا المفتاح: «يبدو أنك لا تفهم كيف توصَّلت إليها. حسنًا، لستُ مُتفاجئًا؛ فقد كان الدليل الأوَّلي ضعيفًا للغاية، ولم يكتسب أهمية إلا بتأثيرٍ تراكمي. لنُعِدْ بناءه مِثلما تَراكَم تدريجيًّا.
كانت القبَّعة المتروكة هي نقطة البداية بالطبع؛ فأول ما لاحظته فيها أنها قد بدت مِلكًا لرجلَين؛ فلا يوجد رجلٌ سيَشتري قبعةً جديدة غير مُناسبة لحجم رأسه بهذه الدرجة التي تجعلها في حاجة إلى كل هذا الحشو، وكانت وضعية ترتيب هذا الحشو تُشير إلى أن رجلًا طويل الرأس يعتمر قبعةً كان يملكها رجلٌ قصير الرأس. وبعد ذلك جاءت التلميحات التي قدَّمتها قصاصات الورق؛ إذ كان العنوان المتقطِّع يُشير إلى مكانٍ ينتهي اسمه بحرف اﻟ «ن»، وكان واضحًا أن بقية العنوان هي «لندن، دبليو سي» والآن، ما الأماكن التي تقع في حي «وست سنترال» وينتهي اسمها بحرف اﻟ «ن»؟ لم يكن شارعًا ولا ميدانًا ولا ساحة، ومنطقة «باربيكان» لا تقع في حي «وست سنترال»؛ ولهذا فقد كان من شِبه المؤكَّد أنه أحد المجمَّعات السكنية الستة المُتبقية التي ينتهي اسمها بكلمة «إن» في مجمعات «إنز أوف كورت» أو مجمعات «إنز أوف تشانسري»، لكنه بالطبع كان من المُمكن ألا يكون عنوان صاحب القبعة.
وكانت القصاصة الورقية الأخرى تحمل نهاية كلمة تنتهي ﺑ «يل»، وكلمة أخرى تنتهي ﺑ «اسة»، وكانت هاتان الكلمتان مرتبطَين بكميَّتين مذكورتَين بالأوقيات ووزن البنس الترويسي، لكنَّ الأشخاص الوحيدين الذين يستخدمون وحدات الوزن الترويسي هم أولئك المُشتغلون بالمعادن النفيسة؛ ومن ثَم فقد استنتجت أن «يل» كانت جزءًا من «ليميل»، وأن «اسة» كانت جزءًا من «كِناسة الأرضية»، وما دعَّم هذا الاستنتاج هو الكمِّيات المعنية المذكورة: ثلاث أوقيات، وخمس وحدات وزن بنس ترويسي من الليميل، وتسع أوقيات ونصف من كناسة الأرضية.»
فسألته: «وما هو الليميل؟»
«إنه الاسم التجاري لبُرادة الذهب أو الفضَّة التي تتجمَّع في «جِلد» مقعد صانع المُجوهَرات. أمَّا كناسة الأرضية، فهي الغبار الذي يُكنَس من على أرض وِرش صُناع المُجوهَرات أو الصاغة بالطبع. ويُعَد الليميل معدنًا حقيقيًّا، وإن لم يكن على درجةٍ موحَّدة من النعومة، أما الكناسة فهي خليطٌ من الغبار والمعادن، وكلاهما يُحفَظ ويُرسَل إلى خبراء التكرير لاستخراج الذهب والفضة منهما.
إذن، فإما أن هذه الورقة كانت مُرتبِطة بأحد صاغة الذهب أو أحد مُكرِّري الذهب، الذي قد يُطلِق على نفسه خبير مُقايسة أو خبير معادن. وما دعَّم هذا الارتباطَ هو القصاصةُ التي كانت تحمل قائمةً بأسعار مواقد الغاز؛ فمن دأب خبير المعادن أن يُداوم على الاحتفاظ بقوائم مَواقد الغاز والأفران. وقد أعطتنا آثار الرصاص التي وُجِدت في الغبار المُستخرَج من القبعة خيطًا آخر يؤدي إلى الاتجاه نفسه؛ لأن الذهب الذي يُقايَس بالمُعالجة الجافَّة يُصهَر في فرن البوتقة مع الرصاص، ولأن الرصاص يتأكسد والأكسيد يتطاير، فغالبًا ما تظهر في الغبار المترسِّب في المختبَر آثار رصاص.
