«شيحا» تُنقذ بركات
عين قطف الزهور
كانت «خضرة» الشريفة واقفةً تودِّع في قلقٍ ولدَها بركات، والذي كان مع أخويه، منعمٍ ونعيمٍ، ومجموعةٍ من أصدقائهم يجهِّزون جِيادهم في مرحٍ وصخب … استعدادًا للصيد … فقال لها الملك زحلان: لا تقلقي يا ابنةَ الشريف؛ فابنك الذي قتل أبا الجود وخلَّص الدنيا من شرِّه، ولا تهزمه السِّباع، ادخُلي ولا تخافي عليه.
قالت «خضرة» ضاحكةً: أنا أخاف عليهم جميعًا يا سيدي، فلهم جميعًا في قلبي نفسُ المكانة، إنني أستنشق بعض الهواء.
لكنَّها ظلَّت واقفةً تراقبهم حتى اختفوا مع انحناءة الطريق، ابتسم الملك ابتسامةَ العارفِ أنَّ قلبها أصبح مشغولًا على ابنها أكثر، منذ أعلن أنه الأمير من بعده ووليُّ عهده؛ لأنها كانت تعرف أنَّ جابرًا وجبيرًا ابنَي شقيقته لا يوافقان على ذلك، إلا خوفًا من مخالفته، واحترامًا لإرادته. وكان يعرف أن معهما الحقَّ؛ فمُلك بني زحلان من حقِّ منعمٍ أو نعيم ابنَي الملك الحقيقَين؛ لأنَّ بركات مجرَّد ضيفٍ وغريب، وأمُّه تشفق عليه من اليوم الذي ينكشف فيه السرُّ ويعرِف حقيقة نسبه!
همس زحلان لنفسه: يا للأمهات … أصبح ابنها فارسًا وأميرًا وما زالت تراه الطفل الصغير الذي جاءت لنا تحمله بلا حولٍ ولا قوة. كفاكِ قلقًا يا «خضرة»؛ فله في قلبي معزَّة تفوق معزَّتي لأولادي.
فجأةً … قطَعَ عليه أفكاره ضجيجٌ وصياحُ استغاثةٍ وفزع؛ فأسرع حرَّاسه يستطلعون الأمر، فرأوا عددًا كبيرًا من الرعيان، يسوقون أمامهم القطعان، وهم يصيحون رعبًا: أدركنا يا ملك زحلان أدركنا … بنو هلالٍ داهمونا وانقضُّوا علينا كالذئاب والنسور، وطردونا من مراعينا واستولوا على أراضينا، حول عين قطف الزهور. الغوث الغوث!
ولم ينتظر الملك وصولَ بركات، بل أمَرَ أن يُدقَّ طبلُ الحرب؛ لتأديب بني هلال وطرْدِهم. وخرج على رأس جيشه، فوجد بني هلال يُقيمون خيامهم كأنَّهم ينوون الاستقرارَ في المكان إلى الأبد.
فصاح فيهم: يا بني هلال … تعرفون أنني ملكُ هذه البلاد، وهذه الأرض أرضنا، والمراعي لنا فارحلوا في سلام، وعودوا من حيث أتيتم. هذا خيرٌ لكم لو كنتم تعقلون!
ارتفعتْ صيحات السخرية والغضب بين بني هلال … وأسرَعَ فرسانهم إلى أسلحتهم، ثم تقدَّم إليه فارسٌ مهيب شاهرًا سيفه، وقال: القحط أصاب بلادنا يا ملك الزحلان، وقضى على الأخضر واليابس، وقد أتينا نطلُب رضاكم والسماح بأن نحيا فوق هذه البِطاح … وسوف ندفع لكم العُشر من إنتاج أراضينا وخير مراعينا، وهذا فَضْل وعَدْل يا ملك.
