«عثمان» وحيدًا
كان الطابق خاليًا … وامتدت يد الرجل من خلف الباب تحمل مسدسًا … وقبل أن تنطلق الرصاصة بثانية … أو أقل، كان «عثمان» يُلقي نفسه على الأرض … واصطدمت الرصاصة بباب المصعد المغلق … وأحدث صوتًا حادًّا …
زحف «عثمان» ناحيةَ السُّلَّم المجاور للمصعد … ثم انزلق عليه بسرعة ولم يتوقَّف إلَّا عند نهاية السلالم الخمسة … ثم وقف … وأطلق ساقيه نازلًا … حتى وصل إلى الطابق الخامس عشر، فتوقَّف، ثم اتجه إلى المصعد … ودخله لاهث الأنفاس.
لقد تطورت الأمور بسرعة لم تكن متوقَّعة … نزل إلى صالة الفندق واتجه يسارًا إلى الكافتيريا … كانت «إلهام» و«زبيدة» جالستين وتنظران إلى مشهد النيل، وقد أخذت الشمس في المغيب بسرعة … وأقبل ليل ديسمبر المظلم …
جلس أمامهما … وروى بسرعة تفاصيل ما جرى له … ووصف الرجل وصفًا دقيقًا ثم قال: إنني أريد أن أضع له طُعمًا … وهو يتصور أنني وحدي فريسة سهلة … لهذا فإنني سأترككما الآن …
إلهام: سنتبعك من بعيد.
عثمان: وبحذر شديد!
وقام «عثمان» وأخذ يتمشَّى في صالة الفندق الواسعة … واتجه إلى محل يبيع الحلي والتحف الشرقية … وأخذ يتفرج، ولكنه في الحقيقة كان يشاهد الصالة كلها منعكسة على زجاج الفترينة … ومضت دقائق، ثم ظهر ذو المعطف الأسود … وأسرع «عثمان» يدور حول المحل … وأخذ ينظر من بعيد إلى وجه الفأر … لم يكن الرجل وحده هذه المرة … كان معه شخص آخر على العكس منه تمامًا … قصير ممتلئ … وفي مشيته عَرَج خفيف …
وقف الاثنان يتحدثان في الصالة … ولكن من نظراتهما أدرك «عثمان» أنهما يبحثان عن شيء … أو شخص … ربما هو … وربما غيره … وقرَّر أن يراقبهما … وسرعان ما انضم إليهما رجل ثالث … ثم اتجه الجميع إلى باب الفندق المطل على النيل … وأسرع «عثمان» خلفهم، ومن بعيد لمح «زبيدة» و«إلهام» تتابعانه عن قرب … وكانت المشكلة أنه لم يكن يحمل معه أسلحة … سوى كرته الجهنمية التي لا يسير بدونها.
في قفزات سريعة وصل إلى الباب … وكان الظلام قد هبط تمامًا على المدينة، وعلى النيل … وانبعثت أضواء آلاف المباني على شاطئ النهر … واستطاع على وهج الأضواء أن يرى أشباح الرجال الثلاثة … كانوا يسيرون على النهر … ثم داروا حول الجزيرة … وتوقَّفوا لحظات … ثم عاودوا السير حتى وصلوا إلى مرسًى للقوارب … وأسرع «عثمان» خلفهم … وعندما وضعوا أقدامهم داخل اليخت الأبيض الذي كان في انتظارهم لم يتردَّد «عثمان»، قفز إلى مياه النهر الباردة ثم تعلَّق بمؤخرة اليخت في الظلام حيث لا يراه أحد.
كان اليخت جاهزًا للإبحار، كان محركه يعمل بصوت رتيب منتظم … وعندما أصبح الثلاثة على ظهره انطلق مبحرًا …
كان الجو باردًا … والمياه باردة … وانتظر «عثمان» حتى غادر اليخت الشاطئ … ثم تسلَّق السلسلة الخلفية … ووصل إلى سطح اليخت، وألقى نظرة … لم يكن هناك أحد … ففي مثل هذه اليخوت الصغيرة لا يوجد سوى القبطان ومساعده … انزلق إلى سطح اليخت، وزحف حتى قرب السُّلَّم … ثم أخذ يتسمَّع … كان من الصعب أن يستمع إلى أي شيء … فقد كان هدير المحرك يُغطِّي على أي صوت.
