الأنواع الفرعية
اتفقنا على أن الفيلم الوثائقي نوع من الأفلام يحتوي على تعهد للمشاهد بأن ما سوف يراه ويسمعه هو عن شيء حقيقي وصادق، ودائمًا يلزمنا أن نفهمه، غير أن المخرج لا بد أن يستخدم مجموعة كبيرة من الحيل من أجل تأكيد هذا الزعم، والكثير من المخرجين ينفذون أعمالهم في بيئة تجارية أو شبه تجارية تحجم اختياراتهم، ومع تطور الفيلم الوثائقي، تطورت أيضًا المعايير والعادات والتقاليد والقوالب الشائعة المتعلقة بكيفية تنفيذ المخرجين لأعمالهم.
ننتقل الآن للحديث عن العديد من الأنواع الفرعية لنرى مدى الاختلاف بين المخرجين في معالجة مشكلات تجسيد الحقيقة داخل نطاق العديد من الموضوعات.
الشئون العامة
من الجيد أن نبدأ في استعراض الأنواع الفرعية العديدة للفيلم الوثائقي بالأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة، التي لا تزال باقية في البرنامج العلمي «نوفا» التابع للتليفزيون العام، وهو مجموعة برامج تليفزيونية تناقش قضايا مثل الفقر، وبرامج الدعم الحكومي، والفساد المؤسسي، والرعاية الصحية، وغير ذلك من برامج الخدمة العامة. تعتمد مثل هذه الأفلام الوثائقية عادة منهجًا استقصائيًّا أو موجهًا نحو معالجة المشكلات، وتبرز عرضًا جادًّا مصحوبًا بسرد، وأحيانًا بمذيع، وتستعين بمشاهد مصورة خلفية أو القطع المتبادل (تناوب عرض المشاهد لأحداث تقع في آنٍ واحد)، وتركز على الأفراد الممثلين للمشكلة وهم يقدمون أمثلة أو شرحًا توضيحيًّا للمشكلة. وهذه الأفلام الوثائقية تتعهد بتقديم رؤية موثوقة تتسم في الغالب بطابع اجتماعي علمي لإحدى القضايا، بحيث تتحدث كصحفيين محترفين نيابة عن جمهور متأثر بالمشكلة.
كان هذا النوع مؤثرًا من الناحية الاجتماعية، وقويًّا من الناحية الجمالية، وكان أيضًا ثمرة للتجارب المبكرة لصناع الأفلام الوثائقية ومن مناهج وتقاليد الصحفيين، وهو أيضًا مصدر للكثير من آمال المشاهدين في الموضوعية والجدية في الفيلم الوثائقي، والسبب وراء اندهاش الكثيرين من التنوع الشديد في الأعمال التي قُدمت خلال التاريخ القصير للفيلم الوثائقي.
كانت الفترة ما بين منتصف الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات هي أوج ازدهار أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية، وكانت تُعرض في أغلب الأحيان في التليفزيون التجاري، وكان الممولون الأساسيون لأفلام الشئون العامة الوثائقية هم شركات البث، التي كانت تنتج هذه الأفلام من أجل نيل الجوائز والحظوة، وتبرير استخدامها لموجات البث التي كانوا يحصلون على رخصة استغلالها من الحكومة، وكجزء من تكليفات الخدمة العامة الرسمية التي فرضها المراقبون صراحة. وحين أصبح التليفزيون الوسيلة الأساسية التي يتعرَّف الناس من خلالها على العالم البعيد عن نطاق خبرتهم، تزايدت قدرة المذيعين التليفزيونيين على التأثير على الرأي العام، ومن ثم قرارات النخبة، ومع توسعه، أصبح مسئولو التليفزيون التنفيذيون أكثر تدخلًا في سياسة النخبة من أي وقت مضى.
تطورت أفلام الشئون العامة الوثائقية كنسخة أكثر نضجًا ورصانة من الأخبار؛ نوع من المقال التحليلي لعناوين الأخبار. ويرى فريد فريندلي — المنتج الأسطوري الذي تعاون مع إدوارد آر مورو وأصبح فيما بعد رئيسًا للتليفزيون العام — أن المهمة هي: «التفسير، وتقديم المعلومات الأساسية، والفهم في وقت يتعذر فيه الفهم أمام تواتر الأحداث.» كان الرجال والنساء (بمعدل أقل كثيرًا) الذين ينتجون هذه الأفلام الوثائقية يعتبرون أنفسهم صحفيين، بل صحفيين استقصائيين في الغالب، وقد كانوا يؤمنون بدور الصحافة كسلطة رابعة؛ رقيب على السلطة. في الوقت نفسه، كان المنتجون التنفيذيون الحذرون بحاجة إلى تحقيق نسب مشاهدة عالية من أجل البقاء، وكانوا على وعي تام بالتدقيق البالغ الذي يمارسه الساسة ذوو النفوذ، الذين كانوا يملكون القدرة على سحب التراخيص والتكليفات.
التاريخ والثقافة
أدى ظهور التليفزيون في الخمسينيات إلى تغير حادٍّ في الفرص والتحديات الماثلة أمام المخرجين الوثائقيين؛ فقد كانت الأفلام الوثائقية الأولى تنفَّذ على يد مخرجين؛ أما الآن، فالناس يتدفقون إلى التليفزيون من الإذاعة والصحافة المقروءة. أطلقت قناة بي بي سي برنامجَيْ «تحقيق خاص» (١٩٥٢–١٩٥٧)، و«بانوراما»، الذي لا يزال مستمرًّا، وأطلقت قناة جرانادا تي في، وهي قناة تجارية بريطانية، برنامج «العالم يتحرك» (١٩٦٣–١٩٩٨)، وفي الولايات المتحدة، كان لكل من الشبكات الثلاث برامج: برنامج «شاهده الآن» (١٩٥١–١٩٥٨) لشبكة سي بي إس، أعقبه في عام ١٩٥٩ برنامج «تقارير سي بي إس»، وبرنامج «الورقة البيضاء» لشبكة إن بي سي، أعقبه بعد ذلك برنامج «من قريب!» لشبكة إيه بي سي (١٩٦٠–١٩٦٣). كذلك أطلقت هيئة الإذاعة الأسترالية أيضًا برنامج «رقعة الشطرنج» (١٩٧٠–١٩٧٢)، وبرنامج «الأركان الأربعة»، الذي لا يزال يذاع، ونظرًا لأنها أُنتجت في حلقات مسلسلة عبر قنوات إخبارية ومعلوماتية كبرى، فقد كانت مثل هذه الأفلام الوثائقية التي تتناول الشئون العامة تؤكد ضمنًا أن الموضوعات التي تغطيها كانت أهم موضوعات الساعة.
تعرضت برامج الشئون العامة الوثائقية للتهديد مع كل تطور تجاري في التليفزيون تقريبًا، فقد رفع تزايد عدد الجماهير من المخاطر المتعلقة بنسب المشاهدة، وأدت المنافسة المترتبة على ظهور التليفزيون المشفر متعدد القنوات، والأقمار الصناعية، والإنترنت، إلى صعوبة أكبر في تبرير ارتفاع الميزانيات. كذلك أدى إسقاط القيود الحكومية والخصخصة إلى تقليص الالتزامات بخدمة المصلحة العامة على نحو كبير للغاية. وفي السبعينيات والثمانينيات هجرت الشبكات الأمريكية البرامج المسلسلة واتجهت إلى البرامج ذات الحلقات المنفصلة، وفي بعض الأحيان كانت تعهد بها إلى مخرجين مستقلين، تراوحوا من ديفيد ولبر ذي المنهج الهوليوودي البحت، وحتى المخرج المستقل جون ألبرت.
شهدت السبعينيات أيضًا ظهور برامج المجلات الإخبارية، مثل «٦٠ دقيقة» و«٢٠ / ٢٠»، وساهمت هذه البرامج عالية التنظيم في الحد من أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية، واعتمدت في نفس الوقت على سمعتها، وقد كان المنتج توم سبين — الذي بدأ مشواره بالعمل في مسلسل «القرن العشرين» من إنتاج شبكة سي بي إس تحت قيادة ريتشارد بالي — يعتقد أن «الأيام الخوالي» — تلك التي أطلق عليها آخرون «العصر الذهبي» — قد ولَّت «حين بدأ برنامج «٦٠ دقيقة» في إدرار مكاسب … فقد اعتبرنا أنفسنا ككلاب السيد بالي المهذبة؛ فقد كان بإمكانه أن يحركنا للتباهي بنا، ويجعلنا نقوم بحيل، ونكون سلعة جذب». وبحلول التسعينيات أصبحت أفلام الشئون العامة الوثائقية التي تتبع نموذج «العصر الذهبي» نادرة الوجود في التليفزيون التجاري في كل مكان، واستمر تليفزيون الخدمة العامة في إنتاج برامج وثائقية عن الشئون العامة بإمكانيات عالية، ولكن بدأ المنتجون أيضًا في البحث عن طرق لتقديم أعمال ذات قيمة بميزانيات أقل بكثير وبنماذج مختلفة؛ على سبيل المثال: استمر برنامج الشئون العامة الأمريكي «الخطوط الأمامية»، الذي كان مبتكرًا دائمًا، في إنتاج برامجه الرائعة، وعمد أيضًا إلى تجربة إنتاج برامج ذات ميزانية منخفضة، كانت تعرض أحيانًا على شبكة الإنترنت، ونُفذت بأحدث الأجهزة الرقمية.
التليفزيون العام
جاء ظهور الأفلام الوثائقية بالتليفزيون العام في الولايات المتحدة، جزئيًّا، بفعل الإحباط الذي اعترى المسئولين التنفيذيين للمؤسسات الكبرى من قلة أفلام الشئون العامة الوثائقية في التليفزيون التجاري. مولت مؤسسة فورد محاولة لاقت قبولًا في البيت الأبيض، وبحلول عام ١٩٦٧، أنشئ كيان لضخ تمويلات فيدرالية (غير أنها لم تتجاوز أبدًا خمس التمويل الموجه للتليفزيون العام) لمئات المحطات المحلية عبر جميع أنحاء البلاد. مولت المؤسسة أفلامًا وثائقية مثيرة للجدل، من بينها «البنوك والفقراء» (١٩٧٠)، الذي انتقد سياسات الإقراض البنكية التي استثنت أحياء كاملة، وكان أحد البنوك المقرضة التي تعرَّض لها الفيلم بالنقد مساهمًا أساسيًّا في حملة ريتشارد نيكسون الرئاسية، مما حدا بنيكسون إلى شن حرب ضد برامج الشئون العامة الوثائقية في التليفزيون العام، ولم تتوقف إلا بلائحة اتهام.
خلَّفت هذه التجربة حالة من الحذر والريبة لمديري المحطات التليفزيونية من جميع برامج الشئون العامة. مولت المؤسسات المخرجين الوثائقيين الذين استطاعوا التغلب على مخاوف هيئة الإذاعة العامة والمحطات التابعة لها، ونفذ صحفيون خبراء مثل بيل مويرز، وروجر وايزبرج، وهيدريك سميث، وألفين بيرلموتر، أعمالًا تميزت بالبحث المكثف والاحترافية العالية عن موضوعات كبرى مثل التعليم، وتطوير المناطق السكنية، وحتى الموت والاحتضار. وقد كانت الصحافة الاستقصائية عن الموضوعات السياسية المهمة في ذلك الوقت أكثر إثارة للجدل وأصعب في تمويلها.
ومع تحفيز الإنتاج الأقل تكلفة لجيل متمرد في السبعينيات، نظم المنتجون المستقلون صفوفهم وأصروا على الحصول على مساحة في التليفزيون العام، ونتج عن ذلك برامج مثل «الخطوط الأمامية» الذي أبرز الصحافة الاستقصائية، وبرنامج «وجهة نظر» الذي عرض أعمالًا بوجهات نظر شخصية. وفي عام ١٩٩١، نجح المنتجون المستقلون أخيرًا في تخصيص تمويلات فيدرالية داخل التليفزيون العام لهيئة الإذاعة المستقلة التي تنتج أفلامًا وثائقية على نطاق واسع.