وأثارت طريقة الأمير رزق الهلالي في الكلام ضحكاتٍ ساخرةً بين صفوف بني هلال، فاشتدَّ غضب ملك الزحلان … فقال: هكذا يا أمير؟ وبلا استئذان؟! تقتحمون الوديان وتطردون الرعيان، ثم تتحدَّث عن الرضا والسماح … عُد من حيث أتيتَ يا رزق، وإلا فليس بيننا سوى السلاح!
واندفع الاثنان كلٌّ نحو الآخر كالعاصفة، وعلا بينهما الغبار وثار، وظلَّا يتبادلان الضرب والطعن حتى انتصف النهار، فخرجتْ منهما ضربتان في نفس الوقت. أمَّا ضربة الزحلان فقد أبطلها الأمير رزق بدرعه الحديد، أما ضربة الأمير رزق، فنزلت فوق فخذ الزحلان فجرحتْها جرحًا بليغًا، ثم هبطتْ فوق عنق الحصان فقطعته.
فأسرع إليه رجاله يُحيطون به، حتى استطاعوا أن يأخذوه بعيدًا عن رزق لعلاجِ جرحه … واشتعَلَ وطيس المعركة بين الجيشَين.
وبينما كان الرجال يحملون الملك إلى خيمته وصَلَ بركات، فارتمى على صدر الملك معتذرًا له، يتأسَّف لمُصابه، وقد اشتدَّ غضبه وحزنه … ثم اندفع هو وإخوته كالعاصفة، يصيحون صيحاتِ القتال للانتقام من بني هلال.
غانم الزغبي
قال الراوي …
كان بركات يحسُّ بالذنب؛ لأنه خرَجَ للصيد وترك والده الملك يتعرَّض للموت، كانت عروقه تنتفض من الغضب على بني هلال، الذين لم يعُد لهم عهدٌ ولا ذِمَّة، منذ أصاب القحطُ أرضهم وحلَّت بهم الغمَّة. وصاروا في الصحراء فُلولًا ضائعة، يهاجمون القريبَ والبعيد كالضباع الجائعة.
وكان قلبه يمتلئ بالغيظ أكثر … لأنَّهم تجرَّءُوا على مهاجمة بني زحلان، الذين تناقل خبر انتصارهم على أبي الجود الركبان. فذاع صيتهم في الصحاري والوديان … وخافتْهم القبائل في كلِّ مكان.
وعندما وصَلَ بركات ومَن معه إلى أرض المعركة، صاح صيحةً ارتجفتْ لها الجبال وتزلزلتْ من مكانها الصخور، فوقَعَ حجَرٌ في حجم العصفور على رأس رزقٍ الجسور؛ فأثار قلَقَه وجعله يقِفُ متردِّدًا لا يُجيب على نداء القتال، فأعطى هذا الفرصة؛ كي يتقدَّم غانم الزغبي ويبرُز للميدان لمواجهة بركات.
صاح بركات في غضب، وعيناه يتطاير منهما شرَرٌ كاللهب: مَن أنت أيها الدخيل، ارجع وأنقذ نفسك وأرسل رزقًا الدريدي؛ لأمزقَّه بيدي.
كذب غانمٌ عليه، وقال: رزق ذهَبَ للصيد يا بركات … مثلما كنتَ أنت تلهو في الفلوات … هيَّا يا صغيرَ السنِّ يا جهول … لترى كيف يصول الزغبيُّ ويجول.
الْتحم الفارسان في ضجَّة ودمدمة، ثم افترقا بعد جهدٍ وعناد … ليظهر غانمٌ مجروحًا مضرَّجًا بالدماء … وبركات يسخر منه ويعفو عنه قائلًا: أسرع يا طويلَ اللسان وداوِ جراحك بعيدًا عن الميدان، هيا فقد نلتَ منَّا السماح.
قالها وصاح: هل من مبارزٍ منكم يا بني هلال … هل من رجال تخرج للقتال … أم تفضِّلون انتظارَ الضيوف … ليحملوا عنكم السيوف.
خرج إليه الأمير عمَّار، فعاجله بضربةٍ كان فيها الدمار.
فاندفع إليه القاضي بدير، فجرَحَه جرحًا بليغًا جعله يطلب العفو منه فعفا، ليعود مسودَّ الوجه والقفا.
