بناة وهدامون ومهدومون
ينسب قيام الدولة الفاطمية إلى جهود الدعاة الذين انبثوا في المشرق والمغرب، وافتنُّوا في تبليغ الدعوة سرًّا وجهرًا إلى كل طائفة بالوسيلة التي تلائمها، ويغلو بعض المؤرخين في شأن هذه الجهود حتى يخيلوا لمن يقرؤهم أن غير هذه الجهود لم يكن له في إقامة الدولة الفاطمية شأن ذو بال.
ولا شك في براعة الدعوة الفاطمية وقوة أثرها في التمهيد لقيام الدولة، ولكننا لا ننسى أن بعض هذه الدعوة كان يسيء إلى القضية ولا يحسن. وأن فريقًا من الدعاة كانوا يخدمون أنفسهم ويضرون قضيتهم. وأن الدعوة لو انصرفت كلها إلى الخدمة والتمهيد لم ينصرف شيء منها للإساءة والتنفير — لما بلغت غايتها إن لم يكن جو العالم الإسلامي متهيئًا لقبول نظام جديد والإعراض عن نظام قديم.
والواقع أن جو العالم الإسلامي قد تهيأ في القرن الثالث لقبول هذا التبديل في نظامه، وكان هذا التهيؤ من شقين: شق ينكر النظام القائم، وشق يرحب بالنظام المنتظر ويعطف عليه.
وكانوا يسمون ذلك دلالات النجوم، فيربطون بين مشيئة الإنسان ومشيئة الكون كله، ويلوح لهم حين يريدون التغيير أن التغيير كائن ولو لم يريدوه، ولو لم يعملوا لتحقيق ما أرادوه.
وتوجد الكلمة التي تحفظ حين تلفظ، ويسمع الناس: «إن الشمس ستشرق من مغربها» فيهمس بها بعضهم إلى بعض، ويعجب السامع مما سمع فلا ينساه.
وقد كان علم النجوم قد استفاض في كل مكان، وليس أكثر من مقارنات الفلك التي يحسب المنجمون أنها علامة الغيب على الغير والأحداث، وطلاب التغيير هم المستبشرون دائمًا بتلك العلامات وهم الذين يركنون إليها ويترقبونها، ولا سيما حين يكون علم النجوم علمًا يحبه المجددون ويمارسونه، ويبغضه المحافظون ويتشاءمون به ولا يترقبون الخير من ورائه.
وما كان أبو تمام ينظم قصيدة من قصائد المدح وحسب، حين قال عن النجم ذي الذنب في زمانه:
ولكنه في الواقع كان ينظر في أوائل القرن الثالث إلى الوجهتين المتقابلتين: وجهة الراضين عن نبوءات النجوم ووجهة المتبرِّمين بها، وما زالت الوجهتان تنفرجان حتى شهدت نهاية القرن غاية التفاؤل وغاية التشاؤم بعلامات النجوم.
قال صاحب زهر المعاني: «وكان أهل النجوم والحساب يذكرون ظهور المهدي بالله ويبشرون بدولته، ثم إن الملوك والأضداد أيقنوا بذلك، وإن صاحب الزمان تقدم للهجرة إلى المغرب والمهدي في كنفه؛ حتى يكون أوان ظهوره وطلوع نوره. وأن يُكَنُّوه بالشمس الطالعة.»
وكان المهدي نفسه على علم بمراصد النجوم، فكان يتفاءل بمقارناتها ويبشر بها أتباعه، وهم بغير هذه البشارة مصدقوه، فإذا علموا أن الكون كله يتأهب «لطلوع الشمس من المغرب» فقد بلغ التصديق غاية اليقين.
وقد أثر عن حفيد موسى الكاظم — كما جاء في المقريزي — أنه قال في سنة اثنتين وخمسين ومائتين: إن الإمام المنتظر سيظهر بعد اثنتين وأربعين سنة، ونظم الفهري هذه النبؤة فقال:
وظل المتربصون بالدولة العباسية يقرأون في أرصاد النجوم علامات زوالها إلى ما بعد نهاية القرن الثالث وبعد بداية القرن الرابع، فقال أبو طاهر القرمطي:
وقد تقدم أن الناس ظنوا بأبي العلاء المعري أنه من رصدة النجوم، فإذا بلغ بزمان أن يترقب فيه الضرير أرصاد السماء فهو زمان تفعل فيه العلامات الفلكية فعلها، سواء أكان حب التغيير هو الذي علق الأبصار والبصائر بمسالك الكواكب، أم كانت مسالك الكواكب هي التي شحذت في نفوسهم حبهم للتغيير وتطلعهم إلى الغيب من بصير وضرير.
