النَّسَبُ
الدعوى المنتظرة هي أقوى الدعاوي، وهي كذلك — ومن أجل ذلك — أضعفها وأولاها بالتشكك والمراجعة.
والمقصود بالدعوى المنتظرة كل دعوى تمليها البواعث النفسية أو البواعث السياسية والاجتماعية، وهي قوية لأنها لا تأتي عفوًا، ولا يكتفي المدعون فيها بإبدائها وترك السامعين وشأنهم في قبولها أو الإعراض عنها، بل هم يدَّعونها ويحتالون على إيرادها مورد الصدق وتمثيلها في صورة الكلام السائغ المحقق، ثم يكررونها ويلحُّون في تكريرها، ويتحينون الفرص لنشرها في مظان الإصغاء إليها والرغبة في إثباتها.
وإذا كانت البواعث التي تمليها متعددة متجددة كان ذلك خليقًا أن يزيدها قوة على قوة وإلحاحًا على إلحاح، فهي تتوارد من جهات كثيرة وترجع إلى الظهور كَرَّة بعد أخرى، كلما حيف عليها أن تضعف، وكلما تعاظم الرجاء في التحدث بها والالتفات إليها.
إن الدعوى المنتظرة قوية من أجل هذا.
وهي من أجل هذا بعينه ضعيفة متهمة.
لأن البواعث التي تمليها تُريب السامع حين تنكشف له، وقد يكون الإلحاح فيها مشككًا لمن يسمعها وكاشفًا للغرض والهوى من ورائها.
وإذا تعددت البواعث كان ذلك أحرى أن يسوق التناقض والاختلاط إلى الروايات والأقاويل، فلا يتفق مروِّجوها على اختراعها ولا على نقلها، ومن لم يكن منهم مخترعًا لروايته لم يجهد ذهنه في التوفيق بين النقائض والتقريب بين الأسانيد، فتصاب الدعوى بالضعف من جراء تعدد البواعث كما تأتيها القوة والمثابرة لهذا السبب، وتخسر من هنا كما تكسب من هناك.
•••
وقد كان اتهام الفاطميين في نسبهم دعوى منتظرة، وكانت البواعث إليها متعددة متجمدة، فلا جَرَمَ تكون في وقت واحد أقوى الدعوات، ثم لا تلبث أن تعود أضعف الدعوات.
كان الفاطميون يطلبون الخلافة ويعتمدون في طلبها على النسب.
وكانوا يهددون بمساعيهم في طلب الخلافة خصومًا كثيرين يملكون الدول في المشرق والمغرب ولا يريدون النزول عما ملكوه، أو لا يريدون بعبارة أخرى أن يسلموا للفاطميين صحة النسب الذي يعتمدون عليه.
فلم يكن أقرب إلى الذهن من مهاجمتهم في نسبهم وتجريدهم من الحجة التي يؤيدون بها مسعاهم، فهذه هي الدعوى المنتظرة التي تعددت بواعثها في المشرق والمغرب، وتوافقت الأغراض على ترويجها وتثبيتها بين الخائفين على عروشهم من نسب الفاطميين، وكلهم ذوو سلطان وذوو براعة وافتنان، ومن ورائهم من يرغبون في بقائهم أو يتلقون دعواهم بالتصديق والإيمان.
كان الفاطميون يطلبون الخلافة ويعتمدون في طلبها على انتسابهم إلى النبي ﷺ، وكان هذا النسب حجة معتمدة لا يماري فيها الأكثرون من أتباع الدول الإسلامية الذين تسري بينهم دعوى آل البيت، غير مستثنى منهم أتباع الدولة العباسية في ذلك العهد على الخصوص، وهو عهد النقص والأدبار الذي يكثر فيه طلاب الزوال أو طلاب العلل بالحق وبالباطل، وعلى الإنصاف الواضح أو على الجور الصُّراح.