كلُّ هذا ورزقٌ متسمِّر كحجَرٍ يتأمَّل بركات وفِعاله، وهو يودُّ لو يخرج لقتاله … لكنَّ شيئًا كان يشقُّ قلبه يهمس إليه ألَّا يفعل … والناس تتعجَّب من رزق؛ لأنه لا يُسرع ولا يتعجَّل، وظلَّ الفرسان يخرجون واحدًا بعد الآخر لبركات، من كلِّ الجهات. فيصرعهم أو يجرحهم … أو يأسرهم، حتى زاد عددهم عن التسعين ما بين قتيلٍ وأسير وجريحٍ وطعين.
وكل هذا ورزقٌ ما يزال في مكانه يراقب … وكأنه من الوجود غائب.
فقرَّر الأمير سرحان أن يخرُج لبركات بنفسه، فلمَّا تقدَّم إليه، حمل بركات عليه … وطعنه بالرمح طعنةً أصابت إحدى رجلَيه، فعاد مهزومًا يعرج ويجرُّ قدمَيه.
نداء الدم
انتفض رزق غضبًا من نفسه، وأسرَعَ يمتطَّي فرسه … وسطَ صيحات الرضا من الجميع، فقَدْ كان وحده الكفيلَ بإيقاف بركات عند حدِّه … وأن يُرسله إلى لحْده!
والْتحم رزق وبركات تلاحُم الأنداد الأبطال، واصطدما اصطدام الجبال بالجبال … فتبادلا الضربَ والطعان … تارةً فوق الخيل، وتارةً فوق الرمال … وطارد أحدهما الآخر بين الصخور، قافزَين صارخَين كالنمور … يتبادلان الأوضاع والأمكنة، مستخدمَين كلَّ الحيل والفنون الممكنة وغير الممكنة، حتى تعِبَ رزقٌ وسال منه العَرَق كالبحر، وكَلَّ بركات … وكاد أن يفقد سيطرته على الأمر … لولا أن رزقًا اقترح عليه أن يستريحا، فأشفق بركاتٌ عليه، خاصة حين نظَرَ في عينَيه، فأحسَّ شيئًا غامضًا يقرِّبه إليه!
وانهمك كلٌّ منهما في إصلاح حاله … وقد انشغل باله، متأمِّلًا في قوةِ غريمه وأفعاله … وكان الرجال من الجانبَين يتأمَّلون البطلَين … صامتَين كأنَّ على رءوسهم الطير … وفجأة.
صاحت امرأةٌ شابة، من بين صفوف بني هلال في خوفٍ وفزع محذِّرة بركات.
– احترسْ يا بركات … احترس.
وفي لمحِ البصر، قفَزَ بركات مبتعِدًا من فوره … متفاديًا ضربةَ حربة، كانت تستهدف ظَهْره.
ساد صمتٌ رهيب، ثم اندفع الفارسان في ضراوةٍ يستأنفان القتال، حتى جُرح رزقٌ جرحًا بليغًا على الرمال … وتقدَّم بركات الغاضب يريد قطْعَ رقبته؛ فصاح به نفس الصوت الذي حذَّره من حربته: لا يا بركات … لا تقتله وكُن كريمًا، واجعله أسيرَ عطفك، وعتيقَ سيفك … فهذا أكرمُ لك وله يا بركات!
لم يكُن رزق قد صدَّق أذنَيه حين سمِعَ ذلك الصوت في المرة الأولى … ولكنَّه وهو ملقًى على الأرض في صمت، ينتظر حدَّ السيف والموت، تأكَّد تمامًا أنَّه صوتُ ابنته «شيحا» … فتمنَّى أن يقتله بركات على الفور، هربًا من هذه الفضيحة!
لكن بركات أغمد سيفه في جرابه ولم يفعل … واستجاب للصوت الطيِّب الذي هزَّ قلبه حين رجاه … أن يتراجع عن قتْلِ رزق ويَهَبه الحياة!