صيَّاد الرجال
قال ثورندايك: «إن من يرغب في تحقيق النجاح في مجال الكشف العلمي عن الجرائم يجب أن يعتبر المعارف جميعها ضِمن نطاق تخصُّصه؛ فما من حقيقةٍ واحدة لا يُمكن أن تكتسب، في ظروفٍ معيَّنة، أهميةً كبيرة في الأدلة. وفي مثل هذه الظروف، يتحدَّد النجاح أو الفشل بناءً على الإلمام بالمعرفة اللازمة لتفسير دلالة تلك الحقيقة، أو الافتقار إليها.»
قيلت هذه الحكمة العابرة بخصوص تحقيقنا في القضية التي تُشير إليها الصحافة بأسلوبها المنمَّق بعض الشيء باسم «لغز الماسة الزرقاء»، وقد قيلت على وجه التحديد في حادثةٍ وقعت في مكتب صديقنا القديم، المُشرف الشُّرطي ميلر، في مقرِّ شرطة سكوتلانديارد؛ ذلك أن ثورندايك قد قام بزيارةٍ موجَزة إلى هناك للتحقُّق من الحقائق القليلة التي أُبلِغ بها. وبعدما حمل دفتر ملاحظاته، ووضعه في مكانه المُعتاد، وأمسك حقيبة استقصاءاته الخضراء المكسوَّة بقماش القنب، ونهض ليرحل؛ وقعت عيناه على شيئين موضوعَين على منضدةٍ جانبية؛ حقيبة يد جِلدية وعصا مشي مربوطتَين معًا بحبلٍ يحمل مُلصَقًا وصفيًّا.
تأمَّلهما بضع ثوانٍ، ثم نظر نظرةً خاطفة إلى المُشرف.
وسأله: «أمهجورتان أم مطروحتان في البحر؟»
أجاب المُشرِف قائلًا: «بل مطروحتان في البحر حرفيًّا؛ إذ أُلقيَتا من سفينةٍ ما لتخفيف حمولتها.»
وحينئذٍ رفع المُفتش بادجر، الذي كان هو أيضًا من حضور هذا الاجتماع، ناظرَيه بلهفة.
وتدخَّل في الحوار قائلًا: «نعم. لعلَّ الدكتور لن يُمانع في إلقاء نظرة عليهما. إنها مشكلةٌ بسيطة صغيرة يا دكتور، وتقع تمامًا في نطاق تخصُّصك.»
فسأله ثورندايك: «ما المشكلة؟»
قال بادجر: «الأمر فقط أن لدينا هنا حقيبة. والسؤال الآن: من صاحبها؟ وأيُّ نوعٍ من الأشخاص هو؟ ومِن أين أتى وإلى أين ذهب؟»
ضحك ثورندايك، ثم قال: «يبدو ذلك بسيطًا جدًّا؛ فمِثل هذه التفاصيل التافهة يُكشَف بفحصٍ سطحيٍّ سريع، ولكن كيف حصلتم على هذه الحقيبة؟»
قال ميلر: «إليك حكاية هذين الشيئين المهجورين: في حوالَي الساعة الرابعة من صباح اليوم، رأى شرطيٌّ في أثناء مُناوَبته، في شارع «كينجز رود» بمنطقة «تشيلسي»، رجلًا يسير على الجانب المقابل من الشارع حاملًا حقيبة يد. لم يكن هناك ما يُثير الريبة في ذلك على وجه التحديد، لكن الشرطي قد ارتأى أن يعبر الطريق وينظر إليه من كثب، وفي أثناء ذلك أسرع الرجل في خُطاه، فأسرع الشرطي في خُطاه أيضًا بالطبع، ثم بدأ الرجل يركض، وكذلك الشرطي، واندلعت مطاردةٌ رائعة حامية، وفجأةً انعطف الرجل بسرعة إلى طريقٍ جانبي، وبينما كان الشرطي ينعطف عند ناصية ذلك الطريق، رأى طريدَه ينعطف إلى زقاق. وبعدما تبعه إلى داخل هذا الزقاق واقترب منه بشدة، رأى أن الزقاق ينتهي بجدارٍ مرتفعٍ بعض الشيء. وحين وصل الطريد إلى الجدار، رمى حقيبته وعصا سيره وتسلَّقه كمُهرِّج في السيرك. وقد تسلَّق الشرطي وراءه، لكن ليس كمُهرج؛ إذ لم يكن يرتدي ثيابًا مُلائمة لهذا الدور. وبحلول الوقت الذي أتمَّ فيه تسلُّق الجدار، وهبط في حديقةٍ كبيرة تحوي الكثير من أشجار الفاكهة، كان ذلك الرجل قد اختفى؛ فاقتفى خط سيره من آثار أقدامه عبر الحديقة إلى جدارٍ آخر، وحين تسلَّق ذلك الجدار وجد نفسه في شارعٍ جانبي، لكنه لم يعثر على أي أثر لصاحبنا السريع. راح الشرطي يركض جيئةً وذهابًا بطول الشارع إلى المُفترَقَين التاليَين وهو ينفخ صفارته، لكن ذلك كان بلا جدوى بالطبع؛ فعاد أدراجه عبر الحديقة، وأخذ الحقيبة والعصا، وأُرسِلا إلى هنا فورًا لفحصهما.»
«ولم يُقبَض على أحد؟»
أجاب ميلر بابتسامةٍ خافتة: «حسنًا، لقد قبض شرطيٌّ في شارع «أوكلي» على رجلٍ يحمل شيئًا يبدو مُريبًا بعدما كان قد سمع الصافرة، لكن تبيَّن أنه عازف بوق كان عائدًا إلى بيته من المسرح.»
قال ثورندايك: «حسنًا، فلنُلقِ نظرةً على الحقيبة، والتي أظن أنها قد فُحِصت بالفعل، أليس كذلك؟»
أجاب ميلر: «بلى، لقد تفحَّصنا محتوياتها، لكن كل شيء قد أُعيدَ كما وجدناه.»
أمسك ثورندايك الحقيبة، وبدأ يفحصُها فحصًا منهجيًّا من الخارج.
علَّق قائلًا: «حقيبةٌ جيدة، ويبدو أنها باهظة الثمن في الأصل، وإن كانت قد استُهلكت بشدة. هل لاحظت العلامات الطينية التي تُلطِّخ قعرها؟»
قال ميلر: «نعم، من المُرجَّح أنها تلطَّخت بها حين رماها ليقفز من فوق الجدار.»
فقال ثورندايك: «ربما، وإن كانت لا تبدو مثل طين الشوارع، لكننا قد نحصل على مزيدٍ من المعلومات حين نرى المحتويات.» فتح الحقيبة، وبعدما ألقى نظرةً خاطفة على ما بداخلها، بسط على المنضدة ورقتَي «فولسكاب» من رفِّ الأدوات المكتبية، وبدأ يضع عليهما محتويات الحقيبة بترتيبٍ منهجي، مُرفِقًا ذلك بسيلٍ من التعليقات المستمرة على خصائصها الواضحة.
تحدَّث قائلًا: «المحتوى الأول: حقيبةٌ جلدية صغيرة لمستلزمات العناية بالمظهر. صحيحٌ أنها مهترئةٌ بعض الشيء، لكنها من نوعيةٍ ممتازة في الأصل، وهي تحوي شفرتَي حلاقة سويديتَين، ومِسنًّا صغيرًا من نوع «واشيتا»، ومشحذًا جلديًّا صغيرًا جدًّا، وفرشاة حلاقة قابلة للطي كانت رطبة المَلمس قليلًا، ولها رائحةٌ تُشبِه رائحة عصا صابون الحلاقة. ويُلاحظ هنا أن المِسَن مقعَّر بوضوح عند وسطه، وأن الكتابة المنقوشة على شفرتَي الحلاقة، «أرنسبرج، إسكليستونا، السويد»، متآكِلةٌ بعض الشيء. وتوجد أيضًا علبةٌ تحوي قالبًا جافًّا جدًّا من الصابون، ومجموعةٌ صغيرة من مستلزمات العناية بالأظافر، وفرشاة أسنان مهترئة من كثرة الاستخدام، وفرشاة أظافر، وفرشاة لتنظيف ما بين الأسنان، وخُطَّاف لإغلاق الأزرار، وشفرة لإزالة ثآليل القدم، وفرشاة ملابس صغيرة، وفرشتا شعر صغيرتان. أرى، يا بادجر، أن هذه الحقيبة الجِلدية تُوحي — وأؤكِّد على القول بأنها «توحي» فقط — بإجابةٍ كاملة عن أحد أسئلتك.»
فقال المفتِّش: «لا أفهم ما ترمي إليه. قُل لي ما الذي توحي به إليك.»
أجاب ثورندايك وهو يضع من يده العدسة التي كان يتفحَّص من خلالها فرشتَي الشعر: «توحي إليَّ برجُل في منتصَف العمر، أو كهلٍ حليق الشنب طليق اللحية بصحةٍ طيِّبة لا تبدو عليه علامات التقدم في السن، وهو أنيق مُنظَّم مُقتصِد شديد الاهتمام بمظهره، قد اعتاد السفر منذ فترة طويلة. وبالرغم من أنني لا أؤكِّد على هذه النقطة التالية، فالشواهد الظاهرية توحي بأنه كان يعيش في بيتٍ ما منذ فترة معيَّنة، وأنه في الوقت الذي فقد فيه الحقيبة كان يُغيِّر محلَّ إقامته.»
ضحك المفتِّش بصوتٍ صاخبٍ فظٍّ وقال: «لقد كان كذلك بالفعل، لو صحَّت رواية الشرطي بشأن الكيفية التي قفز بها من فوق الجدار، لكني ما زِلت لم أفهم الكيفية التي توصَّلتَ بها إلى كل هذه الحقائق.»
