وفاتها
حفظ النوع سر من أسرار الحياة الكبرى التي دقت عن الفهم وحارت في تعليلها عقول الأساطين من أهل العلم والحكمة، وهو لا ريب يجري على قانون مطرد في جميع طبقات الأحياء، وإن كنا لا نعلم كنهه ولا نسبر عمقه ولا نزيد على استقصاء بعض الملاحظات التي تقارب الحقيقة، أو هي أقرب ما نستطيع الوصول إليه.
وأهم هذه الملاحظات التقريبية أنه يجري على سُنَّة المكافأة والتعويض في معظم حالاته، فيقابل النقص في جانب بالزيادة في جانب آخر، ويقابل القصور في مزية من المزايا بالإتقان في مزية أخرى.
•••
فالأحياء السفلى عرضة للعطب الكثير في طور الولادة والحضانة، فيقابل هذا أن الأحياء السفلى ترسل ذرياتها بالألوف وألوف الألوف، فيبقى منها القليل الكافي لدوام النوع بعد فناء الكثير.
والأحياء العليا يقل عدد المولود منها في البطن الواحد، فيقابل هذا أن تطول حضانتها والعناية بها، وتجد من وسائل الصيانة ما يعوض الكثرة في الأحياء السفلى.
ويغلب أن يزيد النسل حين تكون زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعها الفرد لخدمة نوعه وضمان دوامه، فإذا تيسرت للفرد وسائل مختلفة لخدمة نوعه فقد يجود ذلك على نسله وينتقص من قسمة في أبنائه، كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور، فإذا أداها في صورة أعفى منها في الصور الأخرى، أو كأنما هي مواهب وأرزاق لا يستوفيها الفرد الواحد إلا بثمن غال يحسب عليه، ويؤدي حسابه للنوع على نحو من الأنحاء.
والإنسان أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة لا تنحصر في تجديد النسل وزيادة عدده.
فهل يجوز لنا أن نقول: إن العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم بإصلاح شئون الناس، فلم يبق من اللازم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبة من طريقة الذرية؟
إن قلنا ذلك فإنما نقوله على سبيل الملاحظة التقريبية التي أشرنا إليها، ولا نبلغ بتلك الملاحظة فوق مبلغها من اليقين الذي تستحقه؛ فغاية مبلغها عندنا أنها تستوقف النظر للتأمل والمراجعة ولا تفضي بنا إلى الجزم أو إلى التغليب.
فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية، كعيسى عليه السلام.
وبعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية، أو رزقوا ذرية كلها إناث، أو رزقوا ذرية من الإناث والذكور ولم يعيشوا، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة.
وتواريخ العظماء في جميع نواحي العظمة، وفي جميع الأمم، وفي جميع العصور، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة بالتأمل والمراجعة، يدخل فيهم القديسون كما يدخل فهم الحكماء، ويدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون، ويدخل فيهم القادة العسكريون. ولا يصعب على أحد أن يدير بصره إلى فترة من الزمن في بلد قريب يعرفه حق المعرفة ليشاهد مصداق ذلك في نفر من عظمائه ومشهوريه، وحسبنا في مصر أسماء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وعبد الله نديم ومصطفى كامل ومصطفى فهمي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم.
فإذا جاز لنا أن نقف عند الملاحظة وأن نتأمل مغزاها، وجاز لنا أن نفهم أن إصلاح شئون النوع الإنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال، فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية تتناول الأجيال وتتناول الملايين في كل جيل؟ وأي أبوة روحانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته، وفي أمم لا يلقاها في زمانه، وأمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان؟!
نذكر هذا حين نذكر حظ محمد من الأبوة الروحية ومن الأبوة النوعية، ونرى تكافؤًا في الجانبين جديرًا بالملاحظة والاعتبار.
•••
نعم ونذكر هذا حين نذكر وفاة الزهراء في زهرة الشباب، في الثلاثين أو ما دون الثلاثين.
مات الذكور من ذرية محمد صغارًا لم يجاوزوا سن الرضاع، وعاش الإناث من ذريته ولم يرزقن طول العمر، ومنهن من لم ترزق قوة البنية في عنفوان الشباب.
وكانت الزهراء نحيلة سمراء، يمازج لونها شحوب في كثير من الأوقات، وقد رآها النبي عليه السلام في مرض وفاته فقال لها إنها أسرع أهله لحوقًا به، فلم تمض ستة أشهر، وقيل أقل من ذلك، حتى لحقت به في تلك السن التي تستقبل فيها الحياة.
وكانت تشكو حينًا بعد حين، ويعودها النبي يواسيها في مرضها، فإذا هو يواسيها كذلك في حاجتها، زارها يومًا وهي مريضة فقال لها: «كيف تجدينك يا بُنية؟» فقالت: «إني لَوَجِعَة». ثم قالت: «وإنه ليزيدني أني ما لي طعام آكله.» فاستعبر عليه السلام وقال: «يا بنية! أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين!»
وزارها يومًا وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال: «تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة.»
الله أكبر!
•••
مثل محمد يعلو على إشفاق المشفقين، ومن كان في قدرته أن ينعم من الدنيا بما يقطع قلوب الحاسدين حسدًا، ثم يرضى لنفسه وآله منزلة الإشفاق، فذلك هو الإعظام غاية الإعظام وذلك هو المرتقى الذي قيل فيه:
أن محمدًا يبكي؛ لأنه يرى أحب الناس وأقربهم منه جائعة مرهقة، ثم لا يملك لها ما يشبعها ويعفيها من عنائها، وهو يملك كل شيء في الجزيرة العربية. ويسأل السائلون من زعانفة المعطلين والمتعصبين أعداء كل دين «وما برهان النبوة عند محمد؟!»
الله أكبر، إن لم يكن هذا برهان النبوة فبرهان أي شيء يكون؟
•••
ولم يكن بالزهراء من سقم كامن يُعرف من وصفه؛ فإن العرب لوصَّافون، وإن من كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحة والسقم، فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب، وكل ما يتبين من كلامهم أنه الجهد والضعف والحزن، وربما اجتمع إليها إعياء الولادة في غير موعدها، إن صحَّ إنها أسقطت «محسنًا» بعد وفاة النبي كما جاء في بعض الأخبار.
ونعود فنقول: إنها ضريبة النبوة، وكم للهداية من ضريبة تضاعف على الهداة مرات بعد مرات!
•••
•••
وكانت وفاتها، على القول الأشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة، ودفنت ليلًا حسب وصايتها كما دفن رسول الله ﷺ.
في كل دين صورة للأنوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنما هي آية الله فيما خلف من ذكر وأنثى.
فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء، ففي الإسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.