محاكمة «شيحا»
عاد رزق إلى معسكره مُهانًا؛ لأنَّ عبدًا كبركات وهَبَه الحياة فصار عتيقَ سيفه … وهذا عارٌ عليه ودليلٌ على مذلته وضعفه … ومَن التي كانت السببَ في هذا؟! ابنته «شيحا»! يا للفضيحة!
زعق رزق الغاضب في رجاله: اجمعوا كلَّ ما تجِدُون من خشب وحطب.
واقبضوا على «شيحا» فسوف نحرقها الآن … هيا.
وضرب هذا لتردُّده، وسبَّ ذاك لأنه اعترض، ودفَعَ ذلك الذي حاول أن يتشفَّع لها … فمضى الرجال مُجبَرين يجمعون الأحطاب، بينما اندفع وهو في ثورةٍ من غضبه، إلى حيث النساء، وجرَّ «شيحا» من ضفائرها، وهو يضربها بكلِّ قسوة … بينما هي لا تتكلَّم، ولا تتألَّم … وإنما تنظُر إليه مباشرةً في عينَيه نظرةً تفتِّت الأكباد … وكأنها تسأله عن سرِّ ما يفعله الآباء بالأولاد؟!
كانت النسوة تبكي وتصرخ … وكان الرجال صامتين في حزنٍ وغضب، بينما رزق يكوِّم الأحطابَ حول ابنته، التي ربطها إلى عمودٍ من الخشب!
•••
وصَلَ الخبر إلى الأمير حازم، أمير بني هلال، وابنه سرحان الذي أسرع رغمَ جراحه؛ ليمنع رزقًا عن فعلته الشنعاء، وأمره أن يحلَّ وثاق «شيحا» وهو يقول: لا تتهوَّر يا رزق، ما هكذا تُعالج هذه الأمور، لا أحدَ يحرق ابنته لأنها أنقذتْ حياته.
صاح رزقٌ في غضب: لقد خانتْنا … وفضحتْنا … وظاهرتْ عدوَّنا علينا.
قال سرحان: صرختْ به لتمنعه من قتلك، تعالَ لنبحث الأمرَ معًا على مهل، ولا تترك الغضبَ يُعميك عن الحقائق.
انتبه رزقٌ في غضب: أيَّة حقائق؟!
قال سرحان وهو يضع ذراعه فوق كتفه ليهدئه: وهل هناك حقيقةٌ أشدُّ من أُبوَّتك يا رجُل؟! حقيقة الدم يا رزق … لا تجادل في الحقِّ بالباطل … إنها ابنتك رغم كلِّ شيء!
قال رزق: لا بد من محاكمتها؛ لأنها خانتْنا … وتواطأت مع عدوِّنا بركات، ذلك العبد الذي لا يستحقُّ سوى الموت.
دخَلَ الاثنان إلى الخيمة … وأمَرَ سرحان بعض الرجال أن يُحضروا «شيحا» … وكان كِبار بني هلال كلُّهم مجتمعين حول الأمير حازم، الذي كان إلى جانبه القاضي بدير … وأخَذَ رزق يوجِّه الاتهام لابنته، التي وقفت مرفوعةَ الرأس تنظُر بقوةٍ في عيونهم مباشرة؛ فتجعلهم يخفضون النظر خجَلًا كالمُذنِبين.
سألها القاضي: لماذا فعلتِ ذلك يا «شيحا»؟!
قالت في كبرياء: وماذا فعلتُ يا قاضي؟ هل هي جريمةٌ أن أُنقِذَ أبي من الموت … وأنقذ شرَفَه؟
صاح رزقٌ بها غاضبًا: لقد صغَّرتِني! ولوَّثتِ شرفي وجعلتِ هذا العبد يعفو عني … فصِرتُ صنيعَ معروفه.
قال سرحان: صمتًا يا رزق؛ سيأتي وقتك لتتكلَّم.
والْتفت إلى «شيحا» وقال: أنا أسألك يا ابنتي عن صيحتك الأولى؟ ما الذي بينكِ وبين بركات؛ لكي تحذِّريه من ضربةٍ كان يمكن أن توفِّر علينا كلَّ هذا القتال؟!
