زواجها
قال الزرقاني في شرح المواهب اللدُنِّيَّة: «إن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله: يا أبا محمد! كم بلغت فاطمة من السن؟ قال: ثلاثين سنة. فقال الكلبي: خمسًا وثلاثين. فقال هشام: اسمع ما يقول، وقد عُنِيَ بهذا الشأن. فقال: يا أمير المؤمنين: سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه.»
وتوافق هذه الرواية روايات متعددة، اتفقت على أن الزهراء ولدت في سنة بناء الكعبة قبل البعثة المحمدية ببضع سنوات، فأصح الأقوال بين الأخبار المتضاربة أنها عليها السلام قد تزوجت وهي في نحو الثامنة عشرة.
ومن جملة الأخبار يتضح أن النبي عليه السلام كان يبقيها لعليٍّ رضي الله عنه؛ فقد خطبها أبو بكر وعمر، فردهما وقال لكل منهما: أنتظر بها القضاء، أو قال: إنها صغيرة كما جاء في سنن النسائي.
وفي أُسْد الغابة أنها لما خطبها أبو بكر وعمر وأبى رسول الله قال عمر: «أنت لها يا علي!» فقال علي: «ما لي من شيء إلا درعي أرهنها»، فزوَّجَه رسول الله فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، ثم دخل عليها رسول الله فقال: «مالك تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علمًا وأفضلهم حلمًا وأولهم سلمًا.»
وفي رواية أن عليًّا لما سأله النبي: «هل عندك من شيء؟» قال: «كلا». فقال له: «وأين درعك الحطمية؟» أي التي تحطم السيوف، وكان النبي قد أهداه إياها، فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع له منها أربعمائة درهم.
جاء في أنساب الأشراف للبلاذري: «فباع بعيرًا له ومتاعًا فبلغ من ذلك أربعمائة وثمانين درهمًا، ويقال: أربعمائة درهم، فأمره أن يجعل ثلثها في الطيب وثلثها في المتاع ففعل.»
ثم استطرد صاحب الأنساب إلى رواية أخرى، يرتفع سندها إلى عليٍّ نفسه قال: سمعت عليًّا عليه السلام يقول: «أردت أن أخطب إلى رسول الله ﷺ ابنته، فقلت: والله ما لي شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته فخطبتها إليه». فقال: «وهل عندك من شيء؟» قلت: «لا» قال: «فأين درعك يوم كذا؟ فقلت: هي عندي! قال: فأعطها إياها.»
وفي طبقات ابن سعد أن رسول الله قال لما خطب أبو بكر وعمر فاطمة: «هي لك يا علي! لستُ بدجال» يعني لست بكذاب. وذلك أنه كان وعد عليًّا بها قبل أن يخطبها.
وجهزت وما كان لها من جهاز غير سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف ونورة من أدم (إناء يغسل فيه) وسقاء ومنخل ومنشفة وقدح ورحاءان وجرَّتان.
قال أنس: «وكان عليٌّ عليه السلام غائبًا في حاجة لرسول الله ﷺ قد بعثه فيها. ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا، فقال: انتبهوا. فبينما نحن كذلك إذ أقبل عليٌّ فتبسم إليه رسول الله ﷺ وقال: «يا عليُّ! إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وإني زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة»، فقال عليُّ: رضيتُ يا رسول الله! ثم إن عليًّا خر ساجدًا شكرًا لله، فلما رفع رأسه قال الرسول ﷺ: «بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب».»
قال أنس: «والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.»
ومن المرجح جدًّا أن الزهراء قد استشيرت في زواجها على عادة النبي عليه السلام في تزويج كل بنت من بناته كما جاء في مسند ابن حنبل، فيقول لها: فلان يذكرك، فإن سكتت أمضى الزواج، وإن نقرت الستر علم أنها تأباه، وفي زواج الزهراء قال لها: يا فاطمة! إن عليًّا يذكرك. فسكتت، وفي روايات أخرى أنه وجدها باكية، فذاك حيث قال رسول الله: «ما لك تبكين تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علمًا، وأفضلهم حلمًا، وأولهم سلمًا.»
ولم يجمع كتاب السيرة على الوقت الذي تم فيه الزواج، ولكنهم قالوا: إنه كان بعد الهجرة، وبعد غزوة بدر. وأرجح الأقوال كما قدمنا أنها كانت في نحو الثامنة عشرة، وزوجها أكبر منها ببضع سنوات.
توخينا في اقتباس هذه الأخبار أن نرجح منها الأوسط الأمثل بين أقوال الرواة والمحدثين، فما من خبر من هذه الأخبار وصل إلينا في كتب السيرة على رواية واحدة، وقد يبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالزمن خمس سنوات أو أكثر، ويبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالأقوال والأعمال أن تتناقض مناقضة القبول والإباء والرضى والإنكار، فلا مناص من الأخذ بالأوسط الأمثل بين جميع هذه الأقوال.
ونحن نعني بالأوسط الأمثال أن يكون الترجيح قائمًا على المقابلة والموازنة والرجوع إلى حوادث الزمن وعادات أهله، وإلى الأحرى أن يصدر ممَّن أسند إليهم القول أو نُسب إليهم العمل؛ فإن الأخبار إذا تساوت رجح بينها ما هو أشبه بالزمن وأهله وأصحاب السيرة فيه.
فمن المعقول مثلًا أن يؤثر النبي عليًّا بفاطمة وهما ربيبان في بيئة واحدة، ومن المعقول أن يؤثر زواجها من عليٍّ على مشاركتها في بيت أبي بكر وعمر لزوجات الشيخين، ومن المعقول أن يتردد علي في خطبتها لفقره. ولا يخالف المعقول ولا المألوف أن يقدم بعد تردد، لشعوره بأنه مخصوص بها وأنه ينبغي عليه أن يقطع الشك باليقين ويعمل من عنده ما لا بد له من عمله، ولا يخالف المعقول ولا المألوف كذلك أن يتأخر الزواج إلى ما بعد الهجرة؛ لأن حياة المسلمين في مكة — قبل الهجرة إلى المدينة — لم تكن حياة أمن ولا استقرار، ولم يكن من النادر أن يهاجر المسلمون بزوجاتهم إلى بلد بعيد كالحبشة كلما ملكوا وسائل الهجرة، فمن كان متزوجًا قبل اشتداد العنت على المسلمين فلا حيلة له في الزواج، ومن لم يكن فليس أخلق به من إرجاء الزواج إلى حين.
ذلك كله هو المعقول المألوف، وهو الأوسط الأمثل إذا تساوت الأخبار ووجبت الموازنة والترجيح.
إلا أن التاريخ يكتب للاعتبار، ولا يقصد من الاعتبار به شيء أهم من تصحيح النظر إلى الحوادث والناس، واستخلاص الحقيقة عما يقع ولا يقع وعما يجوز ولا يجوز.
وها هنا محل لعبرتين كأهمِّ العبر في كتابة التاريخ: كتابته في الأزمنة الغابرة، وكتابته في الزمن الحديث.
فأهمُّ العبر التي تُستخلص من تواريخ عصر البعثة المحمدية أن يقتصد ذوو الأحكام التاريخية في المسائل الكبرى، فلا يرتبوا حكمًا قاطعًا في مسألة كبيرة على أرقام السنين وألفاظ الروايات، فما كان من الأخبار مُجْمَعًا عليه أو مقاربًا للإجماع فهو جدير باتخاذ الأحكام الجازمة فيه، وما كان ميزان الحكم فيه كلمة تقابلها كلمات، أو فرضًا تقابله فروض، أو رقمًا ويومًا تقابله أرقام وأيام بل أعوام، فليس من القصد أن يعطى فوق معياره من الجزم واليقين، وبخاصة حين ينبني عليه اتهام أو قضاء لا يقوم في مسائل كل يوم بغير بينة تنفي كل شبهة وتبطل كل محال.
أما العبرة في تاريخنا العصري فمرجعها إلى كتابة طائفة من العصريين يزعمون أنهم يطبقون روح العصر على تاريخنا القديم وأنهم يصححونه بهذا التطبيق، وليس أعجز منهم عن تحقيق هذه الدعوى؛ لأنهم أثبتوا فيما كتبوه أنهم يزنون بميزانين وينظرون بعينين، ويختلقون أسباب التشويه والتحريف.
