حسن بن الصَبَّاح
أشرنا في الفصل السابق إلى التغير الذي طرأ على نظام الدعوة الإسماعيلية بعد دخول الحسن بن الصباح في زمرتها، وسنرى من جملة الأخبار والأعمال التي رويت عن ابن الصباح أن الرجل من أصحاب تلك الشخصيات التي لا تتصدى لدعوة من الدعوات إلا أضافت إليها شيئًا من عندها وطبعتها بطابعها، وأنه لم يكن من أولئك الذين يتعلقون بدولاب كبير يديرهم إلى وجهته، بل كان من الذين يديرون الدولاب إلى وجهتهم حين يتعلقون به، ولا يدفعهم إلى التعلق به إلا أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا لأنفسهم دولابًا مستقلًّا يتعلق به الآخرون.
واتفقت الأخبار الصادقة والكاذبة التي رويت عن الرجل على صفة واحدة فيه يثبتها الخبر الصحيح والخبر الكاذب على السواء، وهي الجنون بالسيطرة والغلبة، ونتعمد أن نسميها الجنون بالسيطرة ولا نسميها حبًّا للسيطرة ولا رغبة فيها؛ لأنه كان مغلوبًا لدفعه نفسه أو كان أول من غلبته تلك النزعة فمضى معها مسوقًا لها غير قادر على الوقوف بها ولا الراحة معها.
والسيطرة محبوبة لكل إنسان، ولكن الفرق عظيم بين من يهيم بالسيطرة؛ لأنه لا يطيق العيش بغيرها، وبين من يطلبها؛ لأنه يفضلها على عيشة بغير سيطرة أو يفضلها على عيشة الطاعة والإذعان للمسيطرين.
ذلك مضطر إلى طلب السيطرة، وهذا مختار في المفاضلة بين الحصول عليها والاستغناء عنها، وقد يفضل الاستغناء عنها إذا جشمه الطلب فوق ما يطيق.
وكان الرجل داهيًا ولكنه لم يكن من الدهاء بحيث يستر مطامعه ولا يثير المخاوف فيمن حوله.
أو لعله كان داهيًا عظيم الدهاء، ولكن هيامه بالسيطرة واندفاعه إليها كانا أعظم من دهائه. فانكشفت غايته على كره منه وحيل بينه وبين بلوغ تلك الغاية من كل طريق ينافسه فيه المنافسون.
ومما لا ريب فيه أن الرجل لم يكن من الغفلة بحيث يصدق كل خرافة من الخرافات التي كان يذيعها ويتولى نشرها والدعوة إليها، ولكن التواريخ والشواهد لم تحفظ لنا خبرًا واحدًا يدل على أنه كان من السمو الفكري بحيث يسلم من جميع الخرافات ويتبطن ما وراءها من الحقائق، ولا سيما إذا كان التصديق هو طريقه إلى السلطان والغلبة وقهر الخصوم والانتصار على النظراء. فمن مألوف النفوس — أو من مألوف هذه النفوس خاصة — أن تعتقد ما يواتيها على هواها ويعزز إيمانها بمطمعها، كما يفعل المحب الذي يؤذيه الشك ويؤذيه العلم بعيوب محبوبه فيروض طبعه على اليقين وتجميل العيوب؛ لأنها أريح له وأعون له على هواه من عذاب الشكوك وانكشاف العيوب.
وهذه الطبيعة المعهودة في أمثاله دون غيرها هي التي تفسر لنا أعمالًا شتى يبدو فيها خادعًا مخدوعًا في وقت واحد، فهو حصيف لا شك في حصافته، ولكن كيف يقع الحصيف في مثل ذلك السخف الذي لج به حتى يسول له البطش بأقرب الناس إليه ومنهم ولده أو ولداه؟
يقع الحصيف في مثل ذلك السخف، وفيما هو أسخف منه، إذا كان مغلوبًا على أمره مضطرًا إلى تسويغ دفعته بعقيدة تجملها في نظره وتلبسها ثوب الواجب الذي لا محيد عنه ولا هوادة فيه.
•••
أمَّا أن حسن بن الصباح كان مغلوبًا على أمره في طلب السلطان فحياته كلها سلسلة من الشواهد على طبيعة لا تطيق العيش بغير سلطان أو بغير السعي إلى السلطان، فإنه ما اتصل بأحد قط إلا خافه على مكانته وتوجس منه على الرغم من دهائه وفطنته، ولو لم يكن طمعه أقوى من دهائه وفطنته لما تكشف منه دفعه الطمع في كل علاقة وفي كل مكان.