التأثير والأهمية
كانت أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية تجذب غالبًا اهتمامًا هائلًا، وقد ثار جدال حامي الوطيس حول العديد من حلقات برنامج «شاهده الآن» التي تحدى فيها إدوارد آر مورو الترهيب المخالف للديمقراطية الناتج عن حملات اضطهاد الشيوعيين، وفي النهاية هاجم السيناتور جوزيف مكارثي، أحد أكثر من اشتهروا باضطهاد المخالفين، (ويعتمد الفيلم السينمائي «ليلة سعيدة وحظ سعيد»، إنتاج ٢٠٠٥، على هذه القصة.) وكشفت حلقة «الجوع في أمريكا» من برنامج «تقارير سي بي إس» لعام ١٩٦٨، عن إخفاقات منظومة الدعم الفيدرالي وأثارت قدرًا كبيرًا جدًّا من رد الفعل العام، حتى إن مجلس الشيوخ عقد جلسة استماع وزيدت تمويلات البرامج. هناك أيضًا فيلم «دفاع الولايات المتحدة» (١٩٨٠) ذلك الفيلم المرعب من إنتاج شبكة سي بي إس عن السياسة العسكرية النووية الأمريكية، وحظي بمشاهدة واسعة في أوروبا، وربما يكون قد أثار الحكومات الأوروبية ضد الخطط العسكرية الأمريكية. أيضًا لعب عمل المخرج البريطاني أدريان كويل للتليفزيون التجاري البريطاني عن تدمير الغابات البرازيلية المطيرة — وهو مسلسل «عقد من الدمار» (١٩٨٠–١٩٩٠) — دورًا في تحريك حملة ناجحة من المنظمات غير الحكومية لإصلاح السياسات البيئية للبنك الدولي. أثار أيضًا فيلم «قوة الكوابيس» (٢٠٠٤) لآدم كرتيس، من إنتاج شبكة بي بي سي، ضجة عالمية، لِمَا ذهب إليه من أن ظهور المسلمين الأصوليين كان مدعومًا من متطرفين من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، غالبًا ما كان المذيعون يتجنبون أن يكون لهم السبق في إثارة أي قضية، فقد انتظر إدوارد مورو، على سبيل المثال، عامين كاملين قبل أن يهاجم مكارثي، وترددت شبكة بي بي سي في عرض «قوة الكوابيس» وأذاعته في البداية بدون دعاية. وحتى أواخر الستينيات كانت الشبكات الأمريكية تتعمد تجنب حرب فيتنام، وتجنبت أيضًا إبداء أي اهتمام بالوثائقيات التي أُنتجت في كل أنحاء العالم، بما فيها تلك التي أنتجت في كوبا وفيتنام، عن الموضوع. فلم تُعرض الكثير من الأفلام الوثائقية الكندية التي قدمها صحفيون إذاعيون معروفون عالميًّا، مثل مايكل ماكلير وبيريل فوكس، في الولايات المتحدة، ربما لأن المسئولين التنفيذيين قد اختاروا ألا يثيروا غضب الساسة، أو لأنهم هم أنفسهم كانوا يشاركون في نفس الدوائر الاجتماعية واكتسبوا كراهية النخبة السياسية للمعارضين.
وأخيرًا جاء فيلم «فيتنام في عيون مورلي سيفر» بشبكة سي بي إس ليكسر الصمت بمشاهد غير مصحوبة بتعليق، ولكنها بشعة تعرض حربًا مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي جسدتها الحكومة، ويبدو أن هذا الفيلم قد فتح مجالًا جديدًا، فقد تعاقدت شبكة سي بي إس مع الصحفي الإذاعي فيليكس جرين لتقديم فيلم عن فيتنام الشمالية، ولكن يبدو أن الشبكة قد فقدت شجاعتها بعد ذلك وألغت العقد، غير أن هيئة الإذاعة العامة الجديدة استأنفت المشروع. أظهر فيلم جرين «داخل فيتنام الشمالية» (١٩٦٨) أشخاصًا لديهم عزم بل ينعمون بالسعادة، كان في طموحاتهم القومية تذكرة لبعض النقاد بتطلعات المستعمرين الأمريكيين، وقد أثار الفيلم حفيظة بعض نواب الكونجرس، حتى إن أحدهم هدد بقطع التمويل عن التليفزيون العام.
ومع تنامي الاحتجاجات ومناهضة الرأي العام للحرب، استجمعت الشبكات الأمريكية مزيدًا من الشجاعة؛ ففي عام ١٩٧١ أذاعت شبكة سي بي إس فيلم «بيع البنتاجون»، الذي كان يُنظر إليه بوصفه أوج هذا النوع من أفلام الشئون العامة الوثائقية. كشف الفيلم عن حجم آليات العلاقات العامة للجيش الأمريكي، وانتقد تورط الشبكة (من حين لآخر) في ذلك. أثار عرض الفيلم قدرًا هائلًا من الاهتمام — بما في ذلك غضب الحكومة والبنتاجون — حتى إن عرضًا ثانيًّا للفيلم جذب مشاهدين أكثر من العرض الأول، وقد سحب البنتاجون بعض مواد العلاقات العامة التي انتقدت في التقرير.
في غضون ذلك كان المخرجون المستقلون يقدمون أعمالًا مختلفة تمامًا لم تكن تليفزيونية. كانت أعمالهم غالبًا ما تتجنب الموقف الموضوعي المتزن وادعاء الشمولية الذي تدعيه الأفلام الوثائقية التليفزيونية. وقد استخدم الناشطون المناهضون للحرب الفيلم الوثائقي الكندي «أغنية الجلد الأصفر الحزينة» (١٩٦٩) لمايكل روبو، الذي يتعقب فيه طاقم العمل الصغير ثلاثة صحفيين أمريكيين حول سايجون، لحشد التأييد لقضيتهم. وقد صنع إميل دي أنطونيو قصة تحليلية لحرب فيتنام كاستمرار للسياسة الإمبريالية، وذلك في فيلم «في عام الخنزير» (١٩٦٨) الذي عرض في دور السينما، وفي عام ١٩٧٤، قدم بيتر ديفيز — الذي أنتج فيلم «بيع البنتاجون» — فيلم «قلوب وعقول»، وهو توثيق حاد وموحش يعرض ما كان ديفيز يعتقد أنه خيانة للمعتقدات والمُثل الأمريكية الأساسية في حرب فيتنام. وفي حين أن الفيلم الذي أنتجته محطة سي بي إس كان تقريرًا عنيفًا وكئيبًا، كان «قلوب وعقول» تعبيرًا عن الحزن والغضب.
التقاليد والانتقادات
تبوح الاختلافات في الأسلوب والنبرة بين «بيع البنتاجون» و«قلوب وعقول» بالكثير عن تقاليد أفلام الشئون العامة الوثائقية. لقد كانت الأفلام الوثائقية التي تُعرض على الشبكات التليفزيونية أعمالًا ذات طابع مؤسسي ومصطنعة بحرفية عالية، فقد أُنتجت بحرفية باستخدام الإضاءة، والمونتاج، وتقنيات السيناريو المستمدة من صناعة الأفلام في هوليوود، وكانت شخصيات منتجيها — وأحيانًا أسماء — المسئولين عنها ممتزجة مع الهوية المؤسسية للشبكة التي تذيعها، والتي كان يمثلها المذيع.
طوَّر المنتجون مجموعة من التقاليد للإيحاء بالثقل، والانفتاح، والتوازن، والدقة، والأهمية، وغالبًا ما كانوا يستعينون بمحاور أو مذيع يستطيع التعبير عن كل من الثقل والانفتاح، وقد كان إدوارد مورو نموذجًا، بأكمامه المشمرة، وسيجارته، ونبرته شديدة الجدية، تحيطه المعدات التليفزيونية والهالة التي ألقتها عليه سمعته في الإذاعة، وكان أسلوبه يعكس المعرفة لكن دون نخبوية. كانت البرامج تستخدم الكثير من مشاهد القطع المتبادل والمواد الرمزية، ومع تسارع الإيقاع التليفزيوني، شرعت في استخدام مشاهد المقابلات الشخصية كعناصر قصصية، وذلك بقص تعليقات وإقحامها في الخط الدرامي، وكان الصوت هو العنصر الأكبر؛ إذ كان السرد والموسيقى التصويرية يقودان المشاهد عبر التحليل.
وهكذا كانت صدمة للمسئولين التنفيذيين بالشبكات الأمريكية حين طرح روبرت درو مصور مجلة لايف وفريقه في عام ١٩٥٩ على شبكة إيه بي سي، طريقة مختلفة تمامًا لتقديم أفلام الشئون العامة الوثائقية، فمن خلال استخدام معدات أخف وزنًا وأكثر قابلية للنقل، وعدوا المشاهدين بتجربة ترصد كل شيء على الطبيعة بدلًا من تحليل مؤسسي، وعمد واضعو البرامج إلى تجربته وبداخلهم شكوك رهيبة، وبالتدريج ظهرت تأثيرات سينما الواقع في أفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية دون الإطاحة بالمنهج القائم على الاصطناع والسرد، كذلك عمدت شبكة بي بي سي وشركة الإذاعة الكندية إلى تجربة أفلام الشئون العامة الوثائقية القائمة على الرصد والمراقبة، أيضًا بدون التخلي عن النموذج المصطنع القائم على التحليل. وظهرت أشكال جديدة. وفي عام ١٩٦٤، أذاعت قناة جرانادا تي في التجارية البريطانية فيلم «سفن آب»، وهو بداية لسلسلة أفلام جرى فيها تتبع أطفال من أوضاع اجتماعية اقتصادية مختلفة في نفس الفصل الدراسي على فترات مدتها سبع سنوات على مدار حياتهم، احتوت السلسلة على عناصر كل من الملاحظة وتجربة الاهتمام بالعامة المميزة لسينما الواقع، والسرد، والمقابلات الشخصية، والتوجه نحو المشكلات المميزة لأفلام الشئون العامة الوثائقية.
كان لأفلام الشئون العامة الوثائقية التليفزيونية في عصر ما قبل القنوات المشفرة تأثير كبير، ولكنها أيضًا فتحت جِراحًا؛ ففي منطقة أبالاتشيا الريفية، التي كانت محط تركيز العديد من الوثائقيات التليفزيونية التي تتناول الفقر وعدم المساواة، استاء كثيرون من تحولهم إلى نماذج «للفقر»، واعتقدوا أن قيمهم الثقافية قد قُلل من شأنها. في الوقت نفسه أنشئ مركز إقليمي للفنون، هو مركز أبالشوب، بتمويلات فيدرالية من مبادرة المجتمع العظيم لليندون جونسون. وأصبحت الأفلام الوثائقية التي تستكشف الثقافة الجبلية للمنطقة هي الأولوية الأولى له. فيكشف فيلم «الغريب ذو الكاميرا» (٢٠٠٠)، الذي نفذته إليزابيث باريت، إحدى مؤسسي أبالشوب، عن الانعكاسات الأخلاقية طويلة المدى للسكان المحليين وصناع الإعلام؛ إذ يلقي الفيلم الضوء على حادث وقع في عام ١٩٦٧ حين أطلق صاحب أرض عدواني غاضب من وجود الإعلاميين الغرباء النار على مصور صحفي كندي حر كان يصور فيلمًا وثائقيًّا تليفزيونيًّا من أفلام الشئون العامة.
خضعت الأفلام الوثائقية التليفزيونية للدراسة من الصحفيين وباحثي الصحافة أكثر من باحثي الدراسات السينمائية (وقد يُعزى هذا جزئيًّا إلى أن الهوية المؤسسية لهذا النوع الفرعي تضفي تعقيدًا على منهج العديد من باحثي السينما المتسم بالتركيز على المخرج باعتباره المؤلف الحقيقي للفيلم). وقد ذهب الصحفي الإذاعي الأسترالي المستقل جون بيلجر بقوة إلى أن الحيادية المبالغ في تقديرها للأعمال الوثائقية التليفزيونية التقليدية هي «التعبير عن سياسة إجماع لدى الطبقة الوسطى» من شأنها أن تمنح امتيازًا للسلطة، وبدلًا من ذلك، اقترح أنه لا بد أن يكون الصحفيون رقباء يقظين على السلطة ومدافعين عن المصلحة العامة. وقد خضعت تقاليد صحافة الشئون العامة التليفزيونية للتحليل من باحثي الاتصالات، فقد أوضح توماس روستك كيف أن تغطية برنامج «شاهده الآن» عن مكارثي قد وضعت بدهاء لتكون متحاملة على السيناتور في الوقت الذي تبدو فيه متوازنة وموضوعية. حلل ريتشارد كامبل أيضًا شكل المجلات الإخبارية كنسخة مصغرة من مهمة أفلام الشئون العامة الوثائقية، مشيرًا إلى أن حلقات برنامج «٦٠ دقيقة» قد بُنيت على نسق القصص البوليسية، ومن ثم لا تستطيع المجلات الإخبارية أن تتناول قضايا لا تندرج تحت نموذج القصة البوليسية ولا يمكن حلها «بإيجاد الشرير»، فمعظم المشكلات الاجتماعية، من الاحترار العالمي إلى الأزمات المرورية، عمومًا ليست خطأ شخص شرير.