وفحوى ذلك كله أن السماء والأرض في عرف أبناء القرن الثالث للهجرة كانتا تتطلعان إلى شيء، وأن الناس كانوا يتفاءلون بذلك ويتشاءمون، وأحرى الناس أن يتفاءلوا بعلامات التغيير هم طلاب التغيير.
وجاءت الدعوة الفاطمية إلى قوم متبرمين أو قوم غير مكترثين للدفاع عن النظام القائم أو دفع النظام الجديد.
كان بين خدام الدولة العباسية نفسها من يبغضونها أو ينكرون حقها، ومن كان منهم لا ينكر حق الخلفاء العباسيين فهو منكر لسلطان الترك والديلم، معتقد أن أهل البيت المقبلين خير من أهل البيت المولين، أو أهل البيت الذين تولت عنهم الولاية عجزًا وسفهًا فليس لهم منها غير الأسماء.
•••
وكان بطش العباسيين بأبناء علي من أسباب الكراهة لأصحاب الحكم وأسباب العطف على طلابه. فكان مع العباسيين من خدامهم وأعوانهم من يقدسون صاحب الدعوة العلوية ويمقتون أصحاب العروش في بغداد. ولولا عامل من عمال بني العباس في الرملة لاعتقل المهدي وقتل قبل أن يصل إلى المغرب حيث أقام الدولة. يقول جعفر الحاجب في سيرته: «وصلنا إلى الرملة فنزلنا بها عند عاملها، وكان مأخوذًا عليه فلم يدر من السرور برؤية مولانا المهدي كيف يخدمه، ورفع المهدي فوق رأسه وقبل يديه ورجليه.»
وتبيَّن غير مرة أن النجابين الإسماعيليين كانوا أسرع إلى تبليغ المهدي وأعوانه من النجابين الذين تعقبوه، وهم موعودون بالجزاء الجزيل على اعتقاله وتسليمه. واستُخدم الحمام الزاجل في تبليغ الرسائل إلى المهدي وهو في طريقه كما جاء في روايات مختلفة، فإن صح هذا فهو دليل على ولاء عجيب وإيمان برسالة المهدي على طول طريقه من الشام إلى المغرب، وإن لم يصح فقد صح ما هو أغرب منه وهو نجاة المهدي من عشرات الولاة والعمال في الشام ومصر والمغرب، بل نجاته بعد دخوله الحبس حيث اعتقل قبل مصيره إلى المغرب الأقصى.
وربما كان ولاء عامل تابع للأمراء أقل في باب العجب من ولاء أمير قائم على عرش دولة كالدولة المصرية، لا تعترف لخلفاء بغداد من بني العباس بغير الدعاء على المنبر في يوم الجمعة، فقد روي عن كافور الإخشيدي أن الشريف أبا جعفر مسلم بن عبيد الله ناوله سوطه — وقد سقط منه — فاستعظم كافور هذا التواضع منه ومال على يده يقبلها وهو يقول: «نعيت إلى نفسي، بعد أن ناولني ولد رسول الله ﷺ سوطي غاية يتشرف لها.»
هذه هي أشراط الساعة وعلامات الزمان التي وافتها دعوة الدعاة الفاطميين على قدر، ولو لم تقترن دعوة الدعاة بهذه الأشراط التي تجمعت من فعل الحوادث التاريخية والبواعث النفسية لما تمكن الدعاة وحدهم من إقامة الدولة ولا تمكنوا من الإقناع وهو أهم أعمال الدعاة.
•••
ونتابع الأمر إلى غاياته فنقول: إن الدعوة والحوادث التاريخية والبواعث النفسية كلها كانت خليقة أن تذهب سدى بغير نتيجة لو لم يقيض للدولة بناة وموطِّدون من أصحاب السلطان فيها، يأخذون بزمام الأمور ويحسنون قيادتها على نهجها القويم إلى أن تثبت دعائم الملك وتصمد البنية الجديدة لغواشي الزمن، وهي بعد التأسيس عرضة لطوارئ الهدم والتوهين.
وقد جرت العادة في كل دولة جديدة أن يكون لها مؤسس وموطد: مؤسس هو رأس الأسرة، وموطد هو خلف له يتناول منه الملك، لما يستقر قراره فيمنعه أن ينهار قبل أن يبلغ التمام، ثم يتمه ويتركه لمن يأتون بعده بناة أو مسترسلين أو هدامين ينقضون ما بناه الأولون.