سمع في شبابه عن الشيخ موفق النيسابوري أن تلاميذه جميعًا يرتفعون ببركة تعليمه في مراتب الدولة، وكان ابن الصباح شيعيًا ومدرسة الشيخ الموفق معهد السنة في نيسابور، فلم يمنعه ذلك أن يختارها للتعليم فيها على أمل في الجاه والسلطان.
ومن الذين ذكروه من محبيه رشيد الدين بن فضل الله صاحب «جامع التواريخ». وفي روايته عن صباه يقول: إن سبب العداء بينه وبين الوزير نظام الملك أنه كان يتتلمذ معه في مدرسة نيسابور فتعاهدا على المعونة إذا وصل أحدهما إلى منصب من مناصب الرئاسة، وأن ابن الصباح قد استنجز الوزير وعده فخيَّره بين ولاية الري وولاية أصفهان، وكان ابن الصباح عالي الهمة فلم يقنع بإحدى هاتين الولايتين، فاستبقاه نظام الملك في الديوان عسى أن يترقى فيه إلى مكانة أكبر من مكانة الولاة.
والرواية على هذه الصورة عرضة للنقد والمناقشة، ولكنها على كل حال يصح منها شيء واحد: وهو علم المؤرخين للرجل — من محبيه فضلًا عن مبغضيه — أنه كان بعيد المطامع منذ صباه.
وحدث، وهو في الديوان أنه تصدى لعمل من أعمال نظام الملك فوعد الملك بإنجازه قبل أن ينجزه الوزير، فاحتال هذا على إحباط سعيه وأوصد عليه الباب الذي أراد أن يندفع منه إلى منصبه فوق كتفيه.
وقيل في تعليل سفره إلى مصر للقاء الخليفة الفاطمي: إنه استوعب كل ما تعلمه من الدعاة فاستصغره إلى جانب علمه بأسرار الدعوة، فأراد المزيد من العلم بالشخوص إلى دار الحكمة في القاهرة، لعله يستوفي هناك علوم الإسماعيليين التي غابت عن دعاة العراق.
ومن الواضح أن الشخوص إلى عاصمة الخلافة الفاطمية هو المسعى الذي لا تنصرف عنه همة طامع في مناصب الدولة، فليس له مطمع في بغداد وليس له بين السلجوقيين مقام محمود، ولم يبق له إلا أمل واحد لا منصرف عنه، وهو بلوغ المنصب المرموق في عاصمة الخلافة ومرجع الدعوة والدعاة.
ذلك هو أمير الجيوش بدر الجمالي الذي سبقت الإشارة إليه، وذلك هو الند الذي تحفز ابن الصباح لمصاولته ومداورته بعد وصوله إلى القاهرة، فاختار نزارًا لولاية العهد واحتال جهده أن يحول بين المستعلي وعرش الخلافة، واستمد من أساس المذهب الإسماعيلي كل حجة يدعم بها ترشيح نزار للخلافة بعد أبيه، فزعم أنه مثل بين يدي الخليفة المستنصر، فوكل إليه الخليفة أن يدعو إليه وإلى ولي عهده بين الأمم الإسلامية. قال: فسألته ومن ولي العهد؟ فأشار إلى نزار.
تلك قصة تشبه قصة الولاية التي صارت إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وثبتت له بعد عدول أبيه عن ولايته وإسنادها لأخيه موسى، فإن الإسماعيليين يرفضون تبديل ولاية العهد؛ لأن الولاية بأمر الله، والله يتنزه عن البَدَاء.
فلما أراد الحسن بن الصباح أن يثبت الولاية لنزار أقام لها أساسًا كالأساس الذي قامت عليه الدعوة الإسماعيلية من مبدئها، وروى تلك القصة عن الخليفة المستنصر (والأرجح عند أناس من ثقات المؤرخين أن الخليفة لم يدعه إلى لقائه، بل أنزله منزل الكرامة في دار الضيافة، ثم أبقاه على أمل يتردد بين التقريب والإقصاء)، ولكن ابن الصباح قد طال عليه الانتظار وأحس الخطر من أمير الجيوش فنجا بحياته من مصر، ولما يصدق بالنجاة، وراح بعد الإفلات من الخطر ينشئ له دعوة جديدة في المذهب الإسماعيلي، وهي الدعوة إلى إمامة نزار.