نزل السُّلَّم بخفة حتى آخر السُّلَّم … وشاهد بابًا مواربًا … خلفه صالون اليخت، واستطاع أن يسمع كلمات مختلطة تصدر من مجموعة رجال يتحدثون الإنجليزية … واستطاع أن يتبين كلمات مثل «حلوان … الكوبري … الطائرة» … ثم فجأة فُتح الباب … وأسرع «عثمان» يصعد السُّلَّم في سرعة … ثم اختبأ خلف كابينة القيادة … وصعد رجلان إلى ظهر اليخت … وأخذا ينظران إلى شاطئ النيل …
قال أحدهما: هل تظن أن رسالة وصلته؟
ردَّ الثاني: لقد كان الإعلان في جريدة الأهرام واضحًا …
الأول: لعله لم يقرأه!
الثاني: لقد وصلته رسالتنا … إنه يقرأ الأهرام … ومن المؤكد أنه قرأه بعناية، ووصل إلى الإعلان وفهِمَ ما فيه.
الأول: هل تعتقد أن نص الإعلان كان واضحًا بما يكفي ليفهم ما المقصود؟
الثاني: كان نص الإعلان: «مطلوب رجل أمن مُدرَّب … سبق له العمل في جهاز كبير … سيتقاضى مرتبًا ضخمًا … ومكافأة كبيرة، تُرسَل البيانات إلى رقم «صفر»، باسم «هشام».»
الأول: الإعلان على جريدة الأهرام واضح طبعًا … فهو رقم «صفر» … وابن شقيقته المختفي هو «هشام».
وتوقَّف الاثنان عن الكلام … وكان «عثمان» لا يكاد يصدِّق أذنيه … فقد حصل على معلومات هامة أيضًا … فهؤلاء الرجال هم الذين خطفوا «هشام» وهم يريدون من رقم «صفر» أن يتصل بهم … فهل يقع رقم «صفر» في المصيدة؟
كان اليخت متجهًا جنوبًا إلى «حلوان» … وأحسَّ «عثمان» برعشة قوية … فقد كانت ثيابه مُبلَّلة … والريح الباردة تعصف به … وهو قابع خلف كابينة القيادة … ولم يكن معه سلاح يمكن أن يستخدمه للسيطرة على الموقف … وأخذ يفكر فيما ينبغي عملُه … لم يكن أمامه إلا أن ينتظر ويرى.
نزل الرجلان مرة أخرى إلى جوف اليخت … وتحرك «عثمان» في اتجاه نهاية اليخت … ومضت نصف ساعة، أشرف فيها اليخت على الوصول لجزيرة الذهب المواجهة للمعادي … وأخذ يبطئ من سرعته حتى توقَّف … وظهر قارب صغير يقترب من اليخت … وكانت دهشة «عثمان» لا مثيل لها … عندما استمع إلى صوت كلاب يصدر من القارب … وعندما اقترب من اليخت تمامًا … استطاع «عثمان» أن يرى ثلاثة كلاب من نوع «الوولف» ذات اللون الأسود تُكشِّر عن أنيابها … وأحس بأن الخطر قادم، وأنه يجب أن يتصرف سريعًا …
فهذه الكلاب يمكن أن تشم رائحته فورًا، وانتهز «عثمان» فرصة صعود مدرب الكلاب إلى سطح اليخت … وتسلل بهدوء نازلًا إلى القارب ثم أخذ يجدِّف مبتعدًا قبل أن يكتشفه الموجودون على اليخت …
ابتعد سريعًا … ولكنه لم يترك اليخت يبعد عن عينيه وقد توقَّف عند شاطئ الجزيرة … ووقف يراقب اليخت من بعيد … ولكن حدث ما لم يكن يتوقعه … فقد أحس بأقدام مسرعة تقترب منه … وقبل أن يتمكن من عمل شيء … شاهد مسدسًا لامعًا يمتد إليه في الظلام، وصوت يقول: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
لم يردَّ «عثمان»؛ فهذا الذي يسأله لا يعرفه … ومن السهل عليه أن يدَّعي أي شيء … لهذا ردَّ مسرعًا: إنني صياد فقير أبحث عن رزقي.
قال الصوت الخشن: اصعد إلى فوق!
قام «عثمان» من مكانه وصعد الشاطئ الطيني … وهو يسمع صوت محرك اليخت وهو يبتعد ورأسه يكاد ينفجر من فرط التفكير.