السبائك المسروقة
علَّق ثورندايك قائلًا: «في ممارسة اختصاص المُحاماة المتخصِّصة في الطب الشرعي، على المرء دائمًا أن يتوخَّى الحذر من تأثيرات التلميح، سواءٌ أكان مقصودًا أم غير مقصود؛ فحين يعرض راوي المعلومات حقائقَ قضيةٍ معيَّنة، فإنه دائمًا تقريبًا ما يسردها وفقَ أساسٍ استدلالي، سواء أقصد ذلك أم لم يقصده؛ إذ يعرض الراوي بعض الحقائق التي يراها حقائق أساسية، بتشديد وتفصيل، أما البعض الآخر الذي يراه ثانويًّا أو تافهًا فيكتُم بعض تفاصيله، غير أن هذا التقييم لقيمة المعلومات في الأدلة يجب ألا يُقبَل أبدًا، بل يجب دراسة القضية كلها والتفكُّر في كل حقيقة على حدة. وعادةً ما يتَّضح حينها أن الحقيقة الرئيسية تكون هي تلك التي تجاهلها الراوي معتبرًا إيَّاها تافهة.»
قيل هذا التعليق بخصوص إحدى القضايا التي كان السيد هيلثورب، والذي يعمل في شركة «سفينكس أشورنس» للتأمين، قد سرد علينا حقائقها للتَّو. لم أدرك مَغزى تلك المقولة تمامًا آنذاك، لكنني حين استرجعتها عندما انتهت القضية أدركت أنني وقعت في الخطأ نفسه الذي كان ينبغي لتحذير ثورندايك أن يعصمني منه.
قال السيد هيلثورب: «آمل ألا أكون قد أتيت في وقتٍ غير مُناسب. صحيحٌ أنك تتعامل برحابة صدر بالغة مع العمل في أوقات العمل غير الرسمية …»
فقاطَعه ثورندايك قائلًا: «ممارسة مهنتي هي مصدر استجمامي، وأنا أستقبلك الآن معتبرًا أنك قد أتيت للترفيه عنِّي؛ فهلَّا قرَّبت كرسيَّك إلى نار المدفأة وأشعلت سيجارًا وقصصت علينا قصتك.»
ضحك السيد هيلثورب، لكنه أخذ باقتراح ثورندايك، وبعدما أسند مقدمتَي حذائه على الحاجز القصير المحيط بالمدفأة، أخذ سيجارًا من العلبة، وبدأ يحكي موضوع زيارته.
استهلَّ كلامه قائلًا: «لا أعرف تمامًا ما الذي تستطيع فعله من أجلنا؛ فأنا أعرف أن تعقُّب الممتلَكات المفقودة ليس من اختصاصك، لكنني رأيت أن آتيَ وأُخبرك بمشكلتنا. الحقيقة أن شركتنا تبدو على وشك خسارة حوالَي أربعة آلاف جنيه؛ مما سيُثير استياء المُديرين، وها أنا سأقصُّ عليك ما حدث:
منذ حوالَي شهرين، تقدَّم لنا مكتب شركة «أكروبونج جولد فيلدس» لمناجم الذهب في لندن بطلب للتأمين على طردٍ من سبائكِ ذهبٍ كان من المُزمَع إرسالها إلى ورشة «مينتون وبورويل»، صائغَي الحُلي الشهيرَين، وكان من المقرَّر أن تُشحَن السبائك في مدينة «أكرا»، وترسو عند ميناء «بيلهافن» الذي يُعَد الأقرب إلى ورشة «مينتون وبورويل». حسنًا، اتَّفقنا على التأمين على الشُّحنة ضد مخاطر إرسالها إلى وجهتها — إذ كنا قد أجرينا أعمالًا مع أفراد شركة «أكروبونج» من قبل — وسُوِّي الأمر. شُحنت السبائك على متن السفينة في شاطئ «لابادي» بمدينة «أكرا»، ورست عند «بيلهافن» في الوقت المحدَّد، حيث سُلِّمت إلى وكلاء «مينتون». حتى الآن تبدو الأمور على أحسن ما يُرام، لكن الكارثة قد وقعت بعد ذلك؛ فقد وُضِع صندوق السبائك على متن القطار في «بيلهافن» ليُرسَل إلى مدينة «أنشستر»، حيث يوجد مصنع «مينتون»، غير أن القطار لا يتَّجه إلى «أنشستر» مباشرةً، بل تقع تحويلة السكة الحديدية في «جاربريدج»، وهي محطةٌ صغيرة بالريف تقع بالقرب من نهر «كراوتش»، وهناك أُنزلَ الصندوق من على متن القطار، وأُقفِل عليه في مكتب رئيس المحطة في انتظار القطار المتجِه إلى «أنشستر». ويبدو أن رئيس المحطة قد استُدعي واضطرَّ إلى أن يتأخَّر وقتًا أطول ممَّا كان يتوقَّع، وحين أُنذرَ بوصول القطار عاد مُسرِعًا إلى مكتبه في حالةٍ من التوتُّر الشديد. ومع ذلك، كان الصندوق في مكانه بالضبط، وأشرف الرئيس بنفسه على نقله إلى عربة حارسه، ووضعه في عُهدة الحارس. سار كلُّ شيءٍ بعد ذلك على ما يُرام حتى آخر الرحلة، وكان أحد مندوبي الشركة ينتظر في محطة أنشستر بشاحنةٍ مُغلَقة؛ فوُضِع الصندوق فيها ونُقِل مباشرةً إلى المصنع، حيث فُتِح في المكتب الخاص، واتَّضح أنه مليءٌ بمواسير رصاصية.»
قال ثورندايك: «أظنُّ أنه لم يكن الصندوق الأصلي، أليس كذلك؟»
أجاب هيلثورب قائلًا: «بلى، لكنه كان نسخةً مُقلَّدة مطابقة جدًّا للصندوق الأصلي؛ فقد كان المُلصَق والعلامات الموجودة عليه مطابقة تمامًا، لكن أختام القفل كانت مجرَّدَ شمعٍ عادي. من الجليِّ أن التبديل قد حدث في مكتب رئيس المحطة، حيث تبيَّن أنه بالرغم من إغلاق الباب بإحكام، فقد كان بها نافذةٌ غير مُوصَدة تُطِل على الحديقة، والتي عُثِر فيها على آثار أقدام واضحة بالجانب الخارجي من حوض الزهور.»
سأله ثورندايك: «في أيِّ وقتٍ حدث ذلك؟»
«وصل قطار أنشستر في الساعة السابعة والربع، وقد كانت السماء مُعتِمة جدًّا في ذلك الوقت بالطبع.»
«وفي أيِّ يومٍ حدث ذلك؟»
«أول أمس، وسمعنا به صباح الأمس.»
«هل تطعنون في الادِّعاء؟»
«لا نريد ذلك. لقد كان بوسعنا بالطبع تقديم ادعاء بالإهمال، لكن أعتقد أننا في هذه الحالة سنرفع الدعوى على شركة السكك الحديدية، غير أن الأفضل لنا بالطبع هو أن نستعيد المفقودات؛ إذ لا يمكن أن تكون بعيدةً للغاية عن متناوَلنا بالرغم من كل شيء.»
قال ثورندايك: «لا أظنُّ ذلك؛ فليست تلك السرقة بالمرتجلة. لقد جُهِّز الصندوق المُزيَّف سلفًا، ومن الواضح أن مَن جهَّزه كان يعرف شكل الصندوق الحقيقي، وكيفية إرساله من «بيلهافن»، ووقت الإرسال أيضًا. ويجب أن نفترض أن السارق قد جهَّز للتصرُّف في الصندوق المسروق بدرجةٍ مُماثلة من الإتقان. كم تبعُد «جاربريدج» عن النهر؟»
«أقل من نصف ميل عبر المستنقَعات. لقد سأل المُحقِّق المفتش — المدعو بادجر، وأظنُّك تعرفه — السؤال نفسه.»
قال ثورندايك: «بالطبع؛ فنقلُ جسمٍ ثقيلٍ مِثل هذا الصندوق بالماء أسهل كثيرًا وأقل لَفتًا للانتباه من نقله بَرًّا. ولتنظرْ إلى كمِّ التسهيلات التي يُقدِّمها نهرٌ صالح للإبحار فيه في تلك الحالة؛ إذ يُمكِن إخفاء الصندوق في مركبٍ صغير، أو حتى في قارب، أو يُمكن إخراج السبائك من الصندوق وإخفاؤها وسط صابورة القارب، أو إلقاؤها من على متن القارب حتى في مكانٍ مُحدَّد، إذا اقتضت الحاجة، وتركها إلى أن تنتهي الضجَّة العامة المُثارَة بشأن السرقة.»
قال هيلثورب بحُزن: «كلامك هذا يبعث على الإحباط. أرى أنك شِبه يائس من إمكانية استعادة تلك السبائك.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «لا داعي لليأس، لكني أريدك أن تتفهَّم الصعوبات. لقد أفلت اللصوص بغنيمتهم، وهذه الغنيمة مادةٌ غير فانية، وتحتفظ بقيمتها حتى لو قُسِّمت إلى قِطع لا يُمكن التعرف عليها، وإذا أُذيبت في سبائك صغيرة فسيكون من المستحيل اكتشافها.»
قال هيلثورب: «حسنًا، الشرطة تتولَّى التحقيق في المسألة، وقد صار المفتِّش بادجر، من إدارة التحقيقات الجنائية، مسئولًا عن القضية، لكن مُديرينا سيكونون أسعد إذا حقَّقت فيها بنفسك، وسنُقدِّم لك كل ما نقدر عليه من أشكال المساعدة بالطبع، فما رأيك؟»
قال ثورندايك: «أنا مستعدٌّ للتحقيق في القضية، وإن كنت لا أحمل أملًا كبيرًا. هل يُمكنك أن تُعطيني مُذكِّرةً لأذهب بها إلى شركة الشحن، وأخرى لأذهب بها إلى المُرسَل إليهم «مينتون وبورويل»؟»
«بالطبع. سأكتبهما حالًا. لديَّ بعضٌ من ورق رسائل شركتنا في حقيبتي الرسمية، لكنني أرجوك أن تعذرني في القول إنك تبدأ تحرِّياتك من مكانٍ لا يُمكن أن تجني منه أيَّ معلومات مفيدة؛ فالصندوق قد سُرِق بعدما غادَر السفينة وقبل وصوله إلى المُرسَل إليهم، وإن كان وكيلهم قد تسلَّمه من السفينة.»
