فارس بني زحلان
قال الراوي …
صلُّوا على الرسول خير الأنام … الذي بذكره يحلو الكلام … ويُفتح لنا باب القبول ويُكتب لنا بالوصول، وقولوا معي يا سادة يا كرام … سبحان من له الدوام … مَن ضرب لنا الأمثال بالأقوال وبالأفعال، وجعل التاريخ وحكايات الأبطال عبرة لبني الإنسان، وعلَّمنا أن نستعيد ما كان … كي نستفيد من صراع الخير مع الشر، والقديم مع الجديد … لنستعدَّ بعقلٍ سليم وعزمٍ شديد لمُستقبَل الأيام، ونحقِّق الآمال والأحلام … ونبني للأطفال العالَمَ السعيد.
لذلك يا سادة يا كرام، سنحكي ونعيد حكايات فارسِ الفرسان، ومغامرات بطلِ الأبطال: بركات، سلامة الهلالي، أبو زيد!
معركةٌ لا تسيل فيها الدماء
كانت الأرض المنبسطة تبدو كساحةِ قتالٍ عنيف لا يهدأ، وإن كان قتالًا بلا ضحايا، لا تسيل فيه الدماء … كان الشباب من أبناء قبيلة «الزحلان» يتدَّربون على فنون القتال، تحت إشراف معلِّمهم الفقيه العجوز «ابن الخطيب» الذي كان يدور كالنحلة بينهم، مُلقيًا بتعليماته، منبِّهًا أحدهم لخطأٍ قاتل، أو معدِّلًا وضعَ رمحٍ في يدِ آخر، أو معترضًا على طريقةِ ثالثٍ في الاشتباك.
وكان صوته المشروخ المثير للضحك، هو الصوت البشري الوحيد الذي يرتفع وسطَ صليل السيوف وطقطقة الرماح، واحتكاك العضلات بالعضلات، أو ارتطام القبضات بالرُّءوس أو اصطدام الأجساد بالصخور والأرض الصُّلبة.
في السماء، كانت الطيور الجارحة تحوم في صمت، وقد خدعتها الأصوات والآهات، فظنَّت أنها معركةٌ بعدها وليمة من الضحايا … فمضتْ تدور في سماء الساحة في تربُّص وجشع، دون أن تعلم أنَّ تلك ساحة تدريب، لا تخلِّف أشلاءً ولا تسيل فيها الدماء.
مَضَت الساعات وأبناء قبيلة الزحلان لا يَتعَبون؛ إذ كانوا يعرفون أنَّ مكانة قبيلتهم وسط القبائل، في تلك الصحراء القاسية، مرهونٌ بإتقانهم فنون القتال، وكان لديهم إحساس غير قليل بالعار؛ لأن ملِكَهم اضطُرَّ منذ سنوات، أن يقبل مُرغَمًا دفْعَ نسبةٍ فادحة من أموالهم وأنعامهم إلى عدوِّهم اللدود «أبو الجود» بعد أن هزمهم وأجبرهم على الْتزام حدود وادي الدقائق ووادي النسور، تاركين الأرض الخصبة مكتفين بالأراضي البُور.
كان أبناء الزحلان يُدركون قيمةَ ما يمتلكه ذلك العجوز الماكر، الذي يتولَّى تدريبهم، ويعرفون أنَّ حريتهم مرهونةٌ بأن يستوعبوا ما لديه من علومٍ وخبرة … في فنون القتال … لذلك كانوا يُطيعونه ويحبُّونه، وإن لم يَخلُ الأمر تمامًا من محاولتهم السخرية من طريقته في نطق الحروف، خاصة عندما يغضب؛ فكانوا يقومون بتقليده في أسمارهم خفيةً عنه طبعًا … لأنَّ أقواهم ما كان يصمُد أمامه لحظة، رغم كبرِ سنِّه وضآلة حجمه إن أراد يعاقبه، أو يلقِّنه الأدب.
قال الراوي …
وحده «بركات» … كان يستطيع ذلك.
ترى هل كان ذلك لأنَّ بركات الذكي الماهر كان أخفَّ حركةً منه، ويستطيع تفادي حركاته الماكرة المفاجئة، ويتوقَّعها قبل أن تُوقِع به، بطريقةٍ يبدو معها التلميذ أكثرَ من أستاذه مهارةً … أو نِدًّا له حين يتصدَّى له بجدارة.
أم لأنَّ ابن الخطيب كان يتسامح معه؛ لأنه أحبُّ أبناء الملك الزحلان إلى أبيهم … أم لأنه يحبُّه بالفعل ويجد فيه تلميذَه النجيب، لذكائه الشديد ورأيه السديد، وقدرته على استخدام عقله، بنفس القدرة على استخدام عضلاته وسيفه الحديد.
اكتسب بركات هذه المكانة في قلب معلِّمه، منذ أحضره إليه الملك الزحلان ليتولى تدريبه وتعليمه، منذ أكثر من خمس سنوات، وكان صبيًّا ما يزال … يومها تعجَّبَ الفقيه قليلًا؛ لأنه لم يسمع باسمه من قبل كأحد أبناء الملك … لكنه حين حاول أن يسأل عن ذلك، نهَرَه الملك بشدَّة قائلًا: إن هذا الأمر سرٌّ شخصيٌّ للملك وحده.
فابتلَعَ المعلِّم لسانه، وطوى الشكَّ في قلبه، وتعامَلَ مع بركات على أنه أحبُّ أبناء الملك إليه دون أسئلة.