صحَّح له ثورندايك قائلًا: «ليست حقائق يا بادجر، بل قلت إنها إيحاءات، وربما تكون هذه الإيحاءات مُضلِّلة للغاية؛ إذ توجد بضعة عوامل لم نضعها في الحسبان، مثل احتمالية ألا يكون هو صاحب المحفظة، غير أن هذا هو ما تُوحي به الشواهد إذا أخذناها بظاهرها؛ فالمحفظة نفسها على سبيل المثال قويةٌ ومتينة، لكنها مهترئة من كثرة استخدامها على مر سنوات. ولاحِظ أنها محفظةٌ مخصَّصة لحمل الأغراض عند الترحال، ولا تُستخدم إلا في أثناء الترحال. ولدينا كذلك، بخصوص ما يوضِّح عامل الزمن، المِسن وشفرتا الحلاقة؛ إذ يستغرق تآكلُ مِسنٍّ من نوع «واشيتا» لدرجة ظهور تجويف فيه، أو استهلاك نصْل شفرة حلاقة سويدية حتى اضمحلال علامة الشركة المُصنِّعة تدريجيًّا، سنواتٍ عديدة. أما ما يُشير إلى الحالة الصحية، والعُمر إلى حدٍّ ما، فهو فرشاة الأسنان وفرشاة تنظيف ما بين الأسنان؛ إذ فقد الرجل بعض أسنانه؛ لأنه يضع في فمه طقم أسنان، لكن الأسنان التي فقدها ليست كثيرة، وهو غير مُصاب بالتهاب اللِّثة أو الامتصاص السنخي؛ فالمرء لا يُبلي فرشاة أسنان بهذا الشكل على نصف دزينة من أسنانٍ مُتبقية، لكن الرجل الذي تتحمَّل أسنانه التنظيف الشديد بالفرشاة من المُرجَّح أن يكون ذا صحةٍ طيبة لا يزال مُحتفظًا بلياقته.»
فسأله المفتِّش: «لقد قلتَ إنه حليق الشارب لكنه مُلتحٍ، فكيف توصَّلت إلى ذلك؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «هذا واضح إلى حدٍّ كبير؛ فنحن نرى أن لديه شفرات حلاقة ويستخدمها، ونرى أيضًا أن لديه لحية.»
تعجَّب بادجر قائلًا: «أنرى ذلك حقًّا؟ أنَّى لنا ذلك؟»
فالتقط ثورندايك شعرةً من إحدى فرشتَي الشعر بعناية، ورفعها قائلًا: «هذه ليست شعرةً من فروة الرأس، بل أُرجِّح أنها من جانب الذقن.»
نظر بادجر إلى الشعرة بازدراءٍ واضح، وعلَّق قائلًا: «يبدو لي كما لو أنَّ مشطًا مُتقاربَ الأسنان كان ليُجدي نفعًا معها.»
اتفق معه ثورندايك قائلًا: «أجل، يبدو كذلك، لكن المظهر خدَّاع. إن هذه الشعرة من نوعٍ يُسمَّى بالشعر المُعجَّر، وهو نوعٌ تُشبِه فيه الشعرة سلسلة من الخرَز، غير أن هذه الانتفاخات الشبيهة بالخرَز هي أجزاء من الشعرة في حقيقة الأمر. وتلك حالةٌ مرَضية، أو بالأحرى حالةٌ غير طبيعية.» ثم أعطاني الشعرة مع العدَسة التي تفحَّصتُ من خلالها الشعرة، ورأيت الانتفاخات المميزة بسهولة.
قلت: «نعم، إنها حالةٌ مُبكِّرة من «ترايكوريكسيس نودوزا» (تقصُّف الشعر العقدي).»
فتَمْتم المفتِّش قائلًا: «يا إلهي! يبدو كأنه اسم رجل نبيل رُوسي. أهو مرضٌ شائع؟»
أجبته قائلًا: «إنه ليس مَرضًا نادرًا، هذا إذا كان بالإمكان تسميته مَرضًا، لكنه حالةٌ نادرة، بالنظر إلى نسبة المُصابين مقارنةً بعدد السكان ككلٍّ.»
فقال المُشرِف: «إنه صدفةٌ لافتة أن تظهر في هذه القضية بالذات.»
فصاح ثورندايك فجأةً: «يا عزيزي ميلر، من المؤكَّد أن خبرتك قد جعلتك على درايةٍ تامَّة بالتواتر المُذهل لتكرار الفشل الاستثنائي التام لتطبيق قوانين الاحتمالات الرياضية عمليًّا في مهنتك. صدِّقني يا ميلر، لقد كانت فراشة الخبز والزبدة في قصة أليس على حق؛ فالحدث الاستثنائي هو ما يحدث دائمًا.»
وبعد أن بدَّد هذه المُفارقة، غاص مُجدَّدًا في الحقيبة، وأخرج منها هذه المرة صُرةً فريدة ذات مظهر بغيض بعض الشيء، كان غلافها الخارجي مكوَّنًا ممَّا بدا أنه منشفةٌ شديدة الاتساخ، وتبيَّن بينما كان ثورندايك يحلُّ ربطتها برفقٍ أنه ليس سوى نصف منشفة مُستكمَل بمنديل ملوَّن أكثر اتساخًا ورثٍّ للغاية. وقد فتح ثورندايك هذا المنديل أيضًا؛ فكشف عن ياقةٍ متَّسخة للغاية ومهترئةٍ بعض الشيء (لم تكن تحمل أي اسم أو علامة، مِثلها في ذلك مثل الأغراض الأخرى)، وحفنة من العُشب كان من الواضح أنها وُضِعت كي تكون بطانة لتغليفِ شيءٍ ما.
فأمسك المفتِّش الياقة، واقتبس من كلام ثورندايك مُتحدثًا بنبرةٍ تأمُّلية، وقال: «إنه رجلٌ أنيقٌ مُنظَّم شديد الاهتمام بمظهره.» ثم أسقط الياقة من يده، ومسح أصابعه مُتباهيًا.
فابتسم ثورندايك ابتسامةً قاتمة، لكنه لم يردَّ إذ كان يفصل العُشب برفق عن الأشياء التي يحويها، والتي تبيَّن أنها عتلةٌ صغيرة مكوَّنة من أنابيب متحدة المركز وقابلة للإطالة والتقصير، ومثقابٌ مفصلي، ومفك مسامير، وحزمة من مفاتيح هيكلية.
علَّق ثورندايك قائلًا: «يتفهَّم المرء سبب عدم رغبة ذلك الرجل في مواجهة الشرطي وبحوزته هذه الأشياء الغريبة بعض الشيء؛ ذلك أنه سيجد صعوبةً في تفسير وجودها معه.» رفع كومة العُشب بين يديه لتفحُّص مدى نضارتها، وبينما كان يفعل ذلك وقع على الورقة شيءٌ صغير أشبه بالسيجار.
فسأل المشرف: «ما هذا؟ يبدو كأنه شرنقة.»
قال ثورندايك: «ليست كذلك، بل صَدَفة، وأظنُّ أنها نوع من قواقع «كلوسيليا» الأرضية.» التقط الصَّدفة الصغيرة، وتفحَّص فمها من كثب من خلال عدسته، ثم أضاف قائلًا: «نعم، إنها إحدى قواقع «كلوسيليا». هل تدرس رخوياتنا البريطانية يا بادجر؟»
أجاب المفتِّش بنبرةٍ تأكيدية: «كلا، لست أدرسها.»
تمتم ثورندايك قائلًا: «هذا مؤسِف؛ فلو كنت تدرسها كنت ستهتمُّ بمعرفة أن اسم هذه الصَّدفة الصغيرة هو «كلوسيليا الثنائية الطيَّات».»
فقال بادجر: «أنا لا أكترث باسمها البغيض، بل أريد معرفة هُوية صاحب هذه الحقيبة، وشكله، ومن أين أتى وإلى أين ذهب؛ فهل تستطيع إخبارنا بذلك؟»
نظر ثورندايك إلى المفتِّش بجِدِّيةٍ جامدة، وقال: «كل ذلك واضحٌ جدًّا، واضح جدًّا، غير أنني أرغب في معرفة بضع تفاصيل قبل الإدلاء بالقول الفصل. نعم، أظنُّ أنني سأحتفظ بحُكمي النهائي حتى أمنح المسألة مزيدًا من التفكير.»
فتلقَّى المفتِّش هذا الكلام بابتسامةٍ مُتشكِّكة؛ إذ كان شِبه عالق في مأزق؛ فقد كان زميلي مولَعًا بنوع من الفكاهة الجامدة، ومن المحتمَل أنه كان يُحاول إقناع المفتش بشيءٍ زائف. وفي الوقت نفسه كنت أعرف، وكذلك كان المُحقِّقان يعرفان، أنه من الوارد جدًّا أن يكون قد توصَّل إلى حل مشكلة بادجر التي بدت مُستحيلة، ويكتم ما عرفه ريثما يرى إلى أين سيقوده.
قال ثورندايك وهو يُمسك العصا في أثناء كلامه، ويتفحَّص سماتها التي لم يكن بها شيءٌ مميز للغاية: «هلَّا نُلقي نظرةً على العصا؟» كانت عصًا عادية من خشب المُرَّان، ولها مقبضٌ مُلتوٍ مصقول قد صار داكنًا لطول ما لامَسته يدٌ عارية على ما يبدو. كانت العصا مُلطَّخة بطينٍ أصفر من فوق طرفها السُّفلي بحوالَي ثلاث بوصات، وكان النعل الحديدي لدعامة طرفها السُّفلي باليًا تمامًا، وكان هذا الاهتراء قد أُصلحَ بدقِّ مسمارٍ فولاذي تزييني كمسامير الأحذية في الطرف المكشوف.
فعلَّق ثورندايك وهو يُشير إلى المسمار بينما كان يقيس قُطْر الدعامة السُّفلية بفرجار القياس الصغير الذي يحمله في جيبه: «إنه رجلٌ مدبِّر.» ثم أضاف وهو ينظر بجدية إلى المفتش: «يَبلُغ القُطر ثلاثًا وعشرين على اثنتين وثلاثين. من الأفضل أن تُدوِّن ذلك يا بادجر.»
ابتسم المفتش ابتسامةً مريرة بينما ترك ثورندايك العصا، وأمسك حقيبته الخضراء الصغيرة المكسوَّة بقماش القنب، والتي تحوي أدواته الاستقصائية، مُتأهبًا للرحيل.
