البَاطنيَّة الفَاطِميَّة
وكانت للفاطميين على هذا باطنية فاطمية أو إسماعيلية، إلى جانب هذه الباطنية الواقعية.
لم يقم الدليل على انتماء الباطنية الفاطمية أو الإسماعيلية إلى داعية من المجوس أو اليهود دبرها تدبيرًا ولفقها تلفيقًا لهدم الإسلام خاصة وهدم الديانات عامة، وتلقين «الواصلين» دروس الكفر والتعطيل وإنكار البعث والحساب واستباحة المحرمات والمنكرات، كراهة للعرب ودولتهم، وانتقامًا منهم بالدسيسة وقد عجزوا عن الانتقام منهم بالقهر والعدوان.
فالتهمة ضعيفة؛ لأنها جاءت من مغرضين غرضهم معروف، وهي ضعيفة بعد هذا؛ لأنها مضطربة متناقضة لا تثبت على زعم واحد ولا تستقيم على وجهة واحدة، فأصل الدعوة تارة من المجوس وتارة من اليهود، ومرة يرجع أصلها إلى ديصان الذي ظهر قبل الإسلام، ومرة أخرى يرجع إلى ابن القداح الذي يتبين من شعره أنه مسلم وأنه شك في الإمام جعفر بعد أن لاذ به وتتلمذ عليه؛ لأن أئمة الشيعة يُقتلون وينهزمون.
وفي التهمة من الضعف فوق هذا وذاك أنها تجري جري المألوف من طبائع النفوس، فإن الرجل الذي يكفر بالدين عامة لا تملكه الحماسة لهدم دين، ولا تبلغ منه هذه الحماسة أن يصبر للجهاد الطويل ويستهين بالخطر على الروح والراحة وهو يحارب السلطان ويحارب إجماع الناس من حوله على اختلاف النحَل والأديان.
ومن المشكوك فيه بعد هذا جميعه أن ينهدم الدين إذا كفر به في كل عصر طائفة من «الواصلين» معدودين على الأصابع يستبيحون المحرمات في الخفاء على انفراد أو بين زمرة من الأصحاب والنظراء، فما خلا عصر قط من أمثال هؤلاء بغير دعوة من داع وبغير سعي أو سعاية من ساع، ولم يزل الشك يتسرب إلى آحاد من الحائرين والمترددين يحفظون شكهم لأنفسهم أو يطلعون عليه أمثالهم وذوي خاصتهم؛ ثم يذهبون والدين باق لم ينهدم بين العلية ولا بين السواد.
وربما تشيع للفاطميين أناس خبطوا في العقائد خبط عشواء وجهروا بمذهب من مذاهب الفلسفة أو التصوف ينكره الإسلام الصحيح، ولكن التشيع من هذا القبيل قديم لم ينقطع قط من عهد الإمام عليه السلام إلى عهدنا الذي نحن فيه، ولم يكن هذا التشيع الممقوت حجة على الإمام علي ولا على أحد من بنيه الأبرار الذين سمعوا به فأنكروه أو سكتوا عنه ولم يرتضوه.
ففي حياة الإمام عليٍّ كان عبد الله بن سبأ وأصحابه يؤلهون عليًّا ويؤمنون بحياته بعد مقتله، ويقولون برجعة النبي وينشرون مذهب الحلول وتناسخ الأرواح. وبعد مقتل الإمام نشط أصحاب النحلة الكيسانية وأعادوا مثل هذا القول في حياة «محمد ابن الحنفية». وقيل عن المختار الثقفي داعية القوم: أنه ادعى النبوة ونظم له قرآنًا يعارض به القرآن الكريم ويفرضه على صحبه في الصلوات. ومكان الإمام وابنه محمد في الإسلام أرفع من أن يتطاول إليه من أجل هذا عدو يلجُّ في عدوانه فضلًا عن الولي والصديق. وقد بقى المرجئون والقائلون بالرجعة والحلول يتمادون في ضلالتهم بعد أن برئ منهم الإمام علي وعاقبهم بالحريق، وبعد أن كذبهم ابنه وأعرض عنهم وأقام في الحجاز وتركهم بالعراق يلجون في الادعاء له والادعاء عليه.