أولئك هم طائفة المستشرقين الذين يجمعون بين الاستشراق والتبشير، فمن هؤلاء من يطالع في الكتب الدينية التي يصدقها، فيقرأ فيها من أخبار الدعاة والأدعياء أمورًا لا شك في أنها من العيوب فلا يحسبها عيوبًا، ولا يتأفف منها، بل يُعْنِت فِكْرَهُ ويُعْنِتُها تخريجًا وتعويجًا حتى يقبلها، ويفرض قبولها على الناس.
فإذا طالع كتبًا عن أصحاب دين غير دينه لم يأخذ نفسه بمثل هذا التحسين والتزيين، بل أخذها على النقيض من ذلك بالمسخ والتشويه وتحويل المحاسن إلى عيوب، أو بالتنقيب في كل مكان عما يعاب إن لم يجد ما يعيبه في ظاهر السطور والحروف.
وفي تاريخ الزهراء مثال للعبرة التي تستخلص من كتب هؤلاء «العلماء» الذين هم شر من الجهلاء، وأحدهم قد خصص كتابًا لتاريخ الزهراء يحاول فيه جهده أن «يطبق» ذلك العلم العصري المقلوب، فإذا هو منقلب عليه.
يؤلف رجل من رجال الدين المستشرقين الذين عاشوا زمنًا في الشرق — كتابًا عن الزهراء ليُرضِيَ فيه ذلك «العلم العصري» المقلوب، ويبحث عن العيوب حيث لا عيوب، فإذا العيب هو في الإسفاف، وكم في الإسفاف من عيوب، بل من ذنوب!
لو كان السند الذي استند إليه هذا «العالم» واضحًا ملزمًا لقلنا: إنها أمانة العلم، ولا حيلة للعالم في الأمانة العلمية.
لكن السند كله قائم على أن السيدة فاطمة تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها، وتقابله أَسْنادٌ أخرى تنقضه وتتراءى للمؤلف حيثما نظر حوله ولكنه لا يحب أن يراها؛ لأنه يحب أن يرى ما يعيب ولا يحب أن يرى ما لا عيب فيه.
فالمشهور المتواتر أن السيدة فاطمة ولدت لأبوين جميلين، وأن أخواتها تزوجن من ذوي غنى وجاه، كأبي العاص بن الربيع وعثمان بن عفان.
وليس من المألوف أن يكون الأبوان والأخوات موصوفين بالجمال وأن تُحرمه إحدى البنات!
والمشهور المتواتر أن السيدة فاطمة بلغت سن الزواج والدعوة المحمدية في إبَّانها، والمسلمون بين مهاجر أو مقيم غير آمن، والحال قد تبدلت بعد الدعوة المحمدية فأصبحت خطبة المسلمات مقصورة على المسلمين، وهؤلاء المسلمون قلة، منهم المتزوج ومنهم من لا طاقة له بالزواج، فلا حاجة بالمؤلف إلى البحث الطويل ليهتدي إلى السبب الذي يؤخر زواج بنت النبي إلى الثامنة عشرة، ولو كانت أجمل الجميلات.
وفي وسعه كذلك أن يتصور أن النبي يخصُّ بها ابن عمه، وينتظر بها يوم البَتِّ حين تهدأ الحال ويستعد ابن عمه للزواج ويستقر على حال بينه وبين آله الذين لا يزالون على دين الجاهلية، فلا هم في ذلك الوقت ذووه ولا هم بُعداء عنه.
وكأنما كان «العالم المحقق» في حاجة إلى جهالة فوق جهالته، فهو يفهم من بكاء السيدة فاطمة أنه شكاية من فقر علي بن أبي طالب، ويسند هذا الفهم إلى رواية البلاذري في أنساب الأشراف، بعد زعمه أن فاطمة أُبلغت زواجها بعلي فسكتت من الدهشة لا من الخجل، وإنما دهشت؛ لأنها لم تكد تصدق أن أحدًا يخطبها بعد أن قاربت العشرين.
أفمن المألوف أو من التطبيق العلمي أن تكون الفتاة يائسة من الزواج، مدهوشة من خطبة الخطيب، ثم تتعلل العلل وتفرض الشروط وتستعظم نفسها على بني عمومتها الفقراء، وليست هي يومئذ من الأغنياء؟
كلا! ليس ذلك بالمألوف ولا بالتطبيق العلمي، ولكنه تَمَحُّلٌ للظن فضيلته الكبرى أنه يشتمل على مساس بفاطمة وعلي. فهو إذن أحق بالترجيح من كل تقدير مألوف.
والبلاذري — بعد — لم يذكر شيئًا من هذا، وليس في كلامه عن مناقب علي أو فاطمة شيء من قبيل الجواب الذي ينسب إلى الزهراء غير روايته الحديث بسنده وهو: «حدثنا عبد الله بن صالح عن شريك عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: لما زوج رسول الله ﷺ أرعدت، فقال: «اسكتي! فقد زوجتك سيدًا في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين».»
هذا ما وجدناه في النسخة المنقولة من مخطوطة الأستانة، ومن المطبوعة في أوربا، فتفسير «الرعدة» بذلك المعنى إنما هو من إبداع المؤلف الحصيف!
هذا مثال من تحقيق هؤلاء المحققين حين يكتبون عن تاريخ أعلام الشرق وحوادثه، نَمُرُّ به لعبرته النافعة في وزن التواريخ العصرية المزعومة، ولا ننبه إليه لقول قائل: إن السيدة فاطمة كانت محرومة من الجمال. فإنه لو صح لما كان فيه مهانة على سيدة شرفتها أكرم الأبوات كما شرفتها أكرم البنوات، ولكننا ننبه إليه؛ لأنه عبرة المعتبرين فيما يصنعه العقل بنفسه حين يمسخه مرض الأهواء، فيفتري على العلم والدين ما تأباه أمانة العلم، ويعافه أدب الدين.
ونعود إلى قياس الأخبار بالموازنة أو بما هو مألوف ومعقول، فنقول: إننا بحثنا عن خبر من أخبار زواج البنات في آل محمد وآل علي، فلم تجد في عصر النبوة غير واحد على قبيل الخبر الذي قيل فيه: إن السيدة فاطمة أشارت إلى فقر علي حين بُلغت خطبته لها، وهو تزوج السيدة أم كلثوم.
وبين الخبرين، مع هذا، بَوْنٌ بعيد.
جاء في أُسْد الغابة عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: «لما تأيمت أم كلثوم من عمر بن الخطاب دخل عليها حسن وحسين أخواها فقالا: «إنك ممن قد عرفت سيدة نساء المسلمين وبنت سيدتهن، وإنك والله إن أمكنت عليًّا من رُمَّتِكِ لينكحك بعض أيتامه، وإن أردت أن تصيبي بنفسك مالًا عظيمًا لتصيبنه»، فوالله ما قاما حتى طلع علي يتكئ على عصاه، فجلس فحمد الله وأثنى عليه وذكر منزلتهم من رسول الله وقال: قد عرفتم منزلتكم عندي يا بني فاطمة وأَثَرَتَكُمْ على سائر ولدي لمكانكم من رسول الله ﷺ، فقالوا: صدقت رحمك الله، فجزاك الله عنا خيرًا. فقال: أيْ بُنَيَّة! إن الله عز وجل قد جعل أمرك بيدك، فأنا أحب أن تجعليه بيدي. فقالت: أي أبة! إني امرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء، وأحب أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي. فقال: لا والله يا بنية! ما هذا من رأيك. ما هو إلا رأي هذين! ثم قام فقال: والله لا أكلم رجلًا منهما أوْ تفعلين، فأخذا بثيابه فقالا: اجلس يا أبة، فوالله ما على هجرتك من صبر. اجعلي أمرك بيده. فقالت: قد فعلتُ! قال: فإني قد زوجتك من عون بن جعفر، وإنه لغلام، وبعث لها بأربعة آلاف درهم.»
فإذا كان للخبر الذي جاء في أنساب الأشراف أصل يعول عليه فأصله فيما هو مألوف ومعقول أن يكون النبي عليه السلام قد وجد الزهراء باكية وليس في ذلك من غرابة؛ لأننا لا نتخيل فتاة في مثل موقفها لا يبكيها ما تثيره في نفسها ذكرى أمها ووداع بيت أبيها، وقد فارقتها أمها وهي صبية تدرك ما فقدته من عطفها وبرها وإلطافها لها في رخائها وعسرها، ثم يكون يوم الفصال في غربة من البيت الذي لزمتها فيه ومن البلد الذي يحتويه، فإن جهدنا أن نتخيل فتاة لا تبكي حي تحوم بنفسها تلك الذكريات، وتقترب من اليوم الفاصل بين معيشتها في كنف أبيها ومعيشتها في غير كنفه، فموضوع الغرابة أن نتخيلها بعد الجهد غير باكية وغير آسية، ولا سيما من كانت مثل الزهراء مجبولة على مزاج حزين وأسى دفين على أمها العزيزة لم يفارقها مدى السنين.
ولم يمض غير قليل حتى تبين لنا سبب من الأسباب التي أطالت بقاء فاطمة في بيت أبيها، فإنه عليه السلام كان يحنو عليها لضعفها وحزنها ولا يصبر على فراقها، فلما تحولت عن داره بعد زواجها لم تمض أيام حتى ذهب إليها فقال لها: إني أريد أن أحولك إليَّ. فقالت: فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول عني. قال رسول الله: قد تحول حارثة بن النعمان عنا حتى استحيت منه. فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء النبي فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي، وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول الله لَلْمالُ الذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تَدَعُ. فقال رسول الله: صدقتَ. بارك الله عليك! فحولها رسول الله إلى بيت حارثة.
وانتظمت الحياة في السكن الجديد الذي أوى إلى ظل النبي على مثال من حياة النبي في بيته: عيشة كفاف وخدمة يتعاون عليها رَبُّ البيت وَرَبَّتُهُ، إذ كان رزق علي من وظيفة الجندي، ووظيفته من فيء الجهاد، وقد كان قليلًا في حياة النبي، وهو مقصور على الجزيرة العربية، فكان نصيب علي منه أقل من أن يتسع لأجرة الخدم، وكلما رزق وليدًا جاءته حصته على قدر شأنه كشأن كل أب من المسلمين.
وما لبث البيت الصغير أن سعد بالذرية، وقد رزق الأبوان الفقيران نصيبًا صالحًا من البنين والبنات: الحسن والحسين ومحسن، وزينب وأم كلثوم.
وكان أسعد ما يسعدان به عطف الأب الأكبر الذي كان يواليهم به جميعًا ولا يصرفه عنه شاغل من شواغله الجسام في مُحْتَدَمِ الدعوة والجهاد، وقد أوشكت كل كلمة قالها في تدليل كل وليد أو الترحيب به أن تصبح تاريخًا محفوظًا في الصدور والأوراق.
فلما ولد الحسن سماه والداه حربًا، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قالوا: حرب! قال: بل هو حسن، وهكذا عند مولد الحسين، وعند مولد المحسن، وقد مات وهو صغير.
وربما شوهد النبي عليه السلام ساجدًا وطفل من هؤلاء الأطفال راكب على كتفيه، فيتأنى في صلاته ويطيل السجدة لكيلا يزحزحه عن مركبه، وفي إحدى هذه السجدات يقول عمر بن الخطاب للطفل السعيد: المطيَّة مطيَّتك!
بل ربما كان على المنبر، فيقبل الحسن والحسين يمشيان ويتعثران، فيسبقه حنانه إليهما وينزل من المنبر ليحملهما، وهو يقول: «صدق الله العظيم! إنما أموالكم وأولادكم فتنة!»
وكان إذا سمع أحدهما يبكي نادى فاطمة وقال لها: «ما بكاء هذا الطفل؟ ألا تعلمين أن بكاءه يؤذيني؟»
وقد جعل من عادته أن يبيت عندهم حينًا بعد حين، ويتولى خدمة الأطفال بنفسه وأبواهم قاعدان. ففي إحدى هذه الليالي سمع الحسن يستسقي فقام صلوات الله عليه إلى قربة فجعل يعصرها في القدح ثم جعل يعبعبه، فتناول الحسين فمنعه وبدأ بالحسن، قالت فاطمة: كأنه أحب إليك؟ قال: إنما استسقى أولًا!