هزَّت «شيحا» رأسها في غضبٍ وقالت في سخرية: هل كنتَ تريد أن يقتل أبي بركات غدرًا … ليسقط في نظَرِ الجميع، الغدر يا أمير من شيم الأنذال، ورزق الدريدي ليس نذلًا يا أمير سرحان!
سكت سرحان خجلًا، بينما طأطأ رزق رأسه وارتبك الحضور؛ فلم يستطِع الأميرُ حازم أن ينطق بكلمةٍ واحدة … بينما فأفأ القاضي، وقبل أن يبلع ريقه أسرعتْ «شيحا» تقول: لو أنَّ أعينكم ترى، وقلوبكم تحسُّ وتفهم؛ لرأيتم ما جرى أمامكم وفهمتموه … ها هو بركات ابن الملك الزحلان … أسمر اللون رغمَ أن أخوَيه منعمًا ونعيمًا أبيضان … فلماذا لم يطرد الزحلان أمَّ ابنه؟ مثلما حرَّضتُم أبي أن يفعل، حين ولدتْ أمي له بركات أخي. إنني أتخيَّله كبيرًا، في مثلِ عُمر بركات هذا … وربما أقوى وأشجع منه … لا يا سادة. أنا لم أخُنْكم … لقد خُنتم أنفُسَكم من زمن … أنا أنقذتُ أبي، نعم … ولكني أنقذتُ شرفه أيضًا؛ فهو ليس بالغادر الذي يقتُل خصمه غِيلة … فالغدر من صفاتِ الأنذال وحدهم يا بني هلال.
قالت هذا واستدارتْ خارجةً، ولم يجرؤ أحدٌ على اعتراضِ طريقها … فمضتْ مرفوعةَ الرأس، وعند الباب توقَّفتْ، والْتفتت قائلة: أنا في انتظار حُكمك يا أبي … وتأكَّد أنَّك سوف تجِدُني مطيعةً لك على الدوام … لكن اعلم أنَّ الجُرح الذي أبكاني صغيرة، يوم طردتَ أمي وأخي، ما زال ينزف من قلبي دمًا بدلًا من الدموع … ولكنْ ماذا نفعل؟! هل للماضي رجوع؟
خيَّم على القوم صمتٌ رهيب. ولم يجرؤ أحدٌ منهم على قطْعِ سكونه؛ حتى قال الأمير حازم: ليذهب رسولٌ الآن إلى «مكة»؛ ليسأل الشريفَ قرضاب عن أخبار ابنته «خضرة» وابنها.
ثم صاح: يا مرزوق.
أسرَعَ إليه عبدٌ خفيفُ الحركة كالعصفور.
– السمع والطاعة يا سيدي.
همَسَ له الأمير: طِر الليلةَ إلى «مكة» … خُذ ما تحتاج من هُجُن سريعة. ولْتكُن هنا مع الصباح … وعليك أن تحتال كي تتقصَّى لنا أخبار «الخضرا» … هيَّا لا تضيِّع دقيقة … فلا شيءَ الآن أهمُّ من الحقيقة … أمَّا أنت يا رزق فابقَ عندي الليلة … لا تزِد الأمورَ سوءًا … لا أريدك أن تُسِيء إلى «شيحا» أفضل فتيات القبيلة … فهي لم تفعل سوى ما أملتْه عليها أخلاقها النبيلة!
مَن أبوك يا بركات؟
عاد مرزوق من «مكة» بالحقيقة، التي تقول أنَّ قرضاب الشريف لم يرَ ابنته «خضرة» ولا ابنها الذي ولدتْه منذ خمسة عشر عامًا، فازداد بنو هلالٍ حيرة … وهنا صاح رزق: أحضِرُوا الأمير قايد.
وكان الأمير قايد قد اعتزل بني هلال وعاش في أحد الكهوف بعيدًا، يرعى بضع عنزات يعيش على لبنها، منذ عاد من مهمَّته التي كلَّفه بها الأمير رزق، يوم أمره أن يوصل «خضرا» وابنها إلى أبيها في «مكة»!