ولم يخل عصر الإمام جعفر الصادق — أبي إسماعيل رأس الإسماعيلين — من داعية يفتري على الأئمة العلويين، وهم أحياء، كما فعل أبو الخطاب الأسدي الذي كان يقول بتشخيص الجنة والنار، وزعم في مبدأ أمره أن أولاد الحسن والحسين أنبياء الله، ثم زعم أنهم أرباب وأن الإمام جعفرًا إله يُعبد فلعنه جعفر الصادق وبرئ منه ونفاه. قال أبو منصور البغدادي صاحب كتاب الفَرق بين الفِرق «فادعى بعد ذلك في نفسه أنه الإله، قال أتباعه: إن جعفرًا الإله. غير أن أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي وجوزوا شهادة الزور على مخالفيهم».
وكان غيرهم كذلك يجوزون شهادة الزور على المخالفين، ومن شهادة الزور ما نحلوه لأصحاب المذاهب من الشيعيين والسنيين.
وقد دعا القرامطة للفاطميين كما دعا عبد الله بن سبأ للإمام عليٍّ وكما دعا المختار لابنه محمد ابن الحنفية، فأنكرهم الخليفة الفاطمي حين خرجوا على الدين وأغاروا على الحجاز واعتدوا على الحجاج، وكتب الخليفة القائم وهو بالمغرب إلى داعية القرامطة يقول له: «العجب من كتبك إلينا ممتنًّا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم إراقة الدماء فيها وإهانة أهلها، ثم تعديت ذلك وقلعت الحجر الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك ورجوت أن نشكرك، فلعنك الله ثم لعنك، والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده!»
وعلى خلاف دعوى الربوبية كان المعز هذا — وهو أعلمهم بالتنجيم — يقول كما روى عنه القاضي النعمان في كتاب «المجالس والمسايرات»: «من نظر في النجامة ليعلم عدل السنين والحساب ومواقيت الليل والنهار وليعتبر بذلك عظيم قدرة الله جل ذكره، وما في ذلك من الدلائل على توحيده لا شريك له فقد أحسن وأصاب، ومن تعاطى بذلك علم غيب الله والقضاء بما يكون فقد أساء وأخطأ.»
وكان العزيز كالمعز في هذا المعتقَد كما قال أخوه تميم في إحدى قصائده:
وقد خولط خليفة من خلفاء الفاطميين في عقله — وهو الحاكم بأمر الله — فلم يثبت من تصرفه أنه تلقن من آبائه وأسلافه مذهب الإباحة وادعاء الربوبية، وأنه وريث قوم من اليهود أو المجوس مندسين على الإسلام ليفسدوه وينقضوه، بل ظهر أنه يحرم المباح ويطارد اليهود تارة ويغضي عنهم تارة أخرى على كراهية ونفور، وأنه كان يمنع تقبيل الأرض بين يديه ولا يرضى أن تلثم يداه وركابه، وأمر ألا يزيد الناس في السلام حين يدخلون إليه على قولهم: «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
ولم يثبت مع هذا كل ما قيل عن أوامر الحاكم وزواجره وكل ما شاع عن نقائضه وبداوته، فإن التشنيع بالمضحكات والمبالغات مألوف في القاهرة لذلك العهد وما تلاه.
وقد وضع كتاب عن «قره قوش» صوره للناس في صورة الطاغية الذي لا يبالي ما يأمر به من المستحيلات والغرائب، وغفل الكثيرون عن موضع الفكاهة من تلفيقات الرواة، فحسبوها كلها جدًّا لا مرية فيه، وتناقلوها وأضافوا إليها، ولم يزالوا يرددونها على هذا الفهم الخاطئ إلى زمن قريب، وقد كان «قره قوش» على خلاف ما صوَّرته الروايات عنه مثلًا في الحزم وأصالة الرأي وحسن التدبير.
وعند ابن خلدون أن الاختلاق ظاهر فيما ادعوه على الحاكم من الدعاوى الدينية، وأنه كان مضطربًا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة، وأما ما يروى عنه من الكفر فغير صحيح ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته، وأما مذهبه في الرافضة فمعروف، ولقد كان مضطربًا فيه، ومع ذلك فكان يأذن لأهل السنة من المصريين في صلاة التراويح ثم ينهي عنها.
