بداية سكة الغربة

قال الراوي …

كان المُنذِر بن هلالِ بن عامرٍ، وولده الوحيد، فارسًا شجاعًا حلوَ الشمائل. ذاع صيتُه في البادية والحضَر … وفاق أقرانه في استخدام السلاح … وفنون القتال كرًّا وفرًّا.

وكانت له جماعةٌ من أصحابه يشاركونه مغامراته ونزواته ويزيِّنون له حماقاته … ولأنَّه الابنُ الوحيد لأبيه … فقَدْ كان له كلُّ ما يَبغِيه … ولذا صار بين الأولاد شديدَ العناد.

وذات يومٍ، كان عائدًا من رحلةِ صيدٍ وقنص وطِراد … تمتَّع فيها وأصحابه بمطاردة الفرائس بين الجبال والوِهاد … إذ رأى فتاةً ذات حُسن وجَمال … تسير وسط رهطٍ من صاحباتها ذوات الدلال.

فأحسَّ أنَّ سِهام عيونها قد رشقتْ في ودٍّ وحنانٍ قلبَه.

فسأل صحبه … فقالوا له إنَّها ابنةُ «قاهر الرجال» وإنها كبناتِ عشيرتها تميس بالحُسن والدلال.

وإنْ كانت أجمَلَهنَّ على الإطلاق … فعاد مهمومًا تعصر قلبَه الأشواق … حتى دخَلَ قصره وقد فقَدَ حذره … وطلب من والده أن يزوِّجها له على الفور.

لكنَّ والده عندما عرَفَ مَن هي؛ استشاط غضبًا … ونفَرَ في وجهه عِرقُ الجهالة القديم، وقال غاضبًا: أتريد وأنت ولدي الوحيد، أن تتزوَّج امرأةً من سلالة العبيد.

ونسي هلالٌ في غمرة الجواب والسؤال … ما يَعنيه هذا الكلام … ونسي أيضًا ما علَّمَه إياه الإسلام … ولم يذكُر سوى أنَّها من سُلالة جسَّاسِ بن مُرة الكلبيِّ قاتلِ كُليب التَّغلِبي.

دُهِش الفتى الذي تربَّى على العقيدة الجديدة، من حديث والده من الثارات التليدة.

ها هي المأساة القديمة تطلُّ برأسها كالأفعى … وعاد التباهي بالنسب والحَسَب، بخنجر الجاهلية يطعن مبادئ المساواة في مَقتَل … وكأنَّه كان شبَحًا غارقًا في النوم إلى حينٍ مؤجَّل.

صرَخَ متكدِّرًا من قول أبيه:

لا … لا تقُلها،

وانزع من النفس الأبية يا أبي وهْمَ القبيلة؛

ليس لي في الحُب حيلة.

اشتدَّ غضَبُ هلالِ بن عامر واسودَّت الدنيا في عينَيه؛ فابنه الوحيد لا يستمع إليه … ويريد أن يتزوج فتاةً من الأوباش … ونسي أنَّ الإسلام قد ساوى بين البِيض والأحباش … لكنَّها الجاهلية القديمة … أفقدتْه الرؤية السليمة. وأسلمتْه للمشاعر السقيمة … فسبَّ ابنه وصبَّ عليه اللعنات … وطرده شرَّ طِردةٍ إلى الفلوات … وكأنما لا تربطه به أعزُّ وأنبل الصِّلات … وكاد في غضبته أن ينسى إسلامِه، ويستعين بالعُزَّى واللَّات … كفاكم اللهُ شرَّ الغضب الجهول … عندما يُعمي القلوب ويُلغِي العقول.

غضِبَ المنذِرُ وخرَجَ من وادي العباسي … وهو لا يصدِّق ما سمعتْه أُذناه … ورأتْه عيناه … فها هو أبوه يَأبَى أنْ يزوِّجه حبيبته؛ لأنَّها من سلالةٍ كلبيَّة وهو من أرومةٍ تغلِبيَّة … ها هي الجاهلية تعود لتفرِّق بينه وبين أحبَّائه … وهو لن يخضع لها … وسيخرُج عليهم جميعًا؛ لينتقم من المنافقين الذين يُبطِنون خِلافَ ما يُظهِرون، ويقولون ما لا يفعلون.

•••

اجتمعتْ حول المُنذِر جماعةٌ من أصدقاء صِباه وشبابه، أولئك الذين شاركوه نعمةَ بُنوَّته لهلالِ بن عامر، وصاحبوه في أيام عزِّ أبيه … لكنَّهم كانوا يحبُّونه هو، ويُعجَبون به لفروسيته، ويحفظون له أنَّه كان لهم صديقًا ورفيقًا أكثرَ منه قائدًا … فتبعوه وغضِبُوا لغضبته … وأصبحوا جماعته وعِصابَتَه.

قطعوا معه طريق القوافل … وأغاروا على القبائل … حتى ارتفع صراخ الاحتجاج عليه هنا وهناك … خاصَّة بعد أن اشتُهر، والْتحق به كلُّ مَن له ثأرٌ عند قبيلة … أو مَن له مطلبٌ حرَمَه منه شيخٌ كهلال … أو مَن يرغب في أن يجِدَ قُوتَ المرأة والعيال … وسُدَّت في وجهه دروب الرزق الحلال.

