الفاطميُّون
كل أبناء السيدة فاطمة الزهراء فاطميون، ولكن اسم الفاطميين يطلق في تاريخ الدول على أبناء إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق، ويسمون من أجل هذا بالإسماعيليين.
وقد كان أبناء الزهراء يعرفون أحيانًا باسم آل البيت، فلما استأثر العباسيون بالخلافة غلب عليه اسم العلويين.
وجاء الفاطميون ففضلوا الانتماء إلى الزهراء؛ لأنهم يقيمون حقهم في الخلافة على أنهم أسباط النبي ﷺ، وأنهم أبناء الوصي علي بن أبي طالب، ولكن العباسيين ينازعونهم دعوى الوصاية وينكرونها، ويقولون: إن الانتساب إلى النبي من جانب عمه العباس أقرب من جانب علي ابن عمه أبي طالب، ومن أجل هذا يتسمى الفاطميون بهذا الاسم؛ لأن بنوة الزهراء نسب لا يدعيه العباسيون.
أما تغليب اسم الإسماعيليين عليهم فمرجعه انتماؤهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقولهم: إنه هو الإمام بعد أبيه، وبهذا الاسم يتميزون من أبناء السيدة فاطمة الآخرين، وهم ذرية موسى الكاظم، وهو الأحق بالإمامة في مذهب الإماميين الاثني عشريين.
وقد كان الإمام جعفر الصادق وصَّى بالإمامة بعده لابنه الأكبر إسماعيل، ثم نحَّاه عنها ووصى بها لابنه موسى الكاظم، وقيل في أسباب ذلك: إنه علم أن إسماعيل يشرب الخمر، وقيل: إن إسماعيل مات في حياة أبيه فانتقلت ولاية العهد إلى أخيه.
أما الإسماعيليون فمذهبهم أن تحويل الولاية لا يجوز؛ لأن الولاية أمر من الله يتلقاه الإمام المعصوم، والْبَدَاء لا يجوز على الله، ويعنون بالْبَدَاء أن يبدو لله أمر فيعدل عما أمر به قبل ذلك.
ومن الإسماعيليين من ينفي موت إسماعيل في حياة أبيه، ويقولون: إنه شوهد بعد تاريخ الإشهاد على وفاته، وإنما أشهده أبوه على وفاته خوفًا عليه من الغيلة ومن تربص الخلفاء العباسيين به، كما كانوا يصنعون بالعلويين المرشحين للدعوة، واستدلوا على هذا بالإشهاد على وفاته وتوقيع الشهود عليه؛ إذْ لم تَجْرِ العادة بمثل هذا الإشهاد لولا الحيطة والتقية.
والخلاف بين الإسماعيليين وبين سائر الفاطميين قائم على إمامة إسماعيل، والإماميون الذين لا يسلمون الإمامة لإسماعيل وذريته طوائف متعددة، أهمها وأكبرها طائفة الإماميين المعروفين بالاثنى عشريين؛ لأنهم ينتهون بالإمامة إلى محمد المنتظر ابن الإمام حسن العسكري، وعندهم أنه سيظهر في زمانه الموعود؛ ولهذا يدعون بتعجيل فرجه كلما ذكروه.
ويتفق الإماميون على اعتقادهم عصمة الإمام في تبليغ شئون الإمامة؛ لأنه موئل السؤال والفتوى في أحكام الدين والدنيا؛ فلا يجوز الخطأ عليه في هذه الأحكام.
ويضيف الإسماعيليون إلى أسباب العصمة عقيدة التأويل، فإن أحكام الدين عندهم لها ظاهر وباطن، ولا يعلم تأويلها غير الله والراسخين في العلم، والأئمة هم الراسخون في العلم، وهم أولى الناس أن يعلموا ما ليس يعلمه المُؤْتَمُّون.
ولهذا يسمى الإسماعيليون بالباطنيين، ومنهم من لا يقصر أمور الباطن على أحكام الدين وآيات الكتاب، بل يقولون: إن كل موجود على الأرض له نظير في الفلك الأعلى، وإن مقادير هذه الموجودات تابعة للمقادير التي تجري على نظرائها في السماء.
ولما استتر الأئمة شاع بينهم علم النجوم والرياضة والفلسفة على العموم، وكان الإماميون من عهد علي رضي الله عنه يؤمنون بإلهامه واطلاعه على أسرار كتاب الجفر وما إليه من كتب النجوم، ولكن الأئمة الإسماعيليين أمعنوا في دراسة هذه العلوم؛ لأنهم لاذوا بالخفاء في عهد انتشارها وازدهارها، وأصبح علمهم بالأسرار خاصة مطلوبًا منهم فوق علمهم الراسخ بشئون الإمامة في الدنيا والدين، فإذا سأل السائلون عن أمر مستور فأولى الناس بعلمه الإمام المستور الذي يعلم مواطن السر والجهر ويتحين أوقات الفلك لإظهار ما خفي من أمور الدعوة وأمور الإمامة، وكل أمر ترتبط به مصالح العباد.