ولم تكن دولة الفاطميين شذوذًا من هذه القاعدة، فأسسها المهدي عبيد الله ووطدها المعز لدين الله، وكان كلاهما على نصيب وافر من الخلائق التي تنبغي لبناة الدول وموطدي العهود، فلو تتابعت أعمال الدعاة ودواعي الزمن دون أن يتاح للدولة هذان البانيان لما برز لها من الأرض ركن ولا أساس.
اتصف عبيد الله بقوة البنية وجمال السمت والهيبة، كما اتصف باليقظة مع سعة الحيلة ورباطة الجأش، وعرف بالحزم وأصالة الرأي وشدة المراس واستعصاء المقاد على المكابرة والعناد، واجتمع له حسن التصريف، فلم يفته قط أن يختار الوقت الملائم والرجل الملائم للعمل المطلوب كما ينبغي أن يكون، وأعان ذلك كله بحب العمارة والتنظيم، فوجدت الدولة الجديدة منه مؤسسًا قليل النظراء.
قيل في قوة بنيته: أنه كان بقوة عشرة رجال.
وليست هذه القوة نادرة في أبناء عليٍّ من السيدة الزهراء ومن غيرها، فقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه جلد الأرض بمصارع الروم الذي جاء إلى دمشق يتحدى الأقوياء في بلاد المسلمين كما تحداهم في بلاده. ولم تزل هذه القوة معهودة فيهم بعد الجيل الخامس، فقيل عن يحيى بن عمر الملقب بالشهيد: أنه «كان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه، فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله بيده.»
وليست قوة البنية شرطًا في أصحاب العروش، ولكن مؤسس الدولة يحتاج إليها إذا وجبت عليه الرحلة أحيانًا من مكان إلى مكان فجأة وعلى غير استعداد، ووجب عليه أن يصبر على متاعب الاستخفاء ومتاعب الحاجة، وأن يصرع المطارد ويسبق المتعقب ويبرز للقتال، ولا يزال على أهبته لمقاومة أعدائه ومقاومة أنصاره المنشقين عنه، فإذا تصدى لهذا ولم يرزق ضلاعة الأركان أوشك أن ينقطع بالمسعى دون غاية الطريق.
أسعفته هذه البنية الوثيقة في مآزقه وفي أيام سلطانه، وأسعفته معها مهابة يعنو لها المؤمن به ومن يحاربه ولا يضمر مودته، فلما كان أسيرًا في المغرب الأقصى كان صاحب «سجلماسة» ينكل بأعوانه ولا يجسر على مجابهته بما يسوءه، وكان يعمل في مغيبه ما لم يكن يجترئ على عمله وهو ناظر إليه.
وقد تمت له المسعفات في مآزق الحرج باليقظة الجريئة والحلة التي لا تفارقها رباطة الجأش وعزة الكرامة. فلما خرج من الشام إلى مصر هربًا من خلفاء بغداد سيَّروا الأدلَّاء إلى كل بلد في الطريق ينادون على الناس بأوصافه ويبرئون الذمة ممن يراه ولا يدل عليه، ويجعلون لمن يسلمه عشرة آلاف دينار وزلفى تنفعه عند الخلفاء والأمراء. واتفق أنه صلى الصبح يومًا في جامع عمرو فعرفه بعض المصلين بوصفه وهو يهم بالخروج من المسجد وضرب بيده على كم الإمام وقال له: «لقد حصلت لي عشرة آلاف دينار.»
•••
ولو رجل غيره في مثل ذلك الموقف العصيب لساخت به الأرض من الفزع، ولكنه التفت إلى الرجل غير مكترث وسأله كأنه خلو الذهن من كل خبر: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أنت الرجل المطلوب. فضحك المهدي وعاد مع الرجل إلى المسجد وهو يقول له: «عليك عهد الله وغليظ ميثاقه أنني إذا جمعت بينك وبين الرجل الذي تطلبه كان لي عليك ولصديقي هذا خمسة آلاف دينار!» ولعله تفرس في الرجل الغفلة فأخذه إلى حلقة قد اجتمع الناس فيها، وأدخله من جانبها وراغ منه. وأجمع النية في تلك اللحظة على فراق مصر والمبادرة بالمسير إلى المغرب.
