عفوك يا ملك زحلان
قال الراوي …
وصَلَ بركات إلى مضارب الزحلان فقفَزَ من على حصانه وانطلق إلى داخل خيمة الملك مُزيحًا مَن يقابله من الحرَّاس وهو يزمجر غاضبًا.
وما إن رأى المنظر الذي أمامه حتى انفجر غضبه في آهةٍ زلزلَت أركان المكان … كان الملك زحلان جالسًا ينتفض من الغمِّ والكمد، وحوله رجاله المقرَّبون عاجزين، لا يجرُءون على الكلام بينما يقف أمامهم وسط الخيمة عبدٌ يرتدي ثيابًا رثَّة، مُعجَبًا بنفسه كطاووس أنساه غروره ما يجب أن يكون عليه من أدبٍ في حضرة الملك زحلان.
أمسك بركات بخِناقه، حتى كادت تختنق أنفاسه … ورفعه بيدٍ واحدة … وصاح في وجهه: هل أمرك سيِّدُك اللعين أن تتطاوَلَ في حضرة أسيادك أيها الوغد اللعين، وأن تتجاوز حدودَ الأدب؟
ثم ألقى به بعيدًا فكوَّمه في آخرِ الخيمة كبعض النفاية … واندفع فتناول الخطاب من يدِ والده المُرتعِشة … فلمَّا قرأه ازداد غضبه، وبرقتْ عيناه تُطلقان شررَ الغضب، وأسرع مكشِّرًا عن أسنانه نحو العبد حتى ظنَّ الواقفون أنه سوف ينهش لحمه … ولكنَّه رفعه من قفاه وأخرج سيفه القصير فانطلقت آهةُ فزَعٍ من فم العبد المسكين … وقام بركات بحلق فروةِ رأسه … ثم مزَّق الرسالة بنفس السيف … وخلَطَ الشَّعر بباقي الرسالة، وحشاها تحت صديريَّته وهو يزمجر.
– لولا أنني أحتاج لنذلٍ مثلك كي يوصل رسالتي لأبي الجود … لمزَّقتُك إربًا إربًا … هيَّا … وقُل لسيدك الجبان … هذا هو ردُّ الملك الزحلان … وقُل له إنَّ نفس السيف في انتظاره لا ليقطع شَعره فقط … بل لجزِّ لسانه ورقبته … قُل له يا أبا الجود لقد ارتكبتَ خطأً ستدفع ثمنه غاليًا.
ثم حمله بقبضةِ يده مرةً أخرى، حتى أجلسه مقلوبًا على ظَهر حصانه … ووَكَز الحصان وكزةً جعلتْه ينطلق حَرونًا بالعبد المقلوب وسط ضحكات فرسان بني الزحلان، الذين كانوا قد لحقوا به ليشهدوا المنظر الأخير، ويهتفوا إعجابًا به.
قام الملك زحلان، وقد عادت الرُّوح تدبُّ في أوصاله … واحتضَنَ «بركات» في حُبٍ وقال له: يا بركات يا ولدي … لقد أعدتَ الدِّماء إلى عروقي … الآن أطمئنُّ لقدرة بني الزحلان على الوقوف أمام جبروت أبي الجود … وردِّ مظالمه التي طال احتمالنا لها.
وابتدأ بركات في تجهيز الجيش … والاستعداد للخروج لملاقاة أبي الجود، الذي لا بد أنه سيستشيط غضبًا، عندما يصِلُ إليه العبد المقلوب فوق الفرس محلوق الرأس ليسلمه الرسالة الممزقة.
مقتل الوزير عجير
غضِبَ أبو الجود غضبًا شديدًا، وأمَرَ بدقِّ طبول الحرب للانتقام من الزحلان وتأديب ملكها … لكنَّ الوزير عجير، وزير أبي الجود، سأل العبدَ راشدًا عمَّن فعَلَ به هذا … ومَن الذي حمَّله تلك الرسالة المُهينة … فقال العبد راشد: لم يكُن الملك زحلان يا مولاي، ولكنْ عبدٌ أسودُ من عبيده اسمه بركات.
فازداد غضبُ أبي الجود، وهبَّ قائمًا ليقود الجيش، ولكنَّ الوزير أصرَّ على الخروج بدلًا منه … لإحضار ذلك العبد الأثيم لتأديبه … إذ لا يليق به أن يخرج ليطارد عبدًا كبركات … ووافق أبو الجود وسمح لوزيره بالخروج في عشرة آلاف مقاتِل لأسْرِ ذلك العبد وإحضاره حيًّا؛ ليشفي غليله.