ودخل عدد الأئمة نفسه في خصائص الأعداد، فمن قديم الزمن يعتقد أصحاب النجوم سرًّا خاصًّا في عدد السبعة وعدد الاثني عشر، ويستشهدون على ذلك بعدد الأفلاك السبعة وعدد أيام الأسبوع وعدد فتحات الوجه، كما يستشهدون عليه بعدد الشهور وعدد البروج السماوية وعدد أسباط بني إسرائيل، وعلى هذا يدور الخلاف بين المهتمين بالتنجيم على عدد الأئمة؛ أهو سبعة أم اثنا عشر. ولكل منهم فيه كلام طويل.
وللإماميين فروق يبسطونها بين النبي والإمام والحجة والنقيب؛ فالنبي يبعث في زمان بعد زمان، والإمام قائم في كل زمان، وقد يكون الإمام إمامًا مستقرًّا فهو صاحب الحق في التوصية لخليفته من بعده، أو إمامًا مستودعًا فهو يحمل أمانة لضرورة موقوتة، ثم يردها إلى صاحبها ولا حق له في التوصية لغيره. أما الحجة فهو لازم في الخفاء إذا كان الإمام ظاهرًا في العلانية؛ لأن الإمام الظاهر عرضة للضرورات فلا بد معه من حجة يرجع إليها لاستبانة الحقائق بمعزل عن ضرورات السياسة، أما إذا استتر الإمام فلا بد له من حجة ظاهرة، وقد يسمون الإمام بالناطق أو بالصامت تبعًا للظهور والخفاء والمجاهرة بالحكم والتأويل فيه.
أما النقباء فالغالب أنهم دعاة أو وكلاء، ولا بد لهم من أئمة يرجعون إليهم في كل زمان.
أُعلنت وفاة إسماعيل في حياة أبيه كما تقدم، فانعقدت الإمامة بعده لابنه محمد، وارتحل محمد من الحجار إلى الرِّيِّ؛ إما لأنه لم يُطق منافسة عمه موسى الكاظم على زعامة العلويين؛ وإما لأنه آثر الانزواء والتستر ودفع الأذى من جانب العباسيين، وقد لقب بالإمام المكتوم؛ لأنه لم يعلن دعوته وأخذ في بثها خفية وهو يتنقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر كلما تنبهت إليه العيون ولاحقته الظنون، ثم ضاق المشرق كله بخلفائه فهجره عبيد الله إلى المغرب، وكان أول من نودي له بالخلافة الفاطمية.
ونسبه كما يقره المعترفون بهذا النسب هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. أما القائلون بانتسابه إلى ميمون القداح — كما سيلي — فهو في زعمهم محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق.
جاء في وصفه من كتاب «البيان المغرب في أخبار المغرب» لابن عذارى المراكشي، وهو من أعداء الإسماعيليين: «فاختاروا منهم رجلًا ذا فهم وفصاحة وجدال ومعرفة يسمى أبا عبد الله الصنعاني. فسار أبو عبد الله هذا إلى موسم الحج ليجتمع به مع من يحج تلك السنة من أهل المغرب ويذوق أخلاقهم ويطلع على مذاهبهم ويتحيل على نيل الملك بضعيف الحيل. ورأى في الموسم قومًا من أهل المغرب فلصق بهم وخالطهم وكانوا عشرة رجال من قبيلة كتامة ملتفين على شيخ منهم، فسألهم عن بلادهم فأخبروه بصفتها، وسألهم عن مذهبهم فصَدَقُوه عنه. ولم يزل يستدرجهم ويخْلِبُهم بما أوتي من فضل اللسان والعلم بالجدل إلى أن سلبهم عقولهم بسحر بيانه، فلما حان رجوعهم إلى بلادهم سألوه عن أمره وشأنه فقال لهم: أنا رجل من أهل العراق، وكنت أخدم السلطان، ثم رأيت أن خدمته ليست من أفعال البر فتركتها وصرت أطلب المعيشة من المال الحلال، فلم أرَ لذلك وجهًا إلا تعليم القرآن للصبيان، فسألت: أين يتأتَّى ذلك تَأَتِّيًا حسنًا؟ فذكَر لي بلاد مصر. فقالوا له: ونحن سائرون إلى مصر وهي طريقنا، فكن في صحبتنا إليها، ورغبوا منه في ذلك، فصحبهم في الطريق، فكان يحدثهم ويميل بهم إلى مذهبه ويلقى إليهم الشيء بعد الشيء إلى أن أُشربت قلوبهم محبته، فرغبوا منه أن يسير إلى بلادهم ليُعَلِّم صبيانهم، فاعتذر لهم ببعد الشقة، وقال لهم: إن وجدت بمصر حاجتي أقمت بها، وإلا فربما أصحبكم إلى القيروان، فلما وصلوا إلى مصر غاب عنهم فيها كأنه يطلب بغيته، ثم اجتمعوا به وسألوه فقال لهم: لم أجد في هذه البلاد ما أريد، فرغبوه أن يصحبهم فأنعم لهم بذلك.»
