زمَّار الحيِّ لا يُطرب
حكايةُ سالمٍ الشاعر
قبيل الفجر …
خرَجَ الشعراء الثلاثة … فلاحُ بن راشد، وأخوه سالم، وصديقهم اللدود فراج ابن السوداء، من خيمة المغنية هند البصرية … وقد أفلسوا تمامًا، ولكنهم كانوا في غاية النشوة والمرح.
لقد صرفوا كلَّ ما معهم، وصاروا يا مولاي كما خلقتني، ولكن ما الجديد في ذلك وهم دائمًا كذلك؟ … إنهم قضوا ليلةً لن تتكرَّر مع موسيقى هند الساحرة، التي تُنطق الجماد وتحرِّك الحجر … وأكلوا من الطعام أشهاه، وشربوا من الشراب أحلاه.
هكذا كانت حياتهم وستبقى هكذا إلى يوم الدين.
– آه … لا تذكُر الدَّينَ … يا سالم … فأنا مدينٌ بألفٍ لابن البكريَّة … ولو شمَّ رائحتنا، ستجده أمامي الآن يجرُّني للقاضي.
ضحك الثلاثة وهم يتساندون ويتضاربون ويطارد بعضهم بعضًا وقد ملئُوا الليلَ صخبًا وضجيجًا.
– هش … هش … لقد اقتربنا من بيوت الأمير جابر … ولو سمعنا نضحك لأمَرَ بجَلْدِنا.
– هش … هيا … بنا ندخُل عليه لنمدحه.
– أتريد أن تثكلك أمُّك … يا كارهَ أمِّك.
كادت ضحكاتهم أن تفضحهم … لولا أن عاد كلٌّ منهم ليسدَّ فمَ الآخر … وهم يُسرعون بالابتعاد إلى حيث يأمنون ألَّا يعترض طريقَهم أحد. قال سالم: اسمعوا، لقد جاءتني فكرة لو نفَّذناها؛ لامتلأت سراويلنا ذهبًا وفِضة.
ضحك فلاح: طوالَ عُمرك وسراويلك تمتلئ.
ضربه سالمٌ فوق رأسه … فضحك فراج وحال بينهما. ولم يُكمل فلاح، بل طوَّحت به الضربة، فاحتضَنَ نخلةً قريبة سقط تحتها وهو يضحك.
– لم أكُن أعني ما أغضَبَك أيها القذر … إنَّ أفكاري أنظفُ من ذلك كثيرًا … ولكنَّك نُفايةٌ، ولا تفكِّر إلا في النفايات.
– اسمعوا … أنا أتكلَّم بكلِّ جِديَّة … افهموا … وعِدوني أن تُطيعوني.
– وما الجديد في الأمر … طوالَ حياتنا ونحن نُطيعك كعبيدك … ألم نطعك وذهبنا لمدح ذلك الأمير القبيح الوجه ابن خزيمة … فجَلَدنا.
كان تذكُّر هذه الواقعة بمثابة بُركان من الصخب والهرج … لا حدودَ له، هزَّ سكون ليلِ الصحراء … بقهقهاتٍ كقهقهات الشياطين المرِحة … الضاحكة … وهذا بالضبط ما جعَلَ الحرَّاس ينكمشون، بل ويبتعدون عن مصدر هذه الضحكات المهولة المجهولة.
– هل كان من الضروري أن تصِفَه بالأسد الغضنفر … في حضورِ زوجته.
– لقد ظنَّت أنَّك تعرِّض بها.
– لا … وقلتَ له … وجهك كالبدر في الظلماء.
– كاذب … من أصلِ وجهك.
– لا … من أصلِ وجهه.
– ولكنْ هذه المرة … عندي ما يعوِّضكم … أُقسم لكم أنَّنا لن نُفلس بعد اليوم … صدِّقوني؛ فأنا من فترة وأنا أتقصَّى حقائقَ القصة التي سأرويها لكم … وقد وصلنا لطريقةٍ تجعلنا أغنى شعراء البادية … والحضر أيضًا.
– أيَّة قصة؟
– قصة أميرنا جابر.
– مرةً أخرى … اسمع … كفى ما لقيناه الليلة من إفلاس … واتركني أذهب لأنام.
– لا تكُن عجولًا … فالأمر لا يخصُّ جابرًا … ولكنه يخص أخاه جُبيرًا.
– وأين هو أخوه … يا أخي … يا ليتني فعلتُ معك ما فعله جابرٌ بأخيه … كنَّا الآن ننعم برضى العيش بعيدًا عنك.
– لا … كنت أنا الذي سيعيش ملكًا … لو كان حظي كحظِّ جُبير.
– حَظ؟ … لا … الأمر فيه ما فيه … اهدأ يا فراج، ودعْنا نسمع له هذه المرَّة، ولْتكن الأخيرة.