قال الراوي …
الْتقى الجيشان في أحد الوديان، واندفع كلٌّ منهما نحو الآخر اندفاعَ العاصفة … واشتبك الرجال بالرجال … والتحم الفرسان بالفرسان … ونادي الوزير على بركات أن يبرُز إليه … فوجَدَه يبحث عنه … واصطدم الرَّجُلان كالجبلَين … كان الوزير مُقاتِلًا قديرًا ومُبارِزًا خطيرًا … فانقضَّ على بركات في شجاعة، وجذَبَه جذبةً كادت تخلعه من فوق فرسه، لولا مهارةُ بركات وقدرته على الصمود … فارتمى في مرونةٍ إلى جانب سرجه، وتفادى حربة الوزير ثم استقام على ظَهر حصانه وانزلق، وهو يسدِّد حربته إلى صدر الوزير مباشرةً فاخترقتْ جسده وهو يصيح صيحةً شلَّت حركةَ الخيل والفرسان … فوقفوا يشاهدون جسد الوزير وهو ينهار مرتطمًا بالصخور والأحجار … في منظرٍ رهيب، أثار فزعَ رجاله فولَّوا الأدبار … بينما تصاعدَت صيحاتُ رجال الزحلان، فَرِحين مهلِّلين بالانتصار.
وحين وصل الخبر إلى أبي الجود ركِبَه الهمُّ والغم … وخاصَّة عندما عرَفَ أن العبد بركات الذي مزَّق رسالته، هو الذي قتَلَ وزيره … فصاح صيحةَ الحرب.
وقال: لم يعُد لك منِّي يا بركات مَفَر … ولن يكون للزحلان بعد اليوم أرضٌ ولا مُستقَر.
رُبَّ ابنٍ لك ليس من صُلبك
قال الراوي …
طلَبَ بركات من مَلكِ زحلان أن يبقى في المضارب، وسيكفيه هو عناء القتال، ولكنَّ الملك رفَضَ وجمع أبناءه مُنعِمًا ونعيمًا وأشقَّاءَ زوجته جابرًا وجُبيرًا، وأمَرَهم باللَّحاق ببركات، وهو يقول لنفسه: عشتَ معي يا بركات كلَّ هذه السنين كابنٍ لي، بل أصبحتَ أعزَّ أبنائي إليَّ … وأثبتَّ لي صحةَ ذلك المثل الذي يقول: «رُبَّ ابنٍ لك ليس من صُلبك.»
ولكن، لا يجب أن تذهب للحرب دفاعًا عن الأرض بدلًا من أصحابها … ليس من العدل أن تضحِّي أنت، بينما أجلس أنا وأبنائي في عُقر ديارنا ننتظر … لا، سنسير معك … فمصيرنا مُشترَك.
وقاد بركات الجيشَ حتى الْتقى بجيشِ أبي الجود … إلى الشمال من وادي النسور. وهناك تقدَّم وصاح بأبي الجود: كفاكَ ما ارتكبتَ من حماقاتٍ وإهانات … فلْنحقن دماءَ الرجال والجنود … ما دمتَ قد جئتَ لتأديبي، فاخرُج إليَّ … تقدَّم … ولْيحكم بيننا السيف.
برز أبو الجود وصاح به: لن ألوِّث حربتي بدماءِ عبدٍ نجسٍ مثلك … عُد إلى حظائر الغنم يا كلبَ العرب، وأرسلْ سيِّدكَ ليقاتل بنفسه، إن لم يكُن قد قتَلَه الخوف … لن أقاتل عبدًا مثلك.
ضحك بركات وصاح به: إنني عبدٌ بقدْرِ ما أنت عبدٌ لغرورك … لستُ عبدًا يا ملك … إنما أنا «بركات» ابن الملك زحلان، وكفاك تهرُّبًا من الحقيقة، التي تقول إنَّك تكاد تنهار من الخوف.
غضِبَ أبو الجود لقوله، واندفع نحوه صائحًا، شاهِرًا سيفه، وتطايَرَ الشَّرر عندما الْتقى السيفان؛ فارتفع لهما صليلٌ رهيب، أفزع الخيل والعقبان … وظلَّ الفارسان يتبادلان الضربَ والطِّعان، حتى حلَّ الظَّلام ففرَّق بينهما.
وما إن أشرقَت شمسُ الصباح، حتى عادا إلى ساحةِ المعركة، وقد تجدَّد نشاطهما وظلَّا يلتحمان ويفترقان، حتى بلغت الشمس كبدَ السماء واشتدَّت الحرارة ولمعتْ السيوف، واستبدل الفارسان أسلحتهما أكثرَ من مرَّة، واستعملا السيوف والحِراب والخناجر.