وراح الحسن يطوف في بلاد الشام والعراق وفارس لينشر دعوته الجديدة حيث يأمن الرصد والمطاردة، ويبدو أن حوافز النفس الغلابة كانت في تلك الفترة على أشد ما تكون غلبة عليه، حرجًا بما لقيه وضيقًا بالمطمع الذي ينازعه ولا يعلم المخرج إليه، فقال يومًا لأحد أصدقائه في أصفهان: لو أن معي صديقين أركن إليهما لانتزعت من هؤلاء السلاجقة عرشهم. فظن به صديقه الجنون وأوصى طباخه أن يتخير لضيفه ما لطف من الطعام وطاب غذاؤه، وأدرك الحسن أن صديقه قد خامره الشك في عقله فتركه ومضى لسبيله.
والظاهر من مساعيه وحركته في هذا التطواف أنه كان يبحث عن أستاذه القديم في الدعوة الإسماعيلية عبد الملك بن عطاش، وكان ابن عطاش قد ولاه الوكالة عنه ثم زين له السفر إلى القاهرة، وأطلعه قبل سفره إليها على أسماء بعض الدعاة المستترين الذين يلقاهم في طريقه، ولكنه لم يعرف من أستاذه مكامن الأموال المدخرة لبث الدعوة ولا عرف بطبيعة الحال كلمة السر التي تمكنه من أخذها وتكون علامة له عند المؤتمنين عليها، فما زال الحسن يتعقب ابن عطاش حتى ظفر بلقائه ووثق من اطمئنانه إليه، ولعله استطلعه أسرار الودائع المخبوءة فأطلعه عليها.
•••
من هذه الأعاجيب أن الحسن بن الصباح عرف سر الحشيش من أستاذه الطبيب ابن عطاش فسخره في نشر دعوته، وأنه توسل به لإقناع أتباعه برؤية الجنة عيانًا؛ لأنه كان يدير عليهم دواخين الحشيش ثم يدخلهم إلى حديقة عمرت بمجالس الطرب التي يتغنى فيها القيان، وتتلاعب فيها الراقصات، ثم يخرجهم منها وهم في غيبوبة الخدر ويوقع في وهمهم ساعة يستيقظون أنه قد نقلهم إلى جنة الفردوس وأنه قادر على مرجعهم إليها حين يشاء، وأنهم إذا ماتوا في طاعته ذاهبون بشهادة أعينهم إلى السماء.
وظل الحديث بهذا وأشباهه يتعاقب ويتناثر بين الأمم، ويروى عن الحسن كما يروى عن خلفائه إلى عهد الرحالة البرتغالي، «ماركوبولو» الذي ساح في المشرق في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد، ولا يزال هذا التفسير الخرافي مقبولًا في القرن العشرين بين الأكثرين من المؤرخين والقراء.
ونحن نستبعد جدًّا أن يكون للجنة المزعومة أصل في قلعة حسن بن الصباح، فإن التكذيب أرجح من التصديق في كل خيط من الخيوط التي نسجت منها القصة ذلك النسيج الواهي المريب.
إن الحسن بن الصباح كان معروفًا بالصرامة والشدة على نفسه وعلى أتباعه، وكان يتنسك ويتقشف رياضة أو رياء أمام أتباعه وتلاميذه، ولم يكن من اليسير في تلك القلاع المنفردة أن يخفى أمر القيان ومجالس الراقصات والغناء زمنًا طويلًا دون أن يطلع عليه المقربون إن لم يطلع عليه جيرة القلعة أجمعون، وليس من المعروف عن مدخني الحشيش أن يحفظوا وعيهم ويفقدوه في وقت واحد، وأن يتلبس عليهم كلهم أمر العيان والسمع هذا الالتباس، وليس من المعروف عن الحشيش أنه يهيئ صاحبه لموقف الإقدام على المخاطر والإصرار عليها شهورًا أو سنوات.
ومن المحقق أن شيخ الجبل لم يطلع أحدًا على سره، وأن أحدًا من المؤرخين لم يشهد تلك الجنة بنفسه ولم يسمع روايتها من شاهد بعينه، فهل من العسير أن يتتبع مصدر هذا الخيال من روايات الزمن الذي نشأت فيه وسرت منه إلى ما بعده من أزمنة القرون الوسطى؟
•••
إن روايات هذا الخيال قد نشأت بين الصليبيين ولم تنشأ بين المشارقة، وقد كان الصليبيون في حاجة إلى تأويل شجاعة المسلمين، وهم في عرفهم قوم هالكون لا يؤمنون بالدين الصحيح، فخطر لهم وقالوا وكرَّروا: إنهم يستميتون في الجهاد؛ لأنهم موعودون بالجنة التي تجري تحتها الأنهار وترقص فيها الحور الحسان، إذا استحبوا الشهادة في سبيل الله.
