الذُّرِّيَّة الفاطميَّة
إن الخليع عندهم هو القطيع عن نسبه.
ولهذا حفظوا أنسابهم في الجاهلية ما استطاعوا وجاءهم الخطأ فيها من تقادم العهد وكثرة الرحلة وجهل الكتابة والقراءة.
•••
وعظمت العناية خاصة بذرية النبي عليه السلام، صونًا للنسب الشريف، ودفعًا للأدعياء من طلاب الخلافة، فلم يقع لَبْسٌ قط في نسب أبناء فاطمة مدى الصدر الأول من الإسلام. ولم ينهض منهم قط إمام مشكوك في نسبه على عهد الدولة الأموية، ولم يكن الشك في النسب مطعنًا في دعوى أحد منهم بعد قيام الدولة العباسية، ولم يزل أمرهم كذلك إلى أن قامت لهم دولة بالمغرب وسميت بالدولة الفاطمية. أما قبل ذلك فقد كان دعاة الدولة العباسية يناقشونهم الحجة في حق الخلافة مع اعترافهم بانتسابهم إلى السيدة فاطمة، ولا ينكرون عليهم صحة الانتساب إليها رضي الله عنها.
من ذاك ما روي عن المأمون أنه قال يومًا لعلي بن موسى الرضا: «بِمَ تَدَّعُون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي من رسول الله ﷺ وبقرابة فاطمة رضي الله عنها، فقال له المأمون: إن لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خلف رسول الله ﷺ من كان أقرب إليه من علي أو من في مثل قدره، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله ﷺ فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعليِّ في هذا الأمر حق وهما حيَّان، فإن كان الأمر كذلك فإن عليًّا قد ابتزهما حقهما وهما صحيحان واستولى على ما لا يجب له.»
قال رواة هذا الحديث: «فما أجابه علي بن موسى بشيء.»
وظاهر أن علي بن موسى قد لزم الصمت هنا على حد قول أبي العلاء:
وإلا فما كان لحجة من أبناء علي وفاطمة — وقد رزقوا اللسن والفصاحة — أن يعجز في هذا المقام عن الكلام الذي يقال في الرد على كلام المأمون، وأقربه على اللسان أن عليًّا إن كان قد استولى على حقه فهم ورثته، وإن كان قد استولى على غير حقه فهم أصحاب الحق، وقد سمع خلفاء بني العباس كلامًا كهذا وأشد من هذا من الخارجين عليهم باسم العلويين والفاطميين، وأيسره أن أحدًا من جدود بني العباس في حياة الحسن والحسين لم يطلب الخلافة حين طلباها.
إلا أن دعاة الدولة العباسية إنما كانوا يدعون دعوى العلويين بمثل حجة المأمون ولا يتعرضون لصحة النسبة ولا يجسرون على محاربة الولاء للمنتسبين إلى الزهراء، إلا أن يدَّعوا عليه أنه حمل السيف وخرج للقتال أو أعلن العصيان.
قال العتبي: «كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه، حتى رأى المهدي في منامه شريكًا القاضي مصروفًا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال: يا أمير المؤمنين؟ إن شريكًا مخالف لك، وإنه فاطمي محض. قال المهدي: علَيَّ به! فلما دخل عليه قال له: يا شريك بلغني أنك فاطمي؟ قال شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي. إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى! قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد ﷺ. قال شريك: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال المهدي: معاذ الله! قال: فماذا تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله؟ قال فالْعَنْ هذا — وأشار إلى الربيع — فإنه يلعنها. قال الربيع: والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها. فقال شريك: يا ماجن! فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجلس الرجال؟ قال المهدي: دعني من هذا. فإني رأيتك في منامي كأنك مصروف عني وقفاك إليَّ، وما ذلك إلا بخلاف عليٍّ، ورأيت في منامي كأني أقتل زنديقًا؟ قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تُستحل بالأحلام، وإن علامة الزندقة بينة. قال: وما هي: شرب الخمر والرشى في الحكم ومهر البغي. قال: صدقتَ، والله يا أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك.»
•••
وحدث مثل هذا في معارض كثيرة، فَوُشِيَ بأناس أنهم يوالون أبناء فاطمة فلم يجسر الخلفاء على المساس بهم، واضطروا إلى التعلل لهم بغير تلك العلة.
مثال هذا أن صاحب كتاب جمهرة الأنساب، وهو الفيلسوف الحكيم ابن حزم، لم يَسْلَم من فتنة هذه الغواية، فقال وهو يتكلم عن ذرية إسماعيل بن جعفر الذي ينتسب إليه الفاطميون ويسمون من أجل ذلك بالإسماعيلية: «وادعى عبيد الله القائم بالمغرب أنه أخو الحسن البغيض هذا، وشهد له بذلك رجل من بني البغيض، وشهد له بذلك جعفر بن محمد بن الحسين بن أبي الحر علي بن محمد الشاعر ابن علي بن إسماعيل بن جعفر، ومرة ادعى أنه ولد الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكل هذه دعوى مفتضحة؛ لأن محمد بن إسماعيل بن جعفر لم يكن له قط ولد اسمه الحسين، وهذا كذب فاحش؛ ولأن هذا النسب لا يخفى على من له أقل علم بالنسب ولا يجهل أهله إلا جاهل.»
•••
ونحن نخص ابن حزم بالذكر في هذا المعرض؛ لأنه مثل للنقيضين المتقابلين فيما يوجب الثقة وما يوجب الشك غاية الشك في مؤلف واحد ونسابة واحد.
فعلم ابن حزم بالأسانيد والأنساب معروف، ولكنه في هذا المعرض خاصة عُرضة للهوى كأشد ما يكون الهوى، حتى ليكون تكذيبه لرواية داعيةً من دواعي احتمالها وقبولها.
كان ابن حزم أمويًّا غاليًا في التشيع للأموية، وكانت دولتهم في الأندلس على خطر من الدعوة الإسماعيلية، وبلغ من كراهته للإسماعيليين أنه تحول من المذهب الشافعي إلى المذهب الظاهري؛ أي المذهب الذي يأخذ بظاهر النص ويرفض التأويل؛ لأن مذهب الإسماعيليين يقول بالتأويل وبأنه من حقِّ الإمام.
بل قد بلغ من كراهته القوم أنه لا يطيق أن يذكر الرجل منهم بلقبه المتعارف عليه، فيلقبه بالبغيض بدلًا من الحبيب، ولعله لم يضع كتابه في جمهرة أنساب العرب إلا ليثبت حق بني أمية في الخلافة؛ لأنهم من قريش، فصعد بحق الخلافة إلى جد الأمويين والهاشميين، وقال في مقدمة كتابه: «ومن الغرض في علم النسب أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ولو وسع جهل هذا لأمكن ادعاء الخلافة لمن لا تحل له، وهذا لا يجوز أصلًا.» وقد ترقى ابن حزم من الحديث عن الفاطميين إلى المناقشة في معنى الحديث القائل أن فاطمة سيدة النساء، وأنه لا يعني أنها أفضل نساء العالمين!
•••
ونحن ننزه ابن حزم عن تعمد الافتراء، ولكننا نقول: إن هواه قد جنح به إلى قبول ما ليس بحجة في إثبات نسب أو دفع نسب، ولولا ذلك لوقف على الأقل موقف التردد بين النفي والإثبات.
وفيما يلي كلام يتناول هذا الموضوع ببعض التفاصيل، ونسلف القول في تلخيصه فنقول: إننا لا نزعم أننا وقفنا على الدليل القاطع الذي يثبت نسب عبيد الله رأس الدولة الفاطمية، ولكننا لم نقف على دليل قاطع ينفي ذلك النسب، ووقفنا على شبهات كثيرة توجب الشك في مطاعن الطاعنين، وهذه الشبهات في روايات نسابة كابن حزم نموذج لما وقفنا عليه.