المحك
كان يحدث أحيانًا أن تُلزِم مقتضيات المهنة صديقي ثورندايك بإجراء تحقيقات هي أنسَب لنطاق اختصاص الشرطة؛ ذلك أن المشكلات التي كانت تنشأ ضِمن العواقب الثانوية لفعلٍ إجرامي لم تكُن تُحَل عادةً إلا عند توضيح ملابسات هذا الفعل تمامًا، وتحديد هوية الفاعل أيضًا. ومن بين هذه النوعية من المشكلات، كانت مشكلة اختفاء وصية جيمس هاروود، والتي عرَضها علينا صديقنا القديم السيد مارشمونت حين زارنا وفق موعد سابق بمرافقة العميل الذي تحدَّث عنه في مذكِّرته.
كانت عقارب الساعة تُشير إلى تمام الساعة الرابعة حين وصل المُحامي إلى مكتبنا، وحين أذِنت له بالدخول، أدخل رجلًا يبدو عليه نبل المَحتد، في الخامسة والثلاثين من عمره تقريبًا، وقد عرَّفه إلينا بأنه السيد ويليام كروهورست.
قال بنظرةٍ مستحسَنة حين لمح صينية الشاي على المنضدة: «سأبقى فقط حتى أحتسي كوبًا من الشاي معكما وأمنحكما نبذةً عامة عن القضية، لكنني سأرحل بعد ذلك وأترك السيد كروهورست يسرد التفاصيل.»
جلس على كرسيٍّ مُريح على مقربةٍ من الطاولة، وبينما كان ثورندايك يصبُّ الشاي، ألقى نظرةً خاطفة على بضع ملاحظات مكتوبة بخطٍّ عشوائي على ورقة.
استهلَّ الكلام وهو يُقلِّب الشاي بعناية، قائلًا: «أعتقد أن هذه القضية ميئوسٌ منها. وبالرغم من أنني قد عرضت القضية عليك، فليس لديَّ أيُّ أمل في أنك ستستطيع مُساعدتنا.»
فعلَّق ثورندايك قائلًا: «عقليةٌ رشيدة للغاية. آمُل أن تكون هي العقلية التي يتحلَّى بها عميلك أيضًا.»
قال السيد كروهورست: «إنها كذلك بالفعل، بل أرى أن تحقيقك في القضية سيكون مضيعةً لوقتك، ولعلَّك سترى هذا أيضًا حين تسمع التفاصيل.»
قال ثورندايك: «حسنًا، لنسمع التفاصيل؛ فالقضايا الميئوس منها تتَّسم على الأقل بتلك النوعية المُحفِّزة من الصعوبة؛ فلتُخبرنا بنبذتك يا مارشمونت.»
بعدما شرب المُحامي آخر جرعة في كوبه، ودفعه إلى الصينية لإعادة ملئه، ألقى نظرةً على ملاحظاته، وقال: «إن أبسط طريقة لعرض المشكلة هي تقديم سرد موجَز للأحداث التي أسفرت عنها، وهي كالآتي: في الساعة الثانية إلا الربع من عصر أوَّل أمس، أي يوم الإثنين الماضي، وقَّع السيد جيمس هاروود على وصية في بيته بمنطقة «ميربريدج» التي تبعُد حوالَي ميلَين عن بلدة «ويلزبري». وكان الحاضرون أربعة: اثنان من خُدَّامه وقَّعا شاهدَين، والمُستفيدان الرئيسيان؛ وهما السيد آرثر باكسفيلد، ابن شقيق الموصي، وصديقنا الحاضر معي هنا السيد ويليام كروهورست. كانت الوصية مكتوبة بخط يد الموصي على صفحتَين من ورق الرسائل. وحين وقَّع الشاهدان، كانت الوصية مُغطَّاة بورقةٍ أخرى لم تكشف إلا عن المكان المخصَّص للتوقيع؛ أي إن الوصية لم يقرأها أيٌّ من الشاهدَين ولا أيٌّ من المُستفيدين، وما أعرفه أن أحدًا لم يكن يعرف بنودها الفعلية سوى الموصي نفسه، وإن كان السيد هاروود قد أوضح مضمونها العام للمُستفيدَين بعدما غادَر الخادمان الغرفة.»
سأله ثورندايك: «وما كان مضمونها العام؟»
أجاب مارشمونت: «بوجهٍ عام، قسَّمت التركة إلى جزأين متفاوتَين جدًّا بين السيد باكسفيلد والسيد كروهورست. كانت توجد بعض الموروثات الصغيرة التي لا يعرف أحدٌ كمياتها ولا أسماء وارثيها المذكورين في الوصية. وهي تُوصي أيضًا بمنح السيد باكسفيلد ألف جنيه إسترليني لتمكينه من دخول شراكة بالمال أو إنشاء مصنع صغير — فهو يمتهن صناعة القبعات اللبادية — وتُوصي بالباقي لكروهورست الذي عُيِّن وصيًّا على تنفيذها ووارثًا لبقية التركة. أما مقدار بقية التركة، فهو غير معروف بالطبع؛ لأننا لا نعرف عدد الموروثات ولا مقاديرها.
وبعد وقتٍ قصير من توقيع الوصية، انفضَّ الجمع حين طواها السيد هاروود، ووضعها في محفظةٍ جِلدية دسَّها في جيبه، قائلًا إنه ينوي أخذها فورًا ليُودِعها لدى مُحاميه في ويلزبري. وبعدما رحل ضيفاه ببضع دقائق، شاهَده أحد الخُدام يُغادر البيت، ثم رآه أحد الجيران يسير على طول مَمشى يمتدُّ عبر غابة صغيرة، ثم يلتقي بالطريق الرئيسي على بُعدِ حوالَي ميل ورُبع من ويلزبري. ومنذ ذلك الحين، لم يُرَ حيًّا مرةً أخرى؛ فهو لم يزُر المُحامي قط، ولم يرَه أحدٌ في ويلزبري أو بالقرب منها أو في أي مكان آخر.
ولأنه لم يعُد إلى منزله في تلك الليلة، شعُرت مُدبِّرة منزله (إذ كان أرمل وبلا أبناء) بقلقٍ شديد، واتصلت بالشرطة في الصباح. شُكِّل فريق بحث، واتَّبعوا الممرَّ الذي شُوهد فيه آخر مرة وصولًا إلى الغابة — التي تُعرَف باسم «جيلبرتس كوبس» — ومشَّطوها، وهناك، في قاع محجر طباشير قديم، وجدوه جثَّةً هامدة بجمجمةٍ مكسورة وعُنقٍ مخلوع. لا يعرف أحدٌ حتى الآن كيفية تعرُّضه لهذه الإصابات، لكن لأن كل الأشياء الثمينة قد سُرقت من الجثة، بما فيها ساعة يده وحافظة نقوده وخاتم ألماس والمحفظة التي تحوي الوصية، يوجد شكٌّ قويٌّ بالطبع في أنه قُتِل، غير أن هذا ليس شُغلنا الشاغل حاليًّا، أو على الأقل ليس شغلي الشاغل، بل ما يشغلني هو الوصية، التي اختفت كما ترى، ولأن الذي أخذها قد يكون لصًّا يُشتبه في ارتكابه جريمة قتل حسب ما يبدو، فمن المستبعَد أن تُرَد.»
قال السيد كروهورست: «من شِبه المؤكَّد أنها أُتلِفت تمامًا بحلول وقتنا هذا.»
اتَّفق معه ثورندايك قائلًا: «يبدو ذلك مُرجَّحًا بالتأكيد، لكن ما الذي تريدني أن أفعله؟ لا أعتقد أنك قد أتيت لمعرفة الرأي القانوني في هذه المسألة؟»
أجاب مارشمونت: «لا؛ فأنا أعرف الموقف القانوني تمامًا، وأستطيع القول إنه في ظل افتراض أن الوصية قد أُتلِفت، يجب تنفيذ رغبات الموصي بقدر المعروف منها، غير أنني أشكُّ في الرأي الذي قد تتَّخذه المحكمة؛ إذ ربما تُقرِّر أن رغبات الموصي غير معروفة، وأن بنود الوصية غير مؤكَّدة على الإطلاق بما لا يسمح بتنفيذها.»
سأله ثورندايك: «وما تأثير ذلك القرار؟»
قال مارشمونت: «في تلك الحالة، ستُصبح التركة كلها من نصيب باكسفيلد؛ لأنه أقرب الأقرباء، ولا توجد وصيةٌ سابقة.»
«وما الذي تُريدني أن أفعله؟»
ضحك مارشمونت بشيء من تقليل قيمة الذات، وقال: «عليك أن تدفع ضريبة قدراتك الخارقة يا ثورندايك. إننا نطلب منك أن تفعل شيئًا مستحيلًا، لكننا في الحقيقة لا نتوقَّع أنك ستنجح في تحقيقه؛ فنحن نطلب منك أن تُساعدنا في استعادة الوصية.»
قال ثورندايك: «إذا كانت الوصية قد أُتلِفت تمامًا، فلا يُمكن استعادتها، غير أننا لا نعرف ما إذا كانت قد أُتلِفت أم لا؛ أي إن المسألة تستحق الاستقصاء على الأقل، وإذا كنت تريد منِّي أن أُحقِّق فيها، فسأُلبِّي رغبتك.»
