بلاغَتُهَا
إلى أن قالت: «وأنتم الآن تزعمون أنْ لا إرث لنا! أفحكم الجاهلية تبغون؟! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟! أيها المسلمة المهاجرة، أَأُبْتَزُّ إرث أبي؟ أفي الكتاب أن تَرِثَ أباك ولا أَرِثُ أبي؟ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، فَدُونَكَهَا مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فَنِعْمَ الْحَكَمُ الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.»
ثم انحرفت إلى قبر النبي ﷺ وهي تقول:
هذه رواية لخطاب الزهراء، وفي الكتاب نفسه رواية أخرى مخالفة في لفظها ومعناها للرواية السابقة، وقبل إيراد الروايتين قال أبو الفضل: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة عليها السلام، وقت له: إن هؤلاء — يشير إلى قوم في زمانه يغضون من قدر آل البيت — يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم، ويعلمونه أبناءهم، وقد حدثنيه أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء، وقد حدث به الحسن بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه. ثم قال أبو الحسن: وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة، يتحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟
ووقفت على قبر النبي وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعها على عينيها وبكت وأنشأت تقول:
وقالت على قبره أيضًا:
ومضى آنفًا أنها تمثَّلت بعد خطابها عن فدك ببيتين من البحر والقافية مع تكرار شطر منهما وهما:
وفيهما كما يرى القارئ إقواء، لأن الباء مضمومة في رَوِيِّ البيت الأول مكسورة في رَوِيِّ البيت الثاني، ولعل شطرًا منهما حل محل شطر في نقل الرواية.
•••
نقول: إن الخلاف في أمر هذه الخطب وهذا الشعر كثير، ولا نحب أن نخوض فيه؛ لأنه خلاف على غير طائل، وقد يحسمه أن نذكر في هذا الباب ما يقل فيه الخلاف بين جميع النقاد، فإنه أجدى من اللهو في جدال لا سند له، يسلِّمه جميع المخالفين.
فيقل الخلاف ولا شك حين نذكر أن ذلك الخطاب ليس مما يبدر من اللسان عفو الخاطر، وإن قائله يعده في نفسه قبل إلقائه كما كان يصنع الخطباء قبل استخدام الكتابة في التحضير.
ويقل الخلاف ولا شك حين نذكر أن سامع هذا الخطاب لا يستظهره عند سماعه، فإن حفظه فإنما يحفظه منقولًا أو مكتوبًا بعد حفظه.
فإذا قل الخلاف في هذا فعلام إذن يكثر الخلاف؟
أتراه يكثر حين يقال: إن السيدة فاطمة تُحْسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل لها وتعدها في خَلَدها؟
إن هذا النصيب من البلاغة إذا استُكْثِرَ على السيدة فاطمة فما من أحد في عصرها لا يستكثر عليه.
لقد نشأت وهي تسمع كلام أبيها أبلغ البلغاء، وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه، وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات، وتحدث الناس في زمانها بمشابهتها لأبيها في مشيتها وحديثها وكلامها، ومنهم من لا يحابيها ولا ينطق في أمرها عن الهوى.
جاء في الجزء الثالث من العقد الفريد عن «الرياشي عن عثمان بن عمرو عن إسرائيل بن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «ما رأيت أحدًا من خلق الله أشبه حديثًا وكلامًا برسول الله ﷺ من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحب بها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده وقبلتها، فدخلت عليه في مرضه الذي توفى فيه، فأسرَّ إليها فبكت، ثم أسر إليها فضحكت، فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلًا على النساء فإذا هي واحدة منهن، بينما هي تبكي إذا هي تضحك. فلما توفى رسول الله ﷺ سألتها فقالت: أسر إليَّ فأخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أسر إلي إني أول أهل بيته لحوقًا به فضحكت».»
وما قالته السيدة عائشة عن المشابهة بين الزهراء وأبيها قيل على ألسنة الثقات جميعًا، ويزاد عليه في حديث السيدة عائشة أن امرأة في فضلها واعتزازها بنفسها كانت ترى للزهراء فضلًا على سائر النساء في حلمها ورصانتها. ففيم يكثر الخلاف على مثل ذلك النصيب من البلاغة إذا نسب إليها؟ ولماذا تستعظم البلاغة على من نشأت سامعة لحديث محمد مطبوعة على مشابهته في حديثه؟ ولماذا تُستعظم على زوجة الإمام الذي كان المتفقون على بلاغته أكثر من المتفقين على شجاعته، وهي مضرب الأمثال؟ ولماذا تستعظم على سامعة القرآن الكريم بالليل والنهار مع الذكاء واللب الراجح؟
أما نسبة الشعر إلى الزهراء فالخَطْب فيه أهون من ذلك، فهو لا يسلكها في الشاعرات إن ثبت، ولا يضيرها إن لم يثبت، ونحن إلى جانب الشك الكبير فيه أقرب منا إلى جانب القبول، وليس بعيدًا على غير الشاعر أو الشاعرة أن يدير في فمه أبياتًا يحكي بها حزنه وبثه، فإن النظم هنا أقرب إلى لغة العاطفة وعادة النحيب، ولكن السيدة فاطمة كان لها من الاعتبار بآيات من القرآن في مقام الموت غني عن نظم الأبيات أو التمثل بها في مقام العبرة والرثاء.