كان مصير الخلافة إلى الفاطميين نذيرًا بزوال عروش كثيرة، منها عروش العباسيين في بغداد والإخشيديين في مصر والأغالبة في إفريقية الشمالية والأمويين في الأندلس، والأمراء الصغار المنبثين في هذه الرقعة هنا وهناك ممن يطيب لهم القرار على ما هم فيه ولا يطيب لهم التبديل والانتقال.
وكان هؤلاء المالكون غرباء عن أهل البيت ما عدا العباسيين، ولكن العباسيين في ذلك العهد خاصة كانوا أخوف الخائفين من نسب الفاطميين، بعد أن كانت دعوة أهل البيت تشملهم أجمعين منذ ثلاثة قرون.
عندما ضعفت دولة بني أمية قويت دعوة آل البيت التي كان يقوم بها العلويون والعباسيون.
ولكن العباسيين أخذوا بزمام الدولة الجديدة على اعتقاد الأكثرين أنهم كانوا يدعون إلى خلافة العلويين أبناء فاطمة وعليٍّ أحق الناس باسم آل البيت في رأي أتباع الدولة الجديدة. وبلغ من إيمان أتباع الدولة الجديدة بهذا الرأي أن خلفاء بني العباس أظهروا العزم على الوصاية بعدهم لولاة عهد العلويين، كما فعل الرشيد والأمين. ثم استحكم العداء بين بني العباس وبني علي حتى لجأ الأئمة العلويون إلى الاختفاء، وشاعت يومئذ العقيدة في الإمام المستور، ثم شاعت الدعوة إلى العلويين باسم الفاطميين؛ لأنها أقرب الدعوات إلى بنوة محمد عليه السلام. فقد يقال: إن العباسيين أبناء العباس عم النبي، وإن العلويين أبناء علي ابن عمه أبي طالب! أما الانتماء إلى فاطمة الزهراء، فهو انتماء إلى بيت النبي نفسه، وليس إلى الأعمام ولا أبناء الأعمام.
في أوائل الدولة العباسية، كانت دعوة آل البيت تشمل العلويين والعباسيين، وكان الخلاف يسيرًا بين الفريقين على أمل التوفيق بينهما بعد حين، وكانت قوة الدولة في نشأتها تصمد لهذا الخلاف الذي هان أمره ولم يبلغ أشده في أول عهده، وكان يكفي أن يقال عند اشتداده: إن وراثة الأعمام أقرب من وراثة أبناء الأعمام.
ولكن الدولة العباسية بقيت حتى تضعضعت وكثر الساخطون عليها والمتبرمون بها والراغبون في زوالها، وكثر كذلك شهداؤها من آل البيت أبناء علي وفاطمة، وزال عنها عطف العاطفين عليها لقرابتها من بيت النبوة، فتحول عطفهم إلى الشهداء المظلومين المشردين في أرجاء البلاد، وأصبح تشردهم الذي يظن به أنه يضعفهم مددًا لهم من أمداد العطف والولاء، وأصبحت دعوة «الفاطميين» وقفًا على هؤلاء المشردين المظلومين لا يشركهم فيها العباسيون؛ لأن العباسيين هنا هم الخصوم المحاسبون على الظلم والنكال واختلال حبل الأمور.
ومن الفاطميين هؤلاء يأتي الخطر الأكبر على بني العباس، ومن نسبتهم إلى فاطمة الزهراء يأتي امتيازهم بحق الخلافة، وبهذا الحق يطلبون النصفة للشهداء والمضطهدين، فأي شيء أقرب إلى مألوف السياسة من دفع الخطر بإنكار هذا النسب، ومن حصر الولاء لأهل البيت في القائمين بالأمر من بني العباس؟
ويروى عن سبب نشاط القادر بالله إلى كتابة الإشهاد ببطلان نسب الفاطميين أنه سمع أبياتًا نظمها الشريف الرضي يقول فيها:
فأرسل إلى أبيه الشريف أبي أحمد الموسوي يقول: إنك قد عرفت منزلتك منا وما تقدم لك في الدولة من مواقف محدودة، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه ويكون ولدك على ما يضاد ما لا نزال عليه من الاعتداد بك لصدق الموالاة منك. وقد بلغنا أنه قال شعرًا — هو هذه الأبيات — فيا ليت شعري على أي مقامِ ذُلٍّ أقام وهو ناظر في النقابة — نقابة الأشراف — والحج، وهما من أشرف الأعمال ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا.