– كلَّ مرةٍ تقول إنَّها الأخيرة.
– هذه المرَّة … أخيرة … أيْ أخيرة … فليس لدينا ما نفعله سوى هذا … ما هي القصة؟
– كتبتُ قصيدة في مدحه، ولكنِّي حكيتُ فيها كلَّ ما عاناه من غُربة وقسوة … وكيف جاءه الفرجُ بعد الشدَّة … ولكني ضمَّنتُها ما يُوحي بأنَّ قدَرَه … إنما هو طرَفٌ من قدَرِ أجداده … وقلتُ فيها إنه سيكون رمزَ انتصار وسعد أهله … منذ جدِّه هلال إلى الأبد … وضمَّنتُها ما تحمَّله، في شجاعةِ الرجال، هو وأمُّه من تعبٍ وتشريد، حتى تمَّ سعده ومجده.
– مَن … جابر؟! … أيُّ مجد وأيُّ سعد؟
– ليس جابرًا يا غبي … وإنما أعني أخاه … جُبيرًا.
– وأين نجِدُه؟
– أنا وجدتُه … أنا لا ألعب … أنتم تلهون وتعبثون وتُفلسون … وأنا الذي يُنقذكم دائمًا.
تربَّصا به كعادتهما ليوسعاه ضربًا … إعلانًا عن موافقتهما على خطته، رغم أنهما لا يفهمان كيف ولا متى … ولكنَّهما أسرعا خلفه؛ لإعلان الموافقة بطريقتهما … فأطلق هو كالعادة أيضًا ساقَيه للريح … فهو يعرف أن موافقتهما على اقتراحاته التي غالبًا ما تنجح … لا تكون إلا بعد أن يُشبعا رغبتهما في ضربه علقةً ساخنة تُرعب ثعالبَ الصحراء في أوجارها.
قال الراوي …
منذ شهور وسالمٌ يتقصَّى الأخبار … ويسأل الفرسان والتجَّار … كان قد سمع برحيل جُبير من بلاد السرو وانقطاع أخباره … إذ هدَّد جابرٌ كلَّ الملوك والأمراء الذين بجواره … وأنذر مَن يحميه أو يقوِّيه بتخريب دياره.
ولم يكن المنذر في صحةٍ تجعله يفرض على جابرٍ أن يخفِّف من غلِّه، أو أن يأمره بترك أخيه في حماية أخواله وأهله.
وعرَفَ سالمٌ بما جرى مع جُبير … ونَجْدَته لأميرِ نَجْد، وانتصاره على الجليلي … وما حدَثَ من زواجه من بنت النعمان بن حنظل، التي كانت أجمل بناته … وكيف انتشرتْ أخبار كرَمِه وبطولاته.
فأقنع صاحبَيه … وشدُّوا ثلاثتهم الرِّحال إليه … وكان قد نظم عنه قصيدةً عصماء … يحكي فيها قصةَ جده الكبير هلال … وما جرى له مع المنذر سيِّد الرجال … وكيف أنَّ لعنة بنتِ رسول الله على سُلالته بالتشرُّد والشَّتات … ودعوتها لهم بالنَّصر والثبات … ما زالتْ تحكم تصرُّفاتهم … وتلوِّن بالفرحة وبالحُزن حياتهم.
فلمَّا دخلوا على جبير وأنشدوه أشعارهم؛ عرَفَهم جُبير، فأخذ يسألهم عن أهلهم وديارهم، وأصرَّ على أن يستضيفهم لأربعين ليلة كاملة، شهدوا فيها صنوف الكرم والإكرام … ما لا يُنسى على مرِّ الأيام.
وفي النهاية سمَحَ لهم بالذهاب بعد أن أعطاهم عطايا تأخُذ بالألباب، فخلع عليهم ثلاث خلعٍ … غايةً في البدع … وأعطاهم ثلاثمائة جمل. كلُّ جملٍ محمَّلٌ بما حمَلَ … وثلاثمائة رأسٍ من الخيل الأصيل … التي تتقاتل في سبيلها القبائل. هذا غير الدنانير التي تليق بمكانة الأمير جُبير. وعاد الشعراء الثلاثة وهم لا يصدِّقون … أن خطة سالم وقصيدته؛ لن تدعهم بعد اليوم يُفلسون.
ولمَّا عادوا للدِّيار؛ انتشرت عن عودتهم الأخبار، حتى وصلت إلى جابر؛ فاغتاظ وثار … وخاصة عندما رأى الناس يتحدثون عن كرمِ جُبير، الذي رأى منه هؤلاء الشعراء الكثير … وكان غضبه أكثر؛ لأنه أحسَّ أن جبيرًا لم تبتلعه الصحراء … وأنه هو الذي يتحدثون عنه … وأنه رغم ما فعله معه نجا وفاز … وصار على هذه الدرجة التي يلهج بالثناء عليها الشعراء.