فقال ثورندايك: «الحقيقة الأهم أن هذه السرقة قد دُبِّرت سلفًا، وأن اللصوص كانوا يعرفون معلوماتٍ سِرية؛ فلا بد أن هذه المعلومات قد سُرِّبت إما من السفينة أو المصنع؛ ولهذا فمع محاولتنا لاقتفاء أثر الصندوق نفسه، ينبغي علينا أن نبحث عن بداية الخيط عند طرَفَي مسار الصندوق: السفينة والمصنع؛ فمن المؤكَّد أنه يبدأ عند أحدهما.»
قال هيلثورب: «نعم، هذا صحيح. حسنًا، سأكتب هاتين المذكرتين، وينبغي أن أرحل بعد ذلك، وسنأمل في إحراز النجاح المنشود.»
كتَب المذكرتين يطلب فيهما تسهيلاتٍ من الأطراف المعنية، ثم غادَر بمزاجٍ أهدأ بعض الشيء.
علَّق ثورندايك بينما كان صوت وَقْع أقدام هيلثورب يتلاشى على الدَّرَج الخارجي: «قضيةٌ صغيرة مُثيرة جدًّا للاهتمام، لكنها بعيدةٌ بعض الشيء عن نطاق اختصاصنا. الحق أنها تقع ضِمن اختصاص الشرطة تمامًا؛ فهي قضيةٌ تقتضي تحرِّياتٍ صبورةً بارعة، وهذا ما سيتعيَّن علينا فعله: إجراء تحرِّيات دقيقة في مسرح الجريمة.»
سألته: «ومن أين تقترح أن نبدأ؟»
أجاب قائلًا: «من عند البداية؛ أي من بيلهافن. أقترح أن نذهب إلى هناك صباح الغد، ونُمسِك الخيط من عند هذا الطرف.»
سألته: «أيُّ خيط؟ نعرف أن الطرد قد انطلق من هناك، فما الذي تتوقَّع أن تعرفه غير ذلك؟»
فأجاب: «تُوجَد عدة احتمالات مُثيرة للفضول في هذه القضية، كما لاحظتَ بالتأكيد، والمسألة الآن هي ما إذا كان أيٌّ من هذه الاحتمالات مُرجَّح، أم لا، وهذا هو ما أريد حسمه قبل أن نبدأ تحقيقًا مُفصَّلًا.»
قلت له: «كنت سأقترح أن نبدأ التحقيق من مكان السرقة، لكنني أظن أنك لاحظت بعض الاحتمالات التي لم أنتبه إليها.»
وهو ما تبيَّنت صِحته في النهاية.
قال ثورندايك ونحن نترجَّل من القطار في بيلهافن في صباح اليوم التالي: «أظنُّ أنه من الأفضل أن نذهب إلى قسم الجمارك أولًا ونتيقَّن، إن استطعنا، من أن السبائك كانت في الصندوق حقًّا حين سُلِّمت إلى وُكلاء المُرسَل إليهم؛ فلا ينبغي أن نُسلِّم بأن الاستبدال قد حدث في جاربريدج، وإن كانت تلك هي النظرية الأرجح حتى الآن.» وعلى هذا الأساس توجَّهنا إلى الميناء، حيث قادنا بحَّارٌ خَدوم إلى وجهتنا.
وفي قسم الجمارك استقبلَنا ضابطٌ لطيف تطرَّق إلى صُلب الموضوع بتعاطفٍ كامل وتفهُّمٍ سريع للوضع حين شرح له ثورندايك صلته بحادثة السرقة.
قال الضابط: «أتفهَّم الوضع. تريد دليلًا واضحًا على أن السبائك كانت في الصندوق حين نُقِل من هنا. حسنًا، أظنُّ أننا نستطيع تلبية هذه الرغبة لك. صحيحٌ أن السبائك ليست سلعةً خاضعة للرسوم الجمركية، لكننا مُلزَمون بفحصها ورفع تقرير عنها. وإذا كانت مُرسَلة إلى بنك إنجلترا المركزي أو دار صك العملة، يمرُّ الصندوق من الجمارك دون فض الأختام الشمعية. ولمَّا كانت تلك شُحنةً خاصة، فقد فُضَّت الأختام وفُحِصت محتويات الصندوق. يا جيفسون، فلتُرِ هذين السيدين التقرير الخاص بصندوق سبائك الذهب الذي وصل من «لابادي».»
فسأله ثورندايك: «هل يُمكننا إجراء حوار قصير مع الضابط الذي فتح الصندوق؟ فأنت تعرف التفضيل القانوني لسماع أقوال المرء منه شخصيًّا.»
«بالطبع. يا جيفسون، حين ينتهي هذان السيدان من الاطلاع على التقرير، ابحث عن الضابط الذي وقَّع عليه، ودَعهما يتحدَّثان معه.»
قادنا السيد جيفسون إلى مكتب مُجاور، حيث أخرج التقرير وأعطاه إلى ثورندايك. وقد كانت التفاصيل الواردة فيه هي تلك التي كنا سنجدها في بيان حمولة السفينة الجمركي وسند الشحن؛ فقد ورد فيه أن قياسات الصندوق من الخارج هي ثلاث عشرة بوصة للطول، واثنتا عشرة بوصة للعرض، وتسع بوصات للعمق، وأن وزنه الإجمالي كان يبلغ مائة وسبعة عشر رطلًا وثلاث أوقيات، وأنه كان يحتوي على أربع سبائك يبلغ وزنها الكُلِّي مائة وثلاثة عشر رطلًا وأوقيتين.
قال ثورندايك وهو يُعيد التقرير إلى الرجل: «شكرًا لك. والآن، أيُمكننا رؤية الضابط — المدعو بالسيد بيرن، على ما أظن — لمعرفة بعض التفاصيل فحسب؟»
أجاب السيد جيفسون: «فلتأتيا معي وسأجده لكما. أظنُّ أنه على رصيف الميناء.»
تَبِعنا مُرشدنا إلى رصيف الميناء وسط رُكامٍ مُبعثر من العُلب الكبيرة وصناديق الشحن والبراميل، إلى أن وجدنا الضابط أخيرًا وسط مجموعة من براميل «نبيذ ماديرا»، وكان مُنهمكًا في مشكلات «المحتوى ونقص السائل عن الحدِّ المُطابق للمواصفات» وألغازٍ جمركية أخرى، وحين عرَّفنا السيد جيفسون إليه ثم انسحب بحصافةٍ ليتركنا معه على انفراد، واجَهَنا السيد بيرن بوجهٍ بُنِّي محمرٍّ في لون خشب الماهوجني، وعينَين زرقاوين مشاكستين.
قال له ثورندايك: «بخصوص شحنة السبائك هذه، فهمتُ أنك وزنت السبائك وحدها دون الصندوق، أليس كذلك؟»
فأجاب السيد بيرن: «بلى.»
«هل وزنت كلَّ سبيكة على حدة؟»
أجاب باقتضاب: «كلا، لم أفعل.»
«كيف كان مظهرها؛ أعني شكلها وحجمها؟ أكانت من النوع المألوف؟»
قال السيد بيرن: «ليست لديَّ خبرةٌ كبيرة في السبائك، لكنِّي أراها مجرد سبائك عادية من الذهب يبلغ طولها حوالَي تسع بوصات، ويبلغ عرضها أربع بوصات، ويبلغ سُمكها بوصتين تقريبًا.»
«هل كان الصندوق يحوي قَدرًا كبيرًا من مواد التعبئة والتغليف؟»
«بل قدرًا ضئيلًا جدًّا؛ إذ كانت السبائك ملفوفةً بقطعةٍ سميكة من قماش القنب ومحشورةً في الصندوق، والذي لم يكن يتَّسع إلا لنصف بوصة من الغلاف القماشي في جميع الجهات. وكان الصندوق نفسه ذا سُمكٍ يبلغ بوصة ونصفًا ومقوًّى بعصاباتٍ حديدية.»
«هل ختمت الصندوق بالشمع بعدما أوصدته؟»
«نعم. كان مُحكَمًا تمامًا حين أُعيدَ إلى وكيل ربَّان السفينة، وقد رأيته وهو يُسلِّمه إلى وكيل المُرسَل إليهم؛ أي إن كل شيء كان على ما يُرام حين غادَر الصندوق رصيف الميناء.»
قال ثورندايك: «هذا هو كل ما أردتُ التيقُّن منه.» وبعدما وضع دفتر ملاحظاته في جيبه وشكر للضابط، ابتعد وسط فوضى البضائع.
قال لي: «ها نحن قد انتهَينا من الجمارك، وأنا سعيدٌ بمجيئنا إلى هنا أولًا؛ فقد جمعنا بعض المعلومات المُفيدة، كما لاحظتَ بالتأكيد.»
فأجبته: «لقد تيقَّنَّا من أن الصندوق كان سليمًا حين سُلِّم إلى وُكلاء المُرسَل إليهم؛ وبذلك ستبدأ تحقيقاتنا في «جاربريدج» على أساسٍ متين، وأظنُّ أن هذا كل ما كنتَ تريد معرفته.»
ردَّ قائلًا: «ليس كلَّه تمامًا، بل يتبقَّى أن أعرف تفصيلةً صغيرة أو اثنتين. سوف نُجري زيارةً موجَزة إلى وكلاء شركة الشحن، ونُريهم المذكرة التي كتبها لنا هيلثورب؛ فلنجمع كلَّ ما نستطيع جمعه من المعلومات قبل أن نبدأ من مسرح السرقة.»
قلت له: «حسنًا، لا أرى مزيدًا ممَّا يُمكِن معرفته هنا، لكن من الواضح أنك ترى شيئًا. يبدو أن ذلك هو المكتب، بعد هذه السقائف.»
راح مدير مكتب وكلاء شركة الشحن يتفحَّصنا من رأسَينا إلى أقدامنا، بينما كان يجلس إلى مكتبه المليء بالأشياء المبعثَرة، ويُمسك برسالة هيلثورب في يده.
تحدَّث بفظاظة فقال: «أتيتما بشأن شحنة السبائك التي سُرِقت. حسنًا، إنها لم تُسرَق هنا. أليس من الأفضل أن تتحرَّيا عنها في «جاربريدج»، حيث سُرِقت؟»
فأجاب ثورندايك قائلًا: «بالتأكيد، لكني أُجري بعض التحرِّيات الأوَّلية، وأريد أن أسألك أولًا عن سند الشحن، مَن يحوزه؛ أقصد السند الأصلي؟»
«إنه بحوزة الربَّان حاليًّا، لكن لديَّ نسخة منه.»
فسأله ثورندايك: «هل لي أن أراها؟»
رفع المدير حاجبَيه تعبيرًا عن اعتراضه، لكنه أخرج المستند من أحد الملفات وسلَّمه إلى ثورندايك، ثم ظلَّ يُشاهده بفضول وهو ينسخ تفاصيل الطرد في دفتر ملاحظاته.