وفي مسيره إلى المغرب تعقبه والي مصر وأدركه وتردد في وصفه فأطلقه، ولاح عليه أنه يحدِّث نفسه بلحاقه إذا تثبت من حقيقته، فما عتم المهدي أن عاد بعد انطلاقه يبحث عن كلب من كلاب الصيد يتعلق به ابنه — وكانت تربيته لابنه كما تقول في مصطلح هذه الأيام تربية رياضية — فوقع في نفس الوالي أن رجلًا يعود بعد النجاة في طلب كلب لا يظن به أنه خائف على حياته وأنه خارج في طلب الخلافة، وقال لأصحابه: «قبحكم الله. أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتى آخذه. فلو كان يطلب ما يقال، أو كان مريبًا، لكان يطوي المراحل ويخفي نفسه، ولا كان رجع في طلب كلب.»
وقد يكون الوالي أطلقه لمال أخذه منه كما يقول عريب بن سعد في تاريخه، وأنه خشي من أصحابه أن يرتابوا فيه ويرفعوا أمره إلى رؤسائه وأن يلحقوا من ورائه بالمهدي وركبه، فكانت حكاية الكلب هذه حيلة لتضليل أولئك الأصحاب وصرفهم عن المطاردة وعن الوشاية بالوالي إلى بغداد.
ومن حزمه بعد مبايعته بالخلافة أنه بادر على الأثر إلى تجديد نظام الدعوة في المغرب وفي مصر واليمن والعراق وخراسان، وحمله على هذا التجديد أن أمر الدعوة لم يكن مجتمعًا في يديه أيام استتاره، فتولى الدعاة ندب أعوانهم بغير مراجعة المهدي في اختيارهم، وتعود هؤلاء الأعوان أن يتلقوا أوامرهم من الدعاة الذين ندبوهم واختاروهم، ولم تكن عاقبة هذا النظام مأمونة على الخليفة الجديد ولا على الخلافة الناشئة، فإنه خليق أن يجعله عالة على أتباعه، وأن يُطمع هؤلاء في الاستبداد به وعصيان حكمه. فنقض نظام الدعوة وعزل رؤساء الدعاة ولم يستثن أكبرهم — داعي اليمن ابن حوشب — فعزله وهو الذي كان أستاذ دعاته في الأقاليم، وكان منهم عبد الله الشيعي الذي سبق المهدي إلى المغرب واستقدمه إليها بعد التمهيد له وجمع القبائل على عهده، وقد رابه من الشيعي هذا وأخيه العباس أنهما على اتصال خفي بزعماء القبائل، وأنهما يستكثران على الخليفة أن يحصر السلطان في يديه، ونمى إليه أنهما يأتمران به ويبيِّتان النية مع زعماء القبائل على قتله، فأمر بقتلهما وأظهر الرضى عن غيرهما ممن ظن فيهم الظنون، فجعل يفرقهم في المناصب النائية كأنه يكافئهم ويعتمد عليهم، وهو في الواقع يقصيهم عن مواطن الخطر ويوقع بينهم الحذر والمنافسة.
•••
وأطلق دعاته الجدد ومن أبقى عليه من الأقدمين يجوسون خلال الديار الإسلامية؛ ليبشروا به ويخذلوا الأنصار حول أعدائه، فانطلق رسله إلى بلاد الأمويين بالأندلس وبلاد الأدارسة بالمغرب، ونشط رسله في مصر واليمن والعراق وخراسان، وأخذ بيديه أزِمَّة الثورات في كل إقليم من تلك الأقاليم، فاستمهل أعوانه كلما تعجلوا الثورة وظنوا أنهم قادرون عليها وأن الأوان قد آن للجهر بها، ورأى هو بثقاب نظره أن ثورة الأطراف قبل فتح مصر، أو قبل المسير إليها، تغرير بالثوار، وأن الثورة بعد فتح مصر تتمة منتظرة قد تأتي عفوًا وقد تنشب دفعة واحدة مع سقوط هيبة الدولة العباسية، فلا يعيي الثوار بالخروج عليها في غير حذر ولا ندم. وقد صح تقديره بعد تسيير الحملة على مصر وتجربة الموقف مرتين.
والراجح من المقابلة بين برامج المهدي أنه كان مقسور اليد في حملاته على مصر؛ كان يوصي بالأناة والتريث حيث يفرغ العمل في التخذيل وكسب الأنصار، ثم يضرب القدر ضربة من ضرباته التي تأتي على غير انتظار فيموت خليفة بغداد ويستحكم الشقاق بين قواده ووزرائه ويغتنم الثائرون الفرصة قبل تمام الأهبة، وتتوارد الكتب إلى المهدي بالحض على الهجوم فلا يملك القعود والاكتفاء بالنظر إلى هذه الأحداث من بعيد، ولا يبلغ من ثقته بجدوى الهجوم أن يجمع له قوته ويترك المغرب خلوًا من الجند مطمعة للمغيرين عليه والمنتقضين ممن بايعوه على دَخَلٍ في أول عهده، فينفذ إلى المشرق حملة اضطرار لا حملة اختيار، كالحملة التي عقد لواءها للزعيم البربري حباسة، ثم حمَّله تبعة الإخفاق فيها والهرب منها بعد أن وصل إلى الإسكندرية.
