نشْأَتُهَا
إذا وصفت نشأة الزهراء بكلمة واحدة تغني عن كلمات فالجد هو تلك الكلمة الواحدة.
درجت في دار أبويها، والدار يومئذ مقبلة على أمر جلل لم تتجمَّع بوادره في غير تلك الدار، وغار حراء.
أمر جلل لا تقف جلالته عند جدران الدار، ولا عند أبواب المدينة التي اشتملت عليها، ولا عند حدود الجزيرة العربية بعمارها وقفارها، بل هو الأمر الجلل الذي يطبق العالم بأسره عصورًا وراء عصور؛ لأنه هو أمر الدعوة الإسلامية التي كانت يومئذ تختلج في صدر واحد، هو صدر أبي الزهراء عليه السلام.
أكبر الظن أن الطفلة الصغيرة لم تستغرب شيئًا من هذا؛ لأن الطفل لا يستغرب الأمر إلا إذا رأى ما يخالفه، وهي لم تفتح عينيها على غير هذه البوادر والمقدمات.
أكبر الظن أن الزهراء الصغيرة لم تستغرب شيئًا مما كان يحيط بها وهي تدرج في مهدها، ولكن الطفل الذي يحسب هذه المشاهد من مألوفاته ينفرد بمألوفات لا تتكرر من حوله، ويتخذ له قياسًا للألفة والغرابة منفردًا بين أقيسة النفوس.
وأكبر الظن أنه ينشأ منطويًا على نفسه، مستخفًا بما يخف له الناس من حوله، متطلبًا من عادات النفوس وطبائعها غير ما يتطلبون.
وقد أوشكت الزهراء أن تنشأ نشأة الطفل الوحيد في دار أبويها؛ لأنها لم تجد معها غير أخت واحدة ليست من سنِّها، وغير أخيها هند، وهو أكبر منها ومن أختها، ولم يكن من عادة الطفولة العربية أن يلعب البنات لعب الصبيان.
وأوشكت عزلة الطفلة الوحيدة أن تكبر معها؛ لأنها لم تكن تسمع عن ذكريات إخوتها الكبار إلا ما يحزن ويشغل؛ ماتوا صغارًا وخلفوا في نفوس الأبوين لوعة كامنة وصبرًا مريرًا، أو تزوج من الأخوات الأحياء من تزوج وخُطِبَ من خطب، ثم لم تلبث الخطبة أن رُدَّت إلى أختين؛ لأنهما خطبتا إلى وَلَدَيْ أبي لهب، ثم أصبح أبو لهب عدوًا للأبوين يمقتهما ويمقتانه، فانتهت خطبة الأختين الشقيقتين بهذا العداء.
جدٌّ من كل جانب تركن إليه، وانطواء على النفس لا تستغربه ولا تحب أن تتبدله، ملاذها في كل هذا حنان أبوين لا كالآباء: حنان جاد رصين، ونكاد نقول: بل حنان صابر حزين، يشملها به الأب الذي مات أبناؤه ولا عزاء له من بعدهم غير عبء النبوة الذي تأهب له زمنًا ونهض به زمنًا، ولا يزال يعاني من حمله ما تنوء به الجبال، وتشملها به الأم التي جاوزت الأربعين وبقيت لها في خدرها هذه البنية الدارجة صغرى ذريتها، والحنان على الصغرى من الذرية بعد فراق الذرية كلها بالموت أو بالرحلة حنان لَعَمْرُ الحقِّ صابر حزين.
ولقد نعمت الزهراء بهذا الحنان من قلبين كبيرين: حنان أحرى به أن يعلم الوقار ولا يعلم الخفة والمرح والانطلاق.
وتعلمت الزهراء في دار أبويها ما لم تتعلمه طفلة غيرها في مكة: آيات من القرآن وعادات يأباها مِن حولهم العابدون وغير العابدين.
ولكنها قد تعلمت كذلك كل ما يتعلمه غيرها من البنات في حاضرة الجزيرة العربية، فلا عجب أن نسمع عنها بعد ذلك أنها كانت تضمد جراح أبيها في غزوة أحد، وأنها كانت تقوم وحدها بصنيع بيتها ولا يعينها أحد في أكثر أيامها.
ويبدو لنا انطواء الزهراء على نفسها من الأحاديث المروية عنها، فلم تعرض قط لشيء غير شأنها وشأن بيتها، ولم تتحدث قط في غير ما تُسأل عنه أو يُلجئها إليه حادث لا ملجأ منه، فلا فضول هنالك في عمل ولا في مقال.
وسواء صحَّ ما جاء في الأنباء عن محاجَّتها للصِّدِّيق بالقرآن الكريم أو كان فيه مجال للمراجعة، فالصحيح الذي لا مراجعة فيه أنها سمعت القرآن الكريم من النبي وسمعته من علي، وأنها صلَّت به ووعت أحكام فرائضه، وأنها وعت كل ما وعته فتاة عربية أصيلة العرق والنسب، وزادت عليه ما لا يعيه غيرها من الأصيلات المُعْرِقات.
سكنت هذه النفس القوية جثمانًا يضيق بقوتها، وقلما رُزِقَ الراحة من اجتمع له النفس القوية والجثمان الضعيف، فإنهما مزيج مُتْعِب للنفس والجسم معًا، لا قوام له بغير راحة واحدة: هي راحة الإيمان، وهذا هو التوفيق الأكبر في نشأة الزهراء، فإنها نشأت في مهد الإيمان؛ إذ هو ألزم ما يكون لها بين قوة نفسها ونحول جثمانها.