واشتبكا معًا يدًا بيد وذراعًا بذراع أكثرَ من مرَّة … ثم عادا إلى الخيل مرةً بعد مرة … وتعالتْ صيحاتهما مختلِطةً بصهيل الخيل وصيحات الطير وزعقات الرجال، وشهقاتهم فزعًا وفرحًا أو غضبًا. وفجأةً، وفي اشتباك عنيف أثار سحابةً من الغبار، انطلقتْ صيحةُ ألمٍ عميقةٌ مختلِطة بصرخةِ غضبٍ أعلى، ممَّا حيَّر الجميع، وانتظروا انكشاف الغبار؛ ليعرفوا ما جرى … ولمَّا انكشف الغبار، كان بركات فوق فرسه التي رفعتْ قوائمها تصهل صهلةَ النصر، بينما كان «أبو الجود» على الأرض مضرَّجًا في دمائه.
سكَنَ الوادي للحظات، ثم انطلقت صيحاتُ النصر من معسكر الزحلان … وهنا صاح بركات مخاطِبًا رجالَ أبي الجود: أيها الرجال الشجعان … لم نكُن نريد هذه الحرب … لكن أبو الجود أعماه الطمع، فلَمْ يعُد يعرف قدْرَ الرجال، ولا قيمة الأبطال … أعماه المال؛ فأرسل يُهين الملك الزحلان … ولكنْ نال جزاءه الآن … فهل لكم أن تستمعوا لصوتِ العقل … وأن نكفَّ عن القتل.
وشقَّت كلماتُ بركات صفوفَ جيشِ أبي الجود … وثار بينهم جدلٌ شديد. انضمَّ على أثره عددٌ كبير إلى صفوف جيشِ بركات، وهم يُلقون بأسلحتهم، بينما اندفع آخرون إلى القتال، فطاردهم منعِمٌ ونعيم ابنا الزحلان، حتى اضطروهم إلى الفرار.
قال الراوي …
أمر بركات رجاله بدفن الموتى وعلاج الجَرحى … وتقدَّم الملك الزحلان من بركاتٍ واحتضنه مهنِّئًا بانتصاره … ونادى في رجاله قائلًا: يا أبنائي … لقد عوَّضني اللهُ في شيخوختي بهذا الابن البطل … لذلك أطلُب منكم … الالتزام بطاعته؛ لأنه سيكون أميركم بعدي … واندفع نعيمٌ ومنعمٌ يعانقان أخاهما … بينما ظلَّ جابرٌ وجبيرٌ شقيقا زوجة الزحلان، متردِّدَين، والْتفت جابرٌ هامسًا لجُبير: هل صدَّق الزحلان نفسه واعتبر بركات ابنًا من صُلبه ليوليه إمارتنا. وأنا بنفسي استقبلتُه طفلًا مع أمِّه، عندما لجأتْ به إلينا وأوصلتُهما إليه.
لكنَّ جابرًا سارع يقول له: انسَ هذا الأمر الآن، ولا تُفسد انتصارنا … إنه هو الذي قتل أبا الجود … وخلَّصنا من شرِّه.
ابتلع جبيرٌ رفضه، واندفع مع الجميع يعانق بركات ويهنِّئه، ويُقسم على طاعته كما أمَرَ الملك الزحلان.
قال الراوي …
ولم يكن هناك يا سادة يا كرام … أسعدُ ولا أهنأ بالًا من أمِّ البطل الهُمام بركات، الست «خضرة» الشريفة، التي كانت قد وصلتْها الأخبار … فرقص قلبُها فرحًا بانتصاره، وراحت تراقب مظاهرَ الفرح بالانتصار وإلى جوارها وقَفَ الفقيه ابن الخطيب، بعد أن سلَّم لها كِيسَ الدنانير الذهبية.
وهو يقول ضاحكًا: لم أكُن أستطيع أن أرفض له طلبًا يا سيدتي «خضرة»، كان مصِرًّا على أن يكافِئني، وأن يدفع أجري … وطاوعتُه ولم أُفشِ سرَّه لأحد، وظللتُ أضع الدينار فوق الدينار، ليكون هديتي له يومَ أراه وقد اكتمل له العلم مع الشجاعة … فأعطيها له يا سيدتي هو سيقبلها منكِ عني … إنها نبوءتي، وبُشراي له المزيد من الزيادة والنصر، حتى يعرف أهلَه وقدرَه … وحين تطبِّق شهرته الآفاقَ؛ فلْيذكر الجميعُ أنني كنتُ معلِّمَ بركات أبو زيد، وهبتُه علميَّ، وهما لا يقدَّرانِ بثمَن.