نهض المُحامي بهيئةٍ تنمُّ عن ارتياحٍ واضح.
وقال: «شكرًا لك يا ثورندايك. أنا لا أتوقَّع شيئًا، أو أُهوِّن على نفسي بهذا القول على الأقل، لكن بوسعي الآن الاطمئنان إلى أن كل ما هو ممكن سيُبذَل. والآن، يجب أن أرحل، ويستطيع كروهورست أن يُعطيَك أي تفاصيل تُريدها.»
وحين غادَر مارشمونت، التفت ثورندايك إلى عميلنا وسأله: «ما الذي تظنُّ أن باكسفيلد سيفعله إذا ضاعت الوصية بلا رجعة؟ هل سيتشبَّث بحقِّه باعتباره أقرب الأقرباء؟»
أجاب كروهورست: «أعتقد أنه سيفعل ذلك؛ فهو يشتغل بمجال الأعمال والتجارة وحقوقه الطبيعية أكبر من حقوقي. ومن المستبعَد أن يرفض حقًّا يكفله له القانون. والحق أنني أعتقد أنه قد شعر بأن عمه قد ظلمه بالتصرف في التركة.»
«أكان هناك من سبب لهذا التغيير في مجرى التركة الطبيعي؟»
أجاب كروهورست: «حسنًا، كنت أنا وهاروود صديقَين حميمَين، وكان مَدينًا لي ببعض الديون، فضلًا عن أن باكسفيلد لم يستطع أن يحظى لنفسه بقَبولٍ كبير لدى عمه، غير أن السبب الأساسي في رأيي هو نزعة باكسفيلد القوية إلى المقامَرة؛ إذ خسر أموالًا طائلة بالرهان في سباقات الخيول، ولم يرغب رجلٌ حريصٌ مُقتصِد مثل هاروود في أن يترك مدَّخَراته لمُقامِر. وحتى الجنيهات الألف التي تركها لباكسفيلد، قد تُركت تحديدًا لغرض الاستثمار في العمل.»
«هل يعمل باكسفيلد في الوقت الحالي؟»
«أجل، لكنه لا يعمل لحسابه الخاص. إنه رئيس عُمال أو مدير ورشة أو شيء من هذا القبيل في مصنع خارج ويلزبري، وأظنُّه عاملًا بارعًا ويُتقِن الإلمام بمهنته.»
قال ثورندايك: «والآن، بخصوص وفاة السيد هاروود؛ فحسب ما يبدو، قد تكون الإصابات نتيجة حادث عرَضي أو اعتداء بهدف القتل، فما احتمالات وقوع حادث، بصرف النظر عن السرقة؟»
«أرى أنها قوية جدًّا؛ فهذا مكانٌ خطر للغاية؛ إذ يمتدُّ المَمشى بالقرب من حافة محجر طباشير مهجور جوانبه عمودية أو معلَّقة، والحافَّة مُستترة بشُجيرات وأعشاب؛ أي إن أي شخص يسير هناك غافلًا قد يسقط من فوق تلك الحافَّة بسهولة أو يُدفَع من فوقها أيضًا.»
«هل تعلم متى سيُجرى التحقيق؟»
«نعم، بعد غد. لقد تلقَّيت صباح اليوم استدعاء حضور التحقيق في الثانية والنصف من عصر الجمعة في مبنى بلدية ويلزبري.»
في هذه اللحظة، سمعنا صوت خطوات تصعد الدَّرَج على عجَل، ثم تلقَّى بابنا طَرقًا صاخبًا آمرًا. انطلقت عبر الغُرفة لأرى من يكون الطارق، وحين فتحت الباب بقوةٍ اندفع السيد مارشمونت إلى الداخل لاهثًا ومُلوِّحًا بصحيفة في يده.
صاح قائلًا: «ثَمة تطورٌ جديد في القضية. لا يبدو أنه يُسعفنا كثيرًا، لكني رأيت أن الأفضل أن تعرف بشأنه فورًا.» جلس وارتدى نظارته وبدأ يقرأ الآتي بصوتٍ عالٍ: «معلومات جديدة وغريبة بشأن لُغز وفاة السيد هاروود، الذي عُثر على جثَّته أمس في محجر طباشير مهجور بالقُرب من «ميربريدج»؛ فقد شهد يوم الإثنين، وهو اليوم الذي شهد مقتل السيد هاروود على الأرجح، انزلاق أحد الركَّاب وسقوطه بين القطار والرصيف حين كان ينزل منه في محطة تحويلة «باروود». انتُشل بعد ذلك سريعًا ونُقِل إلى المستشفى المحلي؛ إذ كان من الواضح أنه قد تعرَّض لإصاباتٍ داخلية، وقد اتَّضح بالفعل أنه مُصاب بكسرٍ في الحوض. قال إن اسمه توماس فليتشر، لكنه رفض ذكر أي عنوان له، قائلًا إنه بلا أي أقرباء، ثم تُوفي صباح اليوم. وفي أثناء تفتيش ملابسه بحثًا عن أي عنوان، عُثِر في جيبه على صُرَّة من منديلين مربوطين برِباط. وحين فُتِحت، وُجِد أنها تحوي خمس ساعات يد، وثلاثًا من سلاسل ساعات، ودبوس رابطة عنق، وعدة أوراق نقدية. وقد عُثِر في الجيوب الأخرى على كمية من العملات المعدنية الذهبية والفضية، وإحدى بطاقات سباقات «ويلزبري ريسز»، التي أقيمَت يوم الإثنين. وقد اتَّضح أن إحدى الساعات الخمس هي الساعة المسروقة من السيد هاروود، وأن الأوراق النقدية كانت ضِمن رزمة أعطاه إيَّاها صرَّاف بنكه في ويلزبري يوم الخميس الماضي، وأغلب الظن أنه كان يحملها في محفظته الجِلدية التي سُرِقت من جيبه. وقد عُثِر أيضًا على هذه المحفظة فارغةً في الليلة الماضية على جسر السكة الحديدية خارج محطة ويلزبري مباشرةً؛ وبهذا فإن الشواهد الظاهرية تُشير إلى أن ذاك الرجل، فليتشر، حين كان في طريقه إلى السباقات، صادَف السيد هاروود في الغابة الصغيرة المهجورة، وقتله وسرقه، أو ربما وجده ميتًا في محجر الطباشير وسرق المتعلقات من الجثة، غير أن الإجابة القاطعة على هذا التساؤل قد صارت الآن في طيِّ الغيب إلى الأبد على الأرجح.»
وحين انتهى مارشمونت من القراءة، نظر إلى ثورندايك وقال: «هذا لا يُسعِفنا كثيرًا، أليس كذلك؟ فبما أن المحفظة قد وُجِدت فارغةً، بات من شِبه المؤكَّد أن الوصية قد أُتلِفت.»
فقال ثورندايك: «أو ربما رُمِيت بعيدًا فحسب. وقد تظهر في هذه الحالة إذا نشرنا إعلانًا عن مكافأةٍ كبيرة لمن يجدها.»
هزَّ المُحامي كتفَيه مُشكِّكًا، لكنه وافق على نشر الإعلان، ثم استدار ليَرحل مرةً أخرى. ولمَّا لم يكن لدى السيد كروهورست أيُّ معلوماتٍ أخرى ليُقدمها، فقد رحل مع مُحاميه.
جلس ثورندايك لبعض الوقت بعد رحيلهما أمام مسودات ملاحظاته الموجزة صامتًا يتفكَّر بعمق، وتحلَّيت أنا أيضًا بالصمت الحكيم؛ إذ كنت قد عرفت من واقع خبرتي الطويلة أن ذاك الوضع الساكن والوجه الصامت الجامد هي أماراتٌ خارجية تدلُّ على عقلٍ مُنهمِك في عملٍ سريع شاق، وأدركت بالغريزة أن ثورندايك كان يُنظِّم حينها أركان هذه القضية الفوضوية ويُرتبها ترتيبًا منطقيًّا في صمت، وأنه كان كلاعب شطرنج بارع «يتخيَّل التحركات في عقله ويُجربها» قبل أن يضع يده على القِطع.
رفع رأسه بعد فترة قصيرة، وسألني: «حسنًا. ما رأيك يا جِرفيس؟ أتستحق هذه القضية العناء؟»
أجبته قائلًا: «هذا يتوقَّف على وجود الوصية من عدمه؛ فإذا كانت قد أُتلِفت، فسيكون التحقيق مضيعةً لوقتنا وأموال زبوننا.»
اتَّفق معي قائلًا: «نعم، لكن يوجد احتمالٌ كبير في أنها لم تُتلَف؛ فربما وُضِعت في المحفظة بغير إحكام، أو قد أُخِذت ورُمِيت بعيدًا قبل تفحُّص المحفظة، غير أننا لا يجب أن نركِّز كثيرًا على الوصية. وإذا تولَّينا القضية — وهذا ما أميل إلى فعله — فيجب أن نتيقَّن من التسلسل الفعلي للأحداث. لدينا يومٌ كامل واحد قبل التحقيق. وإذا هرعنا إلى «ميربريدج» غدًا ومشَّطنا المنطقة، ثم انتقلنا إلى بلدة «باروود» واكتشفنا كلَّ ما نستطيع معرفته عن الرجل المدعو فليتشر، فقد نستنير بضوءٍ ما من الشهادات التي سيُدلى بها في التحقيق.»
