المارية تنزل النهر
كانت «المارية» بنتُ القاضي «بدير» تَحرِقها الرغبة في أن ترى «النهر» … أيَّ نهر … كم سمعت من حكاياتٍ عن ذلك الشيء الرهيب … الجميل … الذاخر بالمياه العذبة … لم تكُن قد رأت نهرًا في حياتها … ولكنَّ ما كانت تسمعه من حكايات، ملأ جسدها رغبةً في النزول إلى الماء.
وكانت تهزُّها التساؤلات حول إحساسِ مثلها حين يغمرها كلُّ هذا القَدْر من الماء … وهي التي عاشتْ كلَّ هذا العمر يؤرِّقها الرعب من فقدان ما لديهم من ماء.
كانت صبيَّةً عندما جفَّت عيونُ الماء في وادي العباس … وفي نجد … تأتيها ذكرى آخرَ عينِ ماءٍ جارية، رأتها وكأنها طيفٌ من حُلمٍ قديم. الماء أغلى من الذهب … يحفظونه في القِرَب والأواني، ويتعاملون معه بحرصٍ شديد، وهو في النهر فيضان وموجٌ لا يُحَد.
وكان جسدها الذي تلسعه الرمال ويحرقه الجفاف … حين ترطِّبه ببعض ما توفِّره من نصيبها الضئيل من الماء، يكاد يقبِّل بَطنَ كفِّها، حين تمسح عليه بقطراتٍ من الماء.
كانت تحسُّ جِلدها يتفجَّر بنشوةٍ رائعة، وهو يمتصُّ رحيقَ الماء القليل الذي تهدهده به … فما بالك وهم يتحدَّثون عن بشرٍ ينزلون النهر، ويغمرهم الماء حتى رءوسهم … يا لها من روعة!
كانت المارية جميلةً، شاع ذِكر جَمالها بين الرجال … لكنَّها كانت حزينةً، تتحدَّث عن حُزنها النساء … ولم تكُن تتحدَّث عن رغبتها الدفينة، التي هي سرُّ حُزنها، إلى أحد … إلا لجاريتها العجمية التي كانت تؤجِّج لديها تلك الرغبة في الغوص في الماء، بحديثها الدائم عن بلادها التي تجري من تحتها الأنهار.
وكيف كانت تلعب هي وأخواتها وصاحباتها وهنَّ صغيراتٌ في النهر عاريات … يتراشقنَ بزخَّات الماء العذب، حتى دهَمَها ودهمهنَّ ذاتَ يوم أولئك النخَّاسون، الذين باعوها فيما بعدُ للقاضي بدير؛ لتُحرَم إلى الأبد من تلك المتعة التي لا شبيهَ لها … والتي لم تعرفْها المارية أبدًا.
همَسَت الجارية للمارية ليلةَ عسكَرَ بنو هلال، بعد رحيلهم عن بلاد الدبيسي: نحن الآن بالقُرب من الفرات يا المارية. فأجَّجت فيها الرغبة الدفينة العارمة النزول إلى النهر … وأخذتْ تتحيَّن الفرصة لتفعلها، ولو كلَّفها ذلك حياتها.
قال الراوي …
كان للملك الدبيسي وزير اسمه «همام» … وحين قُتل الملك وأحسَّ أن الدائرة ستدور عليهم؛ سعى لإقرار السلام … فأخَذَ الأمير مزيدَ بن الدبيسي وأمَّه بدر التِّمام … وانطلق إلى حيث خيمة الأمير حسن بن سرحان … وطلَبَ منه العفوَ والأمان … فأوقَفَ بنو هلالٍ هجماتهم … وعاد الناس في مملكة الدبيسي إلى بيوتهم … وتولَّى الأمير مزيد حُكمَ البلاد … وزوَّجه الأمير حسن من ابنة عمَّته «زينة العِباد» وأقيمت الأفراح والليالي المِلاح … إلى أن أحسَّ الأمير حسن أنَّ كلَّ كبير وصغير في قومه قد استراح … فأمَرَ بالاستعداد للرحيل … ليكمِّلوا طريقهم الطويل.