على أن الأقاويل عن الحاكم — صحَّت أو لم تصح — إنما تروى عنه ويعلم رواتها أنهم يتكلمون عن رجل مخالط في علقه لا يعول له على سر أو علانية.
ونحب هنا أن نوضح ما نستبعد نسبته إلى الدعوة الفاطمية في صميمها على حسب ما انتهينا إليه من الشواهد النفسية والتاريخية.
فنحن لا نستبعد أن يكون من الدعاة الفاطميين أناس قد استخرجوا لأنفسهم من دراساتهم في التصوف أو الفلسفة أو التنجيم مذهبًا ينكره علماء الدين من السنيين والشيعيين.
ولا نستبعد أن يكون منهم أناس خدموا القضية الفاطمية كلها خدمة لأنفسهم، ولصقوا بها كما يلصق طلاب المنافع والنهازون للفرص بكل دعوة كبيرة تتسع لخدمة المنافع الخاصة مع خدمة المنافع العامة.
ولا نستبعد أن يعاب على الدولة الفاطمية ما يعاب على الدول في دور التأسيس أو في دور الانحلال.
ليس شيء من ذلك بعيدًا ولا موجبًا لاستبعاده نظرًا إلى أحكام العقل أو شواهد التاريخ.
ولكن الذي نستبعده ونرى أنه مناقض للواقع وللمألوف من الدواعي النفسية أن يكون هناك تواطؤ مبيت بين الناس من المعطلين على إنشاء دولة لهدم الدين الإسلامي والدولة الإسلامية معه، وأن يشمل هذا التواطؤ أقوامًا في المغرب والمشرق ويدوم من قرن إلى قرن قبل نجاح الدعوة وبعد نجاحها بزمن طويل.
هذا هو البعيد عقلًا والبعيد في دعوى المدعين الذين لم يسندوه قط بدليل يقرب إلى العقل ذلك الزعيم البعيد.
أما ما عدا ذلك من شؤون الدعوة الفاطمية، أو شؤون الدعوة العلوية في جملتها فقد سار في التاريخ مطردًا على النهج الذي ينبغي أن يسير عليه.
إن الإيمان بالإمامة واطلاع الإمام على الأسرار التي تخفى على غيره أمر لازم من لوازم الدعوة العلوية في نشأتها التاريخية.
فإن المؤمن بحق علي وأبنائه في الإمامة يسأل نفسه: لِمَ لا ينصره الله على أدعياء الإمامة والخلافة؟
إنه يؤمن بالله وقدرته وقدره، فلا جواب لذلك السؤال عنده إلا أنها حكمة يعلمها الله، وأن الإمامة العلوية منذورة لزمان غير هذا الزمان، وأن الإمام الحق يعلم زمانه أو ينبغي أن يعلمه بإلهام من الله.
وقد آمن شيعة علي بهذا وآمنوا معه بعرفانه لعلوم الجفر وتأويل الكتاب، وكلما تباعدت المسافة بين إمامة الواقع وإمامة الحق تباعدت معها المسافة بين إمامة الظاهر وإمامة الباطن. ثم جاء الزمان الذي أصبحت فيه إمامة الباطن مستورة حتمًا، فأصبح فيه علم الدين والدنيا مرهونًا بما يتعلمه الطالب من الإمام المستور ومن دعاته الذين يخلصون إليه ويعلمون مكانه ويفسرون أقواله وإشاراته، ولا بد من هؤلاء الدعاة ولا مناص من هذا التعليم.
وإذا كان السلطان صاحب الجند والصولة يعتمد في قيام دولته على الشريعة والقضاء وعلى السيف والشرطة، فعلامَ يعتمد الإمام المستور الذي لا سلطان له من شرطة ولا جند ولا قضاء؟
إنه لن يعتمد على شيء غير الطاعة والثقة التي لا تتزعزع، فلا جرم يطيعه المطيع وهو يؤمن بعصمته على الأقل في شئون إمامته، ويؤمن بهلاك روحه إن خرج على حكم الطاعة وخان أمانة الدنيا والآخرة، ونقض العهود وحنث باليمين.
كل هذا بديه ولا حاجة به إلى رصف أوراق أو رص أسانيد؛ لأنه لن يكون إلا هكذا حيثما كان، وقد كان.