وافقتُ بلا تردُّد على اقتراح ثورندايك، ولا يعني هذا أنني استطعت تخيُّل أي خيط قد يُرشدنا في حل القضية، لكنني شعرت بقناعةٍ ما بأن زميلي قد استخلص حقيقةً مهمة معيَّنة، ويُبطِن في عقله خيطًا محددًا يعتزم اتباعه في عملية التحقيق. وقد تعمَّقت هذه القناعة حين وضع حقيبة استقصاءاته، في وقتٍ لاحق من مساء اليوم، على المنضدة، وأعاد ترتيب محتوياتها بغرضٍ واضح في نفسه. راقبتُ الجهاز الذي كان يحزمه ويضعه فيها بفضول، وحاولت — بلا جدوى — تخمين طبيعة الاستقصاء الذي يعتزم إجراءه. كان الغرض من صندوق شمع البارافين المسحوق والحملاج الكحولي واضحًا لي تمامًا. أما الأدوات الأخرى التي رأيته يضعها في الحقيبة بعنايةٍ متأنِّية، مثل شفَّاط الغبار — وهو جهازٌ أشبه بمكنسةٍ كهربائية صغيرة — والمجهر المحمول، وحبل «مانيلا» الملفوف والمجدول من أحد طرَفَيه، ولا سيَّما ذلك العدد الهائل من الشرائح المجهرية التي تحمل ملصقاتٍ بيضاءَ فارغة، فلم أستطع فَهْم غرضه منها على الإطلاق.
وفي حوالَي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ترجَّلنا من القطار في محطة «ويلزبري»، وبعدما استعدنا درَّاجتَينا من عربة الأمتعة، دفعناهما عبر حاجز التذاكر وركبناهما. وكنا قد درسنا في رحلة القطار أحد خرائط هيئة المساحة للمنطقة ذات مقياس يبلغ بوصةً واحدة لكل ميل، حتى شعرنا وكأننا في مكانٍ مألوف لنا، وكنا في غنًى عن سؤال سكانها عن الاتجاهات. وبينما كنا نجوب البلدة على درَّاجتَينا، لمحنا الطريق الجانبي الواسع الواقع على يسارنا والمؤدِّي إلى مضمار السباق، ثم واصلنا السير بدرَّاجتَينا بسرعة لمسافة ميل واحد؛ فوصلنا إلى المنطقة التي يلتقي فيها الممشى المؤدِّي إلى «ميربريدج» بالطريق. وهنا ترجَّلنا ورفعنا درَّاجتينا فوق مرقى سياج الممشى الخشبي، ثم تابعنا السير في الممشى نحو غابة صغيرة كنا نستطيع رؤيتَها أمامنا على قمة تلَّة منخفِضة.
علَّق ثورندايك بينما كنا نقترب من الغابة قائلًا: «من الغريب جدًّا أن يكون مثل هذا الممشى الجيد مهجورًا على هذا النحو؛ فأنا لم أرَ رُوحًا واحدة منذ أن تركنا الطريق.» ألقى نظرةً خاطفة على الخريطة حين بدأ المَمشى يدخل بنا إلى الغابة، وحين واصلنا السير حوالَي مائتَي ياردة، توقَّف وأسند دراجته إلى شجرة، وقال: «ينبغي أن يكون محجر الطباشير في مكانٍ ما هنا، وإن كان من المستحيل رؤيته.» أمسك بعد ذلك بجذع إحدى الشُّجيرات الصغيرة التي تكاثفت حتى غطت الممشى وسحبها جانبًا، ثم صاح قائًلا:
«انظر إلى هذا يا جِرفيس. إنَّ ترك ممشًى عامٍ في مثل هذه الحالة فضيحةٌ بكل المقاييس.»
تأكَّد لنا هنا أن السيد كروهورست لم يكن يُبالغ؛ إذ كان المكان خطرًا للغاية. لقد كشفت الفروع التي فرَّق ثورندايك بينها عن هوَّةٍ يبلغ عمقها ما يقرب من ثلاثين قدمًا، ولم تكن حافتها، المستترة بالشجيرات، تبعُد عن حافَّة الممشى سوى بوصات قليلة.
قال ثورندايك: «من الأفضل أن نعود ونجد مدخل المحجر، والذي يبدو أنه على اليمين؛ فأول ما ينبغي لنا فعله هو التيقُّن تمامًا من الموضع الذي سقط فيه هاروود. ويُمكننا أن نعود بعد ذلك لتفحُّص المكان من الأعلى.»
عُدْنا إلى الوراء، وسرعان ما وجدنا مسارًا باهتًا تبعناه فانحدر بنا حتى أخرجنا إلى وسط المحجر. كان واضحًا أنه محجرٌ قديم؛ إذ اسودَّت جوانبه بفعل الدهر، وامتلأت أرضيته بأشجارٍ كبيرة. أسندنا درَّاجتَينا إلى إحدى هذه الأشجار، ثم سِرنا ببطء بمُحاذاة سفح الجرف العابس.
قال ثورندايك وهو يُلقي نظرةً خاطفة إلى الأعلى نحو الجدار الرمادي الذي برز من الأعلى بروزًا متدرِّجًا كأنه دَرجٌ قصير مقلوب: «يبدو أن هذا المكان يقع أسفل الممشى. من المُفترَض أن نجد بعض آثار المأساة في مكانٍ ما هنا.»
وبينما كان يتكلم، وقعت عيني على بقعةٍ بيضاء على كتلة من الطباشير، ورأيت على ذلك السطح المكسور حديثًا بقعةً حمراء تميل إلى اللون البُني. كانت تلك الكتلة تقع مُقابل فتحة كهف صناعي بدا أنه كان كُنَّة قديمة لعربات نقل الصخور، لكنه صار فارغًا، وكان يقع مباشرةً أسفل جزء من حافَّة الجُرف يمتدُّ في الهواء إلى مسافةٍ ملحوظة.
قال ثورندايك: «لا شكَّ أن هذا موضع سقوطه؛ إذ يُمكن رؤية المكان الذي وُضِعت في نقَّالة الإسعاف، والتي يبدو أنها نقَّالة من طرازٍ قديم ذات عجلات، ويوجد أيضًا في الأعلى موضع جزء صغير مكسور من أرضية حافَّة الممشى عند المكان الذي سقط منه. حسنًا، بصرف النظر عن السرقة، فإن السقوط الحر من ارتفاع يتجاوز ثلاثين قدمًا كفيلٌ بكسر الجمجمة. هلَّا بقيت هنا يا جِرفيس حتى أركض إلى الأعلى وأتفحَّص الممشى.»
انطلق نحو المدخل، وسرعان ما سمعته بالأعلى يُنحِّي الشجيرات جانبًا، وبعد سحبة أو اثنتين، ظهر فوق رأسي مباشرةً.
قال: «يوجد الكثير من آثار الأقدام على الممشى، لكني لا أجد فيها أي شيء غير طبيعي؛ لا علامات دهس ولا علامات صراع. سأتعمَّق قليلًا في الفحص.»
توارى خلف الشجيرات، وشرعت أنا في تفحُّص باطن الكهف، حيث لاحظتُ السقف الذي اسودَّ من تأثير الدخان وبقايا نار حديثة. وقد بدا أن هاتين الملحوظتين، إلى جانب عدد من عظام أرنب وغلاية شاي مهجورة من النوع الذي يستخدمه شخصٌ يمتهن التشرُّد، لا تخلوان من علاقةٍ محتملة بتحقيقنا. كنتُ مُنهمكًا مع هذه الأفكار حين سمعت ثورندايك يُناديني من الأعلى، وعندما خرجت من الكهف، وجدت رأسه محشورًا بين الأغصان. بدا أنه مُنبطح؛ إذ كان وجهه في مستوى قمة حافَّة الجرف تقريبًا.
صاح قائلًا: «أريد أن أرفع بصمةً. هلَّا أحضرت لي البارافين والحملاج؟ ويُستحسن أن تُحضِر الحبل أيضًا.»
هرعت إلى المكان الذي تركنا فيه درَّاجتَينا، وفتحت حقيبة أدوات الاستقصاء، وأخذت منها الحبل وعلبة شمع البارافين والحملاج الكحولي، وبعدما تيقَّنت من أن وعاء الحملاج كان مُمتلئًا، ركضتُ صاعدًا المنحدر، وشققت طريقي بطول الممشى. وبعد أن قطعت مسافةً ما، وجدت زميلي شِبه مُختفٍ بين الشجيرات، حيث كان مُنبطحًا على الأرض ورأسه فوق شفا الجُرف.
قال لي بينما كنت أزحف بجانبه، وأنظر من فوق شفا الجرف: «أترى يا جِرفيس؟ هذا دربٌ يمكن أن يؤدي إلى الأسفل، وقد استخدمه شخصٌ ما منذ وقتٍ قريب جدًّا. لقد هبط ووجهه باتجاه الجرف؛ إذ يُمكن رؤية بصمة مُقدِّمة حذاء في التربة الطفلية بهذا الجزء الناتئ، ويمكن حتى أن نُلاحظ وجود شكل صفيحة واقية حديدية كانت مُثبَّتة في مُقدِّمة الحذاء من الأسفل. المشكلة التي تُواجهنا الآن هي كيفية رفع البصمة دون إزاحة التربة فوقها. أعتقد أنني سأربط نفسي بالحبل.»