قال: «سنُبلغك يا ميلر إذا عرفنا أي شيء قد يُفيدك. هيَّا يا جِرفيس، لا بد أن نرحل الآن.»
وبينما كنا على متن العربة التي تجرُّها الخيول مُحدِثةً صريرًا رنَّانًا، والتي حملتنا بطول شارع «وايتهول» نحو حي «واترلو»، تحدَّثت إلى ثورندايك قائلًا: «إن بادجر يُساوره بعض الشك في أنك حجبت عنه بعض المعلومات القيِّمة بشأن تلك الحقيبة.»
اتَّفق ثورندايك معي بابتسامةٍ خبيثة قائلًا: «إنه يشكُّ في ذلك بالفعل، ولا يشكُّ إطلاقًا في أنني أعطيته تلميحًا مُفيدًا للغاية.»
استرجعت الحوار الذي دار في المكتب سريعًا، وتوصَّلت إلى أن الحقائق المستخلَصة من محفظة مستلزمات العناية بالمظهر لا يُمكن أن توصف بأنها تلميحات، فسألته: «أفعلتَ ذلك حقًّا؟»
أجاب قائلًا: «صديقي العلَّامة يرغب في التظاهر بالبلادة. هذا لا يُناسبك يا جِرفيس؛ فأنا أعرفك منذ فترةٍ طويلة.»
فابتسمت بشيءٍ من الامتعاض؛ إذ كان من الواضح أنني لم أنتبه إلى المَغزى الكامن في أحد الشروح الغامضة التي عرضها، وكنت عرفت أن لا جدوى من طرح مزيد من الأسئلة؛ فقضيت بقية رحلتنا بأكملها وأنا أُكافح عبثًا في حجرة الركَّاب بالعربة لمعرفة «التلميح المفيد» الذي لم ينتبه إليه المُحقِّقان، ولا أنا، بل إنني كنت مشغولًا جدًّا بهذه المشكلة، لدرجة أنني أغفلت أن الحقيبة التي تركها ذاك الرجل لم تكن شغلنا الشاغل في الواقع، وأننا كنا مُنخرطين بالفعل في التحقيق في جريمةٍ لم أكن أعرف عنها شيئًا تقريبًا آنذاك، ولم أتفطَّن إلى ذلك إلا فجأةً حين جلسنا في مقصورةٍ شاغرة في القطار وبدأ القطار يتحرَّك، وحينها انصرفت عن التفكير في مشكلة الحقيبة، وطلبت من ثورندايك إخباري بتفاصيل عن «لغز قطار برينتفورد».
قال: «إن وصفها بأنها لغزٌ يُمثِّل إساءةً لاستخدام هذه الكلمة؛ إذ يبدو أن مجرد سرقة بسيطة وقعت في قطار. صحيحٌ أن هُوية السارق مجهولة، لكن ما من شيءٍ شديد الغموض في ذلك، أما بقية تفاصيل الجريمة فهي عادية جدًّا، وها هي ملابَساتها:
منذ فترةٍ ما، اشترى السيد ليونيل مونتيجيو، أحد الشركاء في شركة «لَيونز ومونتيجيو وسالامان» التي تُتاجر في الأعمال الفنية، من أحد النُّبلاء الروس قلادةً ماسية ثمينة جدًّا ذات حلية مُتدلية منها. وقد كانت ميزة هذه القلادة أن فصوص الألماس كلها باللون الأزرق الباهت، ويتوافق بعضها مع بعض بدقةٍ كبيرة؛ فإضافةً إلى القيمة الإجمالية للفصوص، والتي كانت جميعها كبيرة الحجم وبعضها كبيرًا جدًّا، كانت قيمة القلادة ككلٍّ ترجع إلى هذا التجانس اللوني. وقد اشتراها السيد مونتيجيو بمبلغٍ مقداره ٧٠ ألف جنيه إسترليني، ورأى أنه قد أبرم بذلك صفقةً رابحة ممتازة. وينبغي أن أذكر هنا أن مونتيجيو كان هو المُشتري الرئيس للأشياء التي تُتاجِر فيها الشركة، وأنه قضى معظَم وقته في السفر إلى مختلف أنحاء القارَّة بحثًا عن الأعمال الفنية وغيرها من الأشياء التي تُناسب أغراض شركته، وأنه كان خبيرًا بارعًا بالطبع في مثل هذه الأشياء. والآن، يبدو أنه لم يكن راضيًا عن القِطع المعدنية التي كانت الفصوص مُثبَّتةً عليها في هذه القلادة، وحالَما اشتراها سلَّمها إلى متجر السيدان «بينكس»، الواقع في شارع «أولد بوند ستريت»؛ ليستبدل مكان تلك القِطع المعدنية قطعًا أخرى ذات تصميمٍ أفضل. وقد أخطره بينكس صباح الأمس بالانتهاء من تغيير القِطع؛ فزار متجره في عصر اليوم نفسه ليتفحَّص ذلك التغيير ويأخذ القلادة إذا ما رآه مُرضيًا له. جرى اللقاء بين بينكس ومونتيجيو في حجرةٍ خلف المتجر، لكن يبدو أن مونتيجيو قد خرج إلى المتجر ليَتفحَّص القلادة تحت ضوءٍ أقوى، وقد ذكر السيد بينكس أنه لاحظ وجود رجل يقف عند المدخل ويُراقب السيد مونتيجيو خلسةً، بينما كان زبونه يقف مقابل الباب مُتفحِّصًا القِطع الجديدة.»
قلت له: «إن ذلك لا يُمثِّل أهميةً كبيرة. إذا وقف رجلٌ عند باب متجر حاملًا في يده قلادة مرصَّعة بألماسٍ أزرق، فمن المرجَّح أن يلفت الانتباه إليه.»
اتَّفق ثورندايك معي قائلًا: «نعم، لكن المرء غالبًا ما يُصبح أكثر تقديرًا لأهمية الأحداث السابقة بعد ظهور العواقب. وبينكس يؤكِّد بشدة على رؤية ذلك المُتلصص. لنُواصِل سرد ما حدث على أي حال: حين شعر السيد مونتيجيو بالرضا عن القِطع المعدنية الجديدة، أعاد وضع القلادة في علبتها ووضع العلبة في حقيبته، والتي كان قد أحضرها معه من الحجرة الداخلية، ثم غادَر المتجر بعد ذلك بدقيقة تقريبًا. كان ذلك في حوالَي الساعة الخامسة مساءً، ويبدو أنه ذهب مباشرةً إلى شقة شريكه، السيد سالامان، والذي كان يُقيم معه منذ أسبوعين، في شارع «كوينز جيت». ظل هناك حتى الساعة الثامنة والنصف تقريبًا، ثم خرج بمرافقة السيد سالامان. كان ذلك الأخير يحمل حقيبة سفر، بينما كان مونتيجيو يحمل حقيبة يد تحوي القلادة، ومن غير المعروف ما إذا كانت تحوي شيئًا آخر أم لا.
توجَّه الرجلان من «كوينز جيت» إلى «ووترلو»، قاطعين جزءًا من الطريق سيرًا على الأقدام قبل أن يقطعا الجزء المتبقِّي بحافلةٍ عمومية.»
صِحتُ متعجِّبًا: «بحافلةٍ عمومية! وبحوزتهما ألماس يُقدَّر بسبعين ألف جنيه إسترليني!»
«نعم، يبدو ذلك غريبًا، ولكن يبدو أن من اعتادوا التعامل مع المحمولات النفيسة يُشبِهون من اعتادوا التعامل مع المتفجِّرات؛ إذ يبدءون تدريجيًّا في إغفال المَخاطر. لقد ذهبا بهذه الطريقة على أي حال، ووصلا بأمان إلى «ووترلو» في الوقت المناسب للحاق بقطار التاسعة والربع المتَّجه إلى «أيزلورث»، وأوصل السيد سالامان شريكه إلى مقصورةٍ شاغرة بالدرجة الأولى، وبقي معه يتبادلان أطراف الحديث إلى أن بدأ القطار في التحرك.
كان السيد سالامان مُتجهًا إلى حي «أيزلورث»، والذي يملك فيه السيد جيكوب لوينشتاين، الذي كان يسكن في «شيكاجو» حتى وقت قريب ثم انتقل الآن إلى «بيركلي سكوير»، بيتًا كبيرًا فخمًا على ضفة النهر به مصفُّ قوارب بخارية، وإن كنت أجد سُكناه في هذا الحي أمرًا غريبًا. كان لوينشتاين قد حصل على حق شراء قلادة الألماس الأزرق؛ لذا كان مونتيجيو ذاهبًا إليه ليُريه إيَّاها ويُبرم الصفقة، وكان يعتزم المكوث بضعة أيام مع لوينشتاين، وكان سيتجه بعد ذلك إلى بروكسل في إحدى جولاته الدورية، لكنه لم يصل إلى «أيزلورث» قط؛ فحين وصل القطار إلى «برينتفورد»، لاحظ أحد الحمَّالين حقيبةَ سفر على رفِّ الأمتعة في إحدى مقصورات الدرجة الأولى التي بدت فارغة. دَخل على الفور ليأخذها، وبينما كان يُحاول بلوغ الرف لامَست قدمه شيئًا ليِّنًا أسفل المقعد؛ فبُغِت بشدة، وانحنى ليُحدِّق أسفل المقعد، وانتابه ذُعرٌ شديد حين رأى جسد رجل كان هامدًا بلا حراك وبدا ميتًا، فاندفع خارج القطار، وركض بطول رصيف المحطة في حالةٍ من الهلع الشديد، حتى اصطدم، لحسن الحظ، بمدير المحطة، الذي عاد معه هو وحمَّالٌ آخر إلى المقصورة. وحين أخرجوا الجسد من أسفل المقعد، تبيَّن أنه ما يزال يتنفس، وسرعان ما حاولوا إفاقته بماءٍ بارد وهواءٍ نقي، في انتظار وصول الشرطة والطبيب بعد استدعائهم.