فأحضر أبو أحمد ولده الرضي فأنكر الشعر، فأمره أن يكتب بخطه إلى القادر بالاعتذار وإنكار نسب الحاكم بأمر الله، فأبى، فقال له أبوه: «أتكذبني في قولي؟» فقال: «كلا ما أكذبك، ولكني أخاف من الديلم ومن الدعاة في البلاد» فقال له أبوه: «أتخاف مَن هو بعيد عنك وتُسخِط مَن هو قريب منك، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك؟!» وغضب أبوه وحلف لا يقيم معه في بلد، فلما بلغ الأمر بينهما هذا المبلغ حلف الرضي أنه لم يقل تلك الأبيات، وكتب بخطه في محضر الأفكار، وشاع الزعم بعد كتابة ذلك المحضر أن المهدي الفاطمي لم يكن يسمى عبيد الله، وأن اسمه الصحيح «سعيد بن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان».
وقد اختلفوا في نسبته تارة إلى المجوس وتارة إلى اليهود. واختلفوا في الجد الذي كان مجوسيًّا أو يهوديًّا؛ فقيل: إن عبيد الله كان ابن حدَّاد يهودي مات عن زوجة فبنى بها الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون وتبنَّى عبيد الله، وقيل: إن عبيد الله قتل في سجن سجلماسة بالمغرب فأشفق داعيه «أبو عبد الله الشيعي» فسماه عبيد الله وبايعه بالخلافة، وقيل: إن أَمَةً للإمام جعفر الصادق عَلِقَ بها يهودي فولدت منه عبيد الله ونشأ في بيت الإمام منتميًا إلى أهل البيت.
وقد كانت لهجة البيان العباسي غاية في العنف تنم على الغيظ وتخلو من الدليل، ومنه: «إن هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم — حكم الله عليه بالبوار والدمار — ابن معد بن إسماعيل بن محمد ابن سعيد — لا أسعده الله — وإن من تَقَدَّمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإن ما ادعوه من الانتساب إليه زور وباطل، وإن هذا الناجم في مصر وهو وسلفه كفار فساق ملحدون معطلون، وللإسلام جاحدون، أباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسبُّوا الأنبياء وادَّعوا الربوبية.»
ولم يقصر المؤرخون المنكرون عن القوم في العنف والسباب؛ فقال صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين عن الفاطميين: «إن المعروف عنهم أنهم بنو عبيد، وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي، وقيل: كان والد عبيد هذا يهوديًّا من أهل سلمية من بلاد الشام، وكان حدَّادًا، وعبيد هذا كان اسمه سعيدًا، فلما دخل المغرب تسمَّى بعبيد الله وزعم أنه علوي فاطمي، ثم ترقَّتْ به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام متظاهرًا بالتشيع متسترًا به حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود ليبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم، ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسرُّوه، والدعاة منبثون لهم في البلاد، وبقى هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها، وفي أيامهم كثرت الرافضة وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام، وأخذت الإفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن منَّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل صلاح الدين فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة.»
ومن اعتدل من المؤرخين في الإنكار والسباب، كابن خلكان، أيد التهمة بالقصص التي تؤكدها لو أنها ثبتت؛ كالقصة التي اشتهرت عن سيف المعز وذهبه، وأن ابن طباطبا سأل المعز عند وصوله عن نسبه فسلَّ سيفه، فقال: «هذا نسبي» ثم نثر عليهم الذهب وقال: «وهذا حسبي» وقنع منه الحاضرون بما سمعوه وشهدوه.