فقلت له: «إنها لا تستحقُّ المُجازَفة بالتعرُّض لكسرٍ في الرقبة؛ فمن المُرجَّح أن تكون بصمة قدم تلميذ ما.»
ردَّ قائلًا: «إنها قدم رجل. من المرجَّح جدًّا ألا يكون لها صلة بقضيتنا، لكنها قد تكون متصلة بها مع ذلك، ولأن المطر قد يطمسها إذا هطل، فيجب أن نرفعها.» وبينما كان يتكلم، مرَّر طرف الحبل عبر الفتحة المُضفَّرة في طرفه الآخر، وأنزل الحلقة الناتجة حول كتفَيه، وأحكَم رَبطها أسفل ذراعَيه. وبعدما ربط الحبل بإحكامٍ في جذع شجرة صغيرة، أنزل نفسه بحذرٍ من فوق شفا الجُرف، وهبط تدريجيًّا حتى وصل إلى الجزء الناتئ. وحالَما استقرَّت قدماه على موطئٍ آمن، مرَّرت الجزء الفائض من الحبل عبر الحلقة الموجودة على غطاء علبة الشمع وأنزلتها إليه، وحين حرَّرها من الحبل، سحبت الحبل إلى الأعلى، وأنزلت إليه الحملاج بالطريقة نفسها. وظللتُ بعد ذلك أُراقب إجراءاته المنهجية المُنظَّمة. في البداية، أخرج ما يُعادل ملء ملعقة من الشمع المسحوق، أو المبشور، ونثره برفقٍ كبير على بصمة مقدمة الحذاء حتى غطَّاها بطبقةٍ رقيقة مُتساوية السُّمك. بعد ذلك، أشعل موقد الحملاج، وحالَما بدأ اللهب الأزرق يُدوِّي من الأنبوب، وجَّهه إلى بصمة مقدمة الحذاء؛ فذاب المسحوق على الفور تقريبًا، وغطَّى البصمة بلمعان كأنه طبقة من الورنيش. أبعدَ ثورندايك اللهب، فتصلَّبت الطبقة الشمعية فورًا، وصارت باهتة ومُعتِمة. نثر عليها كميةً ثانية أكبر من المسحوق، وأتبعها باللهب مرةً أخرى؛ فازداد سُمْك طبقة الشمع، وأسفرت هذه العملية في النهاية، بعد تكرارها أربع مرات أو خمسًا، عن قالبٍ صلب. وحينئذٍ أطفأ ثورندايك موقد الحملاج، وبعدما ربطه هو والعلبة بالحبل، أمرني بسحبهما إلى الأعلى، وأضاف: «هلَّا تُنزِل إليَّ المنظار. يوجد شيءٌ أبعد في الأسفل لا أستطيع رؤية تفاصيله بوضوح.»
نزعت حقيبة المنظار عن كتفي، وبعدما فتحتها ربطتُ الحبل بحمَّالة المنظار الجِلدية، وأنزلته إلى أسفل الجرف، ثم ظللت أُراقب ثورندايك وهو يقف على موطئه العالي غير المستقر مُحدِّقًا عبر المنظار، الذي ينتمي إلى طراز «زايس» وتبلغ قوَّته المنشورية ثماني درجات، إلى أجمةٍ من زهور المنثور قد نبتت من كتلةٍ ناتئة من الطباشير تقع في منتصف الطريق إلى أسفل تقريبًا. وسرعان ما أنزل المنظار عن عينَيه، وبينما كان يُعلِّقه من حبله القصير حول رقبته، التفتَ إلى القالب الشمعي. كان قد أصبح صلبًا تمامًا بحلول ذلك الوقت، وبعدما تحسَّسه رفعه بحرص، ووضعه في حقيبة المنظار الفارغة، فسحبتها إلى الأعلى.
ناداني قائلًا: «أريد منك يا جِرفيس أن تُثبِّت الحبل. سأهبط نحو هذه الأجمة.»
بدت هذه الخطوة خطرةً للغاية، لكني كنت أعرف أن لا جدوى من الاعتراض؛ لذا ربطت الحبل حول جذع ضخم، وأحكمت قبضتي عليه للسيطرة على «السقوط».
صِحت قائلًا: «أنا جاهز.» فبدأ ثورندايك بالزحف عبر سطح الجرف مُشبِّثًا قدمَيه ويدَيه بنتوءاتٍ غير مرئية تقريبًا. ومن حسن الحظ أنه لم يكن يوجد في هذا الجزء أي نتوءات معلَّقة في الهواء بلا دعمٍ من الأسفل، ومع أن رُوحي بلغَت حلقومي وأنا أشاهده، فقد رأيته يجتاز المنطقة الخطرة بأمان. وحين وصل إلى أجمة الزهور، سحب ظَرفًا من جيبه، ثم انحنى والتقط شيئًا صغيرًا وضعه في الظرف، ثم أعاد الظرف إلى جيبه. وبعدها جعلني أمرُّ بخمس دقائق عصيبة أخرى وهو يُعيد عبور السطح شِبه الرأسي إلى النقطة التي انطلق منها، اجتاز هذه الخطوة أيضًا بأمان في النهاية. وحين صعد أخيرًا إلى فوق الحافة، ووقف بجواري على أرضٍ صلبة، تنفَّست الصُّعداء والتفتُّ لأسبَّه.
سألته مُتهكِّمًا: «حسنًا؟ ما الذي نِلتَه مقابل المجازَفة برقبتك؟ أهو نبات السَّمفاير أم نبات الإديلفايس؟»
أخرج الظرف من جيبه ودسَّ يده فيه، ثم أخرج حامل سجائر بدا عاجيًّا زهيدًا، وكان أسود ورطبًا ومزوَّدًا بيدٍ طويلة، وما يزال يحمل عقب سيجارة يدوية الصنع. أعطاني إيَّاه، فقلَّبته وشممته وأعدته إليه سريعًا، وقلت له: «عن نفسي، لم أكن لأُجازف حتى بالفقرة العنقية لسمكة سلور من أجل هذا. ما الذي تتوقَّع أن تعرفه منه؟»
«أنا لا أتوقَّع شيئًا بالطبع، وإنما نجمع الحقائق فقط تحسُّبًا لأن يتَّضح لاحقًا أنها متعلقة بالقضية؛ فهنا على سبيل المثال، نجد أن رجلًا ما قد هبط على بُعدِ بضع ياردات من موضع سقوط هاروود، وقد عبَر هذا الدَّرب الشديد الوعورة، بدلًا من أن يسلك المسار المُلتفَّ المؤدِّي إلى مدخل المحجر. لا بد أن سببًا ما قد دفعه إلى أن يهبط بهذه الطريقة المكروهة. ربما كان في عجلةٍ من أمره، ومن المرجَّح أنه من أهل المنطقة؛ لأن الغريب لن يعرف بوجود هذا الدرب المختصَر. ويبدو أيضًا أن هذا كان حامل سجائره على الأرجح. إنك إذا أمعنت النظر، ستُدرِك من هذه الخدوش الرأسية على الطباشير أنه قد انزلق، ولا بد أنه كاد يسقط أيضًا. ومن المرجَّح أنه قد أسقط حامل السجائر حينها؛ فأجمة الزهور تقع أسفل علامات مُقدِّمة حذائه مباشرةً، كما ترى.»
«ولماذا لم يستردَّ حامل السجائر يا تُرى؟»
«لأنَّ دَرب الهبوط ينحدر بعيدًا عن مكان الأجمة، ولأنه لم يكن معه «جِرفيس» يمكن الوثوق به يُمسِك حبلًا قويًّا ليُساعده في اجتياز هذا الفراغ. وإذا كان قد هبط عبر هذا الدرب لأنه كان في عجلةٍ من أمره، فمن المؤكَّد أنه لم يكن لديه وقتٌ للبحث عن الحامل. وحتى إذا لم يكن هذا الحامل حامله، فهو ما يزال مِلكَ شخصٍ آخر كان هنا مؤخرًا.»
«أيوجد أيُّ شيء يقودك إلى ربط هذا الرجل بالجريمة؟»
أجاب قائلًا: «لا شيء سوى الزمان والمكان؛ فقد هبط الرجل إلى المحجر بالقرب من المكان الذي سُرِق فيه هاروود، وربما قُتِل فيه أيضًا. ولمَّا كانت الآثار حديثة جدًّا، فلا بد أنه كان هناك بالقرب من وقت السرقة. هذا كل ما في الأمر. وأنا أفكِّر في هذا الرجل تحديدًا لعدم وجود آثار لأيِّ شخصٍ آخر، غير أننا يجب أن نُلقي نظرةً على الممشى أيضًا؛ إذ يحمل قدرًا كبيرًا من آثار الأقدام كما ترى.»