•••
أما الخطة التي يبدو أنه كان يؤثرها ويختارها فهي إرجاء الحملة على مصر إلى أن يفرغ من شأن المغرب ويقضي على فتنه ومشاغباته، ويبتني فيه المدينة التي أزمع أن يتخذها حصنًا له ويحتمي به من المغيرين والمنتقضين، وقد شغلته فتن المغرب زمنًا وأحرجته أيما إحراج بعد مؤامرة عبد الله الشيعي وأخيه، فقمع الفتنة قمعًا عنيفًا لا رحمة فيه، ولم يسكن إلى مقره بالمغرب إلا بعد الفراغ من بناء المهدية حوالي سنة خمس بعد الثلاثمائة، فقال يومئذ: «لقد أمنت الآن على الفاطميات.»
ولم تفارقه طبيعة الحيطة والدهاء في بنائه للمهدية، فانتقى لها موقعًا يحيط به البحر من جهات ثلاث، وأقام عليها سورًا من الغرب له بابان من الحديد زنة الواحد منهما ألف قنطار، وبنى فيها الصهاريج وأجرى فيها القنوات، وجعل للمؤن أقبية تسع ميرة الحامية عدة شهور، وانتحى جانبًا ثم بنى على مقربة من المهدية مدينة أخرى سماها باسم زويلة إحدى قبائل البربر التي تواليه، وخصص زويلة لدكاكين التجار ومخازنهم تخفيفًا عن المهدية وعزلًا بين السكان ومرافقهم، وأفضى إلى خاصته بأنه إنما فعل ذلك ليأمن غائلتهم. قال: «إن أموالهم عندي وأهاليهم هناك. فإن أرادوني بكيد وهم بزويلة كانت أموالهم عندي فلا يمكنهم ذلك، وإن أرادوني بكيد وهم بالمهدية خافوا على حرمهم هناك، وبنيت بيني وبينهم سورًا وأبوابًا فأنا آمن منهم ليلًا ونهارًا؛ لأني أفرق بينهم وبين أموالهم ليلًا وبين حرمهم نهارًا.»
بعد هذا استعد للحملة الكبرى على مصر وعقد لواءها لولي عهده القائم فدخل الإسكندرية سنة (٣٠٧ للهجرة)، وتقدم إلى الجيزة واحتل الفيوم، ثم دهم الوباء جيشه وفتك بالألوف من جنده وحيل بينه وبين المدد من المغرب بعد انهزام أسطوله؛ لأنه كان أضعف من أسطول العباسيين.
ثم كانت الحملة الثالثة (سنة ٣٢١) وهو في وهن الشيخوخة، وقيل: إنه مات قبل أن يحكم تدبيرها، وبلغ من هيبته بين أهل المغرب أن خليفته القائم كتم خبر وفاته سنة كاملة، مخافة الانتقاض ممن أدنوا للحكم الجديد مهابة للمهدي ورهبة من نقمته.
•••
مات المهدي في سنة (٣٢٢ للهجرة) وولد في تاريخ مختلف عليه بين (سنة ٢٥٥ وسنة ٢٦٠ للهجرة) وبويع له بالخلافة وهو في نحو الأربعين، فكانت مدة حكمه أربعًا وعشرين سنة، ترك الدولة بعدها وقد استقر بنيانها ورسخت أركانها ودانت لها الدول التي كانت تنازعه في المغرب وصقلية من الأغالبة والأدارسة ومن يؤازرهم من الأمويين بالأندلس والعباسيين ببغداد، ولم يعرف عنه طوال أيامه بالمغرب حاكمًا أو غير حاكم أنه فرغ لمناعم نفسه أو غفل يومًا عن سياسة ملكه، وكانت له زوجة واحدة، وانقضت حياته وفي سيرته رد بلسان الحال لا بلسان المقال على الذين رموه بالانتماء إلى أعداء الدين، بل أعداء الأديان وأنه تواطأ سرًّا مع رسل الفساد والغواية لاستباحة المحرمات والإغراء بالفجور. ولو لم يكن كذلك لما أبقى بعده ملكًا مؤسسًا يغالب عوادي الدهر من أول القرن الرابع إلى نهاية القرن السادس، أو يغالبها بآثاره الباقية إلى اليوم.