قال ثورندايك وهو يُعيد المستند: «أظنُّ أن لديك نسخةً من بيان شحنة السفينة، أليس كذلك؟»
أجاب المدير قائلًا: «بلى، لكن المعلومات المدوَّنة في البيان هي مجرَّد نسخة من تلك المذكورة في سند الشحن.»
«إنني أرغب في الاطلاع على البيان نفسه، إن كان ذلك لا يُزعجك كثيرًا.»
فاحتجَّ الآخر بنفاد صبر قائلًا: «لكن البيان لا يتضمَّن أيَّ معلومات بخصوص شحنة السبائك هذه سوى البند الوحيد الذي نُسِخ، كما أخبرتك، من سند الشحن.»
فقال ثورندايك: «أفهم هذا، لكني أرغب في إلقاء نظرة عليه على أي حال.»
وثب صديقنا من كرسيه، واتَّجه إلى غرفةِ مكتبٍ داخلية، وسرعان ما عاد وهو يحمل مستندًا كبيرًا من عدة أوراق صَفَعه بقوة على منضدةٍ جانبية.
وقال: «تفضَّلْ يا سيدي، هذا هو البيان، وهذا هو البند المتعلق بشحنة السبائك التي تتحرَّى عنها. أما بقية بنود المستند فهي تتعلَّق ببقية حمولة السفينة، والتي لا أعتقد أنك تهتمُّ بها.»
غير أنه كان مُخطئًا بشأن ذلك؛ فبعد أن تيقَّن ثورندايك من صحة البند المتعلق بشحنة السبائك، قلَّب الأوراق وبدأ يتفحَّص القائمة الطويلة من البداية تفحُّصًا سريعًا ومنهجيًّا في الوقت ذاته، بينما وقف المدير يُشاهد ذلك التصرُّف بنفادِ صبرٍ مصحوب بالاهتياج.
وتحدَّث قائلًا: «إذا كنتَ ستقرؤها كلها يا سيدي، فسأطلب منك أن تأذن لي بأن أتركك وأُواصل عملي.» ثم أضاف بابتسامةٍ تُبدي استياءه: «الفنُّ خالد، لكن الحياة قصيرة.»
بالرغم من ذلك، فقد ظلَّ يحوم حوله بعدم ارتياح، وحين بدأ ثورندايك ينسخ بعض بيانات المُستند في دفتر ملاحظاته، مدَّ المدير عنقه وقرأها بلا أدنى تستُّر، ودون أن يمتنع أيضًا عن الإدلاء بتعليقاته.
صاح قائلًا: «عجبًا يا سيدي! أيُّ علاقة يمكن أن توجد بين السرقة وذلك الطرد من أنياب الأفيال الصغيرة؟ وهل تُدرك أنها ما تزال موجودة في السفينة؟»
فأجاب ثورندايك وهو يسحب إصبعه نحو الأسفل في عمود «الوصف» في جدول البيانات، ويُلقي نظرةً سريعة على البيانات الواردة فيه، قائلًا: «لقد استنتجت أنها ما تزال في السفينة؛ لأنها مُرسَلة إلى لندن.» ظلَّ المُدير يُشاهد ذلك الإصبع، وبينما كان الإصبع يتوقف على التوالي عند كلٍّ من محتويات ذلك الطرد؛ كيس من صمغ الكوبال، وصندوق من عيِّنات الكوارتز، وصندوق من مسامير لولبية من النحاس الأصفر طولها ست بوصات، وكيس من بذور السمسم الأفريقي، وعبوة من جوز شجرة الكولا؛ راح يتنهَّد بشدة ويُتمتِم كببَّغاء غاضب، غير أن ثورندايك لم يتأثَّر بذلك إطلاقًا، بل نسَخ كل البيانات بتروٍّ هادئ. وبتمعنٍ شديدٍ راح يدوِّن علامات الطرود وأوصافها ومحتوياتها، وأوزانها الإجمالية والصافية، وأبعادها، وأسماء المُرسِلين والمُرسَل إليهم، وموانئ الشحن والتفريغ، والتفاصيل بأكملها في واقع الأمر. كان ذلك إجراءً مُذهِلًا بالطبع، ولم أفهم من مغزاه أكثر مما فهمه صاحِبنا الذي نفد صبره.
وأخيرًا، أقفل ثورندايك دفتر ملاحظاته ووضعه في جيبه، وتنهَّد المدير تنهيدةً قد تعمَّد أن نراها، ثم سأله: «ألا تريد شيئًا آخر يا سيدي؟ ألا ترغب في فحص السفينة مثلًا؟»
وأعتقد أنه قد ندم في اللحظة التالية على اقتراحه الساخر؛ ذلك أن ثورندايك قد سأله باهتمامٍ واضح: «ألا تزال السفينة هنا؟»
فاعترف المدير على مضَض قائلًا: «نعم، إنها تُنهي التفريغ هنا في منتصف ظُهر اليوم، ومن المُرجَّح أن ترسو عند أرصفة ميناء «لندن دوكس» في صباح الغد.»
فقال ثورندايك: «لا أظنُّ أنني بحاجة إلى الصعود على متنها، ولكن هلَّا منحتني بطاقةً تصريحيةً تحسُّبًا لأن أحتاج إلى ذلك؟»
أعطاه المدير البطاقة على مضضٍ بعض الشيء، وحين شكر ثورندايك مُضيفنا على مساعدته، غادَرنا واتَّجهنا نحو المحطة.
قلت لثورندايك: «حسنًا، لقد جمَعت قدرًا هائلًا من المعلومات الغريبة، لكني لا أستطيع رؤية أي علاقة بينها وبين تحقيقنا على الإطلاق.»
رمقني ثورندايك بنظرة تأنيب عميق، وصاح مُتعجبًا: «يا جِرفيس! إنك تُذهلني، حقًّا. عجبًا، إنها واضحةٌ أمام عينَيك كضوء الشمس يا زميلي العزيز!»
فقلت بقليلٍ من الانفعال: «حين تقول «إنها» فأنت تقصد …؟»
أقصد الحقيقة الرئيسية التي قد نستنتج منها الكيفية التي نُفِّذت بها هذه السرقة. ها أنت ستتفحَّص الملاحظات التي دوَّنتها في دفتري في القطار وتُرتِّب البيانات التي جمعناها، وأعتقد أنك ستجدها آنذاك مُنيرةً للغاية.»
قلت له: «أشكُّ في هذا، لكن ألا نُهدِر الآن الكثير من الوقت؟ إن هيلثورب يرغب في أن يستعيد الذهب، لا أن يعرف الكيفية التي دبَّر اللصوص لسرقته.»
ردَّ ثورندايك قائلًا: «هذا رأيٌ صائب جدًّا؛ فها هو صديقي العلَّامة يُبدي حسَّه العقلاني السليم كالعادة. ومع ذلك، فأنا أرى أن تكوين فهم واضح للآلية التي نُفِّذت بها هذه السرقة سيُفيدنا للغاية، وإن كنت أتفق معك في أننا أمضينا وقتًا كافيًا في جمع بياناتنا الأولية. والمهمُّ الآن هو أن نجد أثرًا من محطة «جاربريدج» لنتعقَّبه، لكنني أرى إشارة إعلان وصول قطارنا. من الأفضل أن نُسرِع.»
وبينما كان القطار يدخل المحطة، بحثنا عن مقصورةٍ فارغة للمُدخِّنين، وبعدما أسعفَنا حظُّنا الجيد في إيجاد واحدة، قعدنا فيها في رُكنين متقابلين وأشعلنا غليونَينا، ثم أعطاني ثورندايك دفتر ملاحظاته. رحت أدرس ما فيه من بياناتٍ تبدو غير مترابطة وأنا عاقد الحاجبين، بينما جلس ثورندايك يُراقبني مُتأملًا وقد ارتسمَ على شفتَيه شبح ابتسامة طفيف للغاية. قرأتُ هذه الملاحظات مرارًا وتكرارًا، بينما راحت آمالي في استخلاص المغزى «الواضح أمام عينيَّ كضوء الشمس» تتضاءل في كل مرة. لشدَّ ما حاولتُ عبثًا أن أربط صمغ الكوبال أو أنياب الأفيال الصغيرة أو بذور السمسم الأفريقي بأساليب اللصوص المجهولين! غير أن البيانات الواردة في الدفتر أصرَّت على عنادها في أن تظلَّ غير مُترابطة على الإطلاق وغير متصلة بالقضية إلى حدٍّ مُحبِط. وأخيرًا، أغلقت الدفتر بحِدَّة وأعدته إلى صاحبه.»
قلت له: «لا فائدة يا ثورندايك. لا أستطيع رؤية أي بصيص من النور.»
فقال: «حسنًا، هذا ليس مهمًّا جدًّا؛ فالجزء العملي من مهمتنا ما يزال أمامنا، وربما يتَّضح أنه جزءٌ صعب جدًّا، غير أننا يجب أن نستعيد تلك السبائك إن كان ذلك ممكنًا في حدود القدرات البشرية. ها نحن قد وصلنا إلى المكان الذي سننطلق منه. هذه محطة «جاربريدج»، وأنا أرى أحد معارفنا القُدامى على الرصيف.»
نظرت إلى الخارج والقطار يتباطأ، وكما توقَّعت، رأيت المفتش بادجر من إدارة التحقيقات الجنائية بنفسه.
قلت لثورندايك: «كان بوسعنا أن نُبلي بلاءً حسنًا للغاية من دون بادجر.»
اتفق معي قائلًا: «نعم، لكني أظنُّ أننا سنضطرُّ إلى إشراكه معنا؛ فنحن في نطاق سلطته بالرغم من كل شيء، ونؤدِّي المهمة نفسها.» وأضاف بينما كان الضابط يُسارع إلينا بمودَّةٍ حارَّة غير مُعتادة بعدما لاحَظ ترجُّلنا من القطار: «كيف حالك أيها المفتش؟»
فقال المفتش: «توقَّعت أن أراك هنا يا سيدي؛ إذ عرفنا أن السيد هيلثورب قد استشارك، غير أن هذا ليس قطار لندن.»
قال ثورندايك: «لا، لقد ذهبنا إلى «بيلهافن» لنتيقَّن فقط من أن السبائك كانت موجودة في الصندوق حين بدأ رحلته.»
فقال بادجر: «كان بإمكاني إخبارك بذلك قبل يومين؛ إذ اتَّصلنا بأفراد الجمارك فورَ عِلمنا بالواقعة. كانت الرحلة البحرية كلها عادية جدًّا، لكنَّ بقية الرحلة لم تكن كذلك.»