وفي غضون بضع دقائق، وصل أفراد الشرطة ومعهم جرَّاح الشرطة الذي قرَّر بعد فحص موجَز أنَّ الرجل الفاقد الوعي كان يُعاني من تأثيرِ جرعةٍ كبيرة من الكلوروفورم قد أُعطيَت إليه بعنفٍ وغشم، وأمر بنقله بعناية إلى دارِ تمريضٍ محلية. وفي أثناء ذلك، كان أفراد الشرطة قد تمكَّنوا من معرفة أنه السيد ليونيل مونتيجيو بتفحُّص محتويات جيوبه.»
قلت له: «وكانت فصوص الألماس قد اختفت بالطبع؟»
«نعم؛ فلم تكن حقيبة اليد موجودة في المقصورة، ثم عُثِر بعد ذلك على حقيبةِ يدٍ فارغة على مسار السكة الحديدية بين محطتَي «بارنز» و«تشيسوِك»، ويبدو أنها تُشير إلى المكان الذي وقعت فيه السرقة.»
«وما هدفنا الحالي؟»
«نحن ذاهبان إلى دار التمريض بناءً على تعليمات من السيد سالامان لنحصل على أي معلومات يمكننا معرفتها. إذا تعافى مونتيجيو بالدرجة التي تكفي للإدلاء بأقواله عن واقعة السرقة، فسيُصبح لدى الشرطة وصفٌ للسارق، وحينها قد لا يتبقَّى لنا الكثير لنفعله، غير أنك قد لاحظتَ على الأرجح أن شرطة سكوتلانديارد لا تملك في الوقت الحالي على ما يبدو أيَّ معلوماتٍ أخرى سوى ما ذكرته لك؛ ومن ثَم فما تزال لدينا فرصةٌ لنكسب أجرنا.»
ظللنا مُنشغلين بحديث ثورندايك عن هذه الجريمة المألوفة بعض الشيء والنقاش الذي أعقبها حتى توقَّف القطار في محطة برينتفورد. وبعد ذلك ببضع دقائق، توقَّفنا في أحد الشوارع الهادئة بهذه البلدة القديمة عند بابٍ مطليٍّ بلونٍ واحد غير فاقع يحمل لوحةً نحاسية منقوشًا عليها عبارة: «دار سانت أجنيس للتمريض.» ويبدو أنه كان هناك مَن لاحظ وصولنا؛ إذ فتحت لنا البابَ سيدةٌ في منتصف العمر ترتدي زيَّ ممرضة.
استفسرت قائلةً: «دكتور ثورندايك؟» وبينما أومأ زميلي بالإيجاب، تابعَت حديثها وقالت: «أخبرني السيد سالامان بأنك قد تأتي. يؤسفني القول إنني لا أحمل لك أخبارًا سارَّة؛ فالمريض ما يزال فاقدًا للوعي.»
قال ثورندايك: «هذا غريب.»
فقالت: «أجل؛ فالدكتور كينجستون، المسئول عن الحالة، مُتحيِّرٌ بعض الشيء من هذه الغيبوبة الطويلة، ويُخالجه شكٌّ في وجود مادة مخدِّرة — قد تكون جرعةً كبيرة من المورفين — إضافةً إلى تأثير الكلوروفورم والصدمة.»
قلت: «إنه مُحقٌّ على الأرجح، والعجيب أن الرجل ما زال على قيد الحياة أصلًا بعد تعرُّضه لهذه التجربة الشنيعة.»
قال ثورندايك: «نعم، لا بد أنه ذو بأسٍ شديد. هل يمكننا رؤيته؟»
قالت رئيسة الممرضات: «آه، نعم. لقد تلقيت تعليماتٍ بتقديم كل المساعدة المُمكنة لك، والدكتور كينجستون يودُّ معرفة رأيك بشأن الحالة.»
أوصلتْنا إلى غرفةٍ لطيفة في الطابق الأول كان بها رجلٌ يرقد على فراشٍ مُغمِض العينين هادئ الأنفاس لم يُبدِ أي علامة تشير إلى وعيه بما حوله حين دخلنا الغرفة بشيءٍ من الصخَب، بينما كان الضوء القوي يسقط مباشرةً على وجهه عبر نافذة كبيرة مقابل الفراش قد تُرِكت دون ستار. وقف ثورندايك بعض لحظات بجوار الفراش ينظر إلى الرجل الفاقد للوعي، ويُنصِت إلى تنفُّسه مع ملاحظة معدَّل تواتر النفس بساعته، جسَّ النبض ورفع كلا الجَفنين لتفحُّص بؤبؤَي العينين.
وبعد ذلك، أدلى باستنتاجه قائلًا: «لا تبدو حالته مُقلِقة. صحيحٌ أن التنفُّس ضحلٌ بعض الشيء، لكنه منتظم جدًّا، والنبض ليس سيئًا وإن كان بطيئًا. أما البؤبؤان المتقلِّصان، فهما يرجِّحان تعرُّضه لجرعةٍ من الأفيون، أو المورفين على الأرجح، لكن ذلك قد يُحسَم بسهولة بإجراء تحليل كيميائي. هل تُلاحظ حالة الوجه يا جِرفيس؟»
«أتقصد آثار الحروق الناجمة عن الكلوروفورم؟ نعم، لا بد أن المنديل أو الضمادة كانا مُشبَّعين به، غير أنني قد لاحظت أيضًا أنه يتشابه تشابهًا ملحوظًا مع الوصف الذي ذكرته لبادجر عن صاحب حقيبة مستلزمات العناية بالمظهر؛ فهو يبلغ من العمر ما ذكرته تقريبًا — حوالَي الخمسين — ولحيته مُشذَّبة على الطراز القديم نفسه: شاربٌ محلوق، وخصلات شعر مُتهدلة أسفل الذقن. إنها صدفةٌ غريبةٌ بعض الشيء.»
فحدَّق إليَّ ثورندايك، وقال: «بل الصدفة أقرب من ذلك يا جِرفيس. انظر إلى اللحية نفسها.»
أعطاني عدسته، فانحنيت ووجَّهتها نحو لحية المريض لأسلِّطها عليها. وحينها انتصبت فجأةً من الدهشة؛ إذ رأيت بجِلاءٍ تحت الضوء الساطع أن جزءًا كبيرًا من الشعر كان من الشعر المعجَّر. لقد كانت لحية هذا الرجل هي أيضًا مُصابة بحالةٍ مُبكِّرة من تقصُّف الشعر العقدي!
صِحت مُندهشًا: «عجبًا! هذه صدفةٌ مُذهلة حقًّا. أتكون أكثر من مجرَّد صدفة يا تُرى؟»
قال ثورندايك: «يُراودني التساؤل نفسه. هل هذه أغراض السيد مونتيجيو أيتها الممرضة؟»
أجابت وهي تتجه نحو المنضدة الجانبية التي كانت أغراض المريض مرصوصةً عليها بنظام: «نعم، هذه ثيابه والأشياء التي أُخرِجت من جيوبه، وهذه حقيبتُه. لقد وُجِدت على مسار السكة الحديدية، وأُرسِلت إلى هنا قبل ساعتَين، لكنها فارغةٌ لا شيء فيها.»
ألقى ثورندايك نظرةً على الأشياء المختلفة التي أُخرِجت من جيوب المريض، والتي كانت تتضمَّن مفاتيح وحافظة بطاقات وحافظة نقود صغيرة وما إلى ذلك، ثم أمسك الحقيبة وقلَّبها بين يديه بفضول، ثم فتحها ليتفحَّصها من الداخل. لم يكن فيها شيءٌ مميز؛ إذ كانت مجرد حقيبة جِلدية مُقلَّدة عادية وجديدة، غير أن مظهرها قد ساء بعض الشيء بسببِ تغييراتٍ أُضيفت عليها مؤخرًا؛ إذ بُطِّنت ببطانةٍ كتَّانية خشنة خِيطَ بها جيبان كبيران من الجِلد اللين الماص خياطةً غير مُتقَنة. وبينما ترك ثورندايك هذه الحقيبة من يده وأمسك حقيبته القماشية، سأل قائلًا: «متى أتى السيد سالامان لزيارة المريض؟»
«أتى إلى هنا في حوالَي الساعة العاشرة من صباح اليوم، ولم يستطع البقاء أكثر من نصف ساعة؛ لأنه كان مُلتزمًا بموعد، لكنَّه قال إنه سيعرِّج على هنا سريعًا مرةً أخرى مساء اليوم. ألا تستطيع الانتظار حتى تراه؟»
أجاب ثورندايك: «بلى مع الأسف، بل يجب أن نُغادر الآن في الواقع؛ فأنا والدكتور جِرفيس ملتزمان بأمورٍ أخرى يجب أن نتولَّاها.»
سألني ثورندايك بينما كنا نسير في الشارع الرئيس نحو المحطة: «هل ستعود إلى المكتب مباشرةً يا جِرفيس؟»
أجبتُ بشيءٍ من الدهشة: «نعم. ألن تعود إلى هناك مباشرةً؟»
«بلى؛ فأنا أفكِّر في خوضِ رحلةٍ استكشافية قصيرة.»
صِحت متعجبًّا: «آه، هل تعتزم ذلك حقًّا؟» وبينما كنت أتكلَّم، بدأت أدرك أنني قد بالَغت في تقدير أهمية الأعمال الأخرى التي كنت أنوي إنجازها.
فقال ثورندايك: «نعم، الحقيقة أن … ها! أمهِلني لحظةً واحدة يا جِرفيس إذا سمحت.» كان قد توقَّف فجأةً خارج متجر لأدوات الصيد، وبعدما ألقى نظرةً سريعة عبر النافذة، دخله آنذاك بهيئةٍ تنمُّ عن رغبة في إنجازِ أمرٍ متعلِّق بالعمل. تبعته إلى داخل المتجر على الفور، ودخلت في الوقت المُناسب تمامًا لأسمعه يطلب صنَّارة صيد خفيفة رخيصة. وحين أحضرها البائع له، طلب خَيط صنَّارة وخُطَّافًا أو اثنين، وقد فُوجئت قليلًا، وفُوجئ البائع أيضًا مفاجأةً سارَّة بالطبع بعدم اهتمام ثورندايك بجودة هذه المعَدَّات أو مواصفاتها. وأظنُّ أنه كان سيَقبل آنذاك بأي شيء يُعرَض عليه حتى وإن كان خيط صنارة لصيد أسماك القد وخُطَّافًا لصيد أسماك القرش.