واستغراب الشجاعة من الفدائيين هو الذي أحوجهم إلى سبب كذلك السبب أو أغرب من ذلك السبب، وقد كان ماركوبولو في روايته يقول: إن الفدائيين صدقوا شيخ الجبل كما كان المجاهدون من العرب يصدقون النبي عليه السلام، وكأنه يقول: إنهم لهذا يقبلون الموت وهم قوم هالكون، فهم في شجاعتهم مخدوعون.
إن القوم قد عجبوا كيف يطيع الفدائيون شيخهم هذه الطاعة وكيف يقدمون بأمره على الموت المحتوم. فلم يتخيلوا لذلك سببًا غير الجنة الموعودة، وعرفوا الحشيش، فالتمسوا فيه سر الجنة التي ترى في هذه الدنيا رأي العيان. وقد جاء ذكر الحشيش في كلام مؤرخي الشرق، وذكر بعضهم أن أناسًا من شيوخ الطرق كانوا يستبيحونه ولا يحسبونه من المسكرات المحرمة، وذكر البندري مؤرخ آل سلجوق جماعة الحشاشين وعنى بهم طائفة الإسماعيليين، أما جنة «آلموت» المزعومة فهي من مخترعات الغرب لا نعلم أنها وردت في كلام مؤرخ إسلامي قديم، ولا أن أحدًا من مؤرخي الغرب أسندها إلى مصدر من المصادر الإسلامية. ولو كان لها مصدر من المشرق الإسلامي لكانت كتب الشرق أولى بابتداعها من كتب الأوروبيين.
وأول دلائل البطلان في هذه الخرافة أن وجه الغرابة الذي دعاهم إلى اختراعها غير غريب، فإن النخوة الدينية كانت أقرب شيء إلى أتباع الأئمة في ذلك الزمن، ولا تصلح رؤية الجنة عيانًا لتفسير تلك النخوة في عجائز الفناء فضلًا عن الفتيان المجردين للفداء. فإذا كان أولئك الفتيان يستهينون بالموت؛ لأنهم شهدوا الجنة عيانًا، فالعجب لأمهاتهم اللائي كن يفرحن بفقدهم وينتحبن لنجاتهم كيف ملكن جأشهن بغير تلك الآية التي رآها أبناؤهن رأى العيان؟!
•••
لقد كان الأمل في ظهور المهدي المنتظر رجاء كل نفس وحديث كل لسان في ذلك العصر من المؤمنين بالمهدية، وكانت فتن العصر أشبه شيء بفتن آخر الزمان أو بأشراط الزمن الذي يظهر فيه المهدي المنتظر؛ ليملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا وينجو بأتباعه ومصدقيه إلى حظيرة الخلد والسلام، وكان شيخ الجبل يتخير لتربية الفدائيين فتيانًا أشداء يتفرس فيهم العزيمة والمضاء ولما يبلغوا الحلم، ثم يأخذ في تدريبهم على المشقة والطاعة وهم دون الثانية عشرة، وأكثرهم من أبناء الجبال في تلك الأطراف التي نشأ أبناؤها على الفطرة وعلى استعداد للتصديق والإيمان.
وكان الإيمان بالدعوة العلوية قد شاع في تلك الأطراف فخرج منها الأمراء والوزراء الديلميون الذين بايعوا خلفاء القاهرة وهم في بغداد؛ وكانت لشيخ الجبل إرادة من حديد تتسلط على أجناده تسلط «المنوم المغناطيسي» على المدرَّبين عنده على التنويم، فلم يكن في طاعة هؤلاء وإقدامهم على الاستشهاد من غرابة ولا من حاجة إلى رؤية الجنة بالعين، وتأتي الحروب الصليبية فتلهب ما فتر من النخوة التي أذكاها الصراع بين الدول والفرق والطوائف والخلفاء والسلاطين. فلا يحتاج الفتى المدخر للاستشهاد إلى دافع أو حافز، بل لعله يحتاج إلى الوازع والرقيب.