«ألا توجد أي معلومة عن الكيفية التي أُخِذ بها الصندوق؟»
«آه، بلى. هذا واضح جدًّا. أُخرجَ الصندوق الأصلي بحبالِ رافعةٍ عبر نافذة مكتب رئيس المحطة، وأُدخلَ الصندوق المزيَّف بالطريقة نفسها. وفي الليلة نفسها شُوهِد رجلان يحملان صندوقًا ثقيلًا مُشابهًا في الحجم لصندوق السبائك ويتجهان به نحو المستنقعات، غير أن الدليل ينتهي هنا؛ إذ يبدو أن الصندوق قد تبخَّر فجأةً في الهواء. إن رجالنا يبحثون عنه الآن بالطبع في اتجاهاتٍ محتملة مختلفة، لكني بقيتُ هنا مع شرطيين يرتديان ثيابًا مدنية؛ فأنا على يقينٍ من أنه ما زال في مكانٍ ما بالقرب من هنا، وأعتزم البقاء هنا على أمل أن أضبط شخصًا ما يُحاول نقله.»
وبينما كان المفتِّش يتكلم كنا نسير رُويدًا من المحطة نحو القرية التي كانت تقع على الجانب المُقابل من النهر. وعلى الجسر، توقَّف ثورندايك فجأةً ونظر إلى الأسفل نحو النهر وعلى الأرض الريفية الفسيحة المليئة بالمستنقَعات.
علَّق قائلًا: «هذا مكانٌ مثالي لسرقة شُحنة سبائك؛ فهذا النهر يشهد مدًّا وجَزرًا، ويقع بالقرب من البحر وشبكةٍ من الجداول التي يُمكن للمرء أن يُخفي في أيٍّ منها قاربًا، أو يُخبِّئ الغنيمة تحت الماء أسفل علامات المد. هل سمعتَ بأيِّ مركبٍ غريب قد رسا هنا؟»
«نعم. لقد رسا زورقُ صيدٍ صغير مُتهالك بلا عارضة صارٍ من بلدة «لي»، لكن طاقمه مكوَّن من صعلوكين ذوي ثيابٍ رثَّة ليسا من أهل «لي». وقد فسدت زيارتهما إلى هنا؛ إذ غرز زورقهما على الطين حين كانا يسيران به في أثناء المد الأعلى. ها هو الزورق عالقٌ على هذا اللسان الطيني، وسيظل هنا حتى المد الأعلى المُقبِل، غير أنني قد تفحَّصته بعناية، ومستعدٌّ للقَسم أن المسروقات ليست على متنه؛ إذ أخرجتُ الصابورة كلها، وأفرغت حجيرة التخزين الخلفية وخِزانة سلسلة المرساة.»
«وماذا عن الصندل؟»
«إنه صندلٌ تِجاري عادي هنا. طاقمه مكوَّن من القبطان وابنه، وهما رجلان محترمان جدًّا ومن أهل هذه المنطقة. ها هما يتحرَّكان بذلك القارب. كنت أحسب أنهما لن يُبحرا في هذا المد، لكن يبدو أنهما يتجهان إلى زورق الصيد.»
وبينما كان المفتش يتكلم أخرج منظارًا وراقَب من خلاله حركة قارب الصندل، وتوقَّف صيَّادان مُسِنَّان، كانا يعبُران الجسر، ليُشاهدا ما يحدث. سار قارب الصندل بجوار الزورق العالق، ونادى أحد مُجدِّفيه مُلقيًا التحية، فخرج الرجلان من مقصورة الزورق ونزلا إلى القارب الذي انطلق فورًا واتجه إلى الصندل.
فعلَّق أحد الصيَّادين وهو يُوجِّه تليسكوبًا صغيرًا نحو الصندل بينما كان القارب يسير بجواره ببطء وصعد الرجال الأربعة على متنه، قائلًا: «يبدو أن رجُلَي زورق الصيد هذين سيحظيان بتوصيلة بفضلِ «بيل سامرز» العجوز.» وأضاف بينما شرع الراكبان على الفور في إدارة مرفاع المرساة بأياديهما، وفك قبطان القارب وابنه حبال طي الأشرعة، وربطا الصندل بالقارب بواسطة خُطَّاف: «ويعملان نظير توصيلهما أيضًا.»
علَّق بادجر وهو يُحدِّق إلى الصندل عبر منظاره قائلًا: «أمرٌ غريب، لكنهم لا يصحبون أيَّ شيء معهم على متن الصندل أو القارب. أستطيع رؤية ذلك.»
فقال له ثورندايك: «لقد تفحَّصتَ الصندل، أليس كذلك؟»
«بلى، تفحَّصته كلَّه ولم أجد شيئًا فيه. إنه خفيف ولا يوجد على متنه أي مكان يُمكن أن تُخفي فيه حبَّة بازلاء واحدة حتى.»
«هل رفعتَ المرساة؟»
أجاب بادجر قائلًا: «كلا، لم أرفعها، وقد كان يجدر بي أن أفعل. ها هما يرفعانها الآن بأنفسهما على أي حال.» وبينما كان يتكلم كانت القعقعة السريعة لسقاطة مرفاع المرساة تنتقل عبر الماء. ومن خلال نظارتي المنشورية، رأيت الراكبين يلفَّان أذرُع مرفاع المرساة بأقصى ما في وسعهما، وسرعان ما بدأت قعقعة السقاطة تتباطأ بعض الشيء، وانضمَّ فردا طاقم الصندل، بعدما نصبا الأشرعة، إلى الرجلين الكادحين ليُحرِّكا معهما أذرع المرفاع، لكن سرعة سلسلة المرفاع لم تشهد زيادةً كبيرة حتى مع ذلك.
علَّق أحد الصيادين الواقفين بجوارنا على الجسر: «يبدو أن المرساة تُرفَع بتثاقُلٍ غير عادي.»
واتفق معه الآخر قائلًا: «نعم. ربما علِقت في سلسلة إرساء قديمة.»
قال ثورندايك بصوتٍ خفيض وهو يُحدِّق عبر منظاره: «انظر إلى المرساة يا بادجر. لقد فارقت قاع النهر؛ فالسلسلة تصعد وتنزل والصندل ينجرف مع المد.»
وبينما كان يتكلم راحت حلقة المرساة وعارِضتُها ترتفعان ببطء من المياه، وحينها رأيت سلسلةً ثانية قد رُبِطت دون إحكام بسلسلة المرساة، وانزلقت عليها حتى أوقفَتها حلقة المرساة. ومن الواضح أن بادجر أيضًا قد رآها؛ لأنه صاح قائلًا: «أهلًا!» وأضاف بضع كلمات بلاغية جريئة لا داعي إلى تكرارها. وبعد بضع لفَّات أخرى لأذرع المرفاع، رُفِعت مخالب المرساة بأكملها من تحت الماء، وقد تدلَّى منها صندوقٌ خشبي واضح كالشمس كان معلَّقًا فيها بسلسلةٍ متينة ربطته بها بإحكام. فتفوَّه بادجر بألفاظٍ نابية بكل طلاقة، والتفتَ إلى الصيَّادين صائحًا بنبرةٍ آمرة عدوانية بعض الشيء:
«أريد قاربًا. الآن. في التَّو واللحظة.»
فنظر إليه الصيَّاد المُسِن بتحدٍّ، وردَّ قائلًا: «حسنًا. لا مانع لديَّ.»
فسأله المفتش بوجهٍ شِبه أرجواني من فرط الانفعال والقلق: «أنَّى لي بقارب؟»
أجاب الصيَّاد وقد بدا عليه الغضب من نبرة المفتش المُتسلِّطة: «أنَّى يا تُرى؟ محل المعجنات؟ أم إسطبلات رعاية الخيول مقابل أجر؟»
قال له بادجر: «أصغِ إليَّ. أنا ضابط شُرطي، وأريد أن أصعد على متن ذلك الصندل، ومستعدٌّ لدفع الكثير من المال؛ فأنَّى لي الآن بقارب؟»
فأجاب الصيَّاد: «حسنًا، سنجعلك تصعد على متنه، هذا إن استطعنا اللحاق به، غير أنني أشكُّ في ذلك؛ فهو بعيد، وهذا أمرٌ واقع.» وأضاف بنبرةٍ مختلفةٍ بعض الشيء: «وأرى شيئًا غريبًا يحدث على متنه.»
كان يحدث على متنه شيءٌ غريب بالفعل، وكنت أُراقبه. كان الصندوق قد رُفِع ووُضِع على متن الصندل بشيء من الصعوبة، ثم اندلعت مشادَّةٌ مُفاجئة بين قائدَي الصندل وراكبَيه تطوَّرت آنذاك إلى عراكٍ مفتوح، وكان من الصعب رؤية ما كان يحدث بالضبط؛ إذ كان الصندل ينجرف بسرعة في النهر مبتعدًا عنَّا، وكانت أشرعته التي تقاذفتها الرياح من جانب إلى آخر، تحجب الرؤية بعض الشيء. بالرغم من ذلك، فسرعان ما امتلأت الأشرعة بالهواء، وظهر رجلٌ عند دفَّة القيادة، ثم بدأ الصندل ينحرف مع الرياح. ومع المد القوي ونسيم الرياح العليل، سرعان ما بدأ الصندل يصغر في أعيُننا مع ابتعاده عنَّا.
وفي أثناء ذلك، كان الصيَّادان قد هرعا يبحثان عن قارب، وكان المفتش قد ركض إلى رأس الجسر، حيث وقف يُومئ ويُلوِّح باهتياجٍ شديد وينفخ في صافرته، بينما واصَل ثورندايك مراقبة الصندل المُبتعد عبر منظاره بهدوءٍ تام.
سألت زميلي وأنا مُتفاجئ قليلًا من تقاعُسه عن فعل أي شيء: «ماذا سنفعل؟»
ردَّ عليَّ بسؤالٍ آخر قائلًا: «وماذا بوسعنا أن نفعل؟ سيُطارد بادجر الصندل، ولن يلحق به على الأرجح، لكنه سيمنعه من الرُّسو حتى يخرجوا إلى مصبِّ النهر، وحينئذٍ قد يحظى بدعم. المطاردة مسئوليته.»
«هل سنذهب معه؟»
«لن أذهب؛ إذ يبدو أنها ستكون رحلة مطارَدة بَحرية ستستغرق الليل كلَّه، وأنا لا بد أن أكون في مكتبنا صباح غد، ثم إن المطارَدة ليست من اختصاصنا، لكنك تستطيع الذهاب مع بادجر إذا كنتَ ترغب في ذلك؛ فما من سببٍ يمنعك. يُمكنني أن أتدبَّر عمل المكتب وحدي.»