وكانت الخطوة التالية التي يتوجَّب أخذها هي الاستعانة بالدليل، وحين فعلت ذلك لم أجد أي صائغ ذهب في أيٍّ من مجمَّعات «إن»، ووجدت خبيرَ مقايسة واحدًا فقط، هو السيد هايلي، في «كليفورد إن»؛ ومن ثَم فقد أشارت الاحتمالات، بالرغم من ضآلتها، إلى وجودِ صلةٍ ما بين هذه القبعة الضالَّة والسيد هايلي. وكانت هذه هي المعلومة الوحيدة الأكيدة لدينا حين خرجنا عصر اليوم.
بالرغم من ذلك، فحالَما وصلنا إلى «كليفورد إن»، بدأ الدليل يتضخَّم مثلَ كرةٍ ثلجية مُتدحرجة؛ فأولًا: جاء الإسهام الذي قدَّمه لنا لاركن، ثم اكتُشفت القبعة المفقودة. وفورَ أن رأيت تلك القبعة آنذاك، وقعت شكوكي على الرجل الموجود في الطابق العُلوي؛ إذ شعرت يقينًا بأن القبعة قد تُركت هناك عمدًا، وأن الرسالة التي أُرسلت إلى لاركن كانت طُعمًا مُضلِّلًا لخلق خيط زائف يقودنا إلى سراب، غير أنَّ وجود تلك القبعة قد أكَّد الدليل الآخر تمامًا؛ إذ بيَّن أن الصلة الظاهرية كانت صلةً حقيقية.»
سألته: «ولكن ما الذي جعلك تشكُّ في الرجل الموجود في الطابق العلوي؟»
صاح قائلًا: «عزيزي جِرفيس! تأمَّلِ الحقائق. لقد كانت هذه القبعة كافية لشَنقِ الرجل الذي تركها هناك، فهل تتصوَّر أن ذلك الشرير المتيقِّظ الداهية قد يرتكب خطأً أحمق كهذا؟ أيرحل ويترك دليل إدانته ليجده أي أحد؟ لكنك نسيت أنه بالرغم من عثورنا على القبعة المفقودة في الطابق الأول، كانت قبعة القاتل مرتبطةً بالطابق الثاني؛ فقد كان الدليل يُشير إلى أنها قبعة هايلي. والآن، قبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية، دعني أذكِّرك ببصمات الأصابع تلك. لقد ظنَّ ميلر أن مَظهرها الضبابي كان بسبب السطح الذي تُركت عليه، لكن ذلك لم يكن صحيحًا، بل كانت بصمات شخص مُصاب بالسُّماك أو الصدفية الراحيَّة أو الْتهاب الجِلد الجاف.
وتوجد نقطةٌ أخرى أيضًا، وهي أن الرجل الذي كنا نبحث عنه قاتل؛ أي أن حياته كانت هالكةً بالفعل؛ ومن ثَم فإقدامُ رجلٍ كهذا على جريمة قتل أخرى لن يُحدِث أيَّ فارق له تقريبًا. وإذا كان هذا الرجل، بعدما وضع الطُّعم المُضلِّل، قد اعتزم أن يلوذ إلى غرفة هايلي، فمن المرجَّح أنه قد تخلَّص من هايلي بالفعل. ولتتذكرْ أن أي خبير معادن لديه وسائل لا مَثيل لها للتخلُّص من جثَّة؛ فليس الأمر أن كل فرن من أفرانه اللافعة يُعَد بمثابة محرقة صغيرة للجثث فحسب، بل إن رفات الجثة المحترقة نفسه — أي رماد العظام — من المواد المستخدمة في مهنته.
وحين صعدنا إلى الطابق العلوي، كان أول ما فعلته أنني تفحَّصت قراءة عدَّاد الغاز، وتيقَّنت من أن كميةً كبيرة من الغاز قد استُخدمت مؤخرًا، ثم انتهزت الفرصة حين دخلنا لمصافحة السيد شيروود، فأدركت فورًا أنه مُصابٌ بسُماكٍ حاد. وقد كان هذا أول ما أكَّد صحة ظنوني. وقد اكتشفْنا بعد ذلك أنه لم يستطع التمييز في الواقع بين بيريت الحديد والكوارتز المحتوي على الذهب؛ أي إنه لم يكن خبيرَ معادن على الإطلاق، بل مُتنكِّر، ثم إنني وجدت أن رماد العظام الموجود في الحوض مختلطٌ بفتاتٍ من عظمٍ مُكلَّس، ورأيت فتاتًا مُشابهة لها في جميع البوتقات. وقد رأيت أيضًا في أحدها جزءًا من تاجِ سِنٍّ. وقد كان هذا من حسن الحظ فحسب، لكن لاحِظْ أنني بحلول ذلك الوقت كنت أملك ما يكفي من الأدلة لتسويغ إلقاء القبض عليه. كل ما أسفر عنه السن أنه أوصل المسألة إلى أزمةٍ حرجة، وردُّ فعل الرجل على اتهامي الضمني قد وفَّر علينا عناءً مزيدًا من البحث عن أدلةٍ مؤيِّدة.»