ولا يتسع الكلام في هذا المجال لسرد أعمال أبي عبيد الله في المغرب، فالذي عنيناه هنا هو الإشارة إلى أساليب هؤلاء الدعاة في دخول البلاد التي يقصدونها بالدعوة، وأول هذه الأساليب أن يكون الداعية مطلوبًا لا طالبًا، وأن يكون له حماة وأتباع من أبناء البلد قبل دخوله إذا استطاع، وقد سار أبو عبيد الله الشيعي على هذا الأسلوب حتى تمكن من القبائل واستمال إليه قبيلة كتامة القوية بعددها وشجاعة رجالها، فاتخذ الحول بعد الحيلة وجرد السيف وهزم دولة الأغالبة أعوان العباسيين، وضمن لمولاه النجاح فاستقدمه فوصل إلى جبال الأطلس قبيل انتهاء القرن الثالث للهجرة (سنة ٢٩٦).
كذلك يطول الكلام لو تتبعنا أعمال المهدي وخططه التي رسمها لإقامة عرشه في إفريقية وبسط كلمته من ورائها إلى الأقطار الإسلامية، فإن ملك المهدي في المغرب قد دام أربعًا وعشرين سنة إلى أن توفي (سنة ٣٢٢ للهجرة)، فخلفه ابنه القائم، وخلف القائم ابنه المنصور، وخلف المنصور ابنه المعز (سنة ٣٤١ للهجرة)، وهو الذي فتحت مصر في عهده وانتقلت من خلافة العباسيين إلا خلافته (سنة ٣٥٦ للهجرة)، فجاءوها كعادتهم مطلوبين ممهدًا لهم الطريق في الداخل والخارج بالدعوة والسلاح.
•••
إن تاريخ الدولة الفاطمية جدير أن تفرد له المجلدات الضخام؛ لأنه تاريخ يغني عن التواريخ؛ إذْ كانت هذه الدولة نموذجًا يقاس عليه ويعرض فيه ما لا يعرض في قيام الدول الأخرى من العبر والأطوار وصنوف التدبير والمصادفة. فهي الدولة التي قامت بين ستِّ دول أو أكثر من ست دول إسلامية وأجنبية تحاربها وتخشى عاقبة قيامها، وأسست حقها على دعوة يتألب الخصوم من حولها على إنكارها، واعتمدت في الدعوة على وسائل لم يسبقها إليها سابق ولم يلحقها نظير لها في تلك الوسائل إلى هذا القرن العشرين. فمن تلك الوسائل فن التخذيل أو «الطابور الخامس» كما يسمى في العصر الحديث، ومنها تسخير العلم والفن والفلسفة والقصص في نشر الدعوة الظاهرة والخفية، ومنها الاستعانة بالجماعات السرية وترتيب الأدوار المنظمة لإنفاذ سياسة بعد أخرى، ومنها المواكب والمواسم والمحافل والأعياد والعادات الاجتماعية، وكانت تثابر على الدعوة ولا تهمل معها أركان الملك من تشييد المدن وتنظيم الدواوين وترتيب الرتب وتدريب الجيوش وبناء الأساطيل وفتح المدارس والجامعات وتزويدها بالمكتبات، وتشويق الناس إليها بمجالس المحاضرة والمناظرة في أيام محدودة يشهدها الرجال والنساء.
•••
فقيام الدولة الفاطمية في الواقع نموذج لقيام الدول بالحول والحيلة، ولو استغنى التاريخ بدولة واحدة عن دول كثيرة لكانت هذه الدولة حسبه من عبره وأطواره وتدبيراته ومصادفاته. ولسنا في صدد الإفاضة في هذه الدراسة بتفصيلاتها وفروعها، ولكننا نطرق منها في هذه العجالة ما له علاقة بالانتساب إلى الزهراء، وما له علاقة بآثارها الباقية في هذا البلد؛ لأنه البلد الذي شهد من الدولة الفاطمية أهم أدوارها وأفخم عهودها، وكانت مخلفاتها فيه أبقى المخلفات في تاريخها الحديث.