مشينا ببطء على طول الممشى باتجاه «ميربريدج» مُلازِمين الحواف ومُتفحِّصين السطح من كثب. وفي النُّقَر شِبه المستترة في الأرض، كانت التربة الطفلية الرخوة تحمل العديد من آثار الأقدام، وقد استطعنا أن نُميِّز من بينها أثَر حذاء ذي مُقدمةٍ مكسوَّة من الأسفل بصفيحةٍ حديدية واقية، لكنه كان شِبه مطموس ببصمةِ حذاءٍ آخر ذي نعلٍ مُرصَّع من الأسفل بمسامير.
قال ثورندايك وهو يلتفت مُعرِضًا عن تلك الآثار: «لن نحصل على كثير من المعلومات هنا. لقد داس فريق البحث الآثار المُهمَّة، فلنحاول معرفة المكان الذي ذهب إليه صاحب الحذاء ذي المُقدمة المكسوَّة من الأسفل بصفيحةٍ حديدية واقية.»
مشَّطنا الممشى على طول حافَّة محجر الطباشير المُجاورة لمدينة «ويلزبري»، لكننا لم نجد له أي أثر. نزلنا بعد ذلك إلى المَحجر، وبعد أن وجدنا الموضع الذي هبط فيه، بحثنا عن مخرجٍ آخر غير ذلك الدَّرب المؤدِّي إلى الممشى. وسرعان ما وجدنا عند مُنتصَف المسافة نحو أعلى المنحدر دَربًا ثانيًا يمتدُّ بعيدًا ناحية «ميربريدج». وبعدما اتبعناه ومشينا فيه لبعض الوقت، وصلنا إلى نُقرةٍ صغيرةٍ ذات قعرٍ مُوحِل. وهنا توقَّف كِلانا فجأةً؛ إذ رأينا أن الأرض الرطبة في القعر كانت تحمل بصماتٍ واضحةً لفردتَي حذاء كان مزوَّدًا، إلى جانب الصفيحتَين الواقيتَين أسفل مقدمته، بصفيحتين واقيتين نِصفيتين عند الكعبَين.
قال ثورندايك: «من الأفضل أن نصنع قالبين شمعيين لهاتين البصمتين كي نُقارنهما بحذاء ذاك الرجل المدعو فليتشر. سأصنعهما ريثما تعود وتُحضِر الدرَّاجتين.»
وحين عُدتُ بالدرَّاجتين، كانت بصمتان من بصمات الأقدام مغطَّاتَين بقالبَين شمعيَّين، وكان ثورندايك قد ترك الدَّرب، ووقف يُحدِّق بين الشجيرات؛ فسألته عمَّا يبحث عنه.
فأجاب قائلًا: «إنه أملٌ ميئوس من تحقيقه، كما قال مارشمونت، لكني أنظر لأرى ما إذا كانت الوصية قد أُلقِيت هنا؛ فثَمة احتمالٌ كبير بأن السارق تخلَّص منها فورًا، وهذا هو أرجح الدروب المحتملة التي يمكن أن يكون قد سلكها، إن كان يعرفه؛ فأنت ترى من الخريطة أنه يؤدِّي إلى مضمار السباق مباشرةً تقريبًا، ولا يمرُّ عبر الممشى أو الطريق الرئيسي. ربما يُستحسَن أن نتفقَّد المنطقة ريثما يجفُّ الشمع.»
بدا ذلك مَسعًى لا أمل منه، وقد وافقت عليه دون أي حماسة. وبعدما تركتُ الدرب وذهبت إلى الجانب المُقابل لهذا الذي كان يبحث فيه ثورندايك، تجوَّلت بين الشجيرات والفراغات الضيقة، وأنا أحدِّق فيما حولي وأذكِّر نفسي بذلك «الرجل الشديد الهرَم» الذي:
«كان يبحث أحيانًا في الرُّبى العُشبية،
عن آثار عجلات عربات تجرُّها الخيول.»
ظللتُ أتمشَّى ببطء باحثًا عن ضالَّتنا حتى عُدتُ تقريبًا إلى حيث رأيت ثورندايك، الذي كان عائدًا هو أيضًا، وحينها لمحت شيئًا بُنيًّا صغيرًا عالقًا بين أغصان إحدى الشجيرات. كانت حافظة نقود رجل مصنوعة من جلد الخنازير، وبينما كنت أنتزعها من بين الأغصان رأيتها مفتوحةً وخاوية.
هرعتُ حاملًا غنيمتي في يدي إلى حيث كان ثورندايك يرفع القالبَين الشمعيَّين؛ فرفع ناظرَيه نحوي وسألني: «لم تجدْها، أليس كذلك؟»
مددتُ إليه الحافظة التي انقضَّ عليها بلهفة، وصاح قائلًا: «لكن هذه مُهمَّة للغاية يا جِرفيس. من شِبه المؤكَّد أنها حافظة نقود هاروود؛ إذ يُمكننا أن نرى هنا الحرفين الأوليين «ج. ﻫ.» مدموغين على غطائها القلَّاب. لقد كنا مُحِقَّين إذن بشأن الاتجاه الذي سلكه السارق. وسيكون من المفيد أن نُمشِّط هذا المكان تمشيطًا شاملًا بحثًا عن الوصية، وإن كنا لا نستطيع ذلك الآن؛ لأننا يجب أن نذهب إلى بلدة «باروود»، لقد بعثتُ برسالة إخطار بأننا ذاهبون إلى هناك. من الأفضل أن نعود إلى الممشى حالًا، ونتوجَّه نحو الطريق. إن «باروود» لا تبعد عن هنا سوى نصف ساعة سيرًا بالدرَّاجة.»
حزمنا القالبَين في حقيبة أدوات الاستقصاء (التي كانت مربوطة بدرَّاجة ثورندايك بحزام)، ثم عُدنا وشققنا طريقنا نحو الممشى. ولأنه كان ما يزال مهجورًا، فقد هممنا بركوب الدرَّاجتين، وسرعان ما وصلنا إلى الطريق الذي انطلقنا فيه بسرعةٍ كبيرة نحو باروود.
أوصلتنا رحلتنا التي استغرقت نصف ساعة إلى شارع البلدة الصغيرة الرئيسي، وحين ترجَّلنا من درَّاجتَينا عند قسم الشرطة، وجدنا المأمور نفسه ينتظر في استقبالنا، وقد أبدى حماسته بلُطفٍ لمساعدتنا، غير أن الفضول قد تملَّك منه؛ مما كان مُزعجًا بعض الشيء.
قال: «لقد فعلت ما طلبته منِّي في رسالتك يا سيدي. جثَّة فليتشر في المشرحة بالطبع، لكني أحضرت كل ثيابه وأغراضه إلى هنا، وأمرت بوضعها في مكتبي الخاص؛ كي تستطيع تفقُّدها في راحةٍ تامَّة.»
فقال ثورندايك: «هذه بادرةٌ لطيفة للغاية منك، ومفيدة جدًّا أيضًا.» فكَّ حقيبة أدوات الاستقصاء من الدرَّاجة، وتَبِع الضابط حتى معتكَفه، حيث نظر حوله باستحسانٍ عميق؛ إذ وجد منضدةً كبيرة قد أُخليَت وهُيئت لإجراء الفحص عليها، وكانت ثياب النشَّال الميت وأغراضه مُرتَّبة بنظامٍ عند أحد طرَفَيها.
كان أول ما فعله ثورندايك أنه أمسك فردتَي حذاء الرجل الميت، اللتين كانتا أنيقتَين لكنهما من خامةٍ رديئة من الجلد البُنِّي الفاتح، وقد بَليَتا من عند الكعبين وتحتاجان إلى نعلَين جديدين. لم تكن مُقدِّمتاهما أو كعباهما يحملان أيَّ صفائح واقية إضافية أو مسامير سوى مسامير التثبيت الصغيرة. وبعدما أراني ثورندايك إيَّاهما دون تعليق، وضعهما على ورقةٍ بيضاء، ورسم إطار النعلين رسمًا تتبُّعيًّا بحرصٍ شديد، وقد بدا أن هذا التصرُّف أذهل المأمور؛ إذ علَّق قائلًا: «لم يخطُر ببالي أن مسألة آثار الأقدام ستظهر في هذه القضية؛ فلا يُمكن توجيه الاتهام إلى رجلٍ ميت.»
وافَق ثورندايك على كلامه قائلًا إنه يبدو صحيحًا، ثم شرع في إجراءٍ آخر جعل عينَي الضابط تجحظان من الدهشة؛ فبعد أن فتح حقيبة أدوات الاستقصاء — التي ألقى الضابط نظرةً فضوليةً خاطفة داخلها — أخرج شفَّاط الغبار، ثم أدخل فوَّهة خرطومه في جيوب اللص الميت واحدًا تِلو الآخر، بينما كنت أتولَّى تشغيل المضخَّة. وبعد أن أدخل الخرطوم فيها كلها، فتح وعاء تجميع المشفوطات، واستخرج منه كرةً كبيرةً بعض الشيء من الزغب المُترَّب. وضعها على شريحةٍ زجاجية، ومزَّقها إلى نصفين بإبرتين مزوَّدتين بمقبضٍ معدني، ومرَّر إلى أحد النصفين، فبدأ كلانا بالعمل على «ندفِ» كلٍّ من النصفين إلى نسيجٍ شبكيٍّ مُفرَّغ، ثم فصلنا أجزاءً منه ووضعنا كلًّا منها في بِركةٍ صغيرة من قطرات الجلسرين على الشرائح الزجاجية ذات المُلصقات البيضاء الفارغة، وغطَّينا كل شريحة بغطائها الزجاجي، ثم كتبنا على المُلصَق: «غبارٌ من جيوب فليتشر.»
وحين أتممنا الكتابة على كل المُلصقات، أخرج ثورندايك المجهر، وبعدما ركَّب عدسةً شيئية قياسها بوصةٌ واحدة، فحص الشرائح واحدةً تِلو الأخرى بسرعة، ثم دفع المجهر نحوي. وبقدر ما استطعت رؤيته، كان الغبار مجرد غبار عادي يتألَّف بصفةٍ أساسية من أليافٍ قطنية مُتكسرة وبضع ألياف من الصوف والكتان والخشب والخيش ومواد أخرى لم أستطع تحديد اسمها، وبعض الجسيمات المعدنية الأخرى التي لا يُمكن تمييزها، غير أنني لم أذكر أيَّ تعليق، وبعد أن تركت المجهر للمأمور الذي حدَّق من خلاله لاهثًا، وقال إن الغبار «يبدو غريب الشكل»، ظللت أُشاهد إجراءات ثورندايك التالية، وقد كانت إجراءاتٍ شديدةَ الغرابة.
في البداية، رصَّ الساعات الخمس المسروقة صفًّا، وتفحَّص قرصَ كلٍّ منها بدقة باستخدام عدسة «كودينجتون»، ثم فتح الغطاء الخلفي لكلٍّ منها بالترتيب، ونَسخ في مذكرته النقوش التي يخدشها مُصلِّحو الساعات عليها من الداخل. وبعد ذلك، أخرج من الحقيبة عدة قضبان صغيرة من المطاط المُقسَّى، ثم رصَّ خمس شرائح زجاجية مزوَّدة بمُلصقاتٍ فارغة، وأسقط قطرةً صغيرة من الجلسرين على كلٍّ منها، وغطَّاها فورًا بطبق مختبر زجاجي ليحميَها من الغبار المُتساقط. لصق مُلصَقًا صغيرًا على كل ساعة، وكتب رقمًا عليه، ورقَّم الشرائح الخمس أيضًا. وبعد ذلك، نزع زجاج الساعة الأولى، وأمسك أحد قضبان المطاط المُقسَّى، وفرَكه بسرعة على منديلٍ حريري، ومرَّره عبر قرص الساعة وحوله، ثم قرَّب القضيب إلى الجلسرين الموجود على الشريحة الأولى، ونقر عليه نقرًا عنيفًا بنصلِ سكين الجيب الخاص به. وبعد ذلك، وضع غطاءً زجاجيًّا على الجلسرين، وفحص العيِّنة بالمجهر سريعًا.
كرَّر هذا الإجراء على الساعات الأربع الأخرى، مُستخدِمًا قضيبًا جديدًا لكلٍّ منها، وحين انتهى من ذلك، التفت إلى المأمور الذي كان فاغرًا فاه، وقال: «أظنُّ أن الساعة ذات السلسلة المرتبطة بها هي ساعة السيد هاروود، أليست كذلك؟»
«بلى يا سيِّدي. لقد ساعدَنا ذلك في تمييزها من بين الساعات الأخرى.» فتأمَّل ثورندايك الساعة، التي كان يوجد في حلقتها مفتاحٌ صغير منمَّق مُعلَّق بشريطٍ أخضر قصير. أمسك صديقي هذا المفتاح، وأخذ إبرةً جديدة ذات مقبض معدني، وأدخلها في أسطوانة المفتاح، ثم سحبها منه حاملةً كرةً صغيرة من الزغب المُترَّب على طرَفها. فأعددت شريحةً زجاجية بسرعة وأعطيته إيَّاها، بينما قطع هو قطعةً من ذلك الزغب بمقصٍّ تشريحي، وتركها تسقط في الجلسرين. كرَّر هذا الإجراء البارع على شريحتين أُخريَين، وألصق بالشرائح الثلاث مُلصقاتٍ كتَب عليها: «المفتاح من الخارج» و«المنتصف» و«الداخل»، وفحصها بهذا الترتيب أسفل المجهر.
حين فحصت العيِّنات بنفسي، لم يُسفِر فحصي إلا عن أقل القليل؛ إذ بدت أنها لا تحمل سوى الغبار المُعتاد، وإن كان الغبار المأخوذ من وجه الساعة «رقم ٣» قد احتوى على بضع شذرات ممَّا بدا أنه شعر حيوان قد يكون قطة، وقد احتوى عليه أيضًا زغب المفتاح الموسوم بالملصق المكتوب عليه «من الخارج»، غير أنني لم أستطع تخمين دلالة ذلك، إن كان يحمل أي دلالة أصلًا. أما المأمور، فمن الواضح أنه كان يرى هذه الإجراءات برمَّتها على أنها ألعاب خفَّة ليس لها أي غرض واضح؛ ذلك أنه قال بينما كنا نحزم أغراضنا للرحيل: «لقد سُررتُ برؤية الطريقة التي تعمل بها يا سيدي، لكنني أظنُّ أنك تنفخ قِربةً مثقوبة؛ فنحن نعرف مُرتكب الجريمة، ونعرف أنه بعيدٌ عن طائلة القانون.»
قال ثورندايك: «حسنًا، يجب على المرء أن يقوم بعمله ليستحقَّ الأجر الذي يكسبه، كما تعرف. سأقدِّم حذاء فليتشر والساعات الخمس ضِمن الأدلة في التحقيق غدًا، وأطلب منك أن تترك المُلصقات على الساعات.» وودَّع المأمور اللطيف بشُكرٍ مُجدَّد ومُصافحةٍ ودِّية، وانطلقنا للحاق بالقطار المتجه إلى لندن.
في ذلك المساء، بعد العَشاء، أخرجنا العيِّنات وتفحَّصناها في وقت فراغنا، وأضاف ثورندايك عيِّنةً أخرى؛ إذ مرَّر قطعة من خيطٍ مفتول قد عقدها عبر حامل السجائر الذي انتشله من محجر الطباشير، وفصل المادة السوداء الكريهة التي خرجت على الخيط في جلسرين موضوع على شريحة، ثم مرَّرها إليَّ بعدما فحصها. وصحيحٌ أن السائل القاتم القطراني قد حجَب التفاصيل بعض الشيء، لكني استطعت رؤية شذرات من الشَّعر الحيواني نفسه الذي لاحظته في العيِّنتَين الأُخريَين، باستثناء أن تلك الشذرات كانت أكثر بكثير في هذه العيِّنة. ذكرت ملاحظتي لثورندايك قائلًا: «لا شكَّ في أنها أجزاء من شَعر حيوان من الثدييات، وهي تبدو من شَعر قطة. أهو شعر قطة؟»
أجاب ثورندايك باقتضاب: «أرنب.» وكم يُخجلني الاعتراف بأنني حتى ذلك الحين، لم أكن أفهم مغزى الاستقصاء الذي أجريناه.
كانت قاعة التحقيق في مبنى بلدية «ويلزبري» قد امتلأت قبل بضع دقائق من الوقت المحدَّد لاستهلال التحقيق، وفي ذلك الفاصل الزمني، حين خرج أعضاء هيئة المُحلِّفين من القاعة لمُعاينة الجثة في المشرحة المُجاورة، استعرضتُ الحاضرين. كان السيد مارشمونت والسيد كروهورست حاضرَين، وكذلك رجلٌ شابٌّ له مَظهر الفُرسان يرتدي بنطالًا قصيرًا من القماش المضلع وطماقًا خمَّنت أنه آرثر باكسفيلد، وكنت مُحقًّا بشأن ذلك. وكان صديقنا، مأمور «باروود»، حاضرًا أيضًا، وتبادل معه ثورندايك بضع كلمات في رُكنٍ مُنزوٍ. أما بقية الحضور، فقد كانوا غرباء عنِّي.
وحالَما جلس قاضي التحقيق وأعضاء هيئة المُحلِّفين في أماكنهم، استُدعي الطبيب الشاهد الذي ذكر أن سبب الوفاة كان خَلعًا في العُنق مصحوبًا بكسر في الجمجمة. وقال إن الكسر إما أن يكون قد نجم عن ضربة بسلاحٍ ثقيل أو سقوط المتوفَّى على رأسه، وتبنَّى هو الرأي الثاني؛ إذ أوضح الخلع أن المتوفَّى قد سقط بتلك الطريقة.
كان الشاهد التالي هو السيد كروهورست، وقد كرَّر لهيئة التحقيق ما قاله لنا، وأضاف عليه أنه ذهب إلى بيته مباشرةً بعدما غادَر بيت المتوفَّى؛ إذ كان مُرتبطًا بموعد مع صديق. شَهِد من بعده باكسفيلد، الذي أدلى بأقوالٍ ذات مضمونٍ مُماثل، وذكر أنه ذهب إلى محلِّ عمله في «ويلزبري» حين غادَر بيت المتوفَّى. همَّ بعد الإدلاء بشهادته بالعودة إلى مقعده، غير أن ثورندايك نهض ليستجوبه هو أيضًا.