وفي البداية رفَضَ قايد أن يعود إلى هؤلاء الذين أصبحوا لا يُقيمون وزنًا لصلةِ الدم، ولا يرعون الحرمات … لولا أن عرف أنَّ الأمر خطير ويتعلق ببركات و«شيحا»، فعاد وأخبرهم بالقصة، وكيف استجاب لمَا طلبتْه «خضرة»، التي خافت أن تعود إلى أبيها مطلَّقة ومتَّهمة … فطلبتْ منه أن يتركها للوحوش والضواري، وسوف ينجيها الله لبراعتها … فأشفق عليها، وأخذها بنفسه إلى الملك الزحلان، وقصَّ عليه حكايتها فأكرَمَها واتَّخذ من ابنها ابنًا له.
قال الأمير حازمٌ في دهشة: هل تعني أنَّ بركات هذا … هو بركات ذلك؟! هل تعني أن بركات بن الزحلان، هو نفسه بركات بن رزق الدريدي؟ … يا للعجب.
قال سرحان وهو خجلان: إذن كانت «شيحا» تستجيب لنداء قلبها، نداء الدم في عروقها.
انتفض رزقٌ وقد فاضت مشاعره حتى البكاء.
– أنا لا أكاد أصدِّق، لا … كلُّ هذا هراء … وكذب وافتراء … هل يعني ذلك أنني كنت سأقتل ابني؟ … وكاد هو أن يقتلني؟ … وماذا سأفعل عندما يطلُبني الآن للقتال … هل سأخذُل بني هلال … أم أقتُل ابني يا رجال؟!
هزَّ الأمير حازم رأسه في حيرةٍ وقال: الحقُّ معك يا رزق. الأمر صعب … ولكن عندي لك فكرة ستحسم الموقف تمامًا … اسمعْ ستخرج إليه … وعندما تلتقيان … ما عليك إلا أن تقول له …
ولم يسمع أحدٌ ما قاله بسبب صياح بركات، الذي ظهَرَ يصول ويجول فوق فرسه بالقرب منهم متحدِّيًا أن يخرج إليه أحدهم: يا بني هلال … هل انقرض فيكم الرجال … اخرُج يا رزق لتمحو عار الأمس. ولا تتجبَّر على النساء والصبايا، هيَّا … ولا تطمع يا سبب الرزايا في كرمٍ أكثرَ من ذلك. لقد أبقيتُ على حياتك بالأمس؛ إكرامًا لتلك الحسناء الهلالية … لكنْ اليوم أمرٌ آخر … هيَّا.
اندفع «رزق» نحوه كالسهم ممتطيًا حصانه، بعد أن أنهى حديثه مع الأمير حازم … وأخَذَ كلٌّ منهما يدور حول الآخر في تحدٍّ … وحين اندفع بركات نحو رزق أوقَفَه هذا بإشارة من يده وقال: ارجعْ يا فتى وأرسل مَن يقاتل الرجال … فإني لن أقاتل ولدًا … لا يعرف مَن هو أبوه!
صدمت الكلماتُ بركاتٍ لوهلة، ثم استعاد نفسه فصاح غضبًا: ألَمْ تعُد تعرفني يا رزق؟ ألم تعُد تعرف ابن الملك الزحلان، الذي وهَبَك الحياة بالأمس.
قهقَهَ رزق بصوتٍ عالٍ … وقال متماديًا في السخرية: ابن مَن؟ … لا أيها الغِر الأحمق، الذي لا يعرف نسبه … لقد ضلَّلوك … إنَّك لا تعرف مَن هو أبوك … اذهبْ وأسأل أمَّك خضرة؛ فقد تكون لديها بقيَّةٌ من شجاعةٍ لتخبرك بحقيقة أمرك … هيَّا … فإذا عرفتَ وتأكَّدت، عُد إلينا وسوف يكون سيفي في شرفِ انتظارك … هيَّا.
ولوى رزقٌ عنقَ فرسه، مثلما اتفق معه الأمير حازم، تاركًا بركات يتخبَّط في الحيرة … بينما ارتفعتْ ضحكاتٌ ساخرة وصيحاتٌ مستهزئة من بين صفوف بني هلال تُحاصره … وتسودُّ الدنيا في عينَيه … وأخذ يسأل نفسه: أهذا صحيح؟ … إذن مَن أكون؟ إذا كان الزحلان قد رباني فقط، فمن أين جاءت بي خضرة؟ هي لن تخبرني طبعًا بالحقيقة … إذا كانت قد أخفتْها عنيَّ كلَّ هذه السنين … لا … هي لن تفعل! ولكنْ يجب عليَّ أن أجِدَ طريقة، كي تعترف أمي بالحقيقة!