فقدت أفلام الشئون العامة الوثائقية أكثر رعاتها جودًا وسخاء، وهم الشبكات التجارية ذات الأسلوب القديم، ومؤسسات البث القومية؛ إذ يواجه كلاهما منافسة ضارية تتسبب في تخفيض الميزانيات، كذلك يدخل دور الصحفي الإذاعي الموثوق في إطار الشك، ولكن نمط الأعمال الوثائقية، التي تشتمل على اصطناع وسرد ومذيع يطرح قضية محل اهتمام للتقصي والفهم وتبرز مذيعًا معروفًا وجديرًا بالثقة، يظل نموذجًا ثابتًا، فلا يزال هذا اختيارًا تلقائيًّا في الصحافة الإذاعية في جميع أنحاء العالم، وغالبًا ما يُحاكَى أيضًا في الأعمال التي تنتجها المؤسسات غير الربحية التي تناضل من أجل الشرعية والموثوقية في أي موضوع.
الدعاية الحكومية
على الطرف الآخر من ادعاءات أفلام الشئون العامة الوثائقية، التي تعتمد في موثوقيتها وتأثيرها على خبرتها الصحفية، تقف الدعاية الحكومية؛ ذلك المصدر المهم من مصادر التمويل والتدريب للمخرجين الوثائقيين في العالم، وتكون أحيانًا مصدرًا لتأثير قوي على الرأي العام.
تهدف الأفلام الوثائقية الدعائية إلى إقناع المشاهدين بوجهة نظر أو قضية مؤسسة ما، وتروج هذه الأفلام لقناعات المؤسسة لا صانع الفيلم، مع أن بعض المخرجين يدعمون القضية دعمًا تامًّا، وعلى الرغم من أن مثل هذه الأعمال يمكن أن ينفذها أي شخص، بمن فيهم المعلنون والناشطون، فإن مصطلح «دعاية» يشير ضمنًا إلى الحكومات في أغلب الأحيان. وقد كانت الأفلام الوثائقية تمثل قيمة للحكومات تحديدًا لادعاءاتها بالمصداقية ودقة التجسيد للواقع، وقد وصلت أهمية الوثائقيات الدعائية إلى أوجها في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها وبعدها مباشرة، حين كان الفيلم هو الوسيط السمعي المرئي السائد.
استعانت الحكومات بالأفلام الوثائقية للتأثير على الرأي العام منذ نشأة الفيلم، فمع انتقال الصراع إلى نموذج «الحرب الشاملة» خلال الحرب العالمية الأولى، استخدمت الحكومات وسائل الإعلام لتحفيز قواتها، وتعبئة المدنيين، وإقناع الآخرين بقوتها، ومن الأمثلة المعروفة لذلك الفيلم البريطاني «معركة سوم» (١٩١٦)، الذي عاد نجاحه مع الجماهير البريطانية في دور العرض إلى حد بعيد لعرضه مشاهد من المعركة الحقيقية.
بعد الحرب العالمية الأولى، نظرت الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى الفيلم الوثائقي كأداة جديدة وفعالة، فعزز الحزب النازي — الذي اعتلى السلطة في ألمانيا عام ١٩٣٣ — الرقابة على إنتاج، وتوزيع، وعرض جميع الأفلام، وقد دُعمت شرعيته السياسية مباشرة من خلال الدعاية. وفي اليابان، صدَّقت الحكومة على قانون ألزم صناع الأفلام بالعمل وفقًا للخط الحكومي، وألزم دور السينما بعرض أفلام وثائقية في كل حفل سينمائي، وفي العام التالي، فرضت الحكومة عملية اندماج بين شركات الأفلام الإخبارية لتعزيز اتساق الرسالة من أجل تشجيع توافق السلوك، كذلك أممت الحكومة السوفييتية الوليدة أيضًا جميع وسائل الإعلام لخدمة الأهداف الحكومية، وشهدت العشرينيات طفرة فنية هائلة، كما ظهر من مسيرة دزيجا فيرتوف، أعقبها رزوح تحت وطأة الواقعية الاشتراكية الستالينية الصارمة.
أنشئت وكالات للدعاية في بريطانيا والولايات المتحدة، ولكنهم اضطروا للتفاوض مع المنتجين والموزعين والعارضين التجاريين من أجل توصيل رسائلهم لمواطنيهم، ما عدا أفراد القوات المسلحة. أنشأت بريطانيا وزارة للإعلام اكتنفتها السياسات المتناقضة من البداية. لم يحظَ مكتب معلومات الحرب الأمريكي قط بالدعم الكامل من الرئيس روزفلت، وكان كل جناح من القوات المسلحة يسيطر على إنتاجه من أفلام الدعاية، كذلك سارت الأعمال الدعائية الأمريكية في خط مضاد لهوليوود، حيث كانت الاستوديوهات تحبط كل محاولة لتنفيذ أعمال حكومية قد تنتهك حرمة المجال.
وفي بريطانيا، قدمت فرق جريرسون بعضًا من أكثر الأفلام الوثائقية قيمة وإثارة للإزعاج للنقاد. ويعد فيلم «أنشودة سيلان» (١٩٣٤) لبازيل رايت مثالًا ممتازًا، فلم يضف رومانسية على الحياة فيما قبل الاستعمار في واحدة من المناطق الأساسية المنتجة للشاي في بريطانيا فحسب، ولكنه احتفى أيضًا بالعملية الصناعية الرائعة التي يصل بها الشاي إلى مطابخ البريطانيين، وهكذا أضفى سحرًا على تناول الشاي، كما أشار ويليام جويين، جاعلًا فعل تناول الشاي بمنزلة مشاركة في نظرة حنين لثقافة غريبة، محتفيًا في الوقت نفسه بحيوية وقوة بريطانيا.
تعامل برنامج روزفلت للإصلاح الاقتصادي مع الأزمة الاقتصادية باستثمار — وتدخل — حكومي جديد صادم في حياة المواطنين، وهو تغيير تطلب إقناعًا؛ لذا وظفت الهيئات المختلفة مخرجين وثائقيين، وكانت غالبًا تستعين بالفنانين الراديكاليين الذين كانوا ينتجون الأفلام الوثائقية النضالية. وكانت أكبر هذه الهيئات هيئة إعادة التوطين، حيث أصبح الكاتب والمحلل بير لورنتز هو المنتج للكثير من الأفلام الوثائقية الشهيرة.
ناضل لورنتز لتقديم أعمال فنية لخدمة الأهداف الحكومية التي كان لديه إيمان عميق بها، مثلما فعل جريرسون في بريطانيا وفيرتوف في الاتحاد السوفييتي، وأظهرت مشروعاته تأثير مجادلات الفنانين الأوروبيين والسوفييت، فقد استَخدمت هذه المشروعات الصوتَ كعنصر مستقل، لا مجرد عنصر للخلفية، وخُلقت روابط من خلال القصائد المرئية والصوتية، وحاكت شكل أفلام سيمفونيات المدن، وكان كل فيلم من أفلام لورنتز يوائم ما بين التحليلات — الثورية في الغالب — لمخرج الفيلم وبين التعليمات الرسمية، وقد صرَّح ويليام ألكساندر بأن لورنتز قد خفف من حدة التحليل الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بتوجيه أصابع الاتهام إلى الرأسماليين الجشعين.
كان فيلم «المحراث الذي حطم السهول» (١٩٣٦) — الذي اتُّهم بتشجيع الدعم العام لبرامج المساعدة التابعة لهيئة إعادة التوطين (هيئة الأمن الزراعي فيما بعد) — نظرة حزينة وكئيبة للوراء على الكيفية التي دُمرت بها الحياة البيئية في السهول الوسطى بفعل اختيارات الناس، مما نتج عنه هجرة جماعية، وقد رفضت شركات هوليوود إطلاع لورنتز على أي مشاهد مصورة، ورفض الموزعون الكبار عرض الفيلم في دور العرض الخاصة بهم، ولكن دور العرض المستقلة صنعت منه نجاحًا صغيرًا. أما فيلم «النهر» (١٩٣٧)، فقد ناقش بأسلوب شاعري الحاجة إلى تدخل الحكومة في إدارة المياه والحفاظ عليها بالنظر إلى القوة المدمرة للميسيسيبي، وكان لورنتز أحيانًا يطلق عليه «أوبرا»، ووزعته شركة باراماونت وجَنَتْ من ورائه الكثير من الأموال، ولكن ظلت الاستوديوهات على عدائها لصناعة الأفلام الحكومية.
أصبحت الأفلام التي أخرجها لورنتز أو أشرف عليها، من الكلاسيكيات بين طلاب السينما؛ لما تحويه من تجارب فنية جريئة، واحتفظت بجاذبيتها لدى المؤرخين، لأنها تصور لحظة اضطلعت فيها الحكومات في جميع أنحاء العالم فجأة — لأغراض طيبة أو خبيثة — بمشروعات ضخمة في الهندسة الاجتماعية والفيزيائية.
أهداف مختلفة، أساليب مختلفة
من شأن مقارنة بين ثلاثة أفلام وثائقية للدعاية الحكومية أن تُظهر كيف أن الدعاية تختلف وفقًا للتكليفات الحكومية والسياق الثقافي والفنان أيضًا، فقد اختار ثلاثة مخرجين وثائقيين ثلاثة مناهج أسلوبية مختلفة للتعامل مع تحدي تشكيل أيديولوجية المشاهدين من خلال الواقع.
كان فيلم «انتصار الإرادة» (١٩٣٥) للمخرجة الألمانية ليني ريفينشتال تمثيلًا ممتازًا لهدف أفلام الدعاية النازية وهو: مزج هتلر بالأمة، وتجسيد الحزب والحكومة فيما بعد كقوة ضاربة وموحدة ولا تقاوم. وكانت الأفلام الوثائقية مجرد واحدة من مجموعة كبيرة من الأدوات الرمزية لتحقيق هذا الهدف، وقد كان الهدف من هذه القوة الرمزية، التي أجادت ريفينشتال توظيفها، هو إبهار المؤيدين وترهيب الآخرين، بمن فيهم الأعداء الخارجيون.
نُفذ فيلم «انتصار الإرادة» (١٩٣٥) بهدف توثيق المؤتمر الشعبي للحزب النازي في عام ١٩٣٤ وتولى تمويله استوديو «يو إف إيه» الوطني الألماني، وهو تجسيد استعراضي مبهر لحدثٍ صاحبه بالفعل استعراضات مبهرة. يمجد الفيلم هتلر بصورة مرئية؛ إذ يُظهره المشهد الافتتاحي وهو يهبط من بين السحاب، ويجسد الشعب الألماني جمهورًا منظمًا ومقدسًا إلى أعلى درجة، يعملون بهدف واحد: خدمة هتلر باعتباره مكافئًا للأمة. ومن خلال لقطاته للوجوه المبتهجة وهي تؤلِّه هتلر، ومشاهد تدافُع الجماهير التي تعكس الرهبة والخشية، والموسيقى الفخمة المثيرة، ولقطات للأفراد شبابًا وشيوخًا وهم يتشاركون نفس الحركات والانفعالات، يخلق الفيلم وحدة سياسية مثيرة على نحو إيجابي، كما أشار فرانك توماسولو. وعلى الرغم من أنه يؤرخ لمؤتمر سياسي شعبي، فإن الفيلم يبتعد بحذر عن الجدال السياسي؛ فالفيلم يدور حول مشاعر الانتماء القوية؛ أن تكون جزءًا من شيء تاريخي مجيد.