قال: «والآن، أريد عوَّامة لخيط الصنَّارة.»
فأخرج صاحب المتجر صينيةً تحمل مجموعة من العوَّامات ألقى عليها ثورندايك نظراتٍ مُتفحِّصةً تحليلية، وأخيرًا أذهل صاحب المتجر باختيارِ عوامةٍ فظيعة ضخمة مُنتفِخة البطن ومُكتسية بمزيجٍ من اللونين القرمزي والأخضر هي أشبه بنسخةٍ صغيرة من العوَّامة التي تُعلِّم موضع حِزم أسلاك التليغراف التي تمرُّ أسفل المياه.
لم أستطع ترك هذه الفظاعة تمرُّ دون تعليق، فقلت له: «يجب أن تعذرني يا ثورندايك إذا تجرَّأت على القول إن الحوت المقوَّس الرأس لم يعُد يتردَّد على روافد نهر التايمز.»
فقال وهو يضع عوَّامة حِزم أسلاك التليغراف في جيبه بهدوءٍ جامد ويدفع ثمن مشترياته: «هلَّا تهتمُّ بشئونك الخاصة! فأنا أُحبُّ من العوَّامات ما أستطيع رؤيتها.»
وهنا علَّق صاحب المتجر، بعدما تعافى بعض الشيء من صدمة المُفاجأة، قائلًا باحترامٍ إن وقتًا طويلًا قد مضى منذ أن صِيدت إحدى أسماك الكراكي الضخمة في هذه المنطقة، وحينها أجهز ثورندايك عليه تمامًا بالرد قائلًا: «نعم، لا أشكُّ في ذلك؛ فهم لا يستخدمون النوع الصحيح من العوَّامات كما تعلم. أما الآن، فحين ترى أسماك الكراكي عوَّامتي، سيتدافَع بعضها فوق بعض لتعلَق بالخُطَّاف.» وتأبَّط الصنَّارة، وخرج بخُطًى متسكِّعة تاركًا صاحب المتجر يلهث بشدة ويحدق بشدةٍ أكبر.
سألته بينما كنا نسير في الشارع (تحت أنظار صاحب المتجر الذي خرج إلى الرصيف ليرانا للمرة الأخيرة): «لكن ما الذي تُريد فعله بهذه العوَّامة الضخمة بحقِّ السماء؟ عَجبًا لك، إنها تُرى على بُعدِ ربع ميل.»
قال ثورندايك: «بالضبط. وفيمَ يرغب صيَّاد رجال سوى ذلك؟»
جعلني هذا الردُّ أقف مع نفسي وأفكِّر مليًّا؛ فمن الواضح أن ثورندايك كان لديه شيءٌ يمثِّل ما هو أكثر من مصلحةٍ مُشتركة، وخطر ببالي مرةً أخرى أن الأعمال التي يجب عليَّ إنجازها ليست بالضرورية المُلحَّة. وكنت على وشك ذِكر هذه الحقيقة حين توقَّف ثورندايك مجددًا، عند متجر زيوت ومواد كيميائية هذه المرة.
قال: «سأدخل هنا، وأشتري قليلًا من الصبغة الطبيعية ذات اللون البني المحمر.»
فتبعته إلى داخل المتجر، وبينما كان البائع يَزِن الصبغة المسحوقة ويضعها في كيسٍ ورقي، رحت أفكِّر مليًّا؛ ذلك أنني لم أجد علاقةً واضحة بين معَدَّات الصيد والصبغة البُنية المحمرة، وانتابتني الحيرة بقدر ما انتابني الفضول أيضًا.
سألته حالَما خرجنا من المتجر: «لماذا تريد الصبغة البنية المحمرة؟»
أجاب فورًا: «لأخلطها بالجص.»
«ولماذا تريد تلوين الجص؟ وماذا ستفعل به؟»
وحينها أنَّبني بصرامةٍ مُصطنَعة قائلًا: «إنك لا تُظهِر قدراتك الحقيقية الآن يا جِرفيس؛ فمُحقِّق بخبرتك لا ينبغي أن يطلب تفسيرًا لما هو واضح.»
فأضفتُ: «ولماذا أردتَ أن تعرف ما إذا كنت سأعود مباشرةً إلى المكتب أم لا؟»
«لأنني قد أحتاج إلى بعض المساعدة لاحقًا. صحيحٌ أن بولتون يستطيع إنجاز كل ما أريده على الأرجح، لكني أفضِّل أن تكونا كلاكما على مقربةٍ من برقية سأُرسلها لاحقًا.»
فصِحت مُتعجبًا: «كم يبدو من العبث أن تتحدَّث عن إرسال برقية إليَّ في حين أنني هنا!»
«لكني قد لا أحتاج إلى أي مساعدة هنا في النهاية.»
قلت بإصرار: «حسنًا، ستنال المساعدة سواءٌ أأردتها أم لا. إنك تعتزم فِعلَ شيءٍ ما، وسأُشاركك فيه.»
قال وهو يضحك ضحكةً مكتومة: «أُحبُّ حماستك يا جِرفيس، لكن ثَمة احتمالًا كبيرًا ألا أجد في النهاية سوى سراب.»
فقلت له: «حسنًا جدًّا، سأساعدك إذن في العثور عليه. لديَّ خبرةٌ كبيرة في هذا الاختصاص، فضلًا عن مواهبي الفِطرية فيه؛ فهيَّا سِرْ بنا.»
سار بنا وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة التصبُّر، وتوجَّه بنا نحو المحطة حيث وجدنا لحُسن حظنا قطارًا على وشك الانطلاق، غير أن رحلتنا لم تَطُل؛ إذ ترجَّل ثورندايك من القطار في محطة «تشيسوِك»، وحالَما غادَرنا المحطة اتَّجه شرقًا وقد اتخذ هيئة مَن يعتزم إنجازَ عملٍ ما، وحين دخلنا مشارف حي «هامرسميث»، انعطف إلى شارعٍ جانبي سرعان ما أخرجنا إلى طريق «بريدج رود». وهنا اتجه فجأةً إلى اليمين، وبالخُطى السريعة نفسها عَبَر جسر هامرسميث، وشقَّ طريقه إلى ممشى قطرِ القوارب. ولأنه تباطأ آنذاك تباطؤًا ملحوظًا، فقد بادرت بسؤاله عمَّا إذا كان هذا هو المكان الذي يعتزم أن يعرض فيه عوَّامته الضخمة.
وأجاب هو قائلًا: «أظنُّ أن هذه المنطقة هي البُقعة التي سنصطاد فيها، لكننا سنتفحَّصها بإمعان، ونختار موضعًا مناسبًا نطرح منه الصنارة.»
واصَل المسير بخُطًى هادئة، ولاحظتُ أنه يُمارس عادته الدائمة في تفحُّص خصائص آثار الأقدام المختلفة التي وطئت المَمشى في اليوم السابق أو اليومين السابقين؛ ولهذا فقد ظلَّ مُلازِمًا للجانب الأيمن من الممشى، حيث كانت ظلال بضع أشجار من الصفصاف قُطِعت فروعها العُلوية تتدلى فوق قناة جافَّة غير واضحة المَعالم، قد أبقت الأرض ليِّنةً بعض الشيء. ظللنا نمشي مسافة نصف ميل تقريبًا، ثم توقَّف ونظر حوله.
قال: «أظنُّ أن من الأفضل أن نعود إلى الوراء قليلًا؛ إذ يبدو أننا قد تجاوزنا الأثر المنشود.»
لم أعلِّق على هذه الملاحظة الغامضة، ورجعنا إلى الوراء مسافة مائتَي ياردة تقريبًا. ظلَّ ثورندايك مُلازمًا للجانب الأبعد عن النهر ومُحدِّقًا إلى الأرض. توقَّف مرةً أخرى بعد فترةٍ قصيرة، وألقى بنظره على الممشى الذي كنا شاغلَيه الوحيدَين آنذاك، ثم وضع حقيبته القماشية على الأرض، وفكَّ أبازيمها.
قال: «أظنُّ أن هذا هو موضعنا المنشود.»
سألته: «ماذا ستفعل؟»
«سأصنع قالبًا أو اثنين. وفي أثناء ذلك، من الأفضل أن تُركِّب أجزاء الصنَّارة معًا كي تُشتِّت انتباه أي مارَّة.»
بدأت أجهِّز معَدَّات الصيد، وظللت في الوقت نفسه أُراقب إجراءات زميلي من كثب، وقد كانت إجراءاتٍ شديدةَ الغرابة؛ فقد بدأ أولًا باغتراف القليل من مياه النهر في وعاء الخلط المطاطي الذي خلط فيه الماء بمقدار ملء إناء من الجص، ثم خفق مع هذا الخليط بضع رشَّات من الصبغة البُنية المحمرة، التي حوَّلت لونه الأبيض الناصع إلى لونٍ طيني فاتح يميل إلى الاصفرار. وبعد ذلك، نظر إلى امتداد الممشى في الاتجاهين، ثم انحنى وسكب الجص السائل بعناية في بصمتَي عصا سير كانتا ظاهرتين عند حافَّة الممشى، وأنهى إجراءاته بملءِ بصمةٍ عميقة للعصا نفسها عند حافَّة القناة، حيث كان من الواضح أنها غُرِزت في الأرض الطينية الرخوة.
وبينما كنت أشاهد هذه العملية، خطر ببالي شكٌّ مُفاجئ. تركت الصنَّارة ومشيت مُسرعًا على الممشى، حتى رأيت بصمةً أخرى للعصا، وبفحصٍ سريع لها تأكَّد شكِّي؛ ففي وسط الحفرة الضحلة الصغيرة التي أحدثتها تلك البصمة، رأيت بصمةً شِبه دائرية كان من الواضح أنها ناجمة عن مسمارٍ تزييني شِبه بالٍ.