ولا ننسى أن الأئمة أنفسهم يؤمنون بما يؤمن به أتباعهم ومريدوهم: يؤمنون بحقهم ويؤمنون بيومهم الموعود ويؤمنون بالسرِّ الذي يروِّضون أنفسهم بالعبادة والعلم على أن يستلهموه من هداية الله.
ومن التوفيقات التي نسميها بتوفيقات «الموقف» أن الباطنية الواقعية والباطنية الفاطمية أو الإمامية على الجملة تتلاقى هنا — بحكم الموقف الواحد — في كثير من الأمور.
فالدراسات المستورة أو المكتومة تتلاقى في جانب واحد. وإن كانت متعددة المطالب والموضوعات.
وقد كان المحافظون على الواقع الراهن ينكرون هذه الدراسات ويمنعونها على درجات من المنع تتفاوت في العنف والصرامة.
فكان «الموقف الواحد يجمع بين أصحاب الدراسات المستورة أو الممنوعة التي لا يرتاح إليها أنصار الواقع والمحافظة على القديم».
وليس من مجرد المصادفة أن فلاسفة المشرق كانوا من الشيعة بتفكيرهم كما كان منهم أناس متشيعون بنشأتهم وميراثهم من بيوتهم. فكان الكِندي والفارابي وابن سينا من الشيعة، وكان إخوان الصفاء كذلك من الشيعة. ومن كان من الفلاسفة سنيًّا كالفخر الرازي فمذهبه الفلسفي في صفات الله يوافق مذهب الإسماعيليين وأئمة الفاطميين؛ إذ كان يرى أن الإيمان بتعدد الصفات واستقلال كل صفة منها عن الأخرى تعديد لا يوافق التوحيد.
والذي نستخلصه من المذهب الفاطمي أن فلاسفتهم أخذوا بمذهب الفيض الإلهي الذي تعلمه المشرقيون باسم الحكيم أفلاطون، وهو ينتمي في حقيقته إلى الحكيم أفلوطين.
نستخلص هذا من قول ابن سينا أن أباه كان يذهب في الكلام عن العقل والنفس مذهب الإسماعيلية.
ونستخلصه من رسائل إخوان الصفا وهم من القائلين بمذهب الفيض الذي كان يقول به أفلوطين.
بل نستخلصه من خلط الخالطين في هذا المذهب؛ لأنه هو المذهب الذي يتعرض لهذا الخلط في كل مكان، وقد تعرض له في الشرق كما تعرض له بين الأوربيين في القرون الوسطى، ولا يزال يتعرض له في العصر الحديث.
وعلى نقيض ما قيل عن الإباحة في مذهب الإسماعيليين، يمتاز مذهب الفيض الإلهي بالمبالغة في التطهر والإعراض عن الشهوات والترفع عن غواية الدنيا التي يتهالك عليها الجهلاء، والجاهل عندهم هو من يتعلق بشيء من الأشياء غير معرفة الحقيقة الإلهية والبحث عنها في كل ظاهرة من ظواهر هذا الوجود.
وقد نبه إخوان الصفاء في غير موضع من رسائلهم إلى وجوب التطهر على الحكيم الخالص للحكمة في حياته الخاصة والعامة، وقالوا غير مرة: إن الاستسلام لشهوات البدن يقطع الإنسان عن آخرته ومعاده، ومن ذلك قولهم في رسالة الجسمانيات والطبيعيات: «اعلم أن الاستغراق في الشهوات في هذه الدنيا ينسي الإنسان أمر الآخرة ويشككه وييئسه منها، كما قال قائلهم في هذا المعنى:
وقيل أيضًا في هذا المعنى شعرًا:
وقال آخر وقد كان ساهيًا عن أمر الآخرة:
وأشعارهم كثيرة في مثل هذه الظنون والشكوك والحيرة التي وقعوا فيها عقوبة لهم عندما تركوا وصية ربهم ونصيحة أنبيائهم واتباع علمائهم والحكماء فيما يدعونهم إليه ويرغبون فيه من نعيم الآخرة، ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا وينهونهم عنه من الغرور بشهواتهم وعاجل حلاوتها.»