مع بداية الحرب العالمية الثانية، واجه البريطانيون تحديًا مختلفًا تمامًا عن ذلك الذي واجهه الألمان، كان الفوز ﺑ «الحرب الشعبية» وشيكًا من خلال تعبئة الناس، ولكن الأمة كانت قد خسرت الحرب تقريبًا في الهجوم الأول. كان البريطانيون يحتاجون إلى الثقة في قدرتهم على المقاومة، وبعد بداية عصيبة اتخذت طابعًا توجيهيًّا ورقابة شديدة، اكتسبت الدعاية البريطانية سمعة قوامها الأمانة والمصداقية؛ إذ كانت تقدم للبريطانيين الحقائق الواقعية، ومشاهد المعارك الحقيقية، وأخبار الحرب الحقيقية، والأشخاص الحقيقيين.
قدمت فرق جريرسون عشرات الأفلام الوثائقية، ولعل من أكثر الأفلام التي جسدت منهج الدعاية البريطانية في الاحتفاء بقدرة الأشخاص العاديين على الحفاظ على ثقافتهم تحت وطأة الضغوط هو فيلم «استمع لبريطانيا» (١٩٤٢) لهمفري جينينجز، الفنان الذي ينتمي للطبقة العليا، وقدم العديد من الأفلام الوثائقية الشهيرة في فترة الحرب، تميزت جميعها بالافتتان بالتفاصيل الصغيرة المعبرة، وقد عمل في فيلم «استمع لبريطانيا» مع المونتير الرائع ستيوارت مكاليستر، الذي عمل معه في أفلام أخرى أيضًا.
«استمع لبريطانيا» قصيدة مرئية تُشاهد عبر لمحات من لحظات الحياة اليومية في بريطانيا التي تترقب الطائرات والقنابل على نحو مستمر، وفيما يبدو أن المُشاهد يسترق السمع للأصوات المتواصلة للحياة اليومية — رقص الأطفال في أحد الأفنية، أنشودة تراثية جماعية ينشدها عمال الإسعاف، حفل موسيقي للطبقة الراقية، جندي أمريكي يدرِّس «وطن في خطر» لزملائه من جيش الحلفاء — والكاميرا تتجول عبر الشوارع وتحملق داخل الغرف، يظهر رجال محملون بالحقائب يشقون طريقهم عبر الشوارع المقصوفة بالقنابل والمكسوة بالأنقاض في طريقهم إلى العمل، وتتولى النساء مهام المراقبة دون شكوى.
رأى البعض أن جينينجز قد لعب بأسلوب ساخر على أسطورة أن بريطانيا الممزقة طبقيًّا تتوحد بسعادة أمام تحدي الحرب، وقال آخرون إنه يُبرز بحذق بارع وقائع التوترات الطبقية من خلال صوره المتناقضة. وبصرف النظر عن طريقة قراءتك للعمل، فإن جينينجز قد أنتج فيلمًا قصيرًا حظي بشعبية كبيرة وأحدث فهمًا جماعيًّا بين البريطانيين، حتى إنهم كانوا سيقومون بكل ما يتطلبه الأمر من أجل الانتصار بلا شكوى ودون التخلي عن هويتهم، وقد كان منهجه ملائمًا لنوعية الرسالة التي أراد أن يبعث بها، وكان من المخطط ألا يبدو أسلوبه الهادف لتخفيف التوتر دعائيًّا على الإطلاق.
وواجهت الولايات المتحدة تحديات مختلفة، فلم يكن لدى الحكومة الفيدرالية وزارة قائمة بذاتها للدعاية، ولا وحدة لإنتاج الأفلام الوثائقية، لقد دخلت الولايات المتحدة الحرب متأخرة، وكان الكثير من الناس في الولايات المتحدة يرفضون دعم الحلفاء حتى قصفت اليابان ميناء بيرل هاربور. علاوة على ذلك، كان الشباب الذين يُعَبَّئون للالتحاق بالقوات المسلحة يأتون غالبًا من المزارع أو البلدان الصغيرة، وكان تعليمهم ضحلًا؛ فلم يكن لديهم أي فكرة عن السبب الذي يدفعهم للمجازفة بحياتهم.
كان العمل المميز لدعاية الحرب الأمريكية هو سلسلة أفلام «لماذا نحارب» (١٩٤٣) الذي أنتجه مخرج هوليوود المعروف (والمهاجر من صقلية) فرانك كابرا لقسم المعلومات والتعليم بالجيش، التي خاطبت كلًّا من أنصار سياسة الانعزالية والأميين. نُفذت هذه السلسلة المكونة من ثمانية أجزاء، التي تعاقد عليها الجيش الأمريكي، لكي تشرح للقوات الأمريكية أسباب تورط البلاد في هذه الحرب. اعتمد كابرا على أفلام سلاح الإشارة الأمريكي، واستخدم علاقاته بهوليوود بكل حرية، ولكن الأساس لمشروعه كان أعمال مخرجي الأفلام الدعائية في الدول الأخرى، خاصة أعمال ريفينشتال. وقد مزج صورًا من أفلام هوليوود (بعد التغلب على رفض الاستوديو)، والخرائط المتحركة من استوديوهات ديزني، ومشاهد مصورة للجيش الأمريكي، ودعاية للعدو حُوِّلت إلى صورة للخطر المحدق. فقد أصبحت قدرة ريفينشتال على إرباك المشاهد الألماني جرس إنذار بعد إعادة صياغتها بأعين أمريكية.
إن سلسلة أفلام «لماذا نحارب» هي مجموعة من المناقشات التوجيهية والقوية عاطفيًّا تدعم دخول الولايات المتحدة الحرب، ويتميز الأسلوب بالمرح والثقة بل والتهور، معتمدًا على الثقافة الشعبية الأمريكية المؤلفة من الصحف، والإذاعة، والسينما، التي كانت تمثل الوسائل الإعلامية الأساسية للشباب الأمريكي. المناقشات السياسية في الفيلم مبسطة لدرجة تصل أحيانًا إلى حد التزييف؛ فلم يتسلل أي ذكر للتمييز العنصري — على سبيل المثال — إلى الصورة الوردية للديمقراطية الأمريكية، وقد أضفى كابرا ميله الشعبوي المميز له تجاه «أسلوب الحياة الأمريكي» على العمل؛ فقد وضعت الأزمة السياسية المعاصرة آنذاك في سياق القيم الشعبية والديمقراطية الأمريكية ممزوجة بطابع الحياة في البلدة الصغيرة، ولم يكن له سوى القليل من السيطرة على الرسائل السياسية الصريحة، التي وضعها المسئولون العسكريون.
لقد استخدمت هذه الأفلام الثلاثة أساليب مختلفة جذريًّا؛ هي: العرض المبهر، والتصريح المكبوح المتعمد، والخطاب المباشر الصريح. إن أعمالهم تعكس السياقات الثقافية والمهام السياسية المتمايزة أيضًا، غير أن المخرجين الثلاثة اشتركوا في استراتيجية جوهرية هي: ربط الأزمة الحالية بما يمكن للمشاهد أن يراه باعتباره قيمهم الثابتة وتراثهم الثقافي.
الفاعلية
هل الأفلام الوثائقية الدعائية فعالة؟ خلص نيكولاس ريفز، معتمدًا على الأدبيات الثرية عن تأثيرات الإعلام، إلى أن هذه الأفلام، شأنها شأن الجهود الدعائية للحكومات عمومًا، نجحت حيث استطاعت تعزيز المعتقدات، والأفلام الدعائية لم يكن لها فاعلية كبيرة قط في تغيير الرأي العام. والادعاءات الخاصة بقدرة أي عمل دعائي على تسميم عقول المشاهدين أو السيطرة عليها يبدو أن هناك مبالغة فيها عمومًا. علاوة على ذلك، فإن كل فيلم وثائقي يشكل جزءًا من صورة أكبر للإقناع ووضع الأهداف الخفية، مما يخلق توقعات ويعيد تدريجيًّا رسم الخرائط الذهنية لما هو طبيعي.
افتقدت الأفلام الدعائية أيضًا جاذبية الأفلام الروائية التجارية؛ فإبان الحرب العالمية الثانية، كانت الأفلام الدعائية غالبًا ما تُعرض في جهات عرض غير سينمائية أكثر مما تعرض في دور السينما. وفي اليابان، حيث كانت الأفلام الوثائقية تُنَفَّذ بالتكليف الرسمي، أظهرت دراسات فترة الحرب أن الأفلام الوثائقية جذبت عددًا قليلًا نسبيًّا من النساء. ففي الفيلم الألماني «انتصار الإرادة»، وعلى الرغم من الترويج الصريح من جانب حكومة هتلر له لدى أصحاب دور العرض، فقد كان غالبًا ما يُعرض لمدة أسبوع واحد فقط في دور العرض بسبب قلة أعداد الجماهير، ويبدو أن الفيلم لم يحسِّن الرأي العام الذي كان ثائرًا بفعل الأنباء الاقتصادية السيئة والانزعاج من التطرفية النازية المعادية للسامية. ولعل الإنجاز الذي حققه «انتصار الإرادة» — على مستوى أعمق — لم ينعكس في صناديق الانتخاب، بل في ربطه للنازيين الجدد بالتقاليد التاريخية والثقافية العميقة.
وفي بريطانيا، استمرت الأفلام الوثائقية المبنية على فكرة «الحرب الشعبية» لفترة أطول في دور العرض من أفلام الدعاية الوقتية ذات الطابع التوجيهي، وكان فيلم «لندن تستطيع الصمود» (١٩٤٠) لهمفري جينينجز هو أول فيلم يحقق نجاحًا على مستوى شباك التذاكر؛ فقد جسَّد ريبورتاجًا لصحفي أمريكي، بفكرة رئيسية ضمنية مفادها أن الألمان لا يستطيعون «قتل روح أهل لندن وشجاعتها؛ فهما لا يقهران». وكان «استمع لبريطانيا» من الأفلام الأخرى التي حققت نجاحًا جماهيريًّا، ولكنه كان استثناءً. كانت هناك عروض متنقلة أيضًا للأفلام الوثائقية استخدمت فيها أجهزة عرض ١٦ ملليمترًا للعروض المنظمة.
أما في الولايات المتحدة، فقد عُرضت سلسلة أفلام كابرا لكل جندي سواء في الوطن أو بالخارج، وأظهرت الدراسات أن تلك الأفلام أثَّرت على آراء الجنود عقب مشاهدتها مباشرة وفيما بعد. ومن خلال احتفاء الأفلام البسيط بالحلفاء، لاقت رواجًا أيضًا عند الحكومتين البريطانية والروسية، اللتين أمرتا بعرضها في دور العرض، غير أن نجاحها كان أقل في دور العرض الأمريكية؛ إذ لم يرغب أصحاب دور العرض في عرض سلسلة أفلام «لماذا نحارب»، وهو ما كان يعزى في جزء منه إلى تجاربهم السيئة مع الأفلام الوثائقية، وفي جزء آخر إلى إعادة السلسلة استخدام مواد كثيرة — خاصة الجرائد السينمائية — سبق عرضها في دور العرض من قبل.
لا يستسلم المشاهدون بسهولة للدعاية التي يستطيعون تمييزها، وقد تمكن كثيرون من استخدام «انتصار الإرادة» للدعاية المضادة بفاعلية للغاية، لأن تأثيره على المشاهد غلب عليه التسلط والاستبداد؛ فقد أصبح وصفًا مرئيًّا لإرادة الغزو والسحق، ولعل أحد الأسباب التي جعلت فيلم «استمع لبريطانيا» يظل محبوبًا لهذه الدرجة أنه يخلق انطباعًا بين المشاهدين بأنه لا يحاول التحكم في عقولهم، ولكن يدعوهم لملاحظة واقع قائم.
من الممكن أن تكون نتائج الفيلم الدعائي مختلفة كثيرًا عن المتوقع، كما تبيَّن من إعادة استخدام فيلم ريفينشتال؛ فقد قدم مخرج هوليوود الأمريكي جون هيوستون فيلمًا خلال فترة الحرب للقوات المسلحة الأمريكية، وهو فيلم «معركة سان بيترو» (١٩٤٥)، لتوعية الأمريكيين بالحاجة إلى خوض المعركة التي خلَّفت خسائر بالغة في الأرواح في إيطاليا، ونظرًا لاعتماده البالغ على الصور، قررت الحكومة عدم استخدام فيلمه خلال الحرب خوفًا من بث الرعب بين الجماهير، وإن كانت قد ألغت قرارها ذاك بعد انتهاء الحرب. والفيلم، بصوره الفريدة للمعركة، قد استخدمه الناشطون المناهضون للحرب وغيرهم لإظهار التكلفة البشرية الباهظة للحرب.