ولمَّا وصلوا إلى مشارف بلاد العَجَم؛ أطلقوا مواشيهم في المراعي التي كانت كثيرةَ الأشجار … وافرةَ الخيرات، بديعةَ الأزهار … فعاشتْ فيها كالجراد، وأفزعت الآمنين من الرعاة والفلاحين من أهل البلاد … وصَلَ الخبرُ إلى السبعة ملوك العِظام، الذين كانوا يحكمون بلاد الأعاجم في تلك الأيام … وهم: فرمند، وعلي شاه، والصلصل، والمغل، والقمقام، ومنذر المنذر، والملك النعمان … الذين اجتمعوا ليضعوا خططهم لصدِّ هذا العدوان.
قال بعضهم: لنخرجْ إليهم قبل أن يستريحوا من السفر، ونبادرْهم بالهجوم قبل أن يستفحل لهم الخطر … لنسبي حريمهم والعيال … ونستولي على ما نهبوه من الدبيسي من المال.
وعزَّ على الملك النعمان — وكان أصله من العرب — حربُ بني هلال … فقال: إذا كان الأمرُ أمرَ جِمالٍ ومال … فلْنطلب منهم عُشر الأموال جزيةً لبقائهم في أراضينا، واستهلاكهم لمراعينا … فإن استجابوا كان هذا هو المطلوب … وإذا لم يوافقوا بادرناهم بالقتال الغضوب.
واستحسن الملك الفرمند هذا الكلام ودعا أصحابَ الورق والأقلام، وكتَبَ رسالةً بهذا المعنى لأميرِ بني هلال. وهي باختصار … المال أو القتال.
وكان الأمير حسن قد ذهب إلى «نَجْد» لبعض الأعمال … فلمَّا وصَلَ الرسولُ حاملُ الرسالةِ إلى المضارب … سأل عن الأمير حسن؛ فقالوا له إنه غائب … ودلَّه بعضهم إلى خيمة الأمير أبي زيد الذي ولَّاه الأمير حسن الأمرَ في غيابه … وحين همَّ بالذهاب؛ اعترض طريقه الأميرُ دياب، عند الباب … وأخَذَ منه الرسالة … وقرأها في عُجالة؛ فاشتدَّ به الغضب … وضَرَب الرسول بلا سبب.
وخرَجَ أبو زيدٍ على الضجيج والزعيق. فلمَّا عرَفَ السبب، اشتدَّ به الضِّيق … لأنَّه لم يكُن يوافق على ما فعَلَه دياب دون مشورته … ولكنَّه أمَرَ بالاستعداد للقتال؛ حتى لا يظهر أمام رسول العدوِّ انقسام قبيلته … فيفهم منها ضعْفَ جبهته.
وبعد أن انصرَفَ الرسول عائدًا بجوابِ رسالته … أخَذَ أبو زيد يؤنِّب ديابًا على فعلته … لأنَّ الواجب كان يقتضي مشورته؛ خاصَّة وأنَّهم في حاجةٍ إلى الراحة، وكان يجب أن تكون فرصتُها متاحة.
لكنْ دياب سخرَ منه وقال: أصبحتَ تفضِّل أمورَ الكيميا على القتال.
وابتلع أبو زيدٍ سخريةَ دياب على مَضض وسكت … لأنَّ خلافهم لم يعُد له معنى والحرب قد أُعلنتْ والمعركة اشتعلت.
•••
تسلَّلت المارية ومعها جاريتها من المضارب … بينما كان الجميع مشغولين بالمعركة الدائرة من بعيد … إذ كان الجرحى يعودون لمحاولةِ مداواة جراحهم والتخفيف عنهم. بينما كان كثيرون من الرجال والعبيد مشغولين بتجهيز أدوات الحرب؛ بدلًا من المفقودة. وكانت النساء والإماء، مشغولات بإعداد الطعام.
انتهزَت المارية هذا الهرج والمرج … وخرجتْ مع جاريتها.
وتسلَّلتا مستتِرتَين بالشُّجيرات والتِّلال متجهتَين إلى حيث النهر القريب، الذي أكَّدت موقعه الجارية العجمية على بُعد خطوات.
– إنني أكاد أشمُّ رائحته يا مولاتي.
وسرعان ما وصلنا إلى الضفَّة العالية … فصاحَت الجارية في فرحٍ وهي تجري صاعدةً إليها … وتبعَتْها المارية بلا وعي.