وظاهر بغير عناء أن الوثيقة العباسية لا قيمة لها من الوجهة التاريخية؛ لأن الذين وقَّعوها من الأشراف العارفين بالأنساب قد أُكرِهوا على توقيعها، ومن وقَّعها غيرهم من فقهاء القصر والحاشية لم يكن أحد منهم حجة في مسائل النسب والتاريخ، وقد أضعفوا دعواهم غاية الضعف بنسبة جد الفاطميين إلى ديصان الثنوي، وهو من أبناء القرن الثالث للميلاد، ذهب إلى التوفيق بين المسيحية والزرادشتية قبل البعثة الإسلامية بنحو أربعة قرون، ولم يظهر أحد بهذا الاسم على عهد العباسيين غير من يسميه المؤرخون حينًا بديدان وحينًا بزندان أو دندان ولا شأن له بنشأة الثنوية ولا بالدعوة إليها في قول أحد من أولئك المؤرخين، وإنما قيل عنه: إنه كان على ثروة كبيرة وعاون إسحاق بن إبراهيم بن مصعب على الثورة في عهد الخليفة المأمون.
ولعله لا يخفى على أحد من النظرة الأولى قصة التبشيع والتشنيع في نسبة الفاطميين تارة إلى المجوس وتارة إلى اليهود، فكأنه لا يكفي أن تسقط دعواهم في الخلافة حتى تسقط دعواهم في الإسلام وترجع نسبتهم إلى أبعد الملل عن الديانة الإسلامية في عرف ذلك العصر على الخصوص، ثم يقال عنهم ما لا يقال في جميع المجوس واليهود من استباحة المحرمات والتهافت على الشهوات.
والقصة التي رويت عن سيف المعز وذهبه غنية عن التكذيب؛ لأن ابن طباطبا الذي قيل: إنه سأل المعز عن نسبه عند وصوله إلى مصر قد توفى قبل قدوم المعز إليها بأربع عشرة سنة، وابن خلكان صاحب القصة هو الذي ذكر تاريخ وفاته فلم يكذِّب القصة بل قال: لعله أمير آخر. مع أن اسم «المعز» هو الذي دار عليه مثل السيف والذهب المشهور، وليس من المعقول بأية حال أن يقيم الفاطميون دعواهم على النسب ثم يعجزون عن ذكر هذا النسب حين يُسألون عنه، فكل جواب أيسر وأنفع من الجواب الذي وضعوه على لسان المعز لدين الله، ولا معنى له إلا الاعتراف الصريح بأنه مدخول النسب دَعِيٌّ في الخلافة.
وقد روى ابن خلكان أيضًا أن العزيز بالله صعد المنبر فوجد فيه ورقة كتبت عليها هذه الأبيات:
فإن صحت هذه الرواية فالتحدي فيها بإظهار النسب قبل الأب الرابع صادر من خبير بموضع الخلاف؛ لأن تاريخ النسب قبل الأب الرابع يوافق التاريخ الذي عمد فيه الأئمة العلويون إلى الاختفاء والتنكر بأسماء غير أسمائهم، وائتمان الدعاة دون غيرهم من أسرار ذريتهم وأولياء عهودهم، وإنما العجيب في الأمر أن يكون العزيز بالله هو الذي يتحداه المتحدي بإظهار نسب كنسب «الطائع» العباسي، مع أن الطائع نفسه قد علم بكتابة وزيره عضد الدولة إلى العزيز وحمله الهدايا إليه واعترافه بنسبه، وإنه تلقى منه الشكر «لإخلاصه في ولاء أمير المؤمنين ومودته ومعرفته نحو إمامته ومحبته لآبائه الطاهرين.»
وقد تواتر أن عضد الدولة هَمَّ بالخطبة في بغداد للخلفاء الفاطميين فرده أحد الدهاة من أصحابه عن هذا العزم، وقال له: «إنك مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلِّين دمه، ولكنك إذا أقمت علويًّا في الخلافة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لاستحلوا دمك وقتلوك.»
