مغامس وشاة الريم
بعد أن غادَرَ أبو زيد، وفي صُحبته يحيى ومرعي ويونس، بلادَ الملك الدبيسي، الذي أكرمهم غايةَ الإكرام … واستضافهم لمدَّة عشرة أيام … باعتبارهم من شعراءِ العرب الذين يقصدون الملوك والسلاطين لمدحهم، والحصول على عطاياهم ورضاهم … بينما كان أبو زيد خلال الأيام العشرة يدرس الأحوال … ويرصد حركةَ الرجال والجِمال والأموال … وكان يدور في الأسواق والحواري … ويسأل العبيد والجواري … عن طُرق التجارة والبضائع … ويشاهد محلَّات الحِرَف والصنائع … فعرَفَ أحوالَ البلاد وما عند الدبيسي من عسكرٍ وأجناد، وسجَّل في عقله مراكزها ومداخلَ المدينة ومخارجها … ويحفظ كلَّ ذلك في ذاكرته … حتى يحين وقته … ثم غادَرَ ومعه الفتيان الثلاثة مرعي ويحيى ويونس … قاصدين بلاد الغرب.
ومضى الأربعة يسابقون الطير الطائر … ويقطعون البراري والآكام مدَّة تسعة أيام … بالكمال والتمام … حتى وصلوا إلى مشارف وادي «العميق» … فسمعوا دقَّ طبول وأصواتِ زمور … وشاهدوا من آخر الطريق … أعلامًا وزينات … تدلُّ على الفرح والسرور.
فقال أبو زيد: بُشراكم يا فتيان … كأنَّهم يقيمون عُرسًا لاستقبالنا والترحيب بنا … هيَّا بنا نقصدهم … ونقضي الليلة عندهم … ونشاركهم ونهنِّئهم بأفراحهم.
قال الراوي …
في الحقيقة إنَّ الفرح لم يكن فرحًا حقيقيًّا … إنما كان اغتصابًا … ولم تكُن العروس التي ستزفُّ فرحانةً سعيدة وإنما كانت تعاني قهرًا وعذابًا.
والحكاية تقول … صلُّوا على طه الرسول.
كان هناك شقيقان أميران، من أكابر الفرسان، يحكمان تلك البلاد بالعدل والقسطاس … فأحبَّهم الناس؛ إذ جعلوا الحُب والعدل للحكم أساس … كان الأولُ هو الأمير عامر، وأخوه كان اسمه «أبو الوجود» … وكان لعامر ولدٌ فارسٌ وحيدٌ جميلُ الصورة طيِّب السيرة ذو بأسٍ شديد … وكان لأبي الوجود فتاةٌ ذات حُسن، فتاة فصيحةُ اللسان، معتدِلة القوام كغصنِ بان … تُتقن الغناءَ والضربَ على العُود.
وقد نشأ مغامس بن عامر وعاش طفولته مع شاة الريم … وشهدتْ أرض تلك البلاد وأشجارها وأنهارها وسماها وطيورها قصةَ الحُب الجميلة التي باركها الجميع، حتى غيامات الشتا وأزهار الربيع … وكان أن اتَّفق الأخوانِ على تحديد كلِّ شيء للزواج، حسب ما قالت الأبراج … عند ظهور هلالِ شوَّال بعد ٥ سنوات بالتَّمام والكمال … لكنَّ عُمرَ السعادة قصير … في ذلك الزمن العسير … فقد كان لهما عدوٌّ من ملوك العربان … اسمه نبهان … ما إنْ بلغه هذا الكلام … حتى أخَذَ العدَّة؛ لينقض على البلاد، ويجهِّز لذلك الجيوش والأجناد … وفاجأهم ذات يوم … فاقتحم الحدود … وتصدَّى له عامرٌ وأبو الوجود.
وجَرَت بين الطرفَين معاركُ يشيب لهولها الأطفال، راح فيها عددٌ لا يُحصى من الشجعان والأبطال … وقُتل فيها أبو الوجود … وجُرح الأمير عامر … ولولا أنْ أسرع إليه بعضُ جُنده لأُخِذ أسيرًا في القيود.
وكان للأمير عامر عبدٌ عملاق اسمه «سعيد» … وكان متكلِّفًا برعي الجِمال في الوِديان والتِّلال … وكان مُصارعًا ولاعبًا بالرُّمح والسيف … وكانوا يَدعُونه ليستعرض قوَّته كلَّما زارهم ضيف.