ومنذ القدم عرف عن هذا المذهب الفلسفي أنه مذهب نسك وعفة وعزوف عن الماديات وترفُّع إلى عالم الروح، وكان أفلوطين صاحبه قدوة لأبناء عصره في العفة والزهد والانقطاع عن شواغل الثروة والجاه، وكان من تلاميذه من يبيع قصوره ونفائسه ليلازمه في معهده ويعيش على مثاله.
إنه يتجاوز — أرسطو — أشواطًا بعيدة في التنزيه والتجريد، فيرى أن الله — أو الأحد — من وراء الوجود ومن وراء الصفات، لا يُعرف ولا يوصف، ولا يوجد في مكان ولا يخلو منه مكان، وكماله هو الكمال الذي نفهمه بعض الفهم بنفي النقص عنه، وهيهات أن نفهمه بإثبات صفة من الصفات؛ لأننا نستطيع أن نقول: إنه لا يكون هكذا ولا نستطيع أن نقول: إنه هكذا يكون.
وقد يتصل به الإنسان في حالة الكشف والتجلي حين تتجاوز الروح جسدها كما يقول، ولكنها حالة لا تقبل التأمل والتفكير، فإذا انقضت فقد يثوب الإنسان بعدها إلى عقله فيتأمل ويفكر وينحدر بذلك من مقام الأحد إلى مقام العقل الذي هو دونه، لأن الأحد فوق العقل وفوق المعقول. ويقول أفلوطين كما يقول أرسطو: إن الله أو «الأحد» لا يشغل بغير ذاته؛ لأنه مستغن بذاته كل الاستغناء. أما العالم فقد نشأ من صدور العقل عن الأحد وصدور النفس عن العقل من هذا التأمل، وإن العقل يعقل الأحد فهو أحد مثله، وإن كان دونه في مرتبة الوجدانية، ثم يعقل ذاته فينشأ من عقله لذاته عقل دونه وهو النفس أو هو القوة الخالقة التي أبدعت هذه المحسوسات.
ومن البديه أن صدور الجسم من الجسم يُنقصه ويخرج شيئًا منه ينتقل من المعطي إلى الآخذ فينقص بانتقاله، أما صدور الفكرة من العقل فلا تنقصه ولا تجرده من شيء فيه، ومن هذا المثال نفهم صدور العقل عن الأحد الذي لا يعتريه نقص بحال من الأحوال.
والنفس — وهي المرتبة الثالثة في الوجود عند أفلوطين — تتجه إلى العقل فتنجسم معه في مقام التجريد والتنزيه، وتتجه إلى الهيولي فتبتعد عن التجريد والتنزيه، ولهذا تخلق الأجسام وتضفى عليها الصور على سبيل التذكر لما كانت تتأمله وهي في عالم القدرة الكاملة أو عالم الصور المجردة، فهذه المحسوسات هي كالظلال للمعقولات قبل أن تبرزها النفس في عالم المحسوسات، أو هي كأطياف الحالم وهو يستعيد بالرؤيا ما كان يبصره بالعيان.
فالمحسوسات كلها أوهام وأحلام، وكلها غشاء باطل يزداد بعدًا من الحقيقة كلما ابتعد من العقل وانحدر في اتصاله بالهيولي طبقة دون طبقة، فإن العقل دون الأحد، والنفس دون العقل، والمحسوسات دون النفس، وهكذا تهبط الموجودات طبقة بعد طبقة حتى تنحدر إلى الهيولي التي لا نفس معها، وهي معدن الشر في العالم؛ لأنها سلب محض يحتاج أبدًا إلى الخلق، وهو الإيجاد أو الإيجاب.
وقد صدرت النفس الفردية من النفس الكلية، ولها كالنفس الكلية التي صدرت منها اتجاهات. فهي باتجاهها إلى النفس الكلية إلهية صافية، وباتجاهها إلى المحسوسات والأجساد حيوانية شهوية. وليست النفس عند أفلوطين ملازمة للجسد كما يقول أرسطو، بل هي جوهر منفصل عنه سابق له كالمثل الأفلاطونية، فلا تقبل الفناء ولا يحصرها الزمان والمكان. وهي تصدر من النفس الكلية اضطرارًا كما صدرت النفس الكلية من العقل الأول، مستجيبة لطبيعة الإصدار في ذلك العقل، وللشوق الهيولاني الذي يترفع بالهيولي إلى منزلة المحسوسات فالمعقولات.