وما إن صعدَت الجارية أعلى الضفَّة؛ حتى صاحت بالمارية … وهي تركع على ركبتَيها وتقبِّل الأرضَ في خشوعٍ وتبكي … ممَّا أثار دهشة المارية … ولكنَّها واصَلَت الصعود وراءها حتى صارتْ إلى جوارها.
وما إن رأت النهر حتى شهقتْ مندهشةً وقد زاد انفعالها … وتوتَّر جسدها حتى بكتْ … وهي تلمح تلك النظرة الغريبة في عيون جاريتها الباكية … وأحسَّت أنَّ شيئًا ما يدور بخَلَدها … ولكنَّ انفعالها بمنظر المياه الجارية تغلَّب على خوفها … فنزلتْ مندفعة إلى حيث مجرى الماء … وما إن تأكَّدت أنَّ أحدًا لا يراها حتى خلعتْ ملابسها … فشعَّ جسدها نورًا أدهش الجاريةَ نفسها … وفي نزقٍ وتهوُّر، لم تستطع الجارية أن تمنعها من أن تُلقي بجسدها في أحضان النهر وهي تشقُّ وتصرخ في فرح، وتتقافز كطفلةٍ نزقة، تمور في قلبها نشواتٌ بريئة لا حدود لها.
ولكنَّ قدَمَها زلَّت فجأةً؛ فصرختْ في هلع، وانتابها شعورٌ بالخوف لم تعرف له مثيلًا … وحين عَلَت المياه، ملأها رعبٌ لم تعرفه من قبل؛ فازداد صراخها … ولكنَّ الجارية أسرعتْ إليها، وقفزت بملابسها وراءها، تساعدها على الوقوف على قدَمَيها … وتُعيد إليها هدوءها.
وما إن استعادت توازُنها، حتى هدأت نفسها وعادت إليها سعادتها الغامرة وإحساسها الممتع بنشوة جسدها، المغمور بكلِّ هذه الكمية من المياه … وكذلك عادتْ تُلاحظ تلك النظرة الغريبة، التي لاحت في عيون جاريتها من قبل ولم تُعِرها الْتفاتًا، لكنَّها في هذه المرة قالت: ماذا بكِ يا عفراء؟
قالت عفراء وقد بَدَت في نظرةِ عينَيها بعضُ القسوة الممزوجة بالحُزن: لستُ عفراء … ليس اسمي عفراء يا المارية؛ إنَّ اسمي جُلنار.
تعجَّبت المارية لتلك النظرة، ودُهشت لأنَّها خاطبتْها باسمها مجردًا من كلمةِ «يا سيدتي» … أو «يا مولاتي» … فأمسكتْ بها في دهشة، ولكن في تعاطُف، مع الدموع التي لاحتْ في عينَيها.
– ماذا بكِ يا عفراء؟ هل أغضبتُكِ.
نزعت جُلنار كفَّها من بين يديها وقالت: اسمي جُلنار … وأرجوكِ يا سيدتي … لقد حقَّقتُ لك حُلمك بمياه النهر … فاستمتعي كما تشائين، ولكن دعيني أحقِّق حُلمي بالعودة إلى وطني … إلى أهلي … فقد كنتُ سيدةً في بلادي … سامحيني … فلا بد لي أن أفعل ذلك … الوداع.
وانسحبتْ جُلنار إلى وسط النهر وهي تلوِّح للمارية، ثم استدارتْ سابحةً نحو الضفَّة الأخرى وهي ترنو إلى ما وراء الضفَّة، حيث مراعي طفولتها، وحيث اتَّضح فيها أصوات الأطفال الذين يلعبون في حرية.
بينما ظلَّت المارية واقفةً وسط الماء، كجِنيَّةٍ عارية صعدتْ من الماء ولم تنزل من الصحراء … مذهولةً لا تستطيع أن تنطق من المفاجأة … إلى أن تمكَّنت من استعادة نفسها، حين تساقطت دموعها الساخنة فلسعتْ خدَّها البارد … فصاحتْ لمَّا تنبَّهت لوحدتها التي لم تتعود عليها … في مياه نهرٍ لا تعرفه … وجمعتْ مشاعرَ الخوف والرهبة الممزوجتَين بسعادةٍ غامضة: جلنار، مع السلامة.
على صوتِ المارية الصارخ … أتى عددٌ من جنود العجم وشراذمهم الهاربة من المعركة، عندما رأوا الدائرة تدور عليهم … وما إن رأوا الحورية العارية في النهر، حتى انتابهم رعب سمَّرهم؛ فقد ظنُّوها لفرط جمال جسدها حوريةً من بنات النهر.