ولمَّا رأى سعيدٌ تلك الحال … وما أسفر عنه القتال … امتطي ظَهْر الحصان … وهجَمَ على نبهان … فتبعه مَن بقي من الفرسان؛ فانقلبت الكفَّة، خاصَّة عندما طلَبَ نبهان للنزال … وصدَمَه صدمةَ الجبال للجبال … وتمكَّن من قتله بعد تعبٍ ونضال.
وما هي إلا ساعةٌ من الزمان … حتى تشتَّت جيش نبهان وأصبح في خبرِ كان.
وقاد سعيدٌ جيوش الأمير عامر وأبي الوجود … أو ما تبقَّى منها من فرسان وجنود … وهم يحملون ما غنموه من غنائمَ وأموال، إلى حيث كان عامرٌ يرقد في أسوأ حال.
وقابَلَ الناس سعيدًا بالتهليل والزغاريد … فقَدْ كانوا كمَن خُلقوا من جديد … بفضلِ البطل الصِّنديد … الذي شكَرَه عامرٌ على بطولته … وحرَّر رقبته … وقرَّبه إليه … وقد عزَّت روحه عليه.
وكان الجرح الذي أصاب الأمير عامر جرحًا لا شفاء منه ولا نجاة … وأحسَّ أنه على وشكِ الوفاة … فجمَعَ الديوانَ من الأمراء والأعيان والقوَّاد والفرسان … وأعلَنَهم أنَّه لم يجِدْ خيرًا من سعيد البطل … ليضع فيه ما بقي من أمل … وأنه سيُقيمه مكانَه ومكانَ أخيه … حتى يكبر ابنُه ويأتي موعدَ زفافه إلى بنتِ عمه … فيزوِّجه منها ويسلِّمه الحُكم … وأحضَرَ كتابَ الله والفقهاء والعلماء والوجهاء وجعَلَهم يُقسمون مع سعيدٍ على ما قال … فأقسموا جميعًا على فعله بالتمام وبالكمال.
والله ينتقم من خائنِ العهد شرَّ انتقام.
وما إن تمَّ ذلك، حتى غفا عامرٌ غفوته الأخيرة ونام … ذلك النوم الأخير الذي لا يعرف الأحلام.
ومرَّت الأيام …
صلُّوا على خيرِ الأنام … رسول المحبَّة والسلام.
لمَّا جلَسَ العبدُ سعيد على كرسيِّ الأمير عامر … أطاعه قوَّاد الجيوش والعساكر … ومشى في رِكابه الأكابر والأصاغر … وكلَّما رأى الكِبار يُطأطِئُون رءوسهم أمامه … تجبَّر على الصِّغار وأحكَمَ في رقابهم لِجامه … وشيئًا فشيئًا داخله الطمع والعناد … فقرَّر أن يصبح الأميرَ على البلاد … وجمَعَ الأعيان والعرسان، وقال لهم على رءوس الأشهاد: اعلموا يا أيها السادة … أنني أنقذتُ هذه البلاد من نبهان … ورفعتُ شأنها بين الأوطان … ولذا فقَدْ قرَّرتُ أن يكون كلُّ واحدٍ في المكان الذي يستحقُّه والمنصبِ الذي يستطيع القيامَ بحقِّه … ولذا أُعلن نفسي ملِكًا على هذه البلد … التي هي أكبرُ من أن يحكمها غِرٌّ أو ولد.
وفهِمَ الحاضرون ما يعنيه ذلك … وخافوا أن يُوردهم اعتراضُهم المهالك … وقالوا: وماذا يفهم الغِلمان والصِّبيان من أمورِ الممالك.
في تلك اللحظة دخَلَ مغامس؛ فلَمْ يُعِره أحدٌ منهم أيَّ اهتمام … حتى إنهم لم يردُّوا عليه السلام … فخرَجَ من فوره عائدًا إلى أمِّه … فأخذتْ تسرِّي عنه … وإلى صدرها تضمُّه.
وبينما هما في هذا الغمِّ والنكد … إذ جاءهم من عند سعيدٍ مَن يطلُب منهما مغادرةَ البلاد.
وقال للأم المكلومة: لقد أرسل لكما سيدي سعيد … هذه الناقةَ الجربانة … والشاةَ العيانة … وهذه الخيمةَ القديمة … لتغادرا على الفور وتخرُجا من المدينة.
فبكتْ أمُّ مغامس من هذا الفعل الأثيم … ومنَعَت ابنها من أن يذهب للانتقام؛ لأنَّه وحيد … ولا يستطيع مواجهةَ سعيد … وخرجتْ به مع القليل الذي بقي لهما … وخرجا من ساعتهما حتى وصلوا إلى وادٍ عميق، بقُرب الطريق … فأقامت خيمتها الممزَّقة … وأحاطتْها كي تسدَّ مُزوقها وخروقها بأغصانِ الشجر والنخيل، وفرشتها بالقشِّ والنجيل.
هذا ما كان من أمرِ مغامس وأمِّه … الحزينة.
أمَّا ما كان من أمر سعيدٍ الملك الجديد؛ فإنه طغى وبغى وازداد غيُّه وظُلمه … حتى إنَّه طمع أن يوطِّد حُكمه … بالزواج من شاة الريم خطيبةِ مغامس وابنةِ أبي الوجود … فأرسل إليها مَن أحضرها … لتزفَّ إليه على الفور غصبًا … وأمَرَ بإقامة الأفراح والليالي المِلاح … فدُقَّت الطبول وعُزِفت الربابات والنايات … وعلِّقت الزينات ورفرَفَت الرايات.
وهذا بالذات ما لفَتَ نظَرَ أبي زيد والفتيان، عندما سمعوه ورأوه من بعيد … كان زفافُ شاة الريم، اليتيمة المغلوبة على أمرها، إلى سعيد الذي اغتصب الحُكم من خطيبها وحبيبها مغامس، وألقى به في الظلام الدامس.
•••
كانت أصواتُ الطبل والزمر … تصل إلى مغامس؛ فتدخل أذنَيه كالجمر … فأخذتْه أمُّه في حضنها، وأخذتْ تخفِّف عنه حُزنه وهي تُداري آهاتِ حزنها … وتقول له: إنَّ الله الكريم، لا يمكن أن يرضى هذا المصير لشاة الريم … فاصبرْ يا ولدي.
وأخذتْ تصلي وتدعو الله أن يُلهمه الصبر … فله، من قبلُ وبعدُ، كلُّ الأمر … وجعَلَ هو يغالِب آهاتِه ويكتم زفراتِه … لكنَّها كانت تزيد عليه، وتتغلَّب عليه؛ فيُطلقها في الليل تثير الحزن والشجن … في قلبِ كلِّ مَن يسمعها.
وفي تلك اللحظة، كان أبو زيدٍ ومعه الفتيان يمرُّون عن قُرب … فسمعوا نهنهاتِ الأمِّ ودعواتها … وأحسُّوا بحُرقة أحزانِ الفتى وآهاته.
وتبيَّنوا من خلال نجواهما أنهما في مأزقٍ كبير.
فقال أبو زيدٍ للفتيان: والله إنَّ وراءَ هذا الذي نسمع أمر خطير.
فنادى على أهل الدار … فخرج مغامس في الحال، ورحَّب بالأغراب أحسنَ ترحيب، وأخفى عنهم ما كان يمزِّق صدره من نحيب.
وأسرع إلى ناقته فذَبَحها … مع أنَّه ليس لديه غيرها … وأُعجب أبو زيد والأمراء المتنكِّرين بثياب الشعراء … ما فعله هذا الشاب معهم … وكيف، رغم ما به من حُزن، أكرمهم.
وبعد أن أكلوا وشربوا … أخرجوا الرباب … وفتحوا الكتاب … وحلَّت الفرحة محلَّ الأسى … وتبادلوا الحديث والحكايات … وعرَفَ أبو زيد من مغامس وأمِّه سرَّ ما هم فيه من شتات.
فقرَّر أن ينصُرهم … وأن يُعيد الحقَّ لأصحابه … فامتلأ الكوخ بالضحكاتِ والنِّكات.
وتصادف في تلك اللحظة، أن سمِعَ ضجَّة الكوخ أحد الرعاة من رجال سعيد، كان يطارد دابةً هربتْ منه … فأسرع يبلغ سيده أن الكوخ الحزين، الذي أقيم على آهاتِ الأنين … مليء بالفرح والبهجة … وأنَّ مغامس لديه ضيوف شعراء يُنشدونه الشعر … ويشاركونه الطعام والشراب … فأرسل سعيدٌ وقد اشتدَّ به الغضب … جماعةً من الجُند تُحضرهم إليه … وقد أعمى الغضب عينَيه.