قلت له: «حسنًا، أظنُّ أنني أودُّ أن أشهد نهاية تلك المطارَدة، إن كان هذا لا يُضايقك. بالرغم من ذلك، فقد يتمكَّنون من الإفلات بالغنائم.»
فاتَّفق معي قائلًا: «هذا صحيح، وحينئذٍ ستُفيدنا معرفة كيفية اختفاء الغنيمة ومكانها. نعم، يُمكنك أن تذهب معهم بالطبع، ولتبقَ في يقظةٍ تامَّة.»
وفي تلك اللحظة، عاد بادجر مع الشرطيَّين ذوي الثياب المدنية اللذين استُدعيا من موقعَيهما بصافرته. وفي الوقت نفسه رأينا قاربًا يقترب من الدرج القريب من الجسر، ويقوده الصيَّادان بالمجاديف. نظر إلينا المفتش مُستفسرًا، وسألنا: «هل ستأتيان لمشاهدة المغامَرة؟»
أجاب ثورندايك: «يودُّ الدكتور جِرفيس الذهاب معك. أما أنا فمُضطرٌّ إلى العودة إلى لندن، ثم إنَّ حمولة قاربكم ستكون أفضل بدوني.»
وبدا أنَّ هذا هو رأي الصيَّادين أيضًا حين أرسيا القارب عند الدَّرج ونظرا إلى الركَّاب الأربعة، غير أنهما لم يُبديا أيَّ اعتراضٍ سوى أن سألا ساخرَين عمَّا إذا كان يوجد ركابٌ آخرون مع هؤلاء، وحين قعدنا في مؤخرة القارب انطلقا وتجاوَزا الجسر، وسارا بنا بعيدًا في النهر. ظللنا نبتعد عن القرية تدريجيًّا، وصارت المنازل والجسر أصغر حجمًا وأبعد، لكنها ظلَّت في مجال رؤيتنا لوقتٍ طويل فوق أسطح المستنقَعات، ومع ذلك فحين نظرت إلى الوراء عبر نظَّارتي، كان ما يزال بوسعي رؤية ثورندايك وهو يقف على الجسر مُراقبًا المطارَدة بمنظاره.
وفي أثناء ذلك، بدا أن الصندل الطريد يجتازنا؛ إذ كان يسبقنا بفارق ميلَين عند بداية انطلاقنا، غير أننا لم نستطع رؤيته إلا على فترات؛ إذ كان المد ينحسر بسرعة، وكنا شِبه مُحاصَرين وسط الضفاف العالية الموحلة. ظللنا على هذه الحال حتى دخلنا قطاعًا مُستقيمًا من النهر، وحينها فقط تمكَّنَّا من رؤية الأشرعة من وراء الأرض المحيطة بالنهر، وفي كل مرة كان يظهر لنا فيها الصندل، كان يبدو أصغر بدرجةٍ ملحوظة.
وحين اتَّسع مجرى النهر نُصِب الصاري، ورُفِع عليه شراعٌ كبير رباعي الزوايا. وفي الوقت نفسه استمرَّ أحد الصيَّادين في التجديف بمجدافه على الجانب المُواجه لمهبِّ الريح، بينما أمسك الآخر بذراع المِقود. وبالرغم من أن ذلك قد زاد سرعتنا كثيرًا، كنا كلما لمحنا الصندل يتَّضح لنا أنه يزداد سرعةً وبُعدًا عنَّا.
وفي إحدى هذه المرات التي لمحناه فيها، وقف الصيَّاد الذي كان يُمسِك ذراع المقود ليحظى برؤيةٍ أفضل، ودقَّق النظر في الصندل الطريد طوال دقيقة تقريبًا، ثم تحدَّث إلى المفتش.
قال له بقناعةٍ راسخة: «سيُفلت منَّا يا سيدي.»
سأله بادجر: «أما يزال يبتعد؟»
«نعم. إنه على وشك المرور من طرف ساحل جزيرة «فولنس» إلى القناة العميقة، ولن نستطيع رؤيتها بعد ذلك.»
فسأله بادجر: «ألا يمكننا دخول القناة بالطريقة نفسها؟»
أجاب الصيَّاد: «حسنًا، أصغِ إليَّ، الوضع كالآتي: المد ينحسر، لكنه سيكفي الصندل، وسيحمله خارج النهر عبر قناة «ويتكر» إلى الجانب الآخر من اللسان الرملي. بعد ذلك سينقلب انحسار المد إلى ارتفاع، وسيرتفع الصندل مع المد مُبحرًا نحو لندن. أما نحن فسنلحق بارتفاع المد في قناة «ويتكر»، وسنخرج من هناك بشقِّ الأنفُس، وحين نخرج سيكون ذلك الصندل على بُعدِ أميال.»
وحينها ظلَّ المفتِّش يتفوَّه بالكثير من اللعنات والكلمات النابية بانفعالٍ شديد، حتى إنه أشار إلى نفسه بأنه «أحمق للغاية»، لكن ذلك لم يُحسِّن الوضع إطلاقًا. تحقَّقت النبوءة الشؤم التي تنبَّأ بها الصيَّاد بكل تفاصيلها المروِّعة؛ فحين كنا نقترب من قناة «ويتكر»، كان الصندل يعبُر إلى الجهة الأخرى من اللسان الرملي في الوقت نفسه بالضبط، وكان الجَزْر في أواخره، وحين دخلنا في القناة كان المَد قد انقلب، وصارت المياه تتدفق إلى القناة بسرعةٍ كانت تزداد كلَّ دقيقة، ورأينا الصندل على الجانب الآخر من اللسان الرملي وقد صار بالفعل في المصبِّ المفتوح مُتجهًا نحو الغرب مع المد المرتفع، بسرعةٍ كبيرة بلَغت ست عُقَد.
كان المسكين بادجر مُهتاجًا بشدة. راح يُحدِّق بعينَين متلهِّفتين إلى الصندل الذي كان أثره يخبو، وظلَّ يشتم ويتوسَّل للصيَّادين ويُحمِّسهما ويُغريهما بمكافآتٍ سخيَّة للغاية. أخذ مجدافًا وظلَّ يُجدِّف به بهمَّةٍ مُستميتة، حتى إنه أخطأ التجديف في إحدى المرَّات وتشقلب إلى الوراء ليستقرَّ في حضن أحد الصيَّادين. وظلَّ الصيادان يُجدِّفان حتى انحنى مجدافاهما كعُكَّازين، لكن القارب ظل يزحف ببطءٍ شديد بمُحاذاة الضِّفاف الرملية، بوصةً بوصةً، وبدا أن المياه العكِرة لا تتوقَّف عن التدفق إلى القناة بكميةٍ أكبر وسرعةٍ أشد. كان نضالًا مُخيفًا، وبدا أنه قد استمرَّ لساعات، وأخيرًا حين زحف القارب عبر اللسان الرملي، واستراح الصيَّادان المُنهَكان على مجدافَيهما، كانت الشمس على مشارف الغروب، وكان الصندل قد اختفى غربًا.
كنتُ مُتعاطفًا جدًّا مع بادجر في مصابه؛ إذ كان سهوه عن تفحُّص مرساة الصندل سهوًا طبيعيًّا جدًّا، أو عاديًّا جدًّا، من رجُلٍ غير ذي خبرة في البحر وشئونه، وكان من الواضح أنه قد تحمَّل مشاقًّا لا حصر لها في سبيل حل هذه القضية، وأبدى بصيرةً ممتازة في مراقبة محيط «جاربريدج» من كثب. والآن، بعد كل حرصه بدا أن اللصوص والغنيمة قد تفلَّتوا من بين أصابعه. لقد كان حظًّا سيئًا للغاية.
قال الصياد المُسِن: «حسنًا، لقد وضعونا في منافسةٍ مُحتدمة للحاق بهم، لكنهم أفلتوا منَّا، فما العمل الآن يا سيدي؟»
لم يكن لدى بادجر ما يقترحه سوى أن نُبحر في النهر نحو الاتجاه المُعاكس لعلَّنا نجد في طريقنا مَن يُساعدنا. كان في أدنى غياهب القنوط والاكتئاب. وحينها، عندما بدا أن الحظ قد هجرنا تمامًا، وبدا الفشل حقيقةً واقعة لا يُمكن تغييرها، تدخَّلت العناية الإلهية.
فثَمة مركبٌ بخاري صغير كان يقترب منَّا من اتجاه قناة «إيست سوين» قد غيَّر مساره فجأةً، واتَّجه إلينا بسرعة كما لو أن قائده يريد محادَثتنا. فحدَّق إليه آخرُ مَن تكلَّم من الصيَّادين لبضع لحظات، ثم ضرب بيده على فخذه، وصاح مُتعجبًا: «أنقذَنا الربُّ بأعجوبة! هذا سيُلبِّي غرضك يا سيدي. ها قد أتى مركبٌ بخاري تابع لسلطات الجمارك.»
انكبَّ الصيَّادان على مجدافَيهما فورًا لمُلاقاة المركب القادم، حتى صِرنا بجواره في غضون بضع لحظات، ونادى بادجر مُلقيًا التحية على مَن فيه بعلوِّ صوته كأنه أحد ثِيران باشان. بعد ذلك شرح الوضع باختصار للضابط المسئول عن المركب، فوعده الضابط بالمساعدة وقد أبدى تعاطفًا شديدًا. تدافعنا جميعًا لنصعد على متن المركب البخاري، تاركين القارب وراءنا بعدما ربطناه بحبله في المركب. صلصل جرس غرفة المحرِّك بابتهاج، وانطلق المركب السريع الشبيه باليخت قُدمًا.
قال الضابط بينما كان مركبه ينطلق: «حسنًا، هلَّا وصفتم لنا هذا الصندل؟ ما شكله؟»
فأجاب الصيَّاد الأعلى رتبةً: «إنه قصيرٌ عريض صغير الحجم يحمل حمولةً خفيفة، وفي أمسِّ الحاجة إلى أن يُطلى. يوجد به دفَّة للقيادة، ويحمل عارضةً خضراء في مؤخرته منقوشًا عليها بلونٍ مُذهَب «بلوبيل ومالدون». يبدو أنه عادةً ما يُلازم الإبحار قبالة الساحل الشمالي.»