وسأله: «متى وصلت إلى محل عملك؟»
فتردَّد الشاهد بضع ثوانٍ، ثم أجاب قائلًا: «في الساعة الرابعة والنصف.»
«ومتى غادرت بيت المتوفَّى؟»
فأجاب: «في الساعة الثانية.»
«وكم تبلغ المسافة بينهما؟»
«ميلَين تقريبًا في خط السير المباشر، غير أنني لم أسلك هذا الطريق المباشر، بل ذهبت عن طريق الأرياف المُجاورة لبلدة «لينفيلد».»
«من المؤكَّد أنك كنت قريبًا من مضمار السباق في طريق العودة؛ فهل ذهبت إلى السباقات؟»
«كلا، كانت السباقات قد انتهت للتَّو حين كنتُ عائدًا.»
خيَّم صمتٌ قصير ثم سأله ثورندايك قائلًا: «هل تُدخِّن كثيرًا يا سيد باكسفيلد؟»
بدا الشاهد مُتفاجئًا، وكذلك أعضاء هيئة المحلِّفين، لكن الشاهد أجاب قائلًا: «قدرًا مُتوسطًا: خمس عشرة سيجارة في اليوم تقريبًا.»
«ما نوع السجائر التي تُدخِّنها؟ وما نوع التبغ الذي تحشوها به؟»
«أصنع سجائري بنفسي، وأحشوها بالتبغ المفروم.»
وهنا سُمِعت همساتٌ احتجاجية من أعضاء هيئة المُحلِّفين، وعلَّق قاضي التحقيق بصرامة قائلًا: «لا يبدو أن هذه الأسئلة ذات صلةٍ كبيرة بموضوع هذا التحقيق.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «أرجو أن تعتبرها ذات صلةٍ مباشرة للغاية به يا سيدي.» ثم التفت إلى الشاهد وسأله: «هل تستخدم حامل سجائر؟»
فأجابه قائلًا: «أستخدمه أحيانًا.»
«هل فقدت حامل سجائر مؤخرًا؟»
نظر الشاهد إلى ثورندايك بعينَين مصعوقتين، وأجاب بعد بعض التردد: «أظنُّ أنني أضعتُ واحدًا منذ وقتٍ قريب.»
سأله ثورندايك: «متى فقدتَ هذا الحامل وأين؟»
أجاب باكسفيلد بينما اكتسى وجهه بشحوبٍ ملحوظ: «أنا … أنا لا أعرف حقًّا.»
ففتح ثورندايك حقيبته الرسمية، وأخرج منها الحامل الذي انتشله من محجر الطباشير بمجازَفةٍ كبيرة، ثم سلَّمه إلى الشاهد، وسأله قائلًا: «أهذا هو الحامل الذي فقدته؟»
وعند سماع هذا السؤال، صار باكسفيلد شاحبًا كجثةٍ هامدة، وراحت يده التي أخذ بها الحامل ترتعش وكأنَّ بها شللًا، ثم قال مُتلعثمًا: «ربما. لا أستطيع الجزم بذلك. إنه شبيهٌ بذلك الذي فقدتُه.»
فأخذه ثورندايك منه، وسلَّمه إلى قاضي التحقيق قائلًا: «أطلب وضعَ هذا الحامل ضِمن الأدلة يا سيدي.» ثم خاطَب الشاهد قائلًا: «لقد ذكرتَ أنك لم تذهب إلى السباقات، فهل دخلت المضمار أو ساحة السباق على أي حال؟»
بلَّل باكسفيلد شفتَيه، وأجاب قائلًا: «دخلتُ دقيقةً أو اثنتين فقط، لكني لم أبقَ هناك؛ إذ كانت السباقات قد انتهت، وكان المكان مكتظًّا بحشدٍ هائج للغاية.»
«حين كنتَ وسط هذا الحشد، هل نُشِل شيءٌ من جيبك؟»
خيَّم صمتُ الترقب على القاعة، بينما أجاب باكسفيلد بصوتٍ خافت: «نعم، لقد فقدتُ ساعتي.»
ففتح ثورندايك حقيبته الرسمية مرةً أخرى، وأخرج منها ساعة (هي التي كانت تحمل المُلصَق المكتوب عليه «رقم ٣»)، وسلَّمها إلى الشاهد، ثم سأله: «أهذه هي الساعة التي فقدتها؟»
أمسك باكسفيلد الساعة بيده المُرتجفة، وأجاب بتردُّد: «أعتقد أنها هي، لكني لا أستطيع الجزم بذلك.»
خيَّم صمتٌ لحظي، ثم قال ثورندايك بنبرةٍ جادَّة باهرة: «الآن يا سيد باكسفيلد، سأطرح عليك سؤالًا يجوز لك ألا تُجيب عنه إذا كنت ترى أن إجابتك ستمسُّ بموقفك في القضية بأي شكل من الأشكال. والسؤال هو: حين نُشِل ما في جيبك؟ هل سُرِقت أيُّ أغراضٍ أخرى من حوزتك غير هذه الساعة؟ لا تتعجَّل. فكِّر في الإجابة بإمعان.»
ظلَّ باكسفيلد صامتًا بضع لحظات بينما كان يُحدِّق إلى ثورندايك رامقًا إيَّاه بنظرةٍ مسعورةٍ مذعورة، ثم قال أخيرًا بشيءٍ من التلعثم: «لا أتذكَّر أنني فقدت أيَّ شيء …» ثم سكت فجأةً.
فسأل ثورندايك القاضي: «أيُسمَح للشاهد بالجلوس يا سيدي؟» وحين مُنِح الإذن ووُضِع للشاهد كرسي، ارتمى عليه باكسفيلد وألقى نظرةً خاطفة متحيِّرة على أرجاء القاعة من حوله، ثم قال مُخاطبًا ثورندايك: «أظنُّ أن الأفضل أن أُخبرك بما حدث بالضبط، وأتقبَّل العواقب. حين غادرت بيت عمي يوم الإثنين، سلكت مسارًا غير مباشر عبر الحقول، ثم دخلت غابة «جيلبرتس كوبس» لأنتظر عمِّي وأُخبره برأيي حيال تصرُّفه المتمثِّل في ترك الجزء الأكبر من تركته لشخصٍ غريب. وصلت إلى الممشى الذي كنت أعرف أن عمي سيَسلكه، ومشيت على طوله ببطءٍ لألتقيه، وقد التقيته بالفعل. كان لقاؤنا هذا على الممشى فوق المكان الذي عُثِر فيه على جثته بالضبط. بدأت أبوح بما في نفسي، لكنه لم يُنصِت إليَّ، بل استشاط غضبًا. وبينما كنت أقف في منتصَف الممشى، حاوَل دفعي بالقوة ليُواصِل سيره، وعندها عَلِقت قدمه في إحدى شجيرات العُلِّيق وترنَّح إلى الوراء، ثم اختفى وسط الشجيرات، وبعد ذلك ببضع ثوانٍ، سمعت صوت ارتطام قوي مكتوم بالأسفل. نحَّيتُ الشجيرات جانبًا، ونظرت إلى الأسفل داخل محجر الطباشير، حيث وجدته مُمدَّدًا على الأرض ورأسه كله مرتكز على جانبٍ واحد. وتصادَف أنني كنت أعرف دَربًا مختصرًا إلى أسفل المحجر. صحيحٌ أنه كان دَربًا منحدرًا خطرًا، لكني سلكته لأنزل إلى هناك بأسرع ما يُمكِن. وقد أسقطت حامل السجائر هناك. وحين وصلت إلى عمي، رأيت أنه قد مات؛ إذ كانت جمجمته مُهشَّمة، وعنقه مكسورًا. وحينئذٍ وسوس الشيطان إليَّ بسرقة الوصية والهرب، لكني كنت أعرف أنني لو أخذت الوصية فقط، لأحاطت بي الشُّبهات؛ ولهذا أخذت معظم مقتنَياته الثمينة: المحفظة وساعته وسلسلتها وحافظة نقوده وخاتمه. أفرغت الحافظة وألقيتها بعيدًا، ورميت الخاتم من بعدها، وأخرجت الوصية من المحفظة — حيث كانت موضوعةً بلا إحكام — ودسستها في جيبي الداخلي، ثم وضعت المحفظة والساعة والسلسلة في جيب المعطف الخارجي.
مشيت عبر الريف قاصدًا مضمار السباق، وعازمًا على إسقاط تلك الأشياء بين الحشد؛ لعلَّ أحدًا ما يلتقطها ويأخذها بعيدًا بأمانٍ تام. وحين وصلت إلى هناك، وفَّرت عليَّ عصابةٌ من النشَّالين هذا العناء؛ إذ أحاطوا بي، وتدافعوا نحوي، وجرَّدوا جيوبي من كل شيء عدا مفاتيحي والوصية.»
سأله ثورندايك: «وما مصير الوصية؟»
«إنها لديَّ هنا.» دسَّ يده في جيب صدره، وأخرج ورقةً مطوية سلَّمها إلى ثورندايك الذي فتحها، وألقى نظرةً خاطفة عليها، ثم سلَّمها إلى القاضي.