وحينئذٍ صِحت قائلًا: «عجبًا! هذه هي العصا التي رأيناها في سكوتلانديارد!»
فقال ثورندايك: «أتوقَّع أنها هي، بل أعتقد أنها هي بالفعل، غير أننا سنُصبِح أقدر على تحديد ذلك عند رؤية القوالب. فلتُمسِك صنَّارتك؛ يوجد رجلان قادمان على الممشى.»
أغلق حقيبة استقصاءاته، وبعدما سحب خيط الصنَّارة من جيبه، بدأ يبسطه وهو مُنهمك في التفكير.
قلت: «كنت أتمنَّى أن يكون مظهرنا أكثر تماشيًا مع شخصية الصيَّاد الريفي ذي الصنَّارة، ولتُخفِ هذه العوَّامة بحق الرب، وإلا سنَجمع حولنا حشدًا من الناس بسببها.»
ارتسمت على وجهه ضحكةٌ هادئة، وقال: «العوَّامة كانت من أجل بولتون؛ إذ كان سيُحبُّها. والحشد سيُصبح ميزة إلى حدٍّ ما، وسوف تُدرك ذلك عندما يحين الوقت الذي نستخدمها فيه.»
مرَّ بنا الرجلان — اللذان كانا بنَّاءين على ما يبدو — ورمقا معَدَّات الصيد بنظرةٍ خاطفة يعتريها فضولٌ طفيف، وبينما كانا يتسكَّعان بجوارنا أدركت قيمة الصبغة البنية المحمرة؛ فلو كانت القوالب الجصية مصنوعةً من الجص الأبيض، لبرَزت بوضوح في الأرض، ومن شِبه المؤكَّد أن هذين الرجلين كانا سيتوقَّفان حينئذٍ ليتفحَّصاها ويعرفا ما كنا نفعله. أما الجص الملوَّن فقد كان غير مرئي تقريبًا.
أعلنت هذا الاكتشاف الذي توصَّلت إليه قائلًا: «أنت رجلٌ رائع يا ثورندايك. إنك تتوقع كل شيء.»
فانحنى مُعرِبًا عن امتنانه، وبعدما جسَّ أحد القوالب برفق، وتيقَّن من أن الجص قد صار يابسًا، رفعه بعنايةٍ هائلة وقد شكَّل نسخةً طِبق الأصل من طرف العصا السُّفلي. كان المسمار التزييني يظهر على النسخة بوضوح، حتى إن بقايا الشكل النمطي الذي يُزيِّنه قد ظهرت هي أيضًا. وحين أخرج ثورندايك فرجار القياس، زال من أنفسنا أيُّ شكٍّ كان من الممكن أن يظلَّ مُتبقيًا حيال هُوية العصا.
قال وهو يفتح فكَّي الفرجار ويُراجِع المُدوَّن في دفتر ملاحظاته: «أظنُّ أن القُطر كان يبلغ ثلاثًا وعشرين على اثنتين وثلاثين بوصة.» وحين وضع القالب بين الفكَّين، وانزلقا برفق حتى لامساه، كان التدريج يُشير إلى ثلاث وعشرين على اثنتين وثلاثين بوصة.
فقال ثورندايك وهو يُمسِك القالبين الآخرين، ويؤكِّد هُويتهما مُستخدِمًا القالب الذي قِسناه: «جيد. بهذا ننتهي من الإجراء الأول. وبعدما ألقى أحد القوالب في حقيبته، ورمي الاثنين الآخرين في النهر، أضاف: «لننتقل الآن إلى الإجراء التالي، ونأمل أن نُحرِز فيه نجاحًا مُشابهًا. تُلاحظ هنا أنه غَرَز عصاه في الأرض، فلماذا فعل ذلك من وجهة نظرك؟»
«ربما ليَجعل يدَيه حُرتَي الحركة.»
«نعم. والآن، لنقعد هنا ونفكر في السبب الذي جعله يرغب في أن تكون يداه حُرتَي الحركة. انظر حولك فحسب وأخبِرْني بما تراه.»
حدَّقت بنظراتٍ يائسةٍ بعض الشيء إلى الأشياء العادية جدًّا المحيطة بنا، ورحت أسردها دون تفاصيل، فقلت: «أرى أشجار صفصاف رثَّة مقطوعة الفروع العلوية، ومجموعةً متنوعة من نباتاتٍ عادية للغاية، وقِدرًا صفيحيًّا مهجورًا غير صالح للاستعمال، ورُقعةً جَرداء حيث يبدو أن شخصًا ما قد انتزع قطعةً صغيرة من العشب.»
فقال ثورندايك: «نعم، وستُلاحظ أيضًا توزيع مقدار من التراب بشيء من التساوي على قاع القناة. وقد قُطِعت رُقعتُك العُشبية من عند حوافِّها بسكينٍ كبير قبل انتزاعها؛ فلماذا انتُزِعت في رأيك؟»
هززتُ رأسي قائلًا: «لا جدوى من إطلاق محض تخمينات.»
قال: «ربما لا، غير أنها تُوحي بسببٍ واضح حين تُوضَع في الحُسبان مع الشواهد الأخرى؛ إذ تُلاحِظ بين جذور الصفصاف رقعةً عُشبية تبدو أكبر سُمكًا ممَّا قد يتوقَّعه المرء وفق مكانها. أتساءل …»
وبينما كان يتكلَّم مدَّ عصاه إلى الأمام، وحاوَل تحريك رقعة العشب من عند حوافها بالقوة، فارتفعت الرقعة كتلةً واحدة، وحين أخذتُها وحاولت وضعها على الرقعة الجرداء، تلاءمت معها بدقةٍ بالغة لم تدَع أي مجال للشك في أصلها.
فصِحت وأنا أنظر إلى التربة التي كان اضطرابها واضحًا بين جذور الصفصاف، والتي ظهرت بعد رفع رقعة العشب الصغيرة التي كانت تُغطِّيها: «ها! الأرض تزداد سُمكًا هنا. يبدو أنها تُواري شيئًا مدفونًا، أو حُفِرت لإخراج شيء منها، والأرجح أنها تُواري شيئًا مدفونًا.»
قال ثورندايك وهو يفتح حقيبته ليُخرِج منها ملعقةً مسطَّحة كبيرة: «آمل أن يكون صديقي العلَّامة مُصيبًا، وأظنُّه كذلك.»
فسألته: «ماذا تتوقَّع أن تجد هناك؟»
أجاب قائلًا: «لديَّ بصيصٌ من الأمل في إيجادِ شيءٍ ما ملفوفٍ في نصف منشفة شديدة الاتِّساخ.»
قلت له: «من الأفضل أن تجده سريعًا إذن؛ فثَمة رجلٌ قادم على الممشى من اتجاه حي «بوتني».»
نظر نحو الرجل الآتي من بعيد، وبدأ يجرف التربة المُهلهلة ضاربًا الملعقة المسطحة فيها بهِمَّة ونشاط.»
قال وهو يحفر بضرباتٍ قوية ويجرف التراب بيديه: «أُحسُّ بشيءٍ ما.» ونظر مرةً أخرى نحو الشخص الغريب المُقترب، والذي بدا آنذاك أنه قد أسرع الخُطى، لكنه كان ما يزال على بُعد أربعمائة ياردة أو خمسمائة، ثم دفع يديه داخل الحفرة، وبدأ يشدُّ شيئًا ما بقوة. ورُويدًا ظهرت لنا علبةٌ يبلغ بُعداها حوالَي عشر بوصات في ست بوصات، قد غُلفت بجزءٍ من منشفةٍ قذِرة للغاية، ورُبطت برباطٍ دون إحكام. فكَّ ثورندايك الرباط سريعًا، وفتح المنشفة كاشفًا عن علبةٍ أنيقة من الجِلد المغربي ذات صفيحةٍ ذهبية صغيرة تحمل نقوشًا.
انقضضت على العلبة، وضغطت على قفلها، ورفعت غطاءها، ومع أنني كنت أتوقَّع محتواها فقد نظرت إلى الصف المُتلألئ والعنقود البرَّاق من الماسات ذات اللون الرمادي المزرق الداكن بشعورٍ أشبه بصدمة المفاجأة.
وبينما أغلقت العلبة، ووضعتها في الحقيبة القماشية الخضراء، ألقى ثورندايك نظرةً خاطفة على ذلك الكنز وأخرى بطول الممشى، ثم حشر المنشفة في الحفرة، وبدأ يُهيل التراب فوقها. كان الغريب المُقترِب قد غاب عن أنظارنا لبُرهة آنذاك، واختفى وراء أحد مُنعطفات الممشى وأجمة قريبة من الشجيرات، وكان من الواضح أن ثورندايك يعمل على إخفاء كل الآثار قبل أن يظهر ذلك الرجل مجدَّدًا. وبعدما ردم الحفرة أعاد وضع طبقة العشب فوقها بعناية، ثم اتَّجه إلى الرقعة الجرداء الصغيرة التي كنا قد أزلنا من فوقها طبقة العشب، وبدأ يحفرها بسرعة.
قال وهو يُلقي على الممشى دودةً استخرجها من أسفل تلك الرقعة للتَّو: «هاك! هذه ستُفسِّر ما نفعله هنا. من الأفضل أن تُواصل التنقيب بسِكِّين الجيب، ثم تشرع في صيد وحوش اللوياثان. أما أنا فيجب أن أركض إلى مركز الشرطة، ولتَلزَم أنت هذا المَوضع، لا تبرحه لأي سبب حتى أعود أو أُرسِل إليك مَن يُعفيك من هذه المهمَّة. سأُعطيك العوَّامة؛ فسوف تحتاج إليها.» رمى عوَّامته الضخمة البشعة على المَمشى بابتسامةٍ خبيثة، وبعدما مسح الملعقة وأعاد وضعها في الحقيبة، أمسك الحقيبة وسار ناحية حي «بوتني».
وحينئذٍ ظهر الغريب مرةً أخرى يمشي وكأن شخصًا ما يُراهن على فوزه في سباق للمشي، وبدأت أنا في نبش الأرض بسِكِّين الجيب.