فأما أن حسن بن الصباح كان يسوق أتباعه بالخداع فذلك ما لا ريب فيه عند الخصوم ولا عند الأنصار، فهل يصدق القول عليه أنه هو يخدع ولا ينخدع وأنه هو يسوق ولا يساق؟
•••
الراجح عندنا أن هذا «المهدي» لم يكن خلوًا من الإيمان بدعوته على وجه من الوجوه، وأن عمله في الدعوة عمل جاد غير هازل وصامد غير متردد، ولا داعي للشك في إيمانه بعمله وإن كان هناك شك كبير في إيمانه بكل ما يقول لسامعيه ومتبعيه.
وما بالنا نتخيله خلوًا من الإيمان منصرفًا كل الانصراف إلى التضليل والخداع؟ أليس من دواعي الإيمان أن يكون الإنسان مدفوعًا إلى عمله غير قادر على تركه؟ أليس من دواعي الإيمان أن يكون اعتقاد الإنسان في عمله خيرًا من اعتقاده في أعمال الآخرين؟ أليس من دواعي الإيمان أن يقنع نفسه برسالة صالحة وأن يستمد من عمله حجة لتلك الرسالة؟
إن «التنويم الذاتي» معروف متواتر، وإنه لأقوى ما يكون حين تندفع إليه النفس ضرورة لا حيلة لها فيها، وذريعة لها عذر من أحوال الزمن ودواعيه.
وربما بدأت عقيدة ابن الصباح في رسالته سلبية قبل أن ترسخ في طويته بالإقناع الموجب واضحًا أو وسطًا بين الوضوح والغموض.
ونعني بالرسالة السلبية أنه آمن إيمانًا لا مثنوية فيه بفساد العصر وضلال ذوي السلطان فيه، وأنه مهما يفعل في حربهم واستئصال فسادهم فهو على صواب.
وتقترن بهذه الرسالة السلبية دفعة فطرية إلى السيادة والسلطان، فماذا يصنع بهذه الدفعة إن لم يعمل بها عملًا قويًّا متصل العزيمة والثبات؟
إما أن يستكين إلى سيادة غيره والموت أحب إلى أصحاب هذه النفوس الغالبة المغلوبة من استكانة الخضوع، وإمَّا أن يمضي قدمًا ولا بد له من مسوغ وبرهان وليس أسرع إلى السريرة من المسوغ والبرهان حين ينجوان من الغرق في لجج اليأس والانكسار وظلمات الفشل والهوان.
وقد قال داعي الدعاة في ذلك العصر: إن الناس كانوا بين رجلين، رجل لو قيل له: إن فيلًا طار أو جملًا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق «أو منتحل للعقل يقول: إنه حجة الله تعالى على عباده، مبطل لجميع ما الناس فيه، مستخف بأوضاع الشرائع معترف مع ذلك بوجوب المساعدة عليها وعظم المنفعة بمكانها، لكونها مقمعة للجاهلين ولجامًا على رءوس المجرمين المجازفين.»
•••
وهذه عقيدة قوم لا دفعة في طبائعهم إلى طلب السيادة والسلطان، وليس في طويتهم ما يثيرهم إلى الحركة إذا آثروا السكون، فإذا كانت هذه العقيدة في طوية رجل لا يهدأ ولا يستكين ولا يرى في نفسه إلا أنه أهل للقيادة والإمامة، وأن الذين حوله أهل للقمع والنكال، فمن اليسير عليه أن يسوغ لنفسه خداع العامة والخاصة لتحقيق غاية على يديه، هي أصلح مما هم فيه، وأصلح مما يحققونه على أيدي سواه.
وقد سوغ أفلاطون في جمهوريته خداع الدهماء وخداع المتعلمين الناشئين، وسوغ فيثاغوراس من قبله حجب الحقيقة عن بعض العيون وتقريب الأمر إلى المريدين بالرموز والإشارات، وأباحا ذلك وليس واحد منهما مأخوذًا بدفعة السيادة، وليس في زمانها دعوة سرية عامة كالدعوة التي لفت حسن بن الصباح من رأسه إلى قدميه. فلِمَ لا يسوغ هذا المذهب في قيادة الدهماء لحسن بن الصباح؟ وهل من البعيد أنه اطَّلع على أفلاطون وفيثاغوراس كما اطلع على أفلوطين؟ إن القول باقتباس الباطنية من هذين الحكيمين راجح متواتر، فليس مما يخل بحكمة الحكيم أن ينصب نفسه للهداية ويسلم نفسه ورسالته إلى عناية الله يتوجه به حيث أراد.