كانت هذه نهاية التحقيق تقريبًا؛ إذ قرَّرت هيئة المحلفين قبول إقرار باكسفيلد، وقيَّدت القضية على أنها «جريمة قتل بالخطأ»، تاركةً مصير باكسفيلد في يد السُّلطات المختصَّة.
علَّق ثورندايك حين جلسنا لنتناول عشاءً متأخِّرًا بعض الشيء: «قضيةٌ مُثيرة للاهتمام ومُرضية للغاية. والحق أنها بسيطة في جوهرها؛ إذ تكشَّف غموضها بحقيقةٍ واحدة هي التي أنارت لنا الطريق، ولعلَّك لاحظتَ ذلك على الأرجح.»
فقلت له: «لقد استنتجتُ أنها كذلك بالفعل، وإن كان نور هذه الحقيقة لم يصل إليَّ بعد.»
قال ثورندايك: «حسنًا، دعنا نبدأ أولًا باستعراض الجانب العام للقضية كما عرضها مارشمونت. كان أول ما لفت انتباهي بالطبع أن فقدان الوصية ربما كان سيحوِّل باكسفيلد بمنتهى السهولة من مُستفيدٍ ذي نصيب ضئيل من التركة إلى الوريث الوحيد. وحتى إذا كانت المحكمة ستُوافق الاعتراف بالوصية، فقد كان سيتعيَّن عليها الاسترشاد بأقوال الرجلين الوحيدين اللذين كانا يعرفان بنودها، وإن كانت معرفتهما تقريبية. وحينها كان باكسفيلد سيستطيع قول ما يشاء؛ لذا كان من المستحيل تجاهُل حقيقة أن فقدان الوصية يصبُّ في مصلحة باكسفيلد بشدة.
وحين عُثِر على المقتنَيات المسروقة بحوزة فليتشر، بدا للوهلة الأولى أن لغز الجريمة قد كُشِف، غير أن ذلك كان ينطوي على عدد من التناقضات الصارخة. كيف أمكن لفليتشر على سبيل المثال أن يذهب إلى هذه الغابة المهجورة، بعيدًا عن أي خط سكك حديدية أو أي طريق حتى؟ لقد كان يبدو نشَّالًا من لندن. وحين مات، كان مُتجهًا إلى لندن بالقطار. وبدا من المُرجَّح أنه جاء بالقطار من لندن لممارسة حِرفته وسط حاضري السباقات، ثم إن الخبرة في علم الجريمة توضِّح أن مُعتاد الإجرام متخصصٌ متزمِّت؛ فكلٌّ من اللص وصانع العملات المعدنية المزوَّرة والنشَّال يلتزم بتخصُّصه الإجرامي ولا يحيد عنه. ولمَّا كان فليتشر نشَّالًا، ومن الواضح أنه كان ينشل ما في جيوب الحاضرين في ساحة السباق، فقد كانت الاحتمالات تستبعد أن يكون هو اللص الأصلي، وتُرجِّح أنه نشل جيب الشخص الذي سرق هاروود، غير أنه إذا كان الأمر كذلك، فمن كان هذا الشخص يا تُرى؟ وهنا أشارت الاحتمالات مرةً أخرى إلى باكسفيلد؛ إذ كان لديه الدافع، كما قلت، وفضلًا عن ذلك، بدا أن النشل قد وقع عند مضمار السباق، وكان باكسفيلد معروفًا بأنه من مُرتادي السباقات. وإذا كان باكسفيلد هو الشخص الذي نشله فليتشر، فقد كان من المرجَّح أن تكون إحدى الساعات الخمس هي ساعة باكسفيلد. وربما كان إثبات صحة ذلك من عدمه ليصبح صعبًا للغاية، لكن هنا أتت الحقيقة الوحيدة التي قلت إنها قد أنارت لنا الطريق.
لعلَّك تتذكَّر أن مارشمونت قال في مَعرض سرد وقائع القضية إن باكسفيلد كان يمتهن صناعة القبعات اللبادية، وإن كروهورست أخبرنا بأنه كان رئيس عُمال أو مدير ورشة أو شيئًا من هذا القبيل في مصنع.»
«نعم، تذكرتُ ذلك الآن وأنت تتحدث عنه، لكن ما تأثير هذه الحقيقة؟»
فصاح مُتعجبًا: «يا عزيزي جِرفيس! ألا ترى أنها أعطتنا مَحكًّا؟ فلتُفكِّر الآن. ما ماهية القبعة اللبادية؟ إنها مجرد كتلة من شَعر الأرانب المُلتصق بالغراء، وتقوم صناعتها على نفخ تيَّار من الشَّعر شِبه المُتكسر داخل مخروط فولاذي دوَّار يُرطَّب بمحلولٍ كحولِّي من مادة الشيلاك، غير أن كمية من الشُّعيرات الأصغر والأدق تتطاير بالطبع بعيدًا عن المخروط وتطفو في الهواء؛ فيُصبح هواء المصنع محمَّلًا بغبارٍ من شُعيرات الأرانب يستقرُّ على ملابس العمال ويتغلغل فيها. وحين تُصبح الملابس محمَّلة بالغبار، فإنه غالبًا ما يتراكم في الجيوب، ويصل في نهاية المطاف إلى فجوات أي شيء محمول في هذه الجيوب وفتحاته؛ ومن ثَم فإذا كانت إحدى الساعات الخمس هي ساعة باكسفيلد، كان من شِبه المؤكَّد أنها ستحمل آثارًا حيث تسلَّل هذا الغبار المميَّز من أسفل حافَّة غطاء الساعة الزجاجي واستقرَّ على قُرصها. وقد تبيَّن أن هذا هو ما حدث بالفعل؛ فحين تفحَّصتُ تلك الساعات الخمس بعدسة «كودينجتون»، رأيتُ على قرص الساعة «رقم ٣» كميةً من غبارٍ يحمل هذا الطابع. وقد التقطتُه كلَّه بسلاسة باستخدام قضيب المطَّاط المُقسَّى المشحون بكهرباء ساكنة، ونقلته إلى الشريحة، فاتَّضحت طبيعته تحت الميكروسكوب؛ ومن ثَم كان من شِبه المؤكَّد أن صاحب هذه الساعة يعمل في مصنع قبعات لبادية. وكان من الضروري بالطبع ألا أكتفي بإثبات وجود شعر الأرنب في هذه الساعة، بل إثبات عدم وجوده في الساعات الأخرى وجيوب فليتشر أيضًا، وهذا ما فعلتُه.
وثَمة أمرٌ آخر بخصوص ساعة هاروود، وهو أن شعر الأرنب لم يكُ موجودًا على قُرصها، وإنما وُجِدت كميةٌ ضئيلة منه على الزغب المستخرَج من أسطوانة المفتاح. ولو كان شعر الأرنب ذاك قد أتى من جيب هاروود، لوجدناه موزَّعًا توزيعًا منتظمًا في الزغب، غير أنه لم يكن موزَّعًا على هذا النحو، بل اقتصر وجوده على الجزء المكشوف من الزغب. ومعنى هذا أنه قد جاء من جيبٍ آخر غير جيب هاروود، ومن شِبه المؤكَّد أن صاحب هذا الجيب كان يعمل في مصنع قبَّعات لبادية، وأنه صاحب الساعة الثالثة على الأرجح. وذلك إضافةً إلى حامل السجائر؛ إذ كان تجويفه مليئًا بشعر الأرانب، لكن صاحبه كان موجودًا في مسرح الجريمة بلا أي شك. وكانت تُوجَد إشارةٌ واضحة إلى أن جيب هذا الرجل هو الجيب الذي حُمِلت فيه الساعة المسروقة، وأنه كان صاحب الساعة «رقم ٣»، غير أن المشكلة كانت تكمن في كيفية جمع هذه الأدلة معًا وإثبات هُوية ذلك الشخص إثباتًا قاطعًا، وهذا ما استطعتُ فعله من خلال دليل جديد حصلتُ عليه حين رأيت باكسفيلد في التحقيق. أظنُّ أنك لاحظت حذاءه، أليس كذلك؟»
اضطررت إلى الاعتراف قائلًا: «يؤسفني القول إنني لم أُلاحظه.»
«حسنًا، لقد لاحظته أنا؛ إذ كنت أُراقب قدمَيه باستمرار، وحين وضع إحدى ساقَيه على الأخرى، رأيت أن مقدمة حذائه مكسوةٌ من الأسفل بصفيحةٍ حديدية. وهذا ما منَحني الثقة للشروع في استجوابه.»
قلت له: «لقد كان استجوابًا جريئًا إلى حدٍّ ما، ومُخالفًا للقانون بعض الشيء أيضًا.»
اتَّفق ثورندايك مع ذلك قائلًا: «لقد كان مُخالفًا جدًّا للقانون، وكان يجب على قاضي التحقيق ألا يسمح به، لكنه أجدى نفعًا في نهاية المطاف؛ فلو كان قاضي التحقيق قد رفض أسئلتي، كان سينبغي علينا أن نتَّخذ إجراءات رفع دعوى جنائية على باكسفيلد. أما الآن وقد استعدنا الوصية، فمن المستبعَد أن يُكلِّف أحدٌ نفسه عناء مُقاضاته.»
وهذا ما تيقَّنتُ لاحقًا من أنه حدث بالفعل.