فأمر بإحضارهم؛ ليتحقق بنفسه من أخبارهم … فقال لسالم: أرأيتم … أخي جُبيرًا؟
فأسمعوه أشعارهم … طلبًا لرضاه. وللتخفيف من غضبه … وطمعًا في عطاياه … ولكنَّهم عندما أعادوا على مسمعه … ما رأوه من كرمِ الأمير جُبير أمير نَجْد، وما له من هيلمان وسلطان … صاح بهم: ليس عندي لكم سوى الجَلد والقتل … فكيف تقبلون الهدايا من الأعداء.
ولولا أنَّ أباه تحامل على نفسه وحضر المجلس؛ لفعلها … وجرَّ على نفسه وعلى أبيه العار … قال المنذر: لقد تماديتَ يا جابر … منذ سنين وأنا صابر … طردتَ أخاك وأغضبتَ أمَّك … وتأتي الآن تريد أن تجرَّ علينا عارَ العرب … فتُهين الشعراء وتفكِّر في قتلهم … والله … الذي نفسي بيده، لو كنتُ بصحتي لأطحتُ برأسك أنت.
فاعتذر للشعراء على الفور.
وهنا قال سالم: يا سيدي المنذر … اسمحْ لي أن أقول لك إنني تأكَّدتُ أن جُبيرًا هذا هو جُبير ابنك … فلقَدْ أنشدتُه قصيدةً تحكي قصتك مع والدك … وكنتُ أريد أن أرى تأثيرها عليه … فإذا به عندما سمِعَها يبكي حتى سالت الدموع أنهارًا من عينَيه.
حاول جابرٌ أن يضرب الشاعر سالم ليُسكِته … لكنَّ أباه قفَزَ من فِراشه ومنعه، بل ولطَمَه لطمةً أخرستْه، وكأنما عادت إليه صحته وفتوَّته.
ممَّا أخرس لسان جابر؛ فلَمْ ينطق بكلمة … حتى عندما رأى المنذر يسير على قدمَيه … ويجلس على كرسيِّه، ويأمُر على الفور بشدِّ الرحال لكي يكحِّل عينَيه برؤية ولده، الذي رأى على يدِ أخيه أهوال الغربة والتشرُّد … مثلما ذاقها هو على يد والده هلال … لكنَّه لن يسمح للأب فيه … أن يقسو كما قسا عليه فؤادُ أبيه.
قال الراوي …
ثم إنَّ المنذر ركِبَ وركب معه مائتان من الأبطال ومائتان من الجمال محمَّلة بالأحمال … طالبًا بلاد نجد؛ ليرى ابنه جُبيرًا، وليعتذر له ولأمِّه «عذبا» … عمَّا فعله بهما جابر ابن «هذبا» … التي طلبتْ أن يأخُذها معه؛ لكي تُعلم «عذبا» أنَّها بريئةٌ ممَّا ارتكبه جابرٌ من أفعال دنيئة.
وما إن اقتربوا من نجد، حتى أرسل المنذر الشعراء الثلاثة؛ ليخبروا الملك جُبير بقدوم أبيه إليه … ليعتذر له وليكفر عمَّا لاقاه بسبب أفعال أخيه.
وأمر الملك جُبير أن يخرج في موكبٍ عظيم لاستقبال الضيوف … وحوله ألفٌ من العساكر بالرماح وبالسيوف … يُحيطهم ضاربو المزامير وناقرو الدفوف … وسار إليهم وقابلهم في منتصف الطريق … مقابلةَ الصديق للصديق … التي هي أطول عُمرًا وأبقى على الدهر، من لقاء الابن بأبيه أو الشقيق للشقيق.
وبعد أن سلَّموا على بعضهم وسطَ بكاءِ الفرحة ونحيب الشوق … نزلوا عن الخيول … وتعانقوا حتى جفَّت العبرات … وعادت الأنفس راضيات غافرات. وبعد أن ارتاحوا من عناء الطريق، دقَّت الطبول ونُفخت الزمور، وشدُّوا الرحال إلى بلاد الملك جُبير.
واعتذر المنذر لابنه، وغفر الابن لأبيه … وتعاهدوا على نسيان ما فات، وأن يُصلح السلام بينهم ما هو آت … فهل يا ترى تتحقَّق الأحلام … وتسمح الأيام … وهل إذا غفَرَ المظلوم للظالم … يكفُّ الشرير عن فعله الغاشم؟
صلُّوا على سيد بني هاشم … وادعوا الله أن يجمعنا في سلام … لنُكمل الكلام والنظام.