بعد أن سمع الضابط تلك التفاصيل وقد احتفظ بها في ذهنه، استطلع الأفُق الغربي بمنظارٍ ليلي، مع أننا كنا ما نزال في وضَح النهار، وسرعان ما قال: «ثَمة صندلٌ قصير عريض بمحاذاة على استقامة عوَّامة «بلاكتيل سبِت»؛ فلتُلقِ نظرةً عليه.» سلَّم منظاره إلى الصيَّاد، الذي أكَّد بعدما تفحَّص الصندل الغريب بدقَّةٍ أنه طريدنا المنشود، ثم قال: «إنه يتوجَّه إلى بلدة «ساوث إند» أو بلدة «لي» على الأرجح.» وأضاف: «أُراهن على أنه ذاهبٌ إلى جدول «بِنفليت كريك»؛ فهو مكانٌ لطيف هادئ ومُناسب لإنزال المسروقات.»
كانت تجربتنا المريرة التي عِشناها منذ لحظات قد انعكست الآن؛ ذلك أن سفينتنا الصغيرة السريعة كانت تلتهم أميالًا من الماء بسرعةٍ فائقة، وبدأ الصندل الذي كنا نُشاهده جميعًا بلهفةٍ شديدةٍ يلوح في الأفق أكبر حجمًا مع مرور كل دقيقة. وبحلول الوقت الذي أصبحنا فيه بجوار «ماوس لايتشيب»، لم يكن الصندل يَسبقنا إلا ببضع مئات من الياردات فحسب، وكان اسم «بلوبيل» مقروءًا بوضوح حتى من خلال نظَّارتي. كاد بادجر يَبكي من الفرحة، وابتسم الضابط المسئول ابتسامةَ ترقُّب، وشمَّر عُمَّال المركب البخاري عن سواعدهم تأهُّبًا للقبض الوشيك على الصندل، وجهَّز كلا الشرطيَّين ذوي الثياب المَدنية زوجًا من الأصفاد خلسةً.
وأخيرًا، صار المركب البخاري الصغير على مقربةٍ شديدة من جوار الصندل، وقد لاحَظه الرجلان الراكبان على متنه بالطبع. انحرف المركب ناحية الصندل فجأةً، وسرعان ما صار بمُحاذاته؛ فعلَّق أحد العُمال خُطَّافًا في أحد حبال دعم الصاري بدقَّة، وشبك الصندل بالمركب بإحكام، بينما قفز اثنان من ضباط الجمارك والشرطيان ذوا الثياب المَدنية والمفتش معًا إلى الأسفل على متن الصندل. وللحظةٍ أبدى الرجلان ميلًا إلى العراك مع أفراد الشرطة، لكن الأفضلية العددية كانت لمصلحة الشرطة بفارقٍ ساحق. وبعد عراكٍ قصير حُسِم بأقل مجهود، خضع كلاهما لتصفيد أياديهما، واقتِيدا فورًا إلى متن المركب البخاري، وقبعا في حجيرته السفلية الأمامية تحت الحراسة، ثم قفز الضابط الرئيس والصيادان وأنا معهم على متن الصندل، وبعدها نزلنا وراء بادجر على الدَّرَج المؤدي إلى المقصورة.
وقد كان مشهدًا غريبًا ذاك الذي تكشَّف لنا في تلك الحجيرة الشبيهة بالخزانة على ضوء مصباح بادجر الكهربائي؛ إذ رأينا رجلين مُمدَّدين على صندوقين وموثَّقين بحبل سبر الغور، وكان وجهاهما مُغطَّيَين بقبعتين مخروطيتين مَحبوكتين، وكانت توجد منضدةٌ صغيرة مثلَّثة ثابتة تحمل صندوقًا مُقوًّى بعصاباتٍ حديدية ميَّزته على الفور من واقع ما كان محفورًا في ذاكرتي عن وصف صندوق السبائك الذي ورد في بيان حمولة السفينة. لم يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة لفكِّ وثاق القبطان وابنه، واللذين كانا غاضبَين بشدة، لكن إصاباتهما لم تكن بالخطيرة، واصطُحبا إلى متن المركب البخاري لينتعشا ويستردَّا عافيتهما. بعد ذلك، حمَل اثنان مفتولا العضلات من عُمال المركب البخاري صندوق الكنز الثقيل إلى أعلى الدَّرج الضيق؛ ليُرفَع بحبال الرافعة ويوضع على متن مركب الجمارك الحكومي.
قال لي المفتش بعد ذلك وهو يمسح وجهه بمنديله: «حسنًا، حسنًا، مأزقٌ صعب، لكن العبرة بالخواتيم، غير أنني قد ظننت أن الرجال والمسروقات قد أفلتوا من قبضتي آنذاك. ماذا ستفعل؟ فأنا سأبقى على متن هذا المركب إذ يذهب مباشرةً إلى قسم الجمارك في لندن، لكن إذا كنت تودُّ العودة إلى ديارك في وقتٍ أبكَر، فأظنُّ أن الضابط الرئيس سيُنزلك على البَر عند «ساوث إند».»
قرَّرت اختيار هذا المسار، وبذلك نزلت عند ممشى «ساوث إند بير» أحمل معي برقيةً من بادجر لأبعث بها إلى مقرِّ عمله، وأسعفَني حسنُ حظِّي في «ساوث إند» للحاق بقطارٍ سريعٍ أوصلني إلى محطة «فينتشيرش ستريت» في بداية الليل.
وحين وصلت إلى مكتبنا، وجدتُ ثورندايك جالسًا عند المدفأة يدرس مذكرةً بكل هدوء. وعند دخولي وقف وقال بينما وضع المذكرة جانبًا: «لقد عُدتَ أبكر ممَّا كنت أتوقَّع. كيف سارت المطارَدة؟ هل لحقتم بالصندل؟»
«نعم، قبضنا على اللصَّين وأمسكنا بالسبائك، بعد أن كنا على وشك أن نفقد كليهما.» وسردتُ له أحداث المطاردة والقبض على الرجلين والسبائك، وقد أنصت إليها بحماسة تامَّة، ثم قال حين أنهيت روايتي: «لقد كان هذا المَركب البخاري الجمركي عيِّنةً من حُسنِ حظٍّ هائل. إنني مُبتهج بذلك؛ فالقبض على اللصَّين والسبائك يُسهِّل علينا القضية للغاية.»
فقلت له: «أرى أنه يحسم القضية تمامًا؛ فقد استُعيدت المسروقات واحتُجز اللصان، لكني أظنُّ أن معظم الفضل في ذلك يُنسَب إلى بادجر.»
ابتسم ثورندايك ابتسامةً غامضة، وقال: «سأترك له الفضل كلَّه يا جِرفيس.» وأضاف بعد لحظة قضاها صامتًا يتفكر: «سنذهب في صباح الغد إلى «سكوتلانديارد» لنتيقَّن من صحَّة الغنيمة التي أمسكتم بها. وإذا اتَّضح أن الصندوق يتفق مع الوصف الوارد في مستند الشحن، فستكون القضية قد حُسِمت حينئذٍ كما تقول.»
قلت له: «هذا ليس ضروريًّا؛ فالعلامات كلها كانت صحيحة، والأختام الجمركية غير مفضوضة، لكني أعرف أنك لن تقتنع إلى أن تتيقَّن من كل شيء بنفسك، وأظنُّ أنك مُحقٌّ في ذلك.»
كانت الساعة الحادية عشرة والنصف من ضُحى اليوم التالي حين اجتَحنا مكتب المشرف ميلر في «سكوتلانديارد». رفع ذلك الضابط اللطيف ناظرَيه من على مكتبه ناظرًا إلينا عند دخولنا، وضحك بابتهاجٍ شديد، ثم قال بضحكةٍ مكتومة وهو يلتفت إلى المفتش الذي رفع هو الآخر ناظرَيه نحونا وكان ينظر إلينا بابتسامةٍ ماكرة: «ألم أقُل لك ذلك يا بادجر؟ كنتُ أعلم أن الطبيب لن يقتنع حتى يراه بأمِّ عينَيه. أظنُّ أن هذا هو ما جئتَ من أجله يا سيدي، أليس كذلك؟»
أجابه ثورندايك: «بلى. إنه مجرد إجراء شكلي بالطبع، لكن، إن كنت لا تُمانع …»
ردَّ ميلر: «لا على الإطلاق. تعالَ معي يا بادجر، وأرِ الطبيب غنيمتك.»
قادنا الضبطان إلى غرفةٍ ذات بابٍ موصَد فتَحه المشرف، وكانت تحوي منضدةً صغيرة ومعيارَ قياس وميزانًا ومجموعة من مخططات «سنيلين»، وصندوق السبائك الذي صار الآن قطعةً تاريخية. تفحَّص ثورندايك الصندوق من كثب، وتحقَّق من العلامات والأبعاد مُقارِنًا إيَّاها بتلك المدوَّنة في دفتر ملاحظاته.
ثم قال: «أرى أنكما لم تَفتحاه.»
فأجاب ميلر: «لا. ولمَ نفتحه؟ فالأختام الجمركية سليمة.»
أوضح ثورندايك قائلًا: «ظننتُ أنكما ربما كنتما ستريدان معرفة ما فيه.»
فنظر الضابطان إليه بسرعة، وصاح المفتِّش مُتعجِّبًا:
«لكننا نعرف. لقد فُتِح وفُحِص في الجمارك.»
فسأله ثورندايك: «وماذا يوجد داخله على حدِّ ظنك؟»
أجاب المفتش بنفاد صبر: «أنا لا أظن، بل أعرف يَقينًا. يوجد داخله أربع سبائك من الذهب.»
قال ثورندايك: «حسنًا، بصفتي مُمثِّل شركة التأمين، أرغب في رؤية محتويات هذا الصندوق.»
فحدَّق الضابطان إليه بذهول، ويجب أن أعترف أنني أيضًا فعلت ذلك؛ إذ بدا شكُّه الضمني مُنافيًا تمامًا للمنطق.
قال ميلر: «هذا شكٌّ مُبالَغ فيه! كيف يُمكن ذلك بحقِّ السماء … لكنني أرى أن تُعطينا مسوِّغًا منطقيًّا إن لم تكن مُقتنعًا بما نقول.»
نظر سريعًا إلى مرءوسه الذي كان يَشخر بنفاد صبر، وقال له: «آه، افتحه ودَعه يرَ السبائك، وأظنُّ أنه سيطلب منا أن نُعاير المعدن حينها.»
ابتعد المُشرِف عابسًا ثم عاد حاملًا مفك مسامير لولبية ومطرقة وفتَّاحة صناديق، ثم فضَّ الأختام ببراعةٍ شديدة، واستخرج المسامير اللَّولبية، ورفع غطاء الصندوق الذي كان يحوي بداخله قطعةً سميكة من قماش القنب قد طُويت طيَّةً أو اثنتَين. وبعدما رفعها بشيءٍ من التباهي، عرض السبيكتين العُلويتَين الصفراوين الباهتتَين.