وقد أشار صاحب «الروضتين في أخبار الدولتين» إلى قيام الدولة الأيوبية بعد الدولة الفاطمية، ولكنه يعلم أن صلاح الدين الأيوبي أذن بالخطبة في يوم الجمعة للخليفة الفاطمي، وأنه إنما حوَّل الخطبة إلى الخليفة العباسي بعد وفاة العاضد آخر خلفاء الفاطميين، وأنه أطاع في ذلك أمر رئيسه نور الدين بن زنكي، ولم يكن لصحة النسب أو بطلانه شأن في هذا التغيير، ومرجعه الأهم إلى الخلاف بين مذهب الشيعة ومذهب أهل السنة؛ إذ كان الأيوبيون سنيين يشتدون في اتباع مذهب أهل السنة، وزادهم فيه شدة ما كان بين الكرد والديلم من النفور والنزاع، وكان الديلم شيعيين والكرد سنيين، وقد تفاقم النزاع بين رؤسائهم حتى سرى إلى الألقاب، فكان بنو بُوَيْهِ من الديلم يتلقبون بألقاب معز الدولة وركن الدولة وعضد الدولة، وكان الأيوبيون من الكرد يتلقبون بألقاب نجم الدين وعماد الدين وصلاح الدين.
ومما يلاحظ أن بعض المؤرخين يحيلون على البعد في كتابتهم عن الدعوة الفاطمية ودعاتها كلما خلطوا بين هذه الدعوة والدعوة الباطنية؛ فأبو المعالي الفارسي يقول في كتابه «بيان الأديان»: إن ميمونًا القداح من مصر. وجملة المؤرخين يقولون عنه: إنه من فارس. وكل منهم يحيل إلى المكان البعيد حيث يتعذر عليه تحقيق الرواية بالسند الصادق في مكان قريب.
وصح من أجل هذا قول ابن خلدون: إن شهادة الشاهدين بالطعن في نسب القوم كانت على السماع، وأصاب المقريزي حين قال عن العلويين: «إنهم على غاية من وفور العدد وجلال القدر عند الشيعة، فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم والدعاء لابن مجوسي أو لابن يهودي؟ هذا ما لا يفعله مخلوق ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف.»
والمقريزي وابن خلدون قد أرخا للمهدي الفاطمي بعد عهده بزمن طويل — وهما سنيان غير متشيعين — ولكنهما نظرا في مطاعن أعدائه نظرة المؤرخ المحقق فلم يجدا فيها حُجة مقبولة، وقامت عندهما حجة النسب الصحيح مقام التغليب والترجيح، وقد عاصر المهدي مؤرخ أندلسي — هو عريب بن سعد — وكان ممن يوالون الأمويين، فلم يقدح في نسب الرجل ولم يسمع من أمراء أمية في الأندلس قدحًا فيه.
وغاية ما ننتهي إليه في هذه المسألة — مسألة النسب الفاطمي — أن المطاعن لم تمسسه بدليل واحد يُعوَّل عليه، وأن مطاردة عبيد الله عند اتجاهه إلى المغرب دليل على أن العباسيين أنفسهم كانوا يخشون دعوته، وأن مبايعة الشيعة لأبنائه — سواء شيعة الديلم في بغداد أو شيعة الزيديين خاصة في اليمن — ترجِّح صدق انتسابهم إلى السيدة فاطمة الزهراء إن لم تؤكد كلَّ التوكيد، وقد كانت دعوى المنكرين عليهم كما قدمنا في صدر هذا الفصل أضعف الدعوات؛ لأنها الدعوى المنتظرة التي تمليها البواعث المتعددة، فلا يتخيل أحد أن يتصدى الفاطميون لطلب الخلافة بحق ذلك النسب ثم لا يتعرضوا لإنكاره عليهم ما وسع المنكرين أن ينكروه.