والشر في العالم هو الهيولي؛ لأنها سالبة تنزل بالمعقولات والروحيات التي لا تلابسها، ولا محيد عن الشر مع وجود الهيولي وقدمها وضرورة الملابسة بينها وبين العقل والنفس في دور من أدوارها. وعلى النفس أن تجاهدها وتنتصر عليها وعلى شهواتها، فإن أفلحت عادت إلى النفس الكلية خالصة مخلصة، وإن لم تفلح عادت إلى الجسد مرة أخرى ولقيت في كل مرة جزاءها على الذنوب التي اقترفتها في حياتها الجسدية الماضية.
ولا حرية للإنسان كما رأيت؛ لأن وجوده ضرورة يستلزمها الصدور وملابسة الهيولي، ولكنه يقاوم تلك الضرورة بجهاد الشهوات، فيترقى من مرتبة الحس إلى مرتبة التأمل إلى مرتبة الكشف، وينتقل من شتات الحس إلى استجماع العقل إلى وحدة الأحد ورضوان الكمال، فتجزيه ضرورة الارتقاء عن ضرورة الانحدار، ولا محل بينها لشيء من الاختيار، وإن قال به أفلوطين في بعض الأحيان.
هذه خلاصة وجيزة جدًّا لأصول مذهب الفيض كما شرحه تلاميذ أفلوطين، نعتمد فيها على المراجع الأوروبية الحديثة التي نقلت مباشرة من اليونانية. وقد نقل هذا المذهب مجملًا في بعض الأوقات ومفصلًا في أوقات أخرى إلى اللغة العربية، ووقع في نقله خطأ إسناد وخطأ تفسير. فنسب الناقلون فصولًا منه إلى أفلاطون ونسبوا مبادئ منه إلى أرسطو، ولكن المتصوفة الإسلاميين وفلاسفة الإسلام في المشرق قبلوا منه ما يوافق الدين الإسلامي، وهو تنزيه الأحد وعقيدة التجلي على الخلصاء من العبَّاد والمتأملين، ورفضوا منه على التخصيص قوله بتناسخ الأرواح وعقوبة الأنفس في هذه الدنيا بردها إلى الأجساد التي تشقى فيها، أو مكافأتها بردها إلى الأجساد التى تترقى فيها إلى مرتبة فوق مرتبتها.
ووجد الفلاسفة والمتصوفة معًا ما يوافقهم في أقوال أفلوطين، فقال بالكشف وقدرة النفس على الخوارق طائفة من المفكرين لا يحسبون بين أهل الطريق ولا يدعون لأنفسهم صفة الإمامة الدينية، وإنما قالوا بالكشف والقدرة على الخوارق أخذًا بالأقيسة الفكرية، واستدل ابن سينا على إمكان الكشف بأن النفس الصالحة تتلقى في الرؤيا الأنباء بالمغيبات عنها وعن غيرها، فلا مانع من تلقيها العلم يقظة متى تهيأت له بالرياضة وصفاء السريرة، وإن نفس الإنسان تتصرف في مادة الجسد فلا مانع أن تتصرف في مادة الكون بقدرة تستمدها من علة العلل التي تتصرف في جميع الأشياء.
وطائفة من أصحاب المآرب وجدوا في تناسخ الأرواح ما يعينهم على دعواهم، ومنهم من كان يدعي انه ابن الإمام علي بالتسلسل الروحاني مع اعترافه بأنه من غير نسله في السلالة الجسدية، زاعمًا أن النبوة تحصل بالانتماء إلى الروح كما تحصل بالانتماء إلى الجسد، ولم يكن في هؤلاء أحد من الفاطميين ولا كانت بهم حاجة إلى هذه الدعوى؛ لأنهم يصححون نسبهم جميعًا إلى الإمام عليٍّ بغير وسيلة هذا التناسخ المزعوم.
ولا شك أن العلامة الشهرستاني كان يلخص طرفًا من مذهب أفلوطين كما وصل إلى المشرق حين قال في تلخيصه لكلام الباطنية عن الصفات: «إن الله لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة. وأنه أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الذي هو غير تام. ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النفس إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة إلخ إلخ.»