وحين اقترب الرجل أبطأ الخُطى تدريجيًّا حتى وصل إليَّ وهو يمشي الهُوينى، وجاء من ورائه بمسافةٍ قصيرة ثورندايك الذي استدار وعاد نحوي كأنه غيَّر رأيه، ومرَّ بي آنذاك قائلًا: «ربما سيكون «هامرسميث» أفضل.» فألقى الغريب نظرةً خاطفة متشكِّكة عليه، ثم التفت إليَّ.
سألني بعدما توقَّف واستطلعني بفضول: «أتبحث عن ديدان؟»
أجبته بإمساك إحداها (باشمئزازٍ أسرَرتُه في نفسي) ورفعِها عاليًا، بينما أضاف وهو ينظر بأسًى إلى ثورندايك الذي كان يبتعد عنَّا: «يبدو أن صديقك قد ضجر.»
فقلت له: «لم تكن لديه صنَّارة، لكنه سيعود قريبًا.»
قال وهو يُحدِّق من فوق كتفي نحو الصفصاف: «آه! حسنًا، لن تنال أي شيء قد ينفعك هنا؛ فالمكان الذي تَكثُر فيه يقع على بُعدِ ربع ميل، عند دوران ذلك المنعطف بالضبط. تلك رقعةٌ غنيَّة بالديدان. تعالَ معي فحسب وسأُريك.»
قلت له: «يجب أن أبقى هنا حتى يعود صديقي، لكني سأُخبره بما تقول.»
قلت هذا وجلست ببلادة على الضفة، وبعدما ألقيت خُطَّاف صنارتي المزوَّد بطُعمٍ في مجرى النهر استقررت في جلستي، وظللت مُحدِّقًا إلى العوَّامة الغريبة المُثيرة للضحك. ظلَّ الرجل الذي التقيته للتَّو يتمشَّى حولي بعدم ارتياح، مُحاولًا بين الحين والآخر استدراجي بعيدًا إلى «الرقعة الغنية بالديدان» عند دوران المنعطف. وعلى هذا النحو مرَّ الوقت ببطءٍ شديد حتى مضت ثلاثة أرباع من الساعة.
وفجأةً لاحظتُ سيارتَي أجرة تعبُران الجسر، ومن ورائهما ثلاثة درَّاجين، وبعد ذلك بدقيقة أو اثنتين ظهر ثورندايك مجدَّدًا بمرافَقة رجلَين آخرين، ثم رأينا راكبي الدرَّاجات يقتربون منَّا بوتيرةٍ سريعة.
قال الرجل وهو ينظر إلى الوافدين الجُدد بقلقٍ واضح: «يبدو أنه موكبٌ نظامي.» وبينما كان يتكلَّم، توقَّف أحد راكبي الدرَّاجات، وترجَّل من درَّاجته ليفحص إطارها، بينما اقترب منَّا الدرَّاجان الآخران وتجاوَزانا بسرعة، ثم توقَّفا هما أيضًا وترجَّلا من درَّاجتَيهما، وبعدما وضعاهما في القناة الجافَّة عادا نحونا. وبحلول هذه اللحظة، كنت قد عرفت أن رفيقَي ثورندايك هما المُفتِّش بادجر والمشرف ميلر، وتفاجأت كثيرًا بذلك. وربما عرفهما الرجل الذي كان بجواري أيضًا، أو ربما أقلقه تصرُّف الدرَّاج الثالث الذي وضع درَّاجته أيضًا وكان يقترب منَّا سيرًا على قدمَيه. على أي حال، قلَّب الرجل بصره بسرعة بين مجموعتَي الرجال الذين كانوا يقتربون منَّا، وبعدما حدَّد المجموعة الأصغر انطلق فجأةً بين الدرَّاجين الاثنين، وركض بعيدًا على طول الممشى كأنه أرنبٌ برِّي.
اندلعت مطارَدةٌ جماعية جامحة على الفور. ركب الدرَّاجون الثلاثة درَّاجاتهم مرةً أخرى، وقادوها بسرعةٍ هائلة وراء الطريد، وتبعهما بادجر وميلر على أقدامهما، ثم توارى الهارب والدرَّاجون وأخيرًا الضابطان عند دوران منعطف الممشى.
سألت زميلي حين صِرنا وحدنا: «كيف علمت أنه الرجل المطلوب؟»
«لم أعرف، وإن كانت لديَّ أسبابٌ قوية للشك. كل ما فعلته أنني أحضرت الشرطة لمراقبة المكان ونصْب كمين؛ فلم تكن حركة الحصار سوى خدعة تجريبية. وربما كانوا سيتردَّدون بشأن إلقاء القبض على ذاك الرجل لو لم يُصبه الذعر ويهرب. لقد كنا محظوظين من جميع النواحي؛ فمن حسن الحظ أن بادجر وميلر كانا في «تشيسوِك» يُجريان بعض التحرِّيات، وتمكَّنت من مهاتَفتهما ليلتقياني عند الجسر.»
وحينئذٍ ظهر الموكب مرةً أخرى مُتقدمًا نحونا بسرعة، وكان ناصحي السابق يسير وسط الموكب مُصفَّد اليدين بإحكام. وبينما كان يُقتاد أمامي حدَّق إليَّ بوحشية، وتفوَّه بعباراتٍ بذيئة عن «واشٍ لَعين».
قال ميلر للشرطيَّين: «يُمكنكم اصطحابه في إحدى سيارتَي الأجرة، ووضع درَّاجاتكم فوقها.» ثم التفَت إلى ثورندايك بينما تحرَّك الموكب ناحية الجسر، وقال له: «أظنُّه الرجل المطلوب أيُّها الطبيب، لكنه لا يحمل بحوزته أيًّا من الأشياء المفقودة.»
قال ثورندايك: «إنه لا يحمل أيًّا منها بالطبع.»
«حسنًا، هل تعرف مكانها؟»
فتح ثورندايك حقيبته، وأخرج العلبة وسلَّمها إلى المُشرف، وقال: «أريد إيصالًا بتسلُّمها.»
ففتح ميلر العلبة، وعند رؤية الجواهر المُتلألئة أطلق كلا المُحقِّقين صيحة ذهول، وسأل المُشرف قائلًا: «من أين حصلت على هذا يا سيدي؟»
«حفرت الأرض أسفل شجرة الصفصاف هذه واستخرجتها من تحتها.»
«ولكن كيف عرفت أنها كانت هناك؟»
أجاب ثورندايك: «لم أعرف، لكني رأيت أن البحث هناك سيكون أفضل على أي حال كما تعلم.» وابتسم في وجه الضابط المشدوه ابتسامةَ فُتور مُثيرة للغيظ.
فحدَّق المُحقِّقان إلى ثورندايك، ثم نظر كلاهما إلى الآخر، ثم نظرا إليَّ، وقال بادجر بقناعةٍ راسخةٍ إن ذلك كان «مُذهِلًا للغاية.»
وأضاف: «أظنُّ أن الدكتور يُكِنُّ داخله عرَّافًا مُتعاونًا.»
قال ميلر: «هل لي يا سيدي أن أعتبر أنك تستطيع إقامة حُجة بيِّنة على هذا الرجل كي نستطيع احتجازه احتياطيًّا ريثما يتعافى السيد مونتيجيو، ويستطيع معرفة هُويته؟»
أجاب ثورندايك قائلًا: «لك ذلك. أخبِرني لاحقًا بموعد توجيه الاتهام إليه ومكانه، وسأحضر وأقدِّم الحجة والدليل.»
وحينئذٍ كتَب ميلر إيصالًا بتسلُّم الجواهر، وهرع الضابطان إلى سيارة الأجرة، تاركين إيَّانا «لصيدنا»، كما قال بادجر.
وحالَما اختفيا من نطاق بصرنا فتَح ثورندايك حقيبته، وخلط مقدار ملء وعاء من الجص مرةً أخرى، وقال: «نريد قالبين آخرين؛ واحدًا للقدم اليُمنى للرجل الذي دفن الجواهر، وواحدًا للقدم اليمنى للمُحتجَز. إنهما مُتطابقتان بوضوح كما ترى من نمط ترتيب مسامير الحذاء، والرقعة الصفيحية الجديدة المُثبَّتة على النعل من الأسفل. سأقدِّم القوالب ضِمن الأدلة أمام هيئة المحكمة، وأُقارنها بفردة الحذاء اليُمنى للمحتجَز.»
وحينها فهمت السبب الذي دفع ثورندايك إلى السير ناحية حي «بوتني» ثم عودته وراء الغريب؛ إذ كان قد ارتاب في الرجل وأراد إلقاء نظرة على آثار قدميه، غير أنني قد ظللت عاجزًا تمامًا عن فهمِ قدرٍ كبير من الأحداث في هذه القضية.
•••
قال ثورندايك وهو يضع القالبين اللذين كان كلٌّ منها يحمل تعريفًا مكتوبًا بالقلم الرصاص في حقيبته القماشية: «أرأيت؟ هذه هي نهاية لغز الماسة الزرقاء.»
قلت له: «معذرة، لكنها ليست كذلك؛ فأنا أريد شرحًا كاملًا. من الواضح أنك اتَّجهت رأسًا من دار التمريض في «برينتفورد» إلى شجرة الصفصاف هذه؛ أي إنك كنت تعرف آنذاك مخبأ القلادة بالضبط، ومَن يعلم؟ فربما كنت تعرف ذلك بالفعل حين غادَرنا سكوتلانديارد.»
ردَّ قائلًا: «الحق أنني كنت أعرف ذلك آنذاك بالفعل، وقد ذهبت إلى «برينتفورد» في الأساس كي أتيقَّن من صحَّة هُوية صاحب الحافظة والحقيبة.»
«لكن ما الذي قادك إلى مسار قَطر الزوارق في «هامرسميث» بهذا اليقين؟»
وحينئذٍ ذكَر التعليق الذي نقلته عنه في مُستهلِّ هذه الرواية.