•••
إن المؤمنين الخالصين للإيمان بغير مواربة ولا مراجعة أندر من الندرة بين بني آدم وحواء، وما من أحد آمن بعقيدة إلا عرف في بعض حالاته كيف يوفق بين الشك والاعتقاد وكيف يسلم الأمر لله ويستلهمه اليقين.
وتسعون في كل مائة، إن لم نقل أكثر من ذلك، يؤمنون بالعقيدة إيمان الوقاية أو إيمان الرغبة فيما يعدون به أنفسهم أو يعدهم به الهداة، وإذا استطاعت قوة الاعتقاد أن تقنع الملايين بالتسليم لقائد منجد أو دليل مرشد، فأحرى بهذه القوة أن تقنع وتبسط يده على خصومه مستحقين لعقابه، وعلى أصحابه مستحقًا منهم الطاعة والتسليم.
لم يكن حسن بن الصباح خلوًا من الإيمان بعمله فيما نرى، ولم يكن عسيرًا عليه أن يركن إلى دعوة تغريه بها ضرورة الفطرة، ويحضه عليها فساد الزمن وسهولة المسوغ للخروج على المفسدين فيه، ولا يعز عليه أن يعززها بعلامة من علمه الواضح أو من علمه الغامض، وما يلتمع فيه من بريق يثبت عليه بالإلهام حينًا بعد حين، فما عاش الرجل بقية حياته غائبًا عن صوابه ولا مالكًا لكل وعيه، وبين هذا وذاك منزلة الغالب والمغلوب والخادع والمخدوع.
استولى الحسن على قلعة «آلموت» في سنة ٤٨٣ هجرية ومات في سنة ٥١٨ هجرية، فظل مالكًا لتلك القلعة باسطًا نفوذه على ما حولها خمسًا وثلاثين سنة، لعله كان خلالها أقوى رجل في الديار الإسلامية من مراكش إلى تخوم الصين.
وولى عهده، وتسمَّى بالمهدي وانتحل البنوة الروحية للانتساب إلى الإمام، واستعان بتعدد المراجع في المذهب، فانفتحت أمام الحسن أبواب الدعوة لنفسه باسم «نزار».
ومات «المستنصر» الخليفة الفاطمي سنة ٤٨٧ للهجرة، فساعد ذلك الإسماعيلي على انتحال المرجع الذي يروقه أن يدعيه، فهو حجة ومهدي وإمام كما يشاء.
•••
وأعاد ملكشاه الكرة وقد أصاخ إلى نصيحة وزيره في هذه المرة، فضيق المحاصِرون مسالك القلعة وساكنيها وبطلت الحيلة فاعتمد الرجل على الغيلة، وأرسل إلى الوزير فتى من فتيانه الفدائيين فقتله، فعاد الجيش الذي سيره الوزير إلى حيث استدعاه ملكشاه، لحاجته إليه في اتقاء الفتنة واتقاء الغارة من المغول.
وتساعد الرجل مصادفات الحوادث. فيموت ملكشاه ويزعم الأتباع والأشياع أنها كرامة المهدي تنجيه من أعدائه واحدًا بعد واحد، ويتنبه الرجل إلى مواقع الفرص فلا تفوته منها فائتة. فلما نشبت الفتنة بين ولدي ملكشاه جعل همه أن ينصر أحدهما على الآخر حتى يوشك أن يظفر بأخيه، فيسلط على الجيش المنتصر سلاح الغيلة أو سلاح الفتنة الدخيلة. ومن أساليبه في هذه الفتنة أن يترك المحاربين في شك ممن هو معهم ومن هو عليهم، وقد يشيع عن أحد أعدائه في دولة الأمير أنه من الإسماعيليين «الصباحيين» المستترين، وقد يوهم الأمير غير ذلك فيقرب إليه ويظهر العداء لابن الصباح ومتبعيه.