قال الراوي …
كان سعيد متَّكئًا على ظَهْره وحوله رجاله يأكلون ويشربون في انتظار وصول العروس … عندما أدخل الجندُ الأمراءَ المتنكِّرين في ثياب الشعراء … فلاقاهم بوجهٍ عبوس.
وحين ألقى أبو زيدٍ عليه السلام … لم يُجِبه الكلام … ولم يُظهِر له الاحترام … بل رفَعَ رجلَيه وزغَرَ في عينَيه وصاح فيه: كيف تكونون من شعراء العرب … ومن أصحاب الفضل والأدب … وتتركون زيارةَ الأمير … وتذهبون لضيافة صبيٍّ حقير؟
كتَمَ «أبو زيد» غيظه وابتسم … وقد صمَّم على قتل سعيد وإيراده مواردَ الندم: طال عمرك وزاد مقامك وقَدْرك … ما جئنا هنا إلا لمدح جنابك … والتشرُّف بساحتك وأعتابك.
ردَّ سعيد مقاطِعًا: لا مرحبًا بك؛ فما أتعسَ زيارتك! وما أثقلَ دمَك! … ولا رحِمَ اللهُ أباك ولا أمَّك.
تبسَّم أبو زيدٍ وهو يقول في نفسه: «حانَ حينُك يا سعيد، وأنت الذي فعلتَ ذلك بنفسك.»
لكنَّه رفَعَ صوته وقال: لا تؤاخذنا يا عظيمَ الأدب … وأشرفَ العرب.
فاغتاظ سعيدٌ وأحسَّ أنَّه يعرِّض به … فقال: ما هذا الكلام الغليظ الشديد، يا أحطِّ العبيد … والله لولا سوادُ لونِك، لقطعتُ رأسك وأجهزتُ على أنفاسك … فاجلسْ حيث أنت في مكانك، واكفنا شرَّ لسانك.
تقدَّم منه «مرعي» وقال: لا تؤاخِذْه يا سيد الأشراف … ولا تغضب منه؛ إنه قبيح الوجه من الأجلاف.
في تلك اللحظة، انعكستْ صورة سعيدٍ أمامه في كأسه؛ فعرف أنه يقصده بقوله … فأمَرَ السيَّاف أن يقطع رأسه.
لكنَّ يحيى أسرع يتشفع له: لا يا أمير … لا يهتمُّ أميرٌ بن أميرٍ مثلك من نسل الأمراء، بما يرتكبه حمقى مثلهم من الدهماء … إنهم أقرب إلى ما كانوا يرعونه من إبلٍ وأغنام، ولا يُتقنون فنونَ الكلام.
فزاد بسعيدٍ الغضب … وقد أحسَّ أنه يعرِّض به ويصِفُه بأنَّه قليلَ الأدب … فصاح بالجلَّاد أن يقطع رءوس الثلاثة شعراء … قصاصًا لمَا أظهروه من عدَاء.
وهنا نهَضَ يونس … واعترض طريق السيَّاف … وقال: أعتذر لك أمام الحاضرين والسادة المقدَّمين … إنهم من أصلٍ وضيع، وُلِدوا وعاشوا في الظَّلام … ولذا لا يعرفون معنى الكلام … أنا الذي سأمدَحُك بما يليق بك من شِعر ونظام … إنهم رُعاة أغنام … فاهدأ وقرَّ نفْسًا … فأنت أدرى بأصلهم وبأصلك، يا سيد أهلك.
وهنا لم يُطِق سعيدٌ صبرًا … فجرَّد سيفه وقام بنفسه؛ ليقطع رءوس الأربعة … وما إن رفَعَ السيف حتى كان أبو زيد قد ركَّعه … ووضع السيف بين عينَيه … وأمَرَه أن يأمُر رجاله بدعوةِ مغامس وأمِّه ليشهدوا مصرعه.
وليس هناك من مجال، لكشفِ ما جرى من أحوال … فقد راح سعيدٌ إلى حيث ألقَت … وجلس مغامس على عرش أبيه، وتزوج من عروسه شاة الريم.
وربك ناصرُ المظاليم، وهو على كلِّ ظالمٍ أثيم.