وقد يلفهم جميعًا في برد واحد فيقول لهم: «أنا وأنتم يوم القيامة في مكان واحد.»
وكانت هذه الأبوة الكبيرة أعز عليهم جميعًا من أبوة الأب الصغير، فكانت فاطمة تقول إذا رقَّصَتْ طفلها:
وكانوا يتغايرون على هذا تغاير المحبين الذين يتنافسون على حب لا يمنع بعضهم بعضًا أن يتنافسوا عليه.
•••
حياة سعيدة مع الشظف والفاقة؛ سعيدة بالعطف في قلوب كبار، ما كان حطام الدنيا عندها ليساوي مثقال ذرة من هباء.
ولم تَخْلُ هذه الحياة، وما خلت حياة آدمي قط، من ساعات خلاف وساعات شكاية، فربما شكت فاطمة وربما شكا علي، وربما أخذت فاطمة على قرينها بعض الشدة، وما هي بشدة، فما كان رجل مثل علي ليعنف بنت رسول الله وهو يعلم مكانها من قلب رسول الله؛ إنما هو اعتزاز فاطمة بنفسها وإباؤها أن تهمل حيث كانت، وإنما هو الحنان الذي تعودته من أبيها فلا تستريح إلى ما دونه، وكل حنان بعد حنان ذلك القلب الكبير فكأنه قسوة أو قريب من القسوة عند من يتفقده فلا يجد نظيره في قلب إنسان.
وكان الأب الأكبر يتولى صلحهما في كل خلاف، وربما ترك مجلسه بين الصحابة ليدخل إلى الأخوين المتخاصمين فيرفع ما بينهما من جفاء. والصحابة الذين يتتبعون في وجه النبي كل خالجة من خوالج نفسه، ويبيحون أنفسهم أن يسألوه؛ لأنه لا يملك من ضميره ما يضن به على المتعلم والمتبصر، يجرون معه على عادتهم كلما دخل البيت مهمومًا وخرج منه منطلق الأسارير، فيسألونه فيجيب: «وَلِمَ لا وقد أصلحت بين أحب الناس إليَّ!»
ومرة من هذه المرات، بلغ العتاب غاية ما يبلغه من خصومة بين زوجين، ونمى إلى فاطمة أن عليًّا يهم بالزواج من بنت هشام بن المغيرة، فذهبت إلى أبيها باكية تقول: «يزعمون أنك لا تغضب لبناتك؟»
كلمة تعلم وقعها في نفس أبيها الذي ما زعمت هي قط أنه يرضى بما يغضبها، وقد عرف أبوها ما تعني؛ لأن بني هشام بن المغيرة استأذنوه في تزويج بنتهم من زوج فاطمة، فصعد المنبر والغضب بادٍ عليه، وقال على ملأ من الحاضرين: «ألا إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن يُنكحوا ابنتهم عليًّا، ألا وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يُريبني ما رابها.»
ولا نعلم نحن من شرح هذه الخطبة غير ما جاء في رواياتها المختلفة، ولكننا نعلم أن هذه الفتاة أسلمت وبايعت النبي وحفظت عنه، فلعلها قد خيف عليها الفتنة أن تتزوج بغير كفء من المسلمين، وأهلها هم من هم في المكانة والحسب لا يرضيهم من هو دون ابن أبي طالب من ذوي قرابتها، أو لعلها غضبة من غضبات علي على أنفة من أَنَفَات فاطمة، أو لعلها نازعة من نوازع النفس البشرية لم يكن في الدين ما يأباها، وإنْ أباها العرف في حالة المودة والصفاء.
ولا نحسب أن حياة الزهراء والإمام تعرضت لخلاف غير الذي أشرنا إليه، فإن كتب السيرة تستقصي كل جليل ودقيق من الحديث عن ذرية النبي. وهي وأبناؤها كل ذرية النبي الذين عاشوا بعده، ولم يطل بها العمر فلحقت بالنبي صلوات الله عليه بعد وفاته ببضعة أشهر، وكان علي قد عاهد نفسه لا يغضبنها وقد غابت عنها عين أبيها، فلم يغضبها بعد ذلك حتى في أمر الخلافة، وهو يومئذ أجلُّ الأمور.