•••
ولم يبال شيخ الجبل بالانقطاع عن الدعوة الفاطمية، بل لم يبال بسقوط الخلاف الفاطمية ولم يحجم عن تهديد خلفائها علانية وخفية، وهمه قبل كل شيء أن يكون أتباعه خالصين لطاعته والثقة به في غير مشاركة ولا هوادة، فانقسمت الدعوة الإسماعيلية على نفسها وأصبح لها في البلاد الفارسية والعراقية معسكران متنازعان: أحدهما معسكر ابن الصباح يدعو إلى نزار، ويدعي المهدية لشيخ الجبل ويحارب المعسكر الآخر من الإسماعيليين، والثاني يدعو إلى المستعلي وأبنائه. وبقيت منها اليوم طائفة الإسماعيليين المعروفين باسم البهرة، يقولون: إن المهدي المنتظر سيظهر عما قريب من سلالة الخليفة «الآمر» الفاطمي، وإنه يحضر موسم الحج في كل عام، فمن رأى الحجاج جميعًا في موسم من مواسم الحج فقد رآه.
وحيرة المؤرخين والباحثين النفسانيين هي حياة الرجل في السنوات الأخيرة من مقامه بقلعة آلموت. إنه لم يكد يفارقها بعد دخولها، ولم تكن له أسرة فيها غير امرأته وولديه. وهذا الزعيم «الباطني» الذي قيل عن مذهبه: إنه ذريعة إلى استباحة المحرمات والتهالك على اللذات قد اتفق الكاتبون عنه على زهده واعتكافه وعزوفه عن المباح من الأطايب، فضلًا عن الحرام، وزعم بعض المؤرخين حين قتل ابنه أنه قتله لمخالفته إياه في شرب الخمر على الخصوص، ولم يقتل ولدًا واحدًا بل قتل ولديه الاثنين وهو في شيخوخة لا مطمع له بعدها في الذرية، وهذه هي حيرة أخرى من حيرات لا تحصى في مسلك هذا الإنسان العجيب كله، وفي مسلكه قبيل وفاته على الخصوص.
•••
هل هو مجنون مطبق الجنون؟ إن المجنون المطبق الجنون لا يستغرب منه قتل أبنائه في شباب ولا شيخوخة، وتزول بهذا غرابة القتل، ولكنها تزول لتَخْلُفها غرابة أعضل وأدهى، وتلك هي قدرة المجنون المطبق الجنون على التدبير المحكم عامًا بعد عام، وقدرته على حفظ مكانه ومكانته بين وزرائه وأعوانه ومنهم الأذكياء والدهاة وفيهم الشجاعة والهمة والإقدام!
هل له عقيدة يصبر في سبيلها على الشظف والضنك ويستبيح من أجلها إراقة الدماء، دماء الأبناء كدماء الأعداء؟
إنه خلق العقيدة النزارية خلقًا فمن البعيد أن يخلق العقيدة وينخدع بها ويصبر في سبيلها على ما صبر عليه ويستبيح في سبيلها ما استباح.
والذي يبطل الحيرة في اعتقادنا هو التفسير المقبول لطبيعة هذا الإنسان العجيب.
ونبدأ فنقول: إننا ينبغي أن نستغرب من حسن بن الصباح ما هو غريب منه لا ما هو غريب من غيره، ولو كانوا معظم الناس.
فالغريب في طباع الناس تجردهم من الحنان الأبوي أو فتور هذا الحنان فيهم، ولكن هل خلا الجنس البشري من آحاد يهون عندهم الحنان في جانب النوازع القوية التي لها السلطان عليهم وليس لهم عليها سلطان؟ هل خلا الجنس البشري من آحاد نراهم بيننا تستهويهم الشهوات الصغار فضلًا عن الشهوات الكبار، فلا يبالون ما يصيب أبناءهم من جراء تلك الشهوات؟
وهل من البعيد أن يكون ابن الصباح هذا من أولئك الذين تملكهم نازعة تطغى على حنان الأبوة؟
كلا! ليس هذا بالبعيد على الإطلاق، بل هو دأب الطامحين من أمثاله إلى السيطرة، ودأب الذين يهون عليهم شظف العيش ولا يهون عليهم الخضوع والبقاء في زوايا الإهمال. وقد يكون الولدان اللذان أمر بقتلهما قد تآمرا عليه مع بعض أعوانه المتطلعين إلى مكانه كما جاء في بعض الروايات، وقد يكون أحدهما هو الذي تآمر عليه كما هو الأرجح، ويكون ظنه بالآخر أنه لا يفلح ولا يؤمن على مصير الدولة بعده. وقد يكون بطشه بابنه في سبيل رسالته هو المسوغ المقبول أمام ضميره لإقدامه على البطش بالغرباء في هذا السبيل.
•••