فقلت له: «ما لا أعرفه تمامًا حتى الآن هو الموعد الذي تخلَّص فيه من هايلي، والسبب الذي دفعه إلى ذلك؛ فلا بد أن هايلي قد مات منذ بضعة أيام على الأقل؛ إذ تحوَّلت جثته بأكملها إلى رماد عظام.»
اتَّفق معي ثورندايك قائلًا: «بالتأكيد. أظنُّ أن سير الأحداث كان كالآتي: كانت الشرطة تبحث بحثًا حثيثًا عن هذا الرجل، ولا بد أن كل جريمة جديدة كانت تجعله أكثر عُرضةً لخطر الاعتقال؛ لأن المجرم لا يُمكنه التيقُّن أبدًا من أنه لم يُسقِط وراءه خيطًا يقود إليه. وبدأ يُصبِح ضروريًّا له أن يتخد بعض الترتيبات لمغادرة البلاد ويلوذ إلى مخبأٍ آمنٍ في أثناء ذلك تحسُّبًا لاحتمالية اكتشاف مكانه. وقد كانت غرفة هايلي مُمتازة لكلا الغرضَين؛ إذ كان يسكنها رجلٌ مُنعزل نادرًا ما يأتيه زائر، وكان من المستبعَد أن يشعر أحدٌ بغيابه فترةً طويلة، فضلًا عن أن الغُرفة تحوي الوسائل اللازمة للتخلُّص السريع والتام من الجثة. لقد كانت فعلة القتل بحدِّ ذاتها تفصيلةً تافهة لهذا الوحشي.
أظنُّ أن هايلي قد مات قبل أسبوع على الأقل، وأن القاتل لم ينتقل إلى مسكنه الجديد إلا بعد أن تحوَّلت الجثة إلى رماد. ونظرًا لوجود هذا الفرن الكبير مع الأفران الصغيرة، لم يستغرق ذلك وقتًا طويلًا. وحين صار المكان الجديد جاهزًا، نسج حيلة الاختفاء الوهمي ليُشتِّت الأنظار عن هروبه الفعلي لاحقًا، ولا بد أنك ترى التضليل التام الذي كان هذا الاختفاء الوهمي سيُحدِثه؛ فلو كانت الشرطة قد عثرت على هذه القبعة في الغُرفة الفارغة بعد أسبوعٍ واحد فقط، لصارت متيقنةً من أنه هرب إلى أحد موانئ بحر البلطيق، وبينما كانت ستتعقَّب خط سيره المُفترَض، كان سيُصبح بإمكانه السفر خارج البلاد عَبر ميناء «فولكستون» أو ميناء «ساوثهامبتون» بكل ارتياح.»
«أتظنُّ إذن أنه كان قد انتقل لتوِّه إلى غرفة هايلي؟»
«أظن أنه انتقل إليها الليلة الماضية؛ فالأرجح أن القاتل قد خطَّط لقتل بيرامجي بناءً على بعض المعلومات التي عرفها عنه، وحالَما نفَّذ جريمته، بدأ على الفور في نصب خط السير المُضلِّل. وحين وصل إلى غرفته عصر أمس، لا بد أنه كتب الرسالة إلى لاركن وغادر فورًا إلى حي «إيست إند» لإرسالها بالبريد. ومن المرجَّح أنه قد قام بقصِّ شعره الكثيف، وحلق لحيته وشاربه بعد ذلك — مما أعجَز لاركن عن معرفة هُويته الحقيقية — وانتقل إلى غرفة هايلي، التي كان سيُغادرها بهدوءٍ تام في غضون بضعة أيام ليشقَّ طريقه إلى قارة أوروبا. وقد كانت هذه خطةً مُحكَمة، ولولا أنه أخذ القبعة الخاطئة سهوًا، كان من شِبه المؤكَّد أنه سينجح.»
في الثاني من أغسطس في كل عام، وبمواظَبة لا تفتر، صار يصلنا إلى مكتبنا في المبنى رقم «٥ إيه» في «شارع كينجز بنش ووك» صندوقٌ كبير من خشب الصندل المنحوت مُمتلئ بأفضل سيجار تريتشنوبولي، ومصحوب برسالةٍ مُحِبة من زبوننا السابق السيد بيرامجي؛ ذلك أن الثاني من أغسطس يُوافق الذكرى السنوية لوفاة كورنيليوس بارنيت، المعروف أيضًا بلقب «أبو هول نيوجيرسي» (في حجرة الإعدام في سجن «نيوجيت»).