فهذا المذهب في الصفات الإلهية يوافق مذهب أفلوطين في جملته، وفحواه بلا إغراب ولا إبهام. إننا حين نصف الله بالعلم لا ندرك من كنه العلم إلا ما يعطينا إياه، وإننا حين نصف الله بالقدرة لا ندرك من كنه القدرة إلا ما نقدر عليه بأمر الله، وهكذا في سائر الصفات مما لا يجوز أن يفهم منه أنه إنكار لعلم الله وقدرته؛ إذ كان أصحاب الفيض الإلهي ينكرون نقائض الكمال ويرتفعون بالكمال الإلهي مرتفَعًا تعجز عن إدراكه العقول.
كذلك يخلطون بينه وبين وحدة الوجود وهما مذهبان متناقضان. فإن القائلين بوحدة الوجود يسبغون الصفة الإلهية على الموجودات جميعًا، وهو قول ينفيه أفلوطين جد النفي؛ تنزيهًا لله «الأحد» عن جميع المحسوسات والمتعددات.
ويسمع السامع أن حكمة الخلق تتجلى في أناس بعد أناس فيخيل إليه أن اللاحق أفضل من السابق أو أن قيام مشيئة الله في كل عصر رسالة كرسالة الأنبياء.
هذا الخلط في فهم المذهب قد جنى على الحقيقة في غير طائل، وجر إلى الخبط في الظنون لغير علة لولا الحماقة وخفة العقل وحب الحذلقة والادعاء.
لم يكن يريد أن يقول: إن المعز أقدر من الله وإلا لما قال بعد ذلك:
وإنما أراد أن يتحذلق بما سمع عن صفات القدرة والعلم، وأن الله يوصف بالقدرة؛ لأنه يعطيها، وأن مشيئته سبحانه وتعالى تقوم بمن يندبه لإمضاء تلك المشيئة، فخلط وخبط، واتهمه الناس ولهم العذر فيما اتهموه به، ولم تكن به ولا بممدوحه حاجة إليه.
إلا أننا إذا صرفنا النظر عن هذا وأشباهه من ضروب الحذلقة والمبالغة في الشعر خاصة لم نجد في كلام القوم ما لم يألفه المتصوفة وأبناء الطريق من عبارات المجاز والكناية، وليس فيما روي عن ثقات الفاطميين شيء لم يسمع مثله من إمام كبير كمحيي الدين بن عربي في كتب التأويل أو كتب الترسل الصريح، وقد كتب محيي الدين إلى فخر الدين الرازي رسالة يقول فيها: «للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو ظهر لبطلت الأحكام، فقوام الإيمان واستقامة الشرع يكتم السرية. إلى آخر ما قال عن التوحيد والاتحاد والوحدانية والأحدية. وفوق كل ذي علم عليم.»
وهذا كلام لولا ولع المتصوفة بالإغراب لقال قائله: إن النبوة لازمة؛ لأن الناس لا يكشفون سر الغيب بغيرها، وإن العلم لازم؛ لأن النبوة لا تصل إلى الناس أجمعين، وإن الأحكام لازمة؛ لأن العالم يزجره العلم والجاهل تزجره الأحكام. ولكن الإغراب في أساليب المتصوفة والحذلقة في أساليب من يسمعون ولا يفقهون أو من يفقهون القليل ويحبون أن يظهروا الفقه الكثير — كل أولئك يقود إلى الظنون حيث لا موجب للظنون.
وجملة القول: إن الباطنية الفاطمية لو لم تقترن بالدعوة إلى قيام دولة تحارب الدول القائمة لما استغربها الناس ذلك الاستغراب، ولا اضطربت حولها التهم والأقاويل ذلك المضطرب، فقد كان كل مذهب في ذلك العصر «باطنيًّا» على نحو من الأنحاء، وأوشك أن يتساوى في هذا أهل السنة وأصحاب التصوف وطلاب الفلسفة وإخوان الصفاء ممن يتذاكرون العلم بينهم، ويظهرون منه حينًا بعد حين ما طاب لهم أن يظهروه.