قال الراوي …
عاد بركات إلى معسكر بني الزحلان وهو كسير القلب سقيم الوجدان … مصمِّم على معرفة الحقيقة؛ فأسرَّ في نفسه فكرةً دقيقة … وهو يدور حول نفسه كالنمر الجريح في خيمته … لا يجرؤ أحد ممَّن معه على مقاطعة صمته أو حركته!
وفجأةً، أسرع إلى أحد الأركان، حيث الخُرج الكبير الذي يحفظ فيه موادَّ الكيمياء، فخلط في كأسٍ صغير بضعةَ أشياء من بضعةِ قوارير … ما إن شربها حتى سقَطَ جثَّةً هامدة فوق السرير!
وفوجئ الحاضرون بما حدَثَ … فأسرعوا فزِعين إليه، فوجدوه فاقد النفس متوقِّف النبض؛ فتعالى الصياح من كلِّ جانب، لقد قتَلَ بركات نفسه دون سلاح … وسرى الخبر سرَيَان النار في الهشيم … حتى وصَلَ إلى «خضرا»، فانفتحت أمامها أبواب الجحيم … وشهقتْ شهقةً عميقة، وأغمضت عينها ثم سقطت مغشيًّا عليها!
ولمَّا أفاقت، قصُّوا عليها ما حدَثَ … منذ عاد بركات من لقائه برزقٍ كسيرَ الجناح، مهزومًا مشوَّش الوجدان؛ لأنَّ رزقًا أخبره أمام الجميع أنَّه ليس ابن الزحلان. وأنه لن يقاتل ولدًا لا يعرف مَن هو أبوه … فعزَّت عليه نفسه، وتناول سائلًا سلَبَه الحياة … لأنَّه لا يعرف أباه … صاحتْ «خضرا» وهي تضرب صدرها بقبضتَيها: أهكذا يا رزق؟ … هكذا؟ … تقتل ابنك يا رزق؟
واحتضنتْ جسد ابنها وهي تنوح: نعم يا حبيبَ القلب يا بركات، رزقٌ هو أبوك … رفَضَك صغيرًا، وطلَّقني وطردني … وها هو يحرمني منك كبيرًا، فأثكَلَني … قُم يا بركات، رزقٌ هو أبوك يا بني.
ووسطَ دهشة الجميع … فتَحَ بركاتٌ عينَيه وقال: لا تبكي يا أمي؛ فابنك حيٌّ ما يزال!
شهق الحضور، وكاد أن يُغشى على «خضرة» مرةً أخرى … لكنَّ بركات أسرع إليها … وتلقَّاها بين ذراعَيه … وأخبرها بسرِّ الشراب، الذي شرِبَه لتظن أنه سقط ميتًا، والذي صنعه بيده منوِّمًا مؤقَّتًا!
وقال: الآن تتَّضح الحقيقة يا أمي، ولكنها لن تمنع القتال.
صاحت «خضرة»: لا تقتُل أباك يا بركات!
ربتَ بركاتٌ على كتفيها وهو يقبِّل يدَيها وقال: اطمئني يا ابنة الشريف … لن أقتله … ولكنْ لا بد أن أجعله يدفع ثمن جرائمه في حقِّك وحقِّ أبي الملك الزحلان … لا بد أن يعترف بذنبه، وأن يُخرج الشرورَ التي بقلبه … ولن أكون بركات، إن لم أردَّ لكِ كرامتكِ يا أشرفَ الأمَّهات … أمَّا أنا … فسأظلُّ كما أنا … ابنًا للملك الذي ربَّاني … ولن أكون مِلكًا لمَن رماني وللمجهول ألقاني.
سوف أُحضره حيًّا إليكِ وإلى أبي؛ ليعتذر إليكما … ولن أقتله من أجل خاطر أختي «شيحا» ذات الصوتِ الجميل الذي نجَّاني!