ولم يَجِد المُعتدَى عليهم من رجال القبائل وأصحاب القوافل إلا أن يتَّفقوا على الذهاب لهلالِ بن عامر؛ يستنجدون به ليُوقف ابنه عند حدِّه … ويحميهم من عدوانه.

•••

استقبلهم هلالٌ واستمهلهم حتى يعرض الأمرَ على رجاله … ووعَدَهم أن يردَّ عليهم، حتى ولو عوَّضهم عن خسائرهم من أمواله.

أخَذَ هلالُ بن عامر يفكِّر وهو جالسٌ وحده في شُرفة قصره، فيما وصلتْ إليه الأمور … وأخيرًا أملى رسالةً على كاتبه إلى ابنه، قال له فيها: «يا بنيَّ، لقد زدتَ عليَّ الأوجاع … فلماذا تزيد من سوء الأوضاع … كانت سيرتنا بالخير على كلِّ لسان … فُرسان شجعان ينصُرون المظلوم ويُقيمون العدلَ أينما يحلُّون … لم يكُن النَّهب والسَّلب من شِيَمنا، نحن الذين نَصَرنا الرسول … فارجعْ عمَّا تفعل واعقلْ … واعملْ حسابَ يومٍ للحساب، مهول لا يؤجَّل».

وبعد أن طوى الكتاب، أعطاه لنجَّاب اسمه بلالٌ، وطلب منه أن يعود بالجواب في الحال … لكنْ عبده بلالٌ، لمَّا وصَلَ إلى حيث المُنذِر، وجَدَه مع جماعته يشربون ويصخبون؛ فتقدَّم إليه وعرض الرسالة عليه، ولكنَّ المنذر لم يُمهِلْه لحظةً حتى ليقرأها، بل اختطَفَ الرسالة ومزَّقَها. وكاد أن يقتله، لولا أنْ منَعَه عنه أصحابه … على الأقلِّ لكي يحمل إلى هلالٍ ما يحويه جوابه.

وحينما عاد العبد إلى هلال بجواب ابنه … ازداد غضَبُه؛ لأنَّه كان يتمنَّى أن يعود إليه ولده … فلمَّا وجَدَه ما زال على حاله … حزَّ في قلبه مقالُه.

وطلَبَ شورى عشيرته … فنَصَحوه ألَّا يخرُج لقتال فِلذَة كبده … وأن يترك المعتدى عليهم من رجال القبائل والقوافل يستعيدون ما أُخذ منهم بالقوة … فهُمْ كثرةٌ وابنه وجماعته قلَّة.

وبالفعل اعتذر بعدم قدرته على مقاتلة فِلذة كبده … وكتَمَ ما في نفسه وهو كظيم … لأنَّه ترَكَ أعداءَ ابنه يفعلون به ما يستطيعون.

قال الراوي …

اجتمَعَ على قتال المنذر خمسةُ آلاف من رجال القبائل وعبيد أصحاب القوافل … وحاصروا المنذر في الوادي الذي فيه يقيم. وفاجَئوه بالغارة من كلِّ ناحية كالصاعقة، ودحرجوا على مُعَسكره كُتَلًا من النار الحارقة … فكانت المفاجأة كاملةً شاملة … لم يستطِع المنذر ورجاله إلا أن يُولُّوا الأدبار … خوفًا من الدَّمار.

بينما حرَّر المنتصرون المأسورين من أهلهم … وجمعوا ما سُرق من أموالهم. وعادوا سالمين غانمين، وتشتَّت رجالُ المنذر وفرُّوا هاربين … مُخلِفين وراءَهم الكثيرين، ما بين أسرى وجرحى ومقتولين.

وأصرَّ كبيرهم أن يرسل إلى هلالٍ بعضَ القتلى والأسرى … ليكونوا أمام بقيَّة الخلْقِ عِبرة.

وحكى بعضهم لهلالٍ ما جرى، وما آل إليه حالُ ابنه الوحيد … فبكى هلالٌ وأقرَّ بذنبه، وأرسل وزيره ليعود بابنه الشريد.

ولكنَّ الوزير وصَلَ متأخِّرًا … إذ كان المنذر قد شدَّ الرِّحال إلى الشام والعراق مُهاجِرًا.

فأرسَلَ وراءه مَن يتقصَّى أخباره … ويعرف إلى أين كان مساره … فعاد إلى هلالٍ بما حصل عليه من أخبار … فظلَّ يبكي ابنه الوحيد الغريب ليلَ نهار.

•••

نَدمَ هلالٌ ندمًا شديدًا … لأنَّه كان إلى هذه الدرجة عنيدًا … خاصَّة وقد اعترف أنَّه جانَبَه الصواب … وجرَّ على نفسه وابنه الخَرَاب، حين خضَعَ واستمع إلى نداء الجاهلية الأُولى.

ورفَضَ أن يزوِّجه من الفتاة الكلبيَّة بحجَّة أنَّها من سلالة الأوباش.

وأخَذَ يصلِّي ويدعو الله أن يتوب عليه … وأن يجنِّب أولاده المصير الذي ساق إليه ابنه الوحيد، الذي هو بالتأكيد مثله عنيد.

فكتَبَ بيده على نفسه وعلى أهله الغربةَ والتشريد.