فالإمام الغزالي — وهو من أقطاب أهل السنة ومبغضي الفلسفة — كان يؤلف للعامة غير ما يؤلفه للخاصة. وكان من كتبه ما يضن به على غير أهله، والإمام ابن عربي المتصوف كان يدين بالسرِّية ويرى أنها تمام العلم والمعرفة، وأبو العلاء المعري الشاعر الحكيم كان في رأي داعي الدعاة يخفي ما يعلم عن أناس يلعن بعضهم بعضًا بالكفر والمروق من الدين، وشعارهم جميعًا:
إلا أن يكون مندوبًا لعمل لا حيلة له فيه، أو متجردًا لرسالة يهون فيها عنده أن يقول وأن يقال فيه.
ومن المحقق أن الباطنية الفاطمية إليها أضيف الكثير بعد دخول الحسن بن الصباح الذي سيأتي ذكره في زمرتها، ومن هذا الكثير أنظمة لم تعهدها من قبل، وعقائد لم تكن لازمة لها ولا معقولة منها، وأهم هذه الأنظمة نظام الفدائيين الذين كانوا عدة الرؤساء في حوادث الغيلة والهجوم على المخاطر، فهؤلاء لم يظهر لهم عمل في خدمة الباطنية إلا بعد نشوء الدولة الفاطمية بأكثر من مائة سنة، ولو كان للخلفاء الفاطميين جند من هذا النظام لما استبد بهم الوزراء أحيانًا من غير مذهبهم، ولا من المجاملين لطوائف الإسماعيلية المخلصة لأولئك الخلفاء.
•••
ولا شك أن الحسن بن الصباح لم يعمد إلى نظام الفدائيين إلا بعد استيلائه — كما سيلي — على قلعة «آلموت» واضطراره إلى حماية نفسه من دول حوله تجرد الجيوش لقتاله، وهو في قلعته بغير جيش يقاوم تلك الجيوش الزاحفة عليه بمثل عدتها وعددها في ميادين القتال.
وقد تغيرت الدعوة كلها حين تغير موضوعها وتغيرت وسائلها، وأمعنت في التخفي أو في «الباطنية» الواقعية، حين أمعنت في الهجوم على خصومها وأمعن خصومها في الهجوم عليها.
•••
ولهذا راجت خرافة النسب إلى المجوس واليهود، وهي خرافة تنكرها الحقائق النفسية ولا تؤيدها الشواهد التاريخية، وكل ما ثبتت نسبته إلى أصحاب الباطنية الفاطمية فهو من المسائل التي يختلف عليها طوائف المسلمين من سنين وشيعيين، بل يختلف عليها الشيعيون الإماميون أنفسهم بين القائلين بإمامة موسى والقائلين بإمامة إسماعيل من أبناء جعفر الصادق، وليس وراء ذلك كله دسيسة لهدم الإسلام كله وتضليل المسلمين أجمعين.
•••
ومحصل القول في المذهب الإسماعيلي من الوجهة الفلسفية أنه هو مذهب الفيض الإلهي كما اعتقده المتصوفة المسلمون من أصحاب الدعوات السياسية وغير أصحاب الدعوات السياسية، يضاف إليه القول بعصمة الإمام وأنه وحده القادر على التأويل الصحيح والإحاطة ببواطن التنزيل، وينبغي أن نذكر هنا أن القول بالعصمة الواجبة لكل إمام كان مذهبًا من مذاهب الفلسفة في حكومة المدينة الفاضلة، فإن الفيلسوف الفارابي الذي كان يلقب بالمعلم الثاني قد طلب لإمام المدينة الفاضلة كمال العقل والعلم والخيال والذوق والخلق والخلقة، ولعله لهذا كان قريبًا من الشيعة محبًّا للمتشيعين.
وقد كان القول بعصمة الأئمة لا يوجب على المؤمنين به سب كل خليفة غير الإمام علي وأبنائه الأكرمين، ولكن سب الخلفاء جرى على ألسنة طائفة من غلاة الفاطميين وغير الفاطميين، فاستنكره عقلاؤهم وحكماؤهم، واستنكره أدبًا من لا ينكره اعتقادًا ولا يرى الخلافة لأحد غير الإمام علي وبنيه، ولا عذر من المسبة الباطلة على كل حال، ولكن الخلاف القبيح الذي أطلق الألسنة بلعن عليٍّ على المنابر ستين أو سبعين سنة، هو الخلاف القبيح الذي أطلق الألسنة بعد ذلك بالجرأة على أقدار الأئمة الآخرين رضوان الله عليهم أجمعين.