وسأل بادجر ثورندايك: «هل اقتنعَت الآن يا سيدي، أم تريد رؤية الاثنتين الأخريين؟»
تأمَّل ثورندايك السبيكتين، بينما راح الضابطان يَنظران إليه نظراتٍ استفساريةً (لكنهما لم يفهما منه أكثر مما يمكن للمرء أن يفهمه من تعابير وجه تمثال). أخرج من جيبه مسطرةً قابلة للطَّي طولُها قدمٌ واحدة، وقاس الأبعاد الثلاثة لإحدى السبيكتَين بسرعة.
وبعد ذلك سأل: «هل هذا الميزان موثوق؟»
فأجاب المشرف وهو يُحدِّق إلى زميلي بقسماتٍ مُنزعجةٍ بعض الشيء: «يُعطي قياساتٍ مضبوطةً بالأوقية. لماذا؟»
أجاب ثورندايك برفع السبيكة التي قاسَ أبعادها للتَّو، وحملها إلى الميزان عبر المنضدة، ثم وضعها على الكفة المنبسطة، وضبط أثقال القياس بعناية.
استفسر المشرف بقلق بينما كان ثورندايك يأخذ قراءة الميزان: «حسنًا؟»
أجاب ثورندايك: «تسعة وعشرون رطلًا وثلاث أوقيات.»
فكرَّر المشرف سؤاله: «حسنًا؟ وما هي إذن؟»
نظر إليه ثورندايك لحظةً بجمودٍ خالٍ من أي تعبيرات، ثم أجاب بالنبرة الهادئة نفسها: «رصاص.»
فصاح الضابطان معًا وهما يندفعان إلى الميزان مُحدِّقين إلى سبيكة المعدن: «ماذا!» ثم لَمْلم بادجر شتات نفسه، واحتجَّ بنبرةٍ لا تخلو من الانفعال قائلًا: «هراء يا سيدي. انظر إليها. ألا ترى أنها ذهبٌ؟»
فأجاب ثورندايك: «بل أرى أنها مُذهَّبة.»
احتجَّ ميلر قائلًا: «لكن هذا مستحيل! لماذا تظنُّ أنها رصاص؟»
أجاب ثورندايك: «المسألة تتلخَّص في الكثافة النوعية؛ إذ تحوي هذه السبيكة اثنتين وسبعين بوصةً مكعَّبة من المعدن، وتَزِن تسعة وعشرين رطلًا وثلاث أوقيات؛ ومن ثَم فهي سبيكةٌ من الرصاص. وإذا كنت ما تزال مُتشككًا، فمن السهل جدًّا قطع الشك باليقين. هل لي أن أقطع عينةً صغيرة من هذه السبيكة؟»
شهق المشرف فاغرًا فاه ونظر إلى مرءوسه، ثم قال: «أظنُّ في هذه الظروف … ماذا يا بادجر؟ نعم، لا بأس، يُمكنك ذلك أيُّها الطبيب.»
أخرج ثورندايك سكينَ جيب حادًّا، وبعدما رفع السبيكة ووضعها على المنضدة، وضع السكين على أحد أركان السبيكة وطرق عليه بالمطرقة ببراعة؛ فاخترق نصل السكين المعدن اللين بسهولة، وحينما سقطت العيِّنة المُقتطَعة على الأرض، مددت أنا والضابطان أعناقنا إلى الأمام بلهفة لنراها، وحينئذٍ قطَع اليقين كلَّ الشكوك المحتمَلة؛ إذ كان البريق الأبيض الفضي لسطح العينة التي اقتُطعت للتَّو واضحًا كالشمس.
صاح المشرف بانفعال: «الثعابين! هذه ضربةٌ قاضية في مَقتل! يا إلهي، لقد أفلَت الحُقراء بالمسروقات!» وأضاف بنظرةٍ متحيِّرة إلى ثورندايك: «إلا إذا كنت تعرف مكانها أيها الطبيب، وأظنُّ أنك تعرف.»
قال ثورندايك: «أعتقد أنني أعرف، وإذا كنت تودُّ النزول والذهاب معي إلى ميناء «لندن دوكس»، فأظنُّ أنني أستطيع أن أسلِّمك إيَّاها.»
انفرجت أسارير المشرف بشدة، لكن أسارير بادجر لم تنفرج؛ إذ رمى ذلك الضابط المنكوب رقاقة المعدن التي كان يفحصها، والتفت إلى ثورندايك سائلًا إيَّاه باستياء: «لماذا لم تُخبرنا بذلك من قبلُ يا سيدي؟ لقد تركتَني أُطارد ذلك الصندل اللعين وأنت كنتَ تعلم طوال الوقت أن المسروقات لم تكن على متنه؟»
فاعترض ثورندايك قائلًا: «يا عزيزي بادجر، ألا ترى أن هذه السبائك الرصاصية ضرورية لقضيتنا؟ إنها تُثبِت أن سبائك الذهب لم تُنزَل قط من على السفينة، وأنها بذلك ما تزال على متنها، وهذا يسمح لنا بمصادرة أي ذهب قد نجده فيها.»
قال المشرف: «أصغِ إليَّ يا بادجر، لا جدوى الآن من أن تُجادل الدكتور. إنه كزرافةٍ، يرى كلَّ ما حوله في آنٍ واحد. دعنا نذهب إلى «لندن دوكس».»
أغلقنا الغرفة وانطلقنا جميعًا، وبعدما ركبنا قطارًا من محطة «تشارينج كروس» مرَرنا في طريقنا بمحطتَي «مارك لين» و«فينتشيرش ستريت» وصولًا إلى محطة «وابينج»، حيث قادنا ثورندايك حتى دخلنا إلى الميناء، واتَّجهنا مباشرةً إلى أحد الأرصفة بالقرب من مدخل «وابينج». وهنا أجرى ثورندايك حوارًا قصيرًا مع أحد مسئولي الجمارك الذي ابتعد مُسرعًا، وسرعان ما عاد مع ضابطٍ أعلى رتبةً. وبعدما حيَّا هذا الأخير ثورندايك، وألقى على جمعنا الصغير نظرةً خاطفة يبدو فيها الاستمتاع بعض الشيء، قال: «لقد أنزلوا ذلك الصندوق الذي تحدَّثت عنه، وقد وضعته في غرفة مكتبي مؤقتًا، فهلَّا أتيت وألقيت نظرةً عليه.»
تبعناه إلى غرفة مكتبه الواقعة خلفَ صفٍّ طويل من السقائف، حيث كانت توجد منضدةٌ تحمل صندوقًا خشبيًّا متينًا أكبر بعض الشيء من صندوق شحنة «السبائك»، بينما كان المكتب يحمل مستندًا كبيرًا مفتوحًا يتكوَّن من أوراقٍ عديدة.
قال الضابط: «أظنُّ أن هذا هو الصندوق الذي طلبته، لكن من الأفضل أن تتحقَّق منه بمراجعة بيان الحمولة الجمركي. ها هي البيانات الخاصة به: «صندوقٌ واحد يَحوي سبع عشرة دزينة، وثلاثة أرباع دزينة من مسامير لولبية من النحاس الأصفر، أبعادُها ست بوصات في ثلاثة أثمان من البوصة، ومزوَّدة بصواميل. وأبعاد الصندوق هي ست عشرة بوصة في ثلاث عشرة بوصة في تسع بوصات. الوزن الإجمالي مائة وتسعة عشر رطلًا، والوزن الصافي مائة وثلاثة عشر رطلًا. المُرسَل إليه: جاكسون و«ووكر»، ٥٩٣ شارع «جريت ألي ستريت»، لندن، إي.» أهو الصندوق المطلوب؟»
فأجاب ثورندايك: «إنه الصندوق المطلوب.»
فقال صاحبنا: «إذن، سنفتحه ونُلقي نظرةً على تلك المسامير اللولبية المصنوعة من النحاس الأصفر.»
وبمهارةٍ كان من المُدهش أن يتمتَّع بها ضابطٌ يحمل هذه الرتبة العالية، فكَّ مسامير الصندوق اللولبية في طرفة عين، ورفع غطاءه كاشفًا عن قطعةٍ مطوية من قماش القنب الخشن. وبينما كان يرفع هذه القطعة القماشية، كان الضابطان يُحدِّقان بلهفة إلى داخل الصندوق، وفجأةً تغيَّرت قسَمات بادجر المُتلهفة إلى قسَماتٍ تنمُّ عن خيبةِ أملٍ مريرة.
وقال بانفعال: «لقد طاشت رصاصتك هذه المرة يا سيدي؛ فليس ذلك سوى صندوق من المسامير اللولبية المصنوعة من النحاس الأصفر.»
فصحَّح له ثورندايك بهدوء: «بل مسامير من الذهب أيها المفتِّش.» أمسك أحدها وسلَّمه إلى المفتش المشدوه، وسأله: «هل أمسكت مسمارًا من النحاس الأصفر بهذا الوزن من قبل؟»
فاعترف المفتش وهو يَزِنه في يده ويمرِّره إلى ميلر، قائلًا: «حسنًا، إنه ثقيلٌ للغاية بالتأكيد.»
قال ثورندايك: «إن وزنه، وفق المذكور في البيان، يزيد عن ثماني أوقيات ونصف أوقية، لكن دعونا نتحقَّق من وزنه بأنفسنا.» أخرج من جيبه ميزانًا زنبركيًّا صغيرًا، وعلَّق به المسمار، ثم قال: «إنه يَزِن ثماني أوقيات وثلثَي أوقية مثلما ترى. أما أيُّ مسمارٍ من النحاس الأصفر بالحجم نفسه كان سيَزِن ثلاث أوقيات وأربعة أخماس من الأوقية فقط؛ ومن ثَم فلا شكَّ إطلاقًا في أن هذه المسامير من الذهب، ثم إن وزنها الإجمالي يبلغ مائة وثلاثة عشر رطلًا، بينما يبلغ وزن السبائك الأربعة مائة وثلاثة عشر رطلًا وأوقيتَين؛ لذا فمن المنطقي استنتاج أن هذه المسامير تُمثِّل تلك السبائك، والتي أُذيبت ببراعةٍ استثنائية جعلتها لا تفقد سوى أوقيتَين من وزنها. ألم يحضُر وكيل المُرسَل إليه بعدُ؟»
فأجاب الضابط بابتسامة ابتهاج: «إنه ينتظر في الخارج، حيث يتمشَّى جيئةً وذهابًا بخطواتٍ وثَّابة مثل حبَّة بازلَّاء في مِقلاة. سآذَن له بالدخول.»