وعندما رأتهم المارية صرختْ مرعوبة، وأسرعتْ تستُر جسدها بالثوب المُلقى على الضفَّة … عندئذٍ عرف الجنود أنها إنسيَّة؛ فعادت لهم أرواحهم، بعد أن سلبتْهم إنسانيتها بسحر ذلك الجسد الرائع الذي يشع نورًا … فاندفعوا ناحيتها … يحاولون النيل منها.
لكنْ سرعان ما تحوَّل هجومهم عليها إلى قتالٍ شرس فيما بينهم، تطايرتْ فيه رءوس … وقُطعتْ أيدٍ وكُسرتْ عظام.
وحوَّلهم منظرُ الدم وأحاسيس الألم إلى وحوشٍ تلوِّح في عقولهم أطياف جسد الفريسة؛ فيزيدهم شراسة.
وفجأةً عَلَت صرخةٌ أعجمية، لها كبرياءُ وقدرة على السيطرة … فوقفوا أجمعين كأنما شلَّتهم المفاجأة. وحين أفاقوا أسرعوا يركعون أمام الملك الصلصيل، الذي كان يحاول جمْعَ شراذم جيشه المقهور، ليعاوِد الهجوم؛ فرارًا من الهزيمة.
وحين استوضحهم سرَّ قتالهم … أشاروا في رعبٍ ناحيةَ المارية، التي كانت تحاول إكمال ستْرِ جسدها المُضيء في رعب.
اهتزَّ قلب الصلصيل عندما ومَضَ في عينَيه بريقُ الجسد المضيء … فتقدَّم منها في بطءٍ ووجَلٍ وهو يملأ ناظرَيه منها.
– مَن أنت أيتها الحورية؟
فردَّت وهي تحاول استعادةَ رباطة جأشها وإخفاء رعبها عندما عرفَت هويته.
– أنا الأميرة المارية ابنة القاضي بدير شيخ قُضاة بني هلال … وأخي هو … فضحك مقاطعًا في زهو وقد أسعده أن تقع في يده هو بالذات: لم تعودي كذلك يا جميلة، لم تعودي.
ثم نزل عن حصانه وجذَبَها إليه بعد أن أمسك بذراعها في قوة.
– الآن أنت أسيرة الصلصيل يا ستَّ البنات ومن نصيبه … وستكونين أعزَّ جواريه.
صرخت المارية صرخةً هائلة ردَّدتها الطيور الفزعة: لا، يا غنيم … أنقذني.
كانت قد تعرَّفت على ابن عمِّها «غنيم»، الذي تصادف مروره بالقرب منهم في طريق عودته من مهمَّة.
لمحته فصاحتْ به؛ فاندفع كالسيل يهجم على الصلصيل مخترقًا الجمع المحيط به من عساكره وعبيده.
وتلقَّاه الصلصيل في بأسٍ وقوة … فقَدْ كان مقاتلًا شرِسًا … وبينما قيَّد الجنود المارية، وأركبوها حصانًا مبتعِدين بها عن ميدان المعركة … بينما ظلَّ الفارسان يصولان ويجولان ويحاور كلٌّ منهما الآخر في قوةٍ وعنف … تشتعل في قلبِ غنيم نارُ العار التي ستلحق بعمِّه بسبب أسْرِ ابنته … وتعتمل في قلب الصلصيل لواعجُ إعجابٍ وهوًى شديد للحصول على تلك الحورية، التي طرحها النهر كجِنيَّات الحكايات القديمة.
وطال القتال حتى استطاع الصلصيل أن يوجِّه ضربةً إلى غنيم، ألقتْ به قتيلًا على ضفَّة النهر … فشهقَت المارية شهقةً، أعقبتها بصرخةِ ألمٍ، تحمل كلَّ عذابات الأسر والعبودية، التي راودها طيفها وأحسَّت طعمها المرَّ حين شاهدتْ فرحة الحرية في عيون جلنار.
وشاهَدَ بعض العربان من بني هلال ما حدث؛ فمضوا حزانى يبلغون الخبر إلى القاضي بدير، الذي صرَخَ صرخةَ حُزن رهيبةً، أفسدت عليهم فرحة الانتصار.