كان للملك الزحلان ولدان آخران، هما مُنعِم ونعيم يتعلَّمان فنون الحرب، ويتدربان على القتال، مع أخيهما بركات … وذات يوم، أراد الشيخ أن يعاقبهما بالجَلد لخطأٍ جسيم ارتكباه … لكن بركات أشفق عليهما … وتحمَّل الضرب بالسوط عنهما، دون آهةِ ألمٍ واحدة … ما زاد إعجابَ معلِّمه به، وزاده قربًا منه، حتى صار يعهد عليه بمتابعة تدريب أقرانه، حين يغيب لشأنٍ من شئونه.
وزاد الأمرُ بينهما توثُّقًا، بذلك الاتفاق الطريف الذي عقده بركات معه، يوم ساومه في مرح: دينار ذهبي كلَّ يوم … في مقابل أن تعلِّمني لسانَ الفُرس والتُّرك والأكراد … ولهجة البربر ولغة الطليان.
– دينار ذهبي؟
– ذهبي!
– كلَّ يوم؟!
– كلَّ صباح … وأيضًا تلقِّنني أسرارَ الصباغة والصناعة وعلوم الكيمياء.
دُهش ابن الخطيب وقال: وكيف تستطيع أن تستوعب كلَّ هذا؟ وأنت تتدرَّب على فنون القتال والحرب؟
ضحك بركات وقال: هذا شأني يا صاح، ودينارٌ ذهبيٌّ لك كلَّ صباح.
وقبِلَ الشيخُ الاتفاق، في البداية على سبيل الفكاهة، كان يتصوَّر أنَّ بركات سوف ينسى بعد فترةٍ تلك العلوم الصعبة، وسيملُّ منها، وينشغل كغيره من الشباب في اللهو واللعب، والطعام والشراب، بدلًا من إرهاقِ عيونه بالورق والكتاب.
ولكن بركات لم يغفل، وظلَّ على مثابرته في استيعاب فنون الضرب والحرب والفروسية، بقدْرِ اندماجه في دراسة الكيمياء والصباغة واللغات الأجنبية.
وكلَّ يوم كان الرجل يضع الدينار الذهبي في كيسٍ خاصٍّ، يزداد بمرور الأيام امتلاءً، في الوقت الذي يزداد معه حبُّه لبركات، الذي كان يزداد كلَّ يومٍ شجاعةً وذكاء.
آخر الدنانير
– بركات … بركات … أدركنا يا بركات.
ردَّدَت الجبال المحيطة بالوادي صرخةَ الرَّجُل، الذي جاء مُنطلِقًا فوق حصانه، مُخترِقًا ساحة التدريب … توقَّف اللعب فجأةً، حتى إنَّ بركات نسِيَ أن يُنزل الرَّجل الذي كان يصارعه، وظلَّ يرفعه فوق رأسه لفترةٍ قبل أن يُلقي به وهو يحدِّق في القادم الصارخ … واقترَبَ منه الشيخُ ابن الخطيب مستطلِعًا الأمر، حتى وصل الرجل فنزل من فوق حصانه … واندفع نحو بركات.
– أسرِعْ يا بركات … لقد فاض الكيل بأبيك الملك.
– ماذا حدث؟
– تمَادَى أبو الجود يا بركات، وتعدَّى حدودَ الأدب.
– هل هاجم مضارِبَنا؟!
– يا ليته فعَلَ … ولكن الأدهى من ذلك؛ إنه تعمَّد إهانةَ مَلِكنا والإساءة إليه!
بكى الرجل، وهو يقول ذلك؛ فأخذ بركات يربتُ على ظَهْره مهدِّئًا.
– اهدأ … واحكِ ما حَدَث … دون زيادة!
– لقد أرسل أبو الجود عبدًا حقيرًا من رُعاة الغنم برسالةٍ لأبيك، يُنذره بدفع ما قرَّره علينا من أموال في الحال … وإلا … دمَّر مضاربنا وأحرَقَها.
ابتسم بركات ليُخفي غيظه وانفعاله.
– ولكنَّ موعد الدفع لم يحِن بعدُ، فماذا وراء هذه العجلة؟!
– إنَّ لهجة الخطاب المُهينة أصابتْ والدك بأزمة، حتى خشينا عليه … وأظنُّ أن أبا الجود يقصد هذا تمامًا … لذا تعمَّد تجاوُزَ حدودِ الأدب.
لم يُجِب بركات ولم يعلِّق، وإنما أسرع وقفز مُمتطيًا حصانه دون سرج، وأرخى لجامه فانطلق به. أشار ابن الخطيب إشارةً أنهى بها التدريب، واندفع الرجال على أثرها يمتطون جيادهم، وينطلقون في أثر بركات، مُثيرِين عاصفةً من الغبار، هيَّجَت الطيور الجوارح مرةً أخرى، فمضتْ تحوم صارخةً في سماء الوادي.
بينما عاد ابن الخطيب نحو كهفه المنحوت بين الصخور … مدَّ يده، تناوَلَ الكِيسَ الذي يحتفظ فيه بدنانير بركات الذهبية … فتحه في هدوء … وأسقط دينار اليوم مع أشقائه وتمتم وهو يُغلق الكيس ويُعيده لمكانه.
– أنا متأكِّد أنك ستكون آخرَ دينار يدفعه لي بركات … فقَدْ نضج الآن، وصار مؤهَّلًا ليتصرَّف تصرُّف الفرسان … وصار يمتلك من الشجاعة والقوة ما يكفي، لكي يدلَّه قلبه الكبير وعقله الراجح … على الفعل الصحيح لفارسٍ نبيل!