أذِنَ له بالفعل، فاقترب رجلٌ ضئيل الحجم رثُّ الثياب ذو ملامح سامية جدًّا من الباب بحذرٍ شديد، ووجهٍ شاحبٍ بعض الشيء. وحين وقعت عيناه الشبيهتان بالخَرزتَين على الصندوق المفتوح والتجمُّع المُنذِر بسوء في غرفة المكتب، استدار وهرب راكضًا بطول رصيف الميناء كما لو أن جيوش الفلستيِّين كانت تُطارده.
وبينما كنا نتمشَّى في شارع «نايتنجيل لين» عائدين إلى مكتبنا، رددتُ على ثورندايك قائلًا: «الأمر كلُّه بسيط للغاية بالطبع مِثلما تقول، لكني لا أستطيع رؤية طرف الخيط الذي بدأت منه. ما الذي جعلك تظن أن الصندوق المسروق كان مزيَّفًا؟»
أجاب ثورندايك: «في البداية، اعتمد نهجي على مجردِ فرضياتٍ بديلة. لقد كان تخمينيًّا محضًا؛ إذ بدت عملية السرقة بالطريقة التي وصفها بها «هيلثورب» بدائية للغاية، وبدا أن اللصوص قد خطَّطوا لها بطريقةٍ خاطئة تمامًا. وحين لاحظت ذلك سألت نفسي بطبيعة الحال: ما الطريقة الصحيحة لسرقة صندوق من سبائك الذهب؟ ووجدت أن أبرز الصعوبات في تنفيذ عملية سرقة كهذه تكمن في الطبيعة الثقيلة للشيء المسروق، والسبيل إلى التغلُّب على هذه الصعوبة هو الهروب بالغنيمة على مَهلٍ قبل اكتشاف السرقة، وكلما طال الوقت المُنقضي قبل اكتشافها كان ذلك أفضل للسارق. ومن الواضح أيضًا أنك إذا استطعت أن تُضلِّل شخصًا ما وتجعله يسرق نسخةً مزيَّفة من غنيمتك، فستكون قد طمستَ آثارك تمامًا؛ لأنه إذا قُبِض على هذا الشخص فستكون المشكلات متشابكة وغامضة للغاية، وإذا لم يُقبَض عليه فستقود كلُّ الآثار والخيوط إلى أبعد ما يكون عنك. ولا شك بأنه سيكتشف هذا التزييف حين يُحاول التصرُّف في الغنيمة، لكنه لن يستطيع التفوُّه بكلمةٍ عن ذلك؛ لأنه هو نفسه قد ارتكب جريمة. وبهذا توصَّلت إلى أن هذه هي الخطة الاستراتيجية الصحيحة، ومع أنها كانت مُستبعَدة للغاية، ولم يكن يوجد ما يُشير إلى أن اللصوص قد اتبعوها، كان ما يزال عليَّ أن أضع في الحسبان أن هذه السرقة البدائية ربما تَستُر وراءها سرقةً أشدَّ دهاءً. كان من الضروري أن أتيقَّن تمامًا من أن سبائك الذهب كانت في الصندوق حقًّا حين غادَر «بيلهافن»، وقد كنتُ شِبه مُتيقنٍ من ذلك. لقد كانت زيارتنا إلى قسم الجمارك أكبر بقليل من مجرَّد إجراء شكلي؛ إذ كان الهدف الوحيد منها هو أن تمنحنا معلومةً لا ريب فيها لنستهلَّ بها تحقيقنا. فكان علينا أن نجد شخصًا قد شاهَد الصندوق مفتوحًا وتحقَّق من محتوياته بالفعل، وحين وجدنا ذلك الرجل — السيد بيرن — اتَّضح على الفور أن ذلك الاحتمال المستبعد للغاية قد تحقَّق؛ فسبائك الذهب كانت قد اختفت بالفعل قبل أن يرى بيرن الصندوق؛ ذلك أنني حسبت الحجم التقريبي للسبائك الحقيقية، ووجدت أنه كان من المفترَض أن يبلغ اثنتين وأربعين بوصةً مكعبة، وأن أبعادها كانت ستبلغ سبع بوصات في ثلاث بوصات في بوصتين؛ أي إن الأبعاد التي ذكرها بيرن — والتي بدت صحيحةً كما اتَّضح من أبعاد الصندوق الذي كان يُلائم السبائك بالكاد — كانت مُستحيلة؛ فلو كانت تلك السبائك من الذهب لَبلَغ وزنها مائتَي رطل، وليس مائة وثلاثة عشر رطلًا كما ورد في تقريره. الشيء المُذهِل أن بيرن لم يُلاحظ هذا التناقض؛ فما كان الكثيرون من ضباط الجمارك ليغفلوا عن ذلك.»
سألته: «أليس غريبًا أن اللصوص راهَنوا على صُدفةٍ مستبعَدة كهذه؟»
أجاب قائلًا: «من المؤكَّد أنهم لم يكونوا على دراية بالمخاطَرة التي كانوا يخوضونها؛ فالأرجح أنهم قد افترضوا ما كان معظم الناس سيفترضونه، وهو أن صندوق السبائك سيُفحَص ويُمرَّر فحسب؛ فقليلٌ من الناس مَن يعرف الإجراءات الصارمة التي يتبعها ضباط الجمارك، لكني سأستكمل الآن: كان من الواضح أن سبائك «الذهب» التي فحصها بيرن كانت مزيَّفة، وهنا ظهر السؤال الآتي: أين كانت السبائك الحقيقة إذن؟ هل هرب اللصوص بها أم أنها كانت ما تزال على متن السفينة؟ ولحسم إجابة هذا السؤال، قرَّرت الاطِّلاع على بيان الحمولة الجمركي كله، لا سيَّما عمود بيانات الأوزان الصافية، وسرعان ما وجدت فيه صندوقًا لا يختلف وزنه الصافي عن وزن السبائك المسروقة إلا بفارق أوقيتين فقط، وكان هذا الصندوق طردًا من المسامير اللولبية المصنوعة من النحاس الأصفر، على متن سفينة متجهة إلى أرض الوطن! ولكن مَن في الدنيا قد يُرسل مسامير من النحاس الأصفر من أفريقيا إلى لندن؟ كان هذا الأمر الشاذ لافتًا جدًّا، لدرجة أنني تفحَّصت البيانات بتدقيقٍ أشد، وحينها توصَّلت من خلال قسمة الوزن الصافي على عدد المسامير إلى أن كلًّا من هذه المسامير الصغيرة يَزِن أكثر من نصف رطل، غير أنه إذا صحَّ ذلك كان من المستحيل أن تكون هذه المسامير مصنوعةً من معدنٍ آخر سوى الذهب أو البلاتين، وكان من شِبه المؤكَّد أنها من الذهب، ثم إن وزنها الإجمالي كان مُساويًا لوزن السبائك المسروقة بالضبط عدا أوقيتَين من المرجَّح أنهما فُقِدتا في الصَّهر.»
قلت له: «وأنياب الأفيال الصغيرة وصمغ الكوبال وجوز شجرة الكولا، ما صلتها بالتحقيق؟ لا أستطيع حتى هذه اللحظة أن أجد أيَّ علاقة.»
رمقني ثورندايك بنظرةٍ خاطفة مشدوهة، ثم ردَّ بضحكةٍ مكتومة هادئة: «لم تكن توجد أيُّ علاقة، بل كانت هذه الملاحظات من أجل وكيل شركة الشحن. لقد كان ينظر من فوق كتفي إلى ما كنت أكتبه؛ لذا كان عليَّ أن أُعطيه شيئًا يقرؤه ويشغل تفكيره به؛ فلو أنني اكتفيت بكتابة ملاحظات عن مسامير النحاس الأصفر فقط، لكنت قد أخبرته بذلك بطبيعة شكوكي.»
«إذن فقد حللتَ لغز القضية بالفعل بحلول الوقت الذي غادَرنا فيه «بيلهافن»؟»
«نظريًّا، نعم، غير أنه كان علينا استعادة الصندوق المسروق؛ فبِدُون تلك السبائك الرصاصية كنا سنَعجِز عن إثبات أن المسامير الذهبية ممتلكاتٌ مسروقة، كما يعجز المرء عن إثبات وقوع جريمة قتل بلا دليل على وفاة الضحية.»
«وكيف نُفِّذت السرقة في رأيك؟ كيف أُخرجَ الذهب من مخزن السفينة المُحصَّن؟»
«أعتقد أنه لم يُوضَع هناك قط؛ فأنا أشكُّ في أن اللصوص هم وكيل ربَّان السفينة وكبير المهندسين، وربما المسئول عن الحسابات والشئون المالية على السفينة؛ ذلك أن وكيل الربَّان يتحكَّم في تخزين الحمولة، ويتحكَّم كبير المهندسين في ورشة الإصلاح، وهو يَملك المهارات والدراية اللازمة للتعامل مع المعادن. وأظنُّ أنهم حين تلقَّوا إخطارًا بشحنة السبائك، أعدُّوا الصندوق المزيَّف بما يتماشى مع وصف الصندوق الحقيقي. وحين وصلت السبائك خبَّئوا الصندوق المزيَّف على متن السفينة، وبدَّلوا الصندوقين حالما وُضِعت السبائك على متن السفينة، ثم أُرسلَ الصندوق المزيَّف إلى المخزن الحصين، ونُقِل الصندوق الحقيقي إلى مخبأ مُجهَّز سَلفًا. وبعد ذلك قطَّع المهندس السبائك، وصهَرها قطعةً قطعة، وصاغها في شكل مسامير لولبية بسكبها في قالبِ صياغةٍ عادي، واستخدم مسمارًا حديديًّا ليكون نموذجًا له، ثم أضاف السنون اللَّولبية باستخدام لُقمة تسنين. وكان وكيل الربَّان قادرًا على إدراج صندوق المسامير في بيان الحمولة الجمركي وقتما يشاء، وإرسال سند الشحن بالبريد إلى المُرسَل إليه الصوري. هكذا نُفِّذت السرقة على حدِّ ظنِّي.»
تبيَّن أن الحل الذي توصَّل إليه ثورندايك صحيحٌ حرفيًّا؛ إذ قُبِض على المُرسَل إليه، والذي طارَده المفتِّش بادجر على رصيف الميناء، عند بوابات الميناء، وتطوَّع فورًا بأن يشهد على شركائه في الجريمة. وبعد ذلك سرعان ما قُبِض على وكيل الربَّان وكبير المهندسين والمسئول عن الحسابات المالية في باخرة «لابادي»، ومثَلوا للمحاكَمة التي قدَّموا فيها، كلٌّ على حدة، إقرارًا بالذنب، ووصفوا طريقة السرقة كما صاغها لي ثورندايك بالضبط تقريبًا.