وأضاف عليه: «وفي هذه القضية، أصبحت إحدى الحقائق، التي يعرفها علماء الطبيعة جيدًا، دليلًا مُهمًّا حاسمًا؛ إذ ربطت حقيبةً وُجدت في مكانٍ ما بمكانٍ آخر بدا غير مُرتبط به، وكان ذلك هو الرابط الذي وصل بين طرفَي سلسلةٍ مكسورة. وقد ذكرتُ هذه الحقيقة للمفتِّش بادجر الذي نبذها بازدراء لافتقاره إلى المعرفة اللازمة لفهمها.»
«أتذكَّر أنك أخبرته باسم تلك القوقعة الصغيرة التي سقطت من وسط حفنة العشب.»
قال ثورندايك: «بالضبط. لقد كانت هذه هي الحقيقة الحاسمة؛ إذ أخبرتنا بالمكان الذي أُخذت منه حفنة العشب.»
قلت له: «لا أستطيع أن أتخيَّل كيفية حدوث ذلك؛ فلا شك أن القواقع موجودة في جميع أنحاء البلاد، أليس كذلك؟»
أجاب قائلًا: «هذا صحيحٌ في العموم، لكن قواقع «كلوسيليا الثنائية الطيات» من الاستثناءات النادرة؛ إذ تُوجَد أربعة أنواع بريطانية من هذه القواقع الصغيرة الغريبة ذات المصراع الواحد (والتي سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى المصراع الزنبركي الصغير الموجود في مدخل القوقعة)، وهي: قواقع «كلوسيليا الصفائحية»، و«كلوسيليا رولفي»، و«كلوسيليا روجوسا»، و«كلوسيليا الثنائية الطيَّات». ويُمكن القول إن الأنواع الثلاثة الأولى تتوزَّع توزيعًا طبيعيًّا، أما توزيع القواقع «الثنائية الطيَّات» فهو غير طبيعي. فهذا النوع يُحتضَر على ما يبدو؛ إذ ينقرض الآن من على هذه الجزيرة. وحين ينقرض نوعٌ من الحيوانات أو النباتات، فإنه لا يندثر من جميع أنحاء موطنه الطبيعي بالتساوي، بل يندثر أولًا في رُقعٍ معيَّنة تتسع تدريجيًّا، تاركةً بعض المناطق المعزولة التي تتبقى فيها بعض الكائنات التي تنجو من هذا النوع. وهذا ما حدث في حالة قواقع «كلوسيليا الثنائية الطيات»؛ إذ اندثرت من هذا البلد عدا منطقتين؛ إحداهما في مقاطعة «ويلتشير»، والأخرى هي ضفة نهر «التايمز» اليُمنى في «هامرسميث». وهذه المنطقة الثانية محدودة للغاية؛ إذا مشيت صاعدًا بضع مئات من الياردات ناحية «بوتني»، فستجد أنك خرجت عن حدودها، وإذا مشيت نازلًا بضع مئات من الياردات ناحية الجسر، فسوف تجد أيضًا أنك خرجت عن حدودها، غير أن هذه المنطقة الصغيرة غنيَّة جدًّا بذلك النوع. وإذا كنت تعرف المكان المناسب الذي تبحث فيه، وهو على لحى أشجار الصفصاف أو عند جذورها، فسوف تتمكَّن في الغالب من العثور على عيِّنةٍ واحدة أو اثنتين منه؛ ومن ثَم فإن وجود تلك الصَّدفة قد ربط حفنة العُشب بشجرة صفصاف معيَّنة، وكانت هذه الشجرة ستوجد إما في «ويلتشير» أو عند ممشى قطر الزوارق في «هامرسميث»، ولم يكن يوجد شيءٌ آخر يربطها بمقاطعة «ويلتشير»، بينما كان يوجد شيءٌ يربطها بحي «هامرسميث». دعنا نترك الحديث عن الصَّدفة بُرهةً ونفكِّر في التلميحات الأخرى التي أوحت بها الحقيبة والعصا.
كانت الحقيبة، كما رأيتَ بعينَيك، تحمل آثار شخصين مختلفين تمامًا. كان أحدهما رجلًا من الطبقة الوسطى، في منتصف العمر أو مُسنًّا على الأرجح، ونظيفًا شديد الاعتناء بمظهره، ويتسم بالنظام في عاداته. أما الآخر، فقد كان غير نظيف، وقذر المَلبس، ومجرمًا محترفًا حسب ما بدا. وقد بدا أن الحقيبة نفسها مِلكُ الشخص الأول؛ إذ كانت حقيبةً باهظة، وتحمل آثار سنوات من الاستخدام الحريص. وهذه الحقائق، إلى جانب المُلابَسات التي عُثِر عليها فيها، قادَتنا إلى الشك في أنها كانت حقيبةً مسروقة. وعلِمنا بعد ذلك أن ثَمة حقيبةً أخرى قد سُرقت محتوياتها، وعلِمنا أيضًا أن حقيبةً فارغة قد وُجدت على مسار السكة الحديدية بين محطتَي «بارنز» و«تشيسوِك»، وكان من المُرجَّح أن اللص ترجَّل من القطار في تلك المحطة الثانية. وقد افترضت الشرطة أن الحقيبة الفارغة هي حقيبة السيد مونتيجيو، غير أن الاحتمالات — التي كان من بينها على سبيل المثال أن الحقيبة قد أُلقيت من القطار على مسار السكة الحديدية — كانت تشير إلى أنها حقيبة اللص، وأن حقيبة السيد مونتيجيو قد سُرِقت بمحتوياتها.
بعد ذلك، كانت المسألة التي ينبغي علينا حسمها حين غادَرنا «سكوتلانديارد» هي ما إذا كان لتلك الحقيبة التي بدت مسروقة أيُّ صلة بالسرقة التي وقعت على متن القطار أم لا. وحالَما رأينا السيد مونتيجيو، اتَّضح أنه يتطابق تمامًا مع صاحب حافظة مستلزمات العناية بالمظهر، وحين رأينا الحقيبة التي وُجدت على مسار السكة الحديدية — تلك الحقيبة الجِلدية المُقلَّدة الرديئة الصنع — كان من شِبه المؤكَّد أنها ليست حقيبته، في حين أن الجيبَين الجِلديَّين المُخاطين بلا إتقان، واللذين كانا يتلاءمان تمامًا مع أبعاد أدوات اقتحام المنازل، أشارا بقوةٍ إلى أنها حقيبة لص. وإذا كانت كذلك بالفعل، فقد كان معنى هذا أن حقيبة السيد مونتيجيو قد سُرقت وحُشيت بأغراض السارق.
وبهذه الفرضية الأساسية الواعدة، تمكَّنَّا آنذاك من تناول القضية من الطرف الآخر؛ فقد اتَّضح أن الحقيبة التي رأيناها في «سكوتلانديارد» هي حقيبة مونتيجيو، وأنها أُخذت من «تشيسوِك» إلى ممشى قطر القوارب في «هامرسميث»، حيث وُضعت على الأرض بالقرب من شجرة صفصاف على الأرجح، وفقًا للطخات الطينية التي كانت على قعرها من الأسفل. وكان استخدام حفنة العشب في التغليف يُشير إلى أن شيئًا ما قد أُزيلَ من الحقيبة في ذلك المكان؛ شيئًا كان يربط الأدوات معًا ويمنعها من إصدار صلصلة، واتَّضح أنَّ ثَمة نصف منشفة مفقودًا؛ لذا فقد كان من الواضح أن مَمشى قطر القوارب هو المنطقة التي سنستكشفها تاليًا.
وقد كان فحص هذه المنطقة بالتفصيل سيستغرق وقتًا طويلًا رغم صِغر نطاقها الجغرافي، لكن العصا قد قدَّمت لنا مساعدةً لا تُقدَّر بثمن؛ ذلك أن طرَفها السُّفلي كان مميَّزًا للغاية، وكانت تحمل آثارًا تُشير إلى أنها قد غُرزت على عمق حوالَي ثلاث بوصات في أرضٍ تُشبِه تلك التي ظهرت علاماتها الطينية على الحقيبة؛ ومن ثَم كان علينا أن نبحث في أرض تلك المنطقة عن حفرةٍ عمقُها حوالَي ثلاث بوصات، وتحمل في قاعها بصمةَ مسمارٍ تزييني شِبه بالٍ، وكان من المرجَّح أن هذه الحفرة ستكون قريبة من شجرة صفصاف.
وقد اتَّضح أن البحث أسهل حتى ممَّا كنت أرجوه؛ فحالَما وصلنا إلى ممشى قطر القوارب، وجدت أثر مسار العصا، وليس مسارًا واحدًا فحسب، بل مسارٌ مزدوج، وهو ما أظهر أن صديقنا قد عاد إلى الجسر. وكل ما كان علينا فعله هو أن أتعقَّب المسار حتى نهايته، وكان من المؤكَّد أننا سنجد الحفرة هناك، وهو ما حدث بالفعل.»
سألته: «ولماذا دفن المسروقات، في رأيك؟»
«إجراءٌ احترازي على الأرجح؛ تحسُّبًا لما قد يحدث إن كان أحدٌ قد رآه وأدلى بأوصافه، وكانت صُحُف صباح اليوم ستُخبره بأن ذلك لم يحدث، ومن المُرجَّح أيضًا أنه كان يعتزم إبرام اتفاق مع أحد تجار المسروقات ولم يُرِد أن يحمل الغنيمة بحوزته.»
وبهذا لا يتبقَّى سوى القليل لأسرده؛ فحين عُرضت وقائع القضية في جلسة استماع في صباح اليوم التالي، أدَّى ما قدَّمه ثورندايك من وصف للأحداث بأسلوبٍ دقيق مُفصَّل على نحوٍ استثنائي، وكذلك تقديم الممتلَكات المسروقة، إلى أن يفقد المعتقَل أعصابه بشدة، حتى إنه قد اعترف بذنبه فورًا.
أما السيد مونتيجيو، فقد تعافى تمامًا في غضون بضعة أيام، وما زال رفُّ مدفأة مكتبنا يحمل حتى يومنا هذا زوجًا فاخرًا أنيقًا من الشمعدانات الفضية التي يعود تاريخها إلى الحقبة الجورجية؛ شاهدًا على امتنانه وتقديره لتعامُل ثورندايك البارع مع القضية.