حضارة متحضرة
إذا استثنينا الحضارات المصرية الأولى في أيام الفراعنة جاز أن يقال: إن حضارة مصر في عهد الفاطميين لم يعرف لها نظير بعد الميلاد، ولا استثناء لعهد البطالسة؛ لأنه عهد غلبت فيه الصبغة الأجنبية على الصبغة الوطنية، خلافًا للحضارة في أيام الفاطميين، فإن صبغتها المصرية كانت غالبة على كل صبغة، ومن ثم لم تتكرر في وطن آخر على هذه الصورة، وبقيت مصر على مذهبها الديني الذي كانت عليه قبل قيام الدولة بين ربوعها.
وتصدق كلمة الحضارة هنا على كل حضارة تقاس بمقياس الثقافة أو مقياس الصناعة أو مقياس الثروة أو مقياس الشئون الاجتماعية.
فلم توجد في مكتبة بعد مكتبة الإسكندرية خزائن للكتب كالخزائن التي وجدت في القصر الشرقي، وتفاوت تقديرها بين ستمائة ألف مجلد ومليونين، حسب اختلاف التقدير على ما يظهر بين عدد الكتب وعدد النسخ، وقد كان فيها لبعض الكتب عشرات من النسخ للإعارة أو الاطلاع.
وتنافست القصور في اقتناء الكتب النادرة، فكان في كل قصر مكتبة تحتوي عشرات الألوف من كتب الفقه والأدب والرياضة والطب وسائر العلوم.
وكان الخليفة يزور المكتبة العامة من حين إلى حين فيترجل ويخلع نعله، وتعرض عليه الكتب الواردة ليأذن بوضعها في الرفوف.
وأنشئت دار الحكمة ودار العلم، هذه للمعلمين وتلك للمتعلمين، وفتحت فيهما مجالس المناظرة والمحاضرة، يخصص منها قسم للرجال وقسم للنساء، وتنقل المناظرة أحيانًا إلى قصر الخليفة فيشترك فيها أو يشرف عليها، ويأذن لكل ذي رأي أن يدلي برأيه فيها، وإن خالف به إجماع الآراء.
وشاعت بين العامة ثقافتهم التي ترضيهم من ملاحم التاريخ المنثور أو المنظوم؛ فلم يكن مجلس من مجالس السمر العامة يخلو من القصاصين أو الشعراء المنشدين، يسمعون جمهرة الناس طرفًا من التاريخ الشعبي والقصص الشعبية، عدا مجالس الوعظ والتفقيه التي تفتح للقصاد في المعاهد أو المساجد من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء.
وفي عهدهم أصلحت الدواوين، ونظمت وسائل الري، وأعيدت مساحة الأرض، وفكروا في بناء الخزان عند أسوان.
وتقدمت الفنون والصناعات، وتنافس الفنانون والصناع في هندسة البناء، وفي النقش على الجدران والحفر على الحجارة الكريمة، وشوهدت رسوم على النسيج تحاكي اللوحات الفنية في دقة التصوير وجمال التلوين، وبلغ فن التصوير البارز والتصوير الغائر غاية ما يبلغه في عصر من العصور، وصيغت التماثيل من المعادن والجواهر فأوشكت قيمة المعدن المرتخص أن تناظر قيمة المعدن النفيس بفضل الصناعة والإتقان.
وقد ألف الوصافون إذا بالغوا في وصف العجائب أن يشبهوها بعجائب ألف ليلة وليلة، ولكن عجائب ألف ليلة وليلة كانت كالنسخة المنقولة من ذخائر القصور في تلك الحضارة، لولا أن نسخة الحقيقة كانت هي الأعجب والأبدع من نسخة الخيال.
وكانت التجارة مددًا للصناعة لا ينقطع ولا يزال يعطيها كلما أخذ منها، ويحثها على التوسع والمزيد: تأتي السفن من بحار المغرب وبحار الهند والصين بالخامات وتعود ببدائع المصنوعات، أو تأتي ببدائع المصنوعات وتعود بما هو أبدع وأغلى، دواليك في مواسم العام كله لا تني ذاهبة آتية على مدى الصيف والشتاء.
ولم يكن قصارى ما في تلك المواكب أنها مظاهر لهو وفراغ تعطل فيها الأعمال وتنسى فيها تكاليف المعيشة، بل هي كانت في حقيقتها معارض للفنون والصناعات، يسير فيها أصحاب كل فن وصناعة على نظام معلوم، ويتقدم كل طائفة نقيبها وأساتذتها يترنمون بمفاخر فنونهم وصناعاتهم ويعلنون عنها ويدلون عليها، ومن هذه المواكب ما بقى إلى اليوم في زفة رمضان وزفة جبر البحر، ومن تلك المحافل ما بقى في طلعة رجب ونصف شعبان وغيرها من ليالي الذكرى للأموات والزيارة للأحياء.
لا جرم كانت مصر إبان هذه الحضارة ملتقى الرواد والقصاد، ولا جرم تحفل قصور الخلفاء والكبراء بمن يقصدون رحاب ذوي السلطان في كل زمان ومكان، وأولهم السياح والشعراء.
فما من رحالة أنجبه العالم الإسلامي لم يتخذ من مصر مقامًا أو مزارًا في تلك الأيام، وما من قصر من قصور الملك في المشرق والمغرب عمر في ذلك العصر بمثل ما عمرت به القصور الفاطمية من الشعراء والأدباء.
وأوصى الخلفاء والأمراء شعراءهم بالإيجاز لازدحام القالة وكثرة المقال، وزادوهم في الجزاء لكيلا يقال: إنه قصد في العطاء لا قصد في الثناء، فقال أحدهم ابن مفرج، يخاطب الخليفة الحافظ:
ومن شعراء العصر من كان على خلاف مذهب الشيعة وكان يجهر بهذه المخالفة، كعمارة اليمني الذي قال:
ولم يؤخر له في الأجل، فانقضى أجل الدولة في سنة سبع وستين وخمسمائة، وانقضى أجل شاعرها في سنة تسع وستين وخمسمائة.
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.