أما عمل أكيرا إيواساكي، كما يتذكره إريك بارنو، فهو قصة ساخرة عن فيلم دعائي أعيد ترتيبه وحظره، فبعد أن أُجبر إيواساكي على العمل كمخرج لدى الحكومة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، أصبح لديه الأجهزة والمهارات لتسجيل آثار قصف هيروشيما وناجازاكي، غير أن حكومة الاحتلال الأمريكية سارعت لمصادرة عمله وإخفائه، وحين أُفرج عن العمل، أنتج إريك بارنو فيلمًا قصيرًا ومؤثرًا بقوة، هو فيلم «هيروشيما-ناجازاكي، أغسطس ١٩٤٥»، وحين شاهد إيواساكي الفيلم، رأى المشاهد التي التقطها على الشاشة لأول مرة.
الأخلاقيات
إذا كان الفيلم الوثائقي يتعهد بأن يعرض للمشاهدين تجسيدًا صادقًا للواقع، فهل يستطيع مخرج أمين أن ينتج فيلمًا دعائيًّا ويسميه فيلمًا وثائقيًّا؟ إن كثيرًا من الصحفيين الإذاعيين يعتبرون أن إبرام عقد مع الحكومة بمنزلة تدمير لحياتهم المهنية. يقدر المخرجون المستقلون أيضًا استقلاليتهم عن الإملاءات والرقابة الحكومية، وفي الوقت نفسه، تتكسب الكثير من شركات إنتاج الأفلام من أعمال وثائقية تدريبية وترويجية للحكومات، على الرغم من اعتبار تلك الأعمال عادية وخالية من الإثارة بوجه عام.
غالبًا ما كان المخرجون في زمن الحرب العالمية الثانية يعتقدون أنهم لا يملكون الحق في إنتاج أفلام دعائية فحسب، بل هو التزام واجب عليهم، فقد كان جريرسون يؤمن بأن المفكرين عليهم التزام بالعمل من أجل مجتمع قوي وموحد على أن يظل مفتوحًا في نفس الوقت. وكما أوضح آنذاك: «بتعبير بسيط: الدعاية هي التعليم. إن «المعالجة» في أفلامنا تجمع الجماليات مع أفكار الإصلاح الديمقراطي. نحن معالجون استؤجرنا للقيادة والتوجيه، فنحن نقدم لكل فرد تصورًا حيًّا للمجتمع الذي يملك امتيازًا خاصًّا لخدمته.» وكان التوفيق بين الاثنين هنا حقيقة قاسية وميزة أيضًا، وقد قال ذات مرة عن غياب الصراعات الطبقية في مشروعاته الحكومية: «القاعدة الأولى في صناعة الأفلام هي ألا تضرب اليد التي تمسك بالمحفظة.»
لم يرَ فرانك كابرا تناقضًا في العمل لمصلحة الجيش الأمريكي، على الرغم من أنه غالبًا ما كان يغضب من الصعوبات ويحبَط من الطلبات المتضاربة من السلطات العسكرية. لقد وضع كابرا مواهبه وكله فخر في خدمة محاربة الفاشية مثلما فعل العديد من مواهب هوليوود الرائدة، الذين كان لدى بعضهم معتقدات سياسية يسارية وكانوا يعتبرون الفاشية التهديد الرئيسي لبناء مستقبل أكثر عدالة على الصعيد الاجتماعي. وبعد الحرب، قدم المنتج والكاتب السينمائي ستيوارت شولبرج سلسلة من الأفلام الوثائقية للترويج لمشروع مارشال للإعمار الاقتصادي الأوروبي.
على الجانب الآخر، وهو جانب الإخفاق، وجدت ليني ريفينشتال، التي قضت أربعة أعوام في برنامج لاستئصال النازية بعد الحرب العالمية الثانية، أن ارتباطها بهتلر قد وصمها لما تبقى من حياتها، وقد حاولت أن تجادل بأنها كانت تقدم فنًّا وليس دعاية لا أكثر، ولكنها أُجبرت على تقديم أفلام دعائية. وحتى وفاتها عن عمر يناهز ١٠١ عام في ٢٠٠٣، ظلت مصرة على أنها لم تكن يومًا نازية، وأنها لم تكن تملك خيارًا سوى العمل لحساب هتلر، وأنها كانت فقط تقدم أجمل عمل يمكنها تقديمه تحت تلك الظروف.
الإرث
لا تزال الدعاية — التي تعرف أيضًا بالمعلومات المضللة، والدبلوماسية العامة، والتواصل الاستراتيجي — تشكل أداة مهمة لدى الحكومات، ولكن لم يعد الفيلم الوثائقي القائم بذاته جزءًا مهمًّا من حملات العلاقات العامة الموجهة للجمهور العام. وعلى الرغم من ذلك، فالدعاية الحكومية كانت محط انتباه المخرجين الوثائقيين، كما في فيلم الشئون العامة الوثائقي التليفزيوني «بيع البنتاجون»، وفيلم «المقهى الذري» (١٩٨٢) لجين لودر وكيفين وبيرس رافيرتي، وهو نظرة ساخرة للدعاية الحكومية عن العصر النووي، وفيلم «بيكيني المشعة» (١٩٨٧) لروبرت ستون عن حملة العلاقات العامة الحكومية غير العادية التي صاحبت تفجير أول قنبلة هيدروجينية.
ازدهرت مؤسسات الدعاية الحكومية التي أنشئت خلال الحرب في وقت السلم، فقد بدأ المجلس القومي للسينما بكندا خلال فترة الحرب، وساهم دعم الحكومة اليابانية للأفلام الدعائية خلال الحرب العالمية الثانية إسهامًا كبيرًا في توسيع نطاق المجال وتجهيزه لإنتاج ما بعد الحرب ذي التمويل الخاص.
إن دعاية جيلٍ هي كنز دفين لجيلٍ آخر، فقد أصبحت أرشيفات الجرائد السينمائية، والأفلام الوثائقية، والأفلام التدريبية، وغير ذلك من مشاهد الواقع المصورة موردًا للأفلام المجمعة والمسلسلات التليفزيونية فيما بعد؛ فعلى سبيل المثال، اعتمد المسلسل التليفزيوني الأمريكي «انتصار في البحر» (١٩٥٢-١٩٥٣) اعتمادًا كبيرًا على مواد فيلمية لسلاح البحرية. اعتمدت الأفلام الوثائقية التي تتناول الحرب العالمية الثانية والتي تُعرض على القنوات المشفرة أيضًا، على مشاهد ذات ملكية عامة تابعة للحكومة من الحرب العالمية الثانية، وازدهرت شركات خاصة من خلال تصنيف وفهرسة المواد الحكومية الأمريكية. تتيح شركة برلينجر أرشيفز أيضًا الأفلام الحكومية في صيغة رقمية مجانية قابلة للتحميل عبر الإنترنت.
وعلى الرغم من أن الأفلام الوثائقية لم تعد الوسائل الأساسية للدعاية الحكومية، لا تزال الحكومات تستثمر في السينما والفيديو لغرض مختلف تمامًا؛ المراقبة والرصد. ويمكن لهذا النمط واسع الانتشار أن يصبح مادة خام للمخرجين الوثائقيين أيضًا؛ ففي أوروبا الشرقية، وبعد سقوط حائط برلين في عام ١٩٨٩، أصبحت أرشيفات الحكومة مادة خام للأفلام الوثائقية التي تعيد تمحيص التاريخ. في فيلم «الأشرطة السرية» (٢٠٠٢) للمخرج البولندي بيوتر موراوسكي، يستعيد المخرجون الذين كانوا يعملون لدى الشرطة السرية ذكريات أعمالهم، وكان التعليق مركبًا على مشاهد من علبة كرتونية مهملة بغير قصد. تنبع الكوميديا الماكرة للفيلم من حنين المخرجين الواضح لوظائفهم السابقة. كذلك عرضت تسجيلات الرشا غير القانونية لرئيس الاستخبارات البيروفي فلاديميرو مونتيسينوس بالتليفزيون، وهو ما أسفر عن الفيلم الوثائقي اللاذع «الجاسوس» (٢٠٠٢) لسونيا جولدنبرج.
تلقي الأفلام الوثائقية الدعائية الضوء على مشكلات تجسيد الواقع الذي يعد مكونًا أساسيًّا في الفيلم الوثائقي كشكل فني، فهي تستخدم نفس التقنيات التي تستخدمها الأفلام الوثائقية لأي غرض آخر، وشأنها شأن الأعمال الوثائقية الأخرى، تُعَدُّ بهدف عرض شيء على المشاهد يستطيع التصديق بأنه حقيقي؛ فالحقائق التي تعرضها توضع في سياق أيديولوجي ملائم لها يعطي معنى للفيلم، وليس بالضرورة أن تقدم بغرض خبيث؛ فغالبًا ما يكون صناعها أشخاصًا وطنيين بحق يرون أنهم يساهمون في المصلحة العامة بمهاراتهم، بل قد تكون هذه الأفلام صادقة، أو على الأقل تعرض حقيقة يؤمن المخرج بصحتها.
يكمن وجه الاختلاف بين الأفلام الوثائقية الدعائية وغيرها من الأفلام الوثائقية الأخرى في داعميها، الذين يعملون ممثلين للحكومة؛ تلك المؤسسة الاجتماعية التي تسن قواعد المجتمع وتطبقها بشكل أساسي من خلال القوة، وهؤلاء الداعمون يتحكمون في الرسالة، وتلك الاختلافات من شأنها أن تجزئ أهمية الأعمال الوثائقية الدعائية، بما أن تصوير الحقيقة مدعومًا بمثل هذه القوة الهائلة. وتثبت هذه الأفلام الوثائقية بقوة أنه ما من فيلم وثائقي يشكل نافذة شفافة على الواقع، وأن المعنى المصاغ وراءه دافع، وتذكِّرنا أيضًا بأهمية دراسة ظروف إنتاج أي تعبير ثقافي.
أفلام القضايا
تثير الأفلام الوثائقية، التي ينتجها المناصرون والناشطون من أجل قضايا سياسية، مشكلات مماثلة لما تثيرها أفلام الدعاية الحكومية الوثائقية، ولكنها تعمل في سياق مختلف.
وعلى النقيض، نجد أن ترويج منظمات المجتمع المدني لآرائها ومواقفها (مع بعض الاستثناءات مثل الخيانة والفحش) يُنظر إليه في أي مجتمع منفتح باعتباره مساهمة في مجال عام حيوي، وكلما اتسع نشاط مجموعة كبيرة من منظمات المجتمع المدني في التعبير عن مواقفها ومخاطبة جمهور ما للانخراط والمشاركة معها، اعتبر هذا المجتمع صحيًّا. والقانون الأمريكي يرسي هذا على نحو خاص في التعديل الدستوري الأول، الذي يؤيد فكرة أن علاج التعبير السيئ هو مزيد من التعبير، على حد تعبير لويس برانديس، قاضي المحكمة العليا الأمريكية.
ما الذي يميز فيلمًا ينتصر لقضية سياسية مثل «سيلزيوس ٤١٫١١»، إنتاج منظمة المواطنين المتحدين الأمريكية المحافظة، عن فيلم مستقل يطرح رؤى مثيرة مثل «فهرنهايت ٩ / ١١» الذي أنتج الأول للرد عليه؟ الإجابة: كلاهما يتبع منظمة ما، ويركز على دعم نشاط المنظمة بحشد حراك منظم ومفيد من المشاهدين. قد تختلف أو تتفق مع مايكل موور، ولكنه شخص واحد، وإن كان شخصًا مشهورًا. إن حجج موور تحفز الحوار، وقد تقود بعض المشاهدين للتعبير عن اختلافهم مع السياسة الخارجية (وتدفع آخرين لشجب مايكل موور والليبراليين). إنها تدخلات مباشرة في الحوار العام. وعلى النقيض، نجد أن أفلام القضايا أدوات لمُنَظَّمة لحشد حراك من أجل قضايا أو أهداف معينة.
وغالبًا ما كان المناصرون والناشطون يختارون الأفلام الوثائقية لكونها وسيلة منخفضة الميزانية لمقاومة الوضع الراهن كما يُعَبَّر عنه في الإعلام السائد، وقد كانوا يعانون في التعامل مع مسائل الموضوع والشكل في بحثهم عن أكثر الطرق فاعلية للوصول للمشاهدين، وغالبًا ما تكون أفلام القضايا مركزة إلى حد بعيد ومعدة بهدف تحفيز المشاهدين لاتخاذ إجراء معين؛ ومثل أفلام الدعاية الحكومية الوثائقية، قد ينفذها بنوايا حسنة أشخاص يتفقون بعمق مع أهداف منظمة ما؛ ومثل أفلام الدعاية أيضًا، تستحق الانتباه من أي شخص يرغب في فهم أساليب الإقناع، ولا شيء بإمكانه أن يقنع أكثر من الواقع.
الأفلام «الموجهة»
خلال فترة الثلاثينيات المضطربة، حين زعزع الكساد العظيم إيمان الكثيرين بمستقبل الرأسمالية، كان الكثير من الجماعات السياسية اليسارية والكثير من أندية الأفلام المكتظة بشباب من ذوي التوجهات اليسارية الحديثة، ينظرون إلى الفيلم الوثائقي كأداة لتحدي الأوضاع الراهنة، وأرادوا تقديم أفلام «موجهة»: أفلام تدعم تغييرًا اجتماعيًّا، بل ثوريًّا.
وفي القارة الأوروبية، والمملكة المتحدة، واليابان، والولايات المتحدة، كان الشباب المتحمس يناقش أحدث أعمال فيرتوف، وأيزينشتاين، وفلاهرتي، وفرق جريرسون في أندية السينما في كل أرجاء العالم، واقتداء بجريدة عين السينما السينمائية، قدموا جرائد سينمائية عارضت الجرائد السينمائية الرائجة التي كانت تُعرض في دور العرض التي غالبًا ما كانت ذات توجهات يمينية. وفي الولايات المتحدة، قدم اتحاد السينما والتصوير سلسلة من الجرائد السينمائية الموجهة للعمال تجسد الإضرابات والمظاهرات، وقد حظيت بمشاهدة واسعة. كانت هذه الجرائد تسجيلات بسيطة للأحداث، صورت بعين حملت تعاطفًا تجاه العمال. وقد عرض المخرجون الجرائد السينمائية بعضهم لبعض، وللأعضاء المستجدين، وأمام الجماعات السياسية والمؤتمرات الشعبية السياسية.
كانت هذه الأحزاب السياسية والأندية السينمائية حاضنة للمخرجين الوثائقيين، فقد بدأ المخرجون الذين اتجهوا إلى العمل مع بير لورنتز في إدارة روزفلت من هناك، وكذلك فعل المخرج الناشط الهولندي جوريس إيفينز، وثمة فيلم قصير يضرب مثالًا على النبرة الحادة لهذه الأعمال، هو فيلم قصير قدمه إيفينز مع رئيس نادي السينما البلجيكي هنري ستورك بعنوان «بوريناج» (١٩٣٣)، يصور عمال المناجم كأشخاص دُفعوا بوحشية في هوة الفقر نتيجة لأزمة رأسمالية قديمة حدثت بسبب تضخم الإنتاج، الذي تحدث عنه ستورك فيما بعد قائلًا: «لقد أردنا أن نطلق صرخة للتعبير عن سخطنا من خلال استخدام أفظع الصور الممكنة.» الفيلم اتهام غاضب وذو طابع توجيهي، وقد استخدم إعادة التجسيد وتجاور المتناقضات الهادف إلى النقد والاتهام.
مع تفاقم أزمة الكساد العظيم اكتسب الحزب الشيوعي، المنتمي للاتحاد السوفييتي، مصداقية في الكثير من الدول. كان للحزب الشيوعي تأثير قوي على السياسة التقدمية على المستوى العالمي، وعلى الأعمال الثقافية المرتبطة بها، بما في ذلك السينما؛ على سبيل المثال، كان الكثير من مخرجي اتحاد السينما والتصوير أعضاء في الحزب الشيوعي، وكانت المنظمة جزءًا من «الجبهة الثقافية» للحزب الشيوعي بصفة غير رسمية.
كانت الصلة بالحزب الشيوعي بالغة الأهمية؛ فقد كانت تبني مجتمعًا، وتسمح للناس بتجميع الموارد، وتحشد الجماهير، وتشكل الرسائل. ولعل في الحرب الأهلية الإسبانية مثالًا جيدًا على ذلك؛ فقد اندلعت الحرب الأهلية في عام ١٩٣٦ حين تمرد القادة العسكريون، من بينهم فرانسيسكو فرانكو، ضد حكومة الجبهة الشعبية الجمهورية اليسارية. قاوم الجمهوريون بدعم من الحزب الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفييتي، ومارس قادة الحزب الشيوعي قمعًا وحشيًّا ضد الفصائل السياسية الأخرى، بما فيها الفوضويون. وبحلول عام ١٩٣٩، انتصر فرانكو بمساعدة النازيين، وقد نظر البعض، على المستوى العالمي، إلى الحرب ككفاح ضد الفاشية يتطلب تضامنًا عالميًّا، ورأى آخرون، وهم المناهضون للحزب الشيوعي، أنها قضية قومية لا يجوز التدخل فيها.
على المستوى العالمي، احتشد صناع الأفلام لتقديم أفلام عن الحرب من أجل حشد الوعي والأموال للقوات المناهضة لفرانكو، وقد مارست هذه الأفلام التعتيم على الشقاق الحزبي الداخلي، وشجعت الدعم الدولي للجمهوريين، بما تلاءم مع الحزب الشيوعي. من أشهر هذه الأفلام فيلم «الأرض الإسبانية» (١٩٣٧). نُفذ الفيلم على يد فريق عالمي — إيفينز للإخراج، وهيلين فان دونجن للمونتاج، والقصة والحوار لإرنست همنجواي — لمصلحة منتجين من هوليوود. يُظهر الفيلم معالجة فنية للمصداقية السياسية، ويبين على نحو تصادفي الطلاقة الفنية الجمالية المتنامية لدى إيفينز، الذي صار مخرجًا نشطًا رائدًا ومعلمًا لكثيرين آخرين حتى وفاته في عام ١٩٨٩.
من خلال معالجة تعيد إلى الأذهان الواقعية الرومانسية لروبرت فلاهرتي، يصحب الفيلم المشاهدين إلى داخل الحياة اليومية لقرية تقع بالقرب من مدريد. صُوِّر الفيلم في وسط الحرب، وهو يوثق لبناء قناة ري تشكل أهمية قصوى للمحاصيل التي ستطعم مدريد التي تستعد للحرب. إن تركيز الفيلم على إيقاعات الحياة اليومية يبحر بالمشاهد داخل عمل القرويين وعاداتهم. والآن نرى الحرب وقد أصبحت جزءًا أيضًا من حياة القرويين اليومية؛ فنراهم يعلقون البنادق على أكتافهم، ويقفون في نوبات حراسة، ويتفقدون الدمار بعد انفجار قنبلة، نرى أيضًا الدعم السخي للقرويين لقضية مناهضة فرانكو منسوجًا داخل قيم ونسيج الحياة اليومية.
نجح إيفينز، بمساعدة سرد همنجواي الغني، في تجاوز التساؤلات السياسية المبلبلة عن الصراع الحزبي، لقد كان الفيلم ينقل عاطفة إنسانية، لا معلومات سياسية؛ فقد استخدم إيفينز تقنيات الواقعية لإثارة مشاعر المشاهدين وإبرازها على السطح، وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحظَ إلا بعرض سينمائي متواضع، فقد جمع مبلغًا كبيرًا من المال للجمهوريين المناوئين لفرانكو في عروضه، في كل من دور العرض والأندية السينمائية وأيضًا في حفلات العرض الخاصة.
أظهر فيلم «الأرض الإسبانية» أيضًا رد فعل لجدال شاع بين المخرجين الناشطين في ذلك الوقت: هل يجب على المرء أن يصنع أفلامًا «نضالية» لتعبئة أنصاره للتحرك، أم يجب أن يحاول الوصول إلى قطاع أعرض من الجماهير لإقناعهم بوجهة نظر معينة؟ وهذا الملاذ الثاني يتطلب مزيدًا من البراعة الفنية، التي نجح فيلم «الأرض الإسبانية» في توظيفها. أيضًا اتبع مخرجو نيويورك الذين أسسوا مجموعة نيكينو لصناعة الأفلام بعد انفصال سياسي وفني عن اتحاد السينما والتصوير هذا النهج الثاني في تقديم فيلم آخر من أفلام القضايا الشهيرة، وهو فيلم «الوطن» (١٩٤٢). اعتمد الفيلم على تحقيق للكونجرس في انتهاكات الحريات المدنية، مستخدمًا إعادة التجسيد الدرامي، وجاهد من أجل الحث على مطالبة أوسع بالعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساواة في المعاملة أمام القانون. على الرغم من ذلك، لم يستطع الفيلم منافسة قيم الإنتاج الهوليوودية، وبحلول عام ١٩٤٢ كانت رسالته قد انزوت لمصلحة الحركة الوطنية في فترة الحرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضع نهاية للكثير من التجارب في مجال صناعة الأفلام الموجهة؛ فقد قامت الحكومة في ألمانيا واليابان بقمع وحشي لأندية السينما. وساهم اضطهاد الشيوعيين والتبرؤ من الشيوعية السوفييتية بعد الإعلان عن فظائع الستالينية عام ١٩٥٦ والغزو السوفييتي للمجر، في إبعاد الكثير من المفكرين والفنانين عن سياسات الحزب الشيوعي.
«السينما الثالثة»
في الستينيات، كانت حركات الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، والكفاح ضد الاستعمارية، والأسلحة النووية، وسباق التسلح خلال فترة الحرب الباردة، كلها علامات ميَّزت فترة من الاضطراب السياسي، وكان للطفرات التكنولوجية التي مكَّنت سينما الواقع وبزوغ فجر عصر الفيديو، مع ظهور أجهزة الفيديو المحمولة في عام ١٩٦٧، دورهما في تحفيز الكثيرين للنظر مرة أخرى للفيلم الوثائقي كأداة داخل الحركات السياسية.
كان المخرجون الناشطون — الذين غالبًا ما كانوا طلابًا أو طلابًا سابقين في مجتمع جامعي — ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم طليعة الحركة الثقافية للتغيير، ومن ثم كوَّنوا جماعات مشتركة كانت تتقاسم العمل والفوائد بالتساوي؛ ففي الولايات المتحدة، نشأت جماعات لإنتاج الجرائد السينمائية المخصصة لرفع الوعي بالظلم الاجتماعي بين العمال في نيويورك وسان فرانسيسكو وشيكاغو. وفي فرنسا، خلال الفترة التي وصلت لذروتها مع الإضراب العام الذي حدث في عام ١٩٦٨، كوَّن جان لوك جودار وآخرون جماعة دزيجا فيرتوف التي اكتسبت شهرة واسعة لكنها لم تستمر طويلًا، وقامت بتجربة مناهج السينما الطليعية. كوَّن كريس ماركر وآخرون أيضًا جماعة إيسكرا الأكثر نضالًا، التي سميت على اسم جريدة لينين السرية، وركزت أكثر على قضايا العمل. وفي الجماعات البريطانية مثل لندن فيلم ميكرز ولندن ويمينز فيلم، كان الأعضاء يناقشون أي الأساليب تتميز بالفاعلية، ونوعية الجماهير التي يجب استهدافها.
وغالبًا ما كانت حلقات الوصل على مستوى عالمي، ففي جنوب أفريقيا وجميع أنحاء العالم، استخدم الناشطون المناهضون للتمييز العنصري فيلم «نهاية الحوار» (١٩٧١) لحشد الدعم الدولي. نُفذ الفيلم على يد مجموعة من المنفيين في لندن، وكان يكشف بأسلوب عنيف عن التباينات الحادة بين الحياة اليومية للأثرياء البيض والحياة اليومية للسود في جنوب أفريقيا، أم في الهند، فقد تعاون المخرج الناشط آناند باتواردهان مع المتظاهرين لتوثيق كفاحهم ضد الفساد الحكومي، وهرَّب المشاهد التي صورها وحصل على وظيفة في كندا، وهناك قدم بالتعاون مع المقاومين لحكومة الطوارئ الهندية فيلم «أمواج الثورة» (١٩٧٥). عُرض الفيلم عالميًّا (ولكن حُظر عرضه في الهند)، واستخدمته المنظمات السياسية لحشد المعارضة للطوارئ.
وفي أمريكا اللاتينية من أدناها إلى أقصاها، عمل صناع الأفلام في مجموعات مستمدين الإلهام من مقاومة الثورة الكوبية للهيمنة الأمريكية، ومن ثم نشأ مفهوم «السينما الثالثة»، وهو مصطلح جاء لوصف السينما النضالية في العالم، واستغل صناع الأفلام في العالم النامي هذه الفكرة مثلما فعل صناع الأفلام في جميع أنحاء العالم الذين شعروا بأنهم مهمشون أو رأوا أنفسهم تجسيدًا للمضطهدين.
اشتُق مصطلح «السينما الثالثة» من مفهوم «العالم الثالث» الذي يشير إلى الأمم والحركات الثقافية التي طالبت بالاستقلال عن نزاع الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وقد وعدت برؤية للتغيير السياسي لم تكن مقيدة بالحزب الشيوعي السوفييتي الذي أصبح سيئ السمعة آنذاك، وكان المفكرون والفنانون في جميع أنحاء العالم ينظرون إلى الثقافة باعتبارها ذراعًا لهذه الحركة. لقد كانت السينما الأمريكية اللاتينية المستقلة والمنشقة — «السينما الجديدة» أو «سينما نوفو» في البرازيل — تتولى القيادة، وكان الفيلم الوثائقي، كما ذكر مايكل شانان، ملمحًا مهمًّا لها.
كانت كوبا — حيث أُممت صناعة السينما بحلول عام ١٩٦٠ — مركزًا للإنتاج والدعم للمخرجين المستقلين الذين كانوا يتعرضون للقمع والهجوم في بلادهم (فقد تعاون جوريس إيفينز مع بعض رواد صناعة الأفلام في كوبا في الستينيات)، وأطلق المصور والمخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز النسخة الكوبية من جرائد عين السينما السينمائية، وقدَّم العديد من الأفلام الوثائقية. لا تعرض هذه الأفلام ثورة الغضب المتقدة ضد الظلم فحسب، ولكنها تعرض أيضًا الدعم الحماسي للثورة. كان من أوائل التجارب الوثائقية لألفاريز فيلم «الآن» (١٩٦٥)، وهو فيلم مثير نظرًا لإعادة استخدامه صورًا نادرة؛ ففي هذا الفيلم، شكَّل ألفاريز استنكارًا واتهامًا للعنصرية في الولايات المتحدة من خلال مجموعة من الصور في المجلات والصحف للصراع العرقي، وكانت الموسيقى التصويرية أغنية للينا هورن عن الحرية.
أما في الأرجنتين، فقد أسس فرناندو بيري مدرسة سينمائية كان لها دور اجتماعي، وكان أول فيلم لهذه المدرسة «ألقِ لي بدايم» (١٩٦٠) الذي يُظهر كيف كان الأطفال الصغار يجمعون المال من أجل إطعام أسرهم بتسول قطع النقود من المارة في القطارات. يخلو الفيلم من التعليق إلى حد بعيد، متبنيًا الأسلوب الواقعي الحديث الذي درسه بيري في إيطاليا، ويتعقب الصغار في لقطات متحركة وهم يركضون بجوار القطار: إنه يستنكر من خلال الإفشاء. ومع ظهور الاستقطاب السياسي في الأرجنتين، شارك المخرجون الذين تعلموا على يد بيري أو استمدوا منه الإلهام في حركة المقاومة المنظمة أو الكفاح المسلح، وغالبًا ما كانوا يضطهدون، بل إن الكثير منهم قد «اختفى».
كان من أكثر مخرجي الحركة تأثيرًا المخرج الأرجنتيني فرناندو سولاناس وعالم الاجتماع الأرجنتيني أوكتافيو جتينو، اللذين أصدرا معًا بيانًا عاصفًا شديد التأثير يدعو ﻟ «سينما ثالثة» (كانت السينما الأولى هي هوليوود، والثانية هي «السينما التجريبية» أو «سينما المؤلف»)، وقد أكدا أن السينما لا يجب أن تكون مجرد «مطرقة»، كما وصفها جريرسون، ولكن يجب أن تكون فعلًا يؤدي إلى «التحرر من الاستعمار» في حد ذاتها. كان هدفهما هو «مزج جماليات الفن بحياة المجتمع»، مما يجعل المفكرين مرتبطين بالثورة شأنهم شأن الجماهير. نظريًّا، من المفترض أن ينفِّذ مثل هذه الأفلام فريقُ عمل ثوري، وأن تُعرض في «مساحة محررة»، ويختفي المتفرجون، ويقوم عمل فني أُنتج إنتاجًا جماعيًّا بحثِّ المشاهدين على التحرك. ومثل هذا النوع من السينما يشن حربًا ضد العدو الأقوى على الإطلاق؛ ذلك العدو الموجود بداخلنا جميعًا الذي يقاوم خلق «الإنسان الجديد» الثوري مثلما كان الكوبيون يفعلون.
جرب سولاناس وجتينو نظريتهما في فيلم «ساعة الأفران» (١٩٦٨) في إطار حركة سينما جماعة التحرير. يتناوب الفيلم في ثلاثة أجزاء مجموعها أكثر من أربع ساعات، ما بين الهجوم والجذب والشرح والتأمل، وهو مناقشة يديرها أستاذ جامعي ساخط يهز طلابه من طية صدر ستراتهم. يتناول الجزء الأول الاستعمار الجديد في الأرجنتين، ويتناول الثاني صعود الرئيس الأرجنتيني خوان بيرون، الذي أرسى نظام المؤسسات والذي حظي بحب جارف من الطبقة العاملة، وكذلك المعارضة للانقلاب الذي أطاح به في عام ١٩٥٥، أما الجزء الثالث، فيتناول الطرق لمستقبل ثوري. وقد استخدمت أدوات لإثارة مشاعر القلق والصدمة منها: العناوين الداخلية مع كلمات قابلة للتضاعف، والشاشات البيضاء، وتركيز مدته خمس دقائق كاملة على الوجه الميت لتشي جيفارا الذي أهدي إليه هذا الفيلم.
عُرض الفيلم خلسة في الأرجنتين وفي دول أخرى من دول أمريكا اللاتينية، وعُرض على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم في المهرجانات السينمائية وفي دور العرض. وفي الولايات المتحدة، حظي فيلم «ساعة الأفران» بشعبية ورواج لدى الجماعات السياسية الراديكالية؛ ففي شيكاغو، على سبيل المثال، عرضته جماعة يانج لوردز — التي نشأت في بورتوريكو كتشكيل عصابي ثم تحولت إلى جماعة ضغط — وسرعان ما أُرسل سولاناس وجتينو وكثيرون آخرون إلى المنفى.
ثمة أفلام أخرى رائعة تنتمي إلى «السينما الثالثة» تم الانتهاء منها في المنفى، مثل فيلم «معركة تشيلي»، وهو ملحمة من ثلاثة أجزاء للمخرج التشيلي باتريشيو جوزمان (١٩٧٥–١٩٧٩). كان جوزمان واحدًا ممن تدربوا على يد جوريس إيفينز. صُوِّر فيلم «فالباريسو، حبيبتي»، لإيفينز عام ١٩٦٩، الذي يعقد مقارنة لاذعة بين الأجزاء الفقيرة والغنية للمدينة المينائية التشيلية (وقد كتب كريس ماركر السرد لهذا الفيلم الذي ينتمي لسيمفونيات المدن).
يتألف فيلم «معركة تشيلي» من مشاهد واقعية ثمينة كانت قد أُنقذت من مشروع فيلم استغرق ثلاث سنوات يؤرخ لفترة رئاسة سلفادور أليندي، وهو المشروع الذي انهار حين أطاح انقلاب عسكري بأليندي؛ فقد هرَّب جوزمان المشاهد المصورة وفرَّ إلى أوروبا، وحينئذ أصبح مشروعًا عالميًّا لتعبئة معارضة ضد الحكومة العسكرية. استُكمل الفيلم في فرنسا بمساعدة الأندية السينمائية اليسارية، وفي مؤسسة معهد الفن والصناعة السينمائية المؤممة في كوبا، وجرى تداوله في جميع أنحاء العالم عدا تشيلي. يوجه فيلم «معركة تشيلي» اتهامًا لبعض قطاعات من الجيش التشيلي، والطبقة الوسطى التشيلية، والحكومة الأمريكية بالإطاحة بحكومة شرعية منتخبة، وكان للمونتاج المثير والسرد المعتدل دورهما في رسم الطريق نحو صنع تراجيديا الفيلم.
تجمع اهتمام المخرجين ﺑ «السينما الثالثة»، وسينما الواقع، والقوة السياسية لشهادات العامة في مشروعات أطلقت عبر مختلف أنحاء العالم؛ ففي اليابان، وثَّقت جماعة لصناعة الأفلام بقيادة سينسكي أوجاوا احتجاجات الفلاحين المعارضين لبناء مطار ناريتا، وقد عُرض أحد الأفلام، وهو فيلم «فلاحو القلعة الثانية» (١٩٧١) في قاعات محلية مؤجرة في جميع أنحاء اليابان بالتنسيق مع العديد من الجماعات اليسارية، وحظي بتوزيع عالمي واسع، وانتهى الحال بسينسكي أوجاوا بأن قضى حياته في مثل هذه الأعمال؛ فبعد سنوات من الحياة مع فلاحي ناريتا، ارتحل إلى قرية ماجينو الصغيرة وقدم العديد من الأفلام التي توثق الحياة اليومية هناك. وفي فيلم ياباني آخر، تعاون سكان قرية صيد صغيرة، تسممت بالزئبق الناتج عن تصريف مخلفات المصانع، مع المخرج نورياكي تسوشيموتو لتوثيق كفاحهم من أجل العدالة، وقد ساهم فيلم «ميناماتا» (١٩٧١) في رفع الوعي العالمي بالتسمم بالزئبق وأخجل الحكومة اليابانية فاعترفت بالمشكلة، واستمر تسوشيموتو في استخدام الفيلم لرفع الوعي العالمي، واستمر في التعاون مع فلاحي ميناماتا لمواصلة الضغط لمعالجة مشكلاتهم المتعلقة بالزئبق. وفي تايوان، كانت حكومة السبعينيات تأبى الاعتراف بالقمع الذي يمارس ضد سكان تايوان الأصليين؛ فأنتجت مجموعة من الفنانين مسلسلًا وثائقيًّا تليفزيونيًّا هو «جزيرة الجوهرة العطرة»، الذي يحتفي بجمال الثقافة الأصلية. ولم يؤدِّ المسلسل إلى إنتاج أجزاء متعددة منه فحسب، بل أدى أيضًا إلى ظهور مفردات مشتركة للنقد الاجتماعي.
وفي عهد الأنظمة القمعية التي هيمن عليها السوفييت، حيث كانت حرية التعبير غائبة وتعرضت منظمات المعارضة للقمع، أقحم المخرجون الوثائقيون النقد على نحو مباشر أو غير مباشر في أعمالهم، ومن ثم تحايلوا على الرقباء. ازدهرت الأفلام الوثائقية المسماة «سوداء» أو منشقة في أوروبا الشرقية السوفييتية، فقدم المخرجون البولنديون مثل إدوارد زاكروتسكي وكرتزيزتوف كيسلوسكي أفلامًا وثائقية حظيت بمراقبة حادة أعدت بهدف تقديم مرآة مثيرة للقلق لجماهيرهم.
جمعت أفلام القضايا في فترة الستينيات والسبعينيات، شأن نظيرتها في الحقب الأخرى، بين المثالية والبراجماتية، وقد استخدمت جميع المناهج التي أبدعها المخرجون الوثائقيون الأوائل؛ فاستراتيجيات الواقعية والواقعية الجديدة في منهج فلاهرتي، كتلك المستخدمة في فيلم «ألقِ لي بدايم»، كشفت للمشاهدين حقائق جديدة. سادت أيضًا التكليفات الاجتماعية الجريرسونية المشروعات الفنية، ولكنها في تلك الفترة صارت في خدمة الإطاحة بالأنظمة وليس الحفاظ على الدولة، وكانت تحديات الشكل الضخمة لفيرتوف أساسًا لتجارب جودار، وأظهرت الأفلام الوثائقية الكوبية تأثير المخرجين السوفييتيين، ودخل أنصار القضايا السياسية في جدال عنيف بشأن اختياراتهم للشكل، واستغلوا أيضًا الابتكارات الجديدة التي يمكنها أن تجعل أعمالهم أكثر حيوية، وسرعان ما أُدخلت أجهزة وتقنيات سينما الواقع. غير أن البراجماتية كان لها السيادة؛ على سبيل المثال، لو دعت الحاجة لاستخدام السرد في فيلم وثائقي ينتمي لسينما الواقع لتوصيل الفكرة، كان السرد يستخدم.
الموروثات
انتشر نموذج الفيلم «الموجَّه» أو «السينما الثالثة» أو الفيلم الراديكالي في صناعة الأفلام على نحو جيد، ولا يزال يعاود الظهور على السطح في أوقات الأزمات والفرص؛ ففي كوريا الجنوبية خلال السبعينيات، تعرَّف الشباب على الاتجاهات الراديكالية في المراكز الثقافية الفرنسية والألمانية، ومع التحول الديمقراطي في سول في عام ١٩٨٩ الذي كان فترة هدوء سياسي، وقدموا «أفلامًا للناس» عن مشكلات العمال والمشكلات الريفية، واضعة أساسًا للمؤسسات السينمائية المستقلة، وقد كانت رؤية مؤسسة سول فيجوال كوليكتيف هي «تأمين الحقوق الاجتماعية للجماهير». وفي الصين وبعد عام ١٩٨٩، تحدت حركة «الفيلم الوثائقي الجديد» التي أبرزت الواقعية وليس الاصطناع، تحديًا غير صريح للمبدأ الثابت وعملت على تشجيع الانشقاق والتمرد، وكان فيلم «التسول في بكين» (١٩٩١) لوو وينجوانج، الذي يدور حول مجموعة من الفنانين المهمشين في المدينة الكبيرة، علامة تاريخية للناشطين المدنيين. وفي بداية القرن الحادي والعشرين في الأرجنتين، وبعد الانهيار المالي الداخلي، ظهرت الجماعات السينمائية على السطح كوسائل للتعبئة السياسية، لتقدم أفلامًا مع الجماعات السياسية والعمالية.
انبثقت العديد من المؤسسات من رحم صناعة الأفلام النضالية؛ فهناك موزعون مثل مؤسسة «دي إي سي» الكندية، وموزعون أمريكيون مثل ويمين ميك موفيز (وهي مؤسسة توزيع نسائية)، وثيرد وورلد نيوزريل (التي تركز على الأعمال المهمة اجتماعيًّا التي يقدمها غير البيض)، وكاليفورنيا نيوزريل (التي تعرض قضايا ومشكلات الزنوج، والأفارقة، والقضايا العرقية والعمالية)، ومؤسسة نيو داي (وهي مؤسسة تشجع التوزيع الذاتي)، وكذلك الإيسكرا الفرنسية، وكلها مؤسسات وريثة لحركة صناعة الأفلام الموجهة التي ظهرت في الستينيات. وقد استمرت المؤسسات التي بدأت في عرض أصوات العامة والمحليين، مثل المؤسستين الأمريكيتين «دي سي تي في» وأبالشوب، وتولت تدريب أجيال جديدة من صناع الأفلام. يوجد أيضًا مراكز الاتصال بالقنوات المشفرة، وهي ظاهرة أمريكية من القنوات المشفرة مخصصة لبث الأفلام التي يقدمها الجمهور المحلي وتُقدَّم له، والتي نشأت من رحم الحركة النضالية الإعلامية في تلك الحقبة. وقد كان المخرج الأمريكي جورج ستوني، الذي تعلم الكثير من عمله في الأعوام من ١٩٦٨ إلى ١٩٧٠ مع برنامج تحدي التغيير الكندي، قائدًا للحركة.
وأخيرًا أخذ كثير من المخرجين وصناع الأفلام الآخرين مثاليتهم ومهاراتهم الإخراجية إلى ميادين أكثر تقليدية، خاصة في التليفزيون العام وتليفزيون الخدمة العامة والتعليم العالي، وبدأ كثير من المخرجين الوثائقيين مشوارهم في النضال السياسي واستطاعوا الوصول إلى قطاع أعرض من الجمهور؛ على سبيل المثال، قَدَّمت باربرا كوبل، التي درست في أواخر الستينيات مع رائدَي سينما الواقع الأخوين مايسلز، فيلم «مقاطعة هارلان، يو إس إيه» (١٩٧٦) بالتنسيق مع العمال المضربين بمناجم الفحم بكنتاكي. كان للفيلم أهمية للعمال والنقابات العمالية، وفاز بإحدى جوائز الأوسكار في ذلك العام. واصلت كوبل العمل مع المؤسسات والمنظمات غير الهادفة للربح الساعية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي نفس الوقت كانت تُخرج أعمالًا درامية للتليفزيون وتُنتج أفلامًا وثائقية تجارية مثل «بلوز الرجل الجامح» (١٩٩٧)؛ وهو جولة موسيقية للمخرج وعازف الجاز وودي آلان.
تطورت المؤسسات التي تأسست في هذه الفترة أيضًا لتنتج أعمالًا مختلفة تمامًا، فقد أسس ثلاثة خريجين من جامعة شيكاغو كانوا قد وجدوا الإلهام في أعمال جون ديوي وقدرات الكاميرا المحمولة التي ظهرت حديثًا — شركة كارتماكوين فيلمز في شيكاغو، وكان أول أفلامهم، «منزل للحياة» (١٩٦٦)، رؤية واقعية لمهانات الحياة في دور رعاية المسنين، وفشل الفيلم في تغيير أي من سياسات الرعاية الصحية. وفي خضم بحثهم عن مشروعات أكثر توجهًا نحو العمل الإجرائي، وبعد أن أصبحت مؤسسة سياسية، قدمت كارتماكوين فيلم «قصة مركز شيكاغو للأمومة» (١٩٧٦) للاحتجاج على إغلاق آخر برنامج للتوليد المنزلي في شيكاغو، وكجزء من حملة ضد سيطرة الشركات على مجال الرعاية الصحية. بعد حل المجموعة، استمرت كارتماكوين في تقديم الأفلام وأصبحت موجهة نحو الجماهير العامة. وقد حظي فيلم «أحلام الطوق» (١٩٩٤) لستيف جيمس بنجاح عالمي بعد فوزه بجائزة في مهرجان صندانس السينمائي، أما المسلسل التليفزيوني الملحمي «الأمريكيون الجدد» (٢٠٠٢)، وهو إنتاج تنفيذي مشترك لجوردون كوين وستيفن جيمس الشريكين المؤسسين لكارتماكوين، فقد تعقب مجموعة من المهاجرين إلى الولايات المتحدة من بلادهم الأصلية. وقد ظل نفس الاهتمام قائمًا بإعطاء الأبطال الفرصة للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم، ودعوة المشاهدين في احترام لمعايشة تجارب هؤلاء الأبطال، وإثارة أسئلة عن الوضع الراهن، وكان بمنزلة الزخم الذي يحرك أعمال كارتماكوين الأصلية.
حينما تُشاهَد فيما بعد، تصبح أفلام القضايا شهادة تأييد للقضية من أجل التاريخ، كما في «الأرض الإسبانية» و«ساعة الأفران»، وبالفعل، فقد بُعث فيلم «معركة تشيلي» من جديد في تشيلي بعد عودة الديمقراطية، وهو يستخدم الآن لتدريس التاريخ للتشيليين الذين محت الكتب في عهد بينوشيه كل أثر لسنوات حكم أليندي تقريبًا.
في القرن الحادي والعشرين ومع ظهور أجهزة إنتاج أكثر تطورًا، صارت المنظمات المدافعة توكل وتنتج أفلامًا وثائقية كجزء من خطط اتصالاتها الاستراتيجية. إن فيلم «العراق للبيع» (٢٠٠٦)، إنتاج شركة بريف نيو فيلمز، عن جشع الشركات خلال حرب العراق، وفيلم «حرب الحدود» (٢٠٠٦)، إنتاج منظمة المواطنين المتحدين المحافظة، عن الهجرة إلى الولايات المتحدة، أُعِدَّا كليهما كأسلحة في حرب للأفكار، وعندما درس الكونجرس الأمريكي افتتاح المحمية الوطنية القطبية للحياة البرية من أجل التنقيب عن النفط، أنتجت منظمة سييرا كلوب وغيرها من المنظمات غير الربحية المهتمة بالبيئة فيلم «نفط على الجليد» (٢٠٠٤). يبحث هذا الفيلم، الذي يرويه بيتر كويوت، معركة التطوير النفطي في المحمية الوطنية القطبية للحياة البرية، وتأثير هذا التطوير على كلٍّ من البيئة والمجتمعات الطبيعية، وقد عُرض في دور العرض، وعلى التليفزيون العام، وفي الكثير من الأماكن العامة، عرضت أيضًا أسطوانة (الدي في دي) فيلمًا قصيرًا ومجموعة أدوات تنظيمية، وقد أشاد المنظمون به لدوره في حشد الوعي والمقاومة في كل أنحاء البلاد، وهو ما ساهم في النهاية في إسقاط التشريع الخاص بالبدء في التنقيب عن النفط.
وأيًّا كان منظور المنظمات المدافعة والمنظمات غير الربحية فإنها تستفيد من التعهد الضمني للفيلم الوثائقي بسرد قصة مهمة عن الحياة الواقعية بصدق وأمانة. وأفلام القضايا تؤكد على أن التعهد لا يكون فقط من خلال مصداقية المنظمات المنتجة لها، ولكن أيضًا من خلال الأدوات التي تستخدمها للإشارة إلى جدارتها بالثقة والاعتماد عليها. وتشمل هذه الأدوات (التي بالطبع لا تفرط فيها) الاستعانة برواة ذوي تأثير وثقل (مثل بيتر كويوت)، والتصوير الواقعي للحياة اليومية («الأرض الإسبانية»)، والمقارنة الجريئة (كتلك التي استخدمت في فيلم «بوريناج»)، واستخدام سينما الواقع («معركة تشيلي»)، والإحصاءات التي تخدم المناقشة («ساعة الأفران»)، ولقاءات مع الخبراء («العراق للبيع»، و«حرب الحدود»). غير أنه لو أصبحت الأفلام الوثائقية النزاعية سمة قياسية للحرب السياسية، لكان من الممكن أن تقوِّض من المصداقية التي اكتسبها هذا الشكل الفني من خلال ارتباطه بالقضايا والمشكلات النزاعية التي تقلل من شأنها وسائل الإعلام التي تعتمد على الإثارة وتهوى الشهرة.
الأفلام التاريخية
كتب المؤرخ آرثر شليسنجر الابن يقول: «التاريخ لا يصنع نفسه؛ فلا يمكنك أن تضع عملة في ماكينة فيخرج لك تاريخ.» إن التاريخ كله يُكتب للناس في الحاضر، للبحث لهم عما يطلق عليه المؤرخون «ماضٍ قابل للاستخدام»؛ قصة تُستخدم في تكوين فهمنا لأنفسنا، كذلك يُكتب التاريخ بناء على رواية سابقة، تارة مخالفة وتارة داعمة وتارة مؤكدة لحاضر لم يكن له أي وجود فيما سبق.
يواجه مخرجو الأفلام الوثائقية الذين يروون التاريخ من خلال فيلم جميع التحديات التي يواجهها نظراؤهم من المخرجين، فهم يواجهون مشكلات المؤرخين في الحصول على البيانات، وغالبًا ما يلجئون إلى تمثيل الأحداث التي لا يوجد أفلام لها، وغالبًا أيضًا ما يلجئون إلى تمثيل الأحداث باستخدام مادة لم تكن معدة كسجل تاريخي، فيلجئون إلى الصور الفوتوغرافية، واللوحات، والأشياء التمثيلية، وصور لوثائق مهمة، وإعادة التجسيد، وتصوير خبراء مشاهير أمام الكاميرا للاستعاضة بهم عن الصور. يسجلون أيضًا موسيقى تستحضر العصر، ويبحثون عن مطربين لغناء أغنيات العصر، ويدمجون مؤثرات صوتية لتعزيز إحساس المشاهد بأن ما يعرض أمامه هو لحظة حقيقية من الماضي، وهم يعانون إشكالية تحديد الكم المناسب من إعادة التجسيد وكيف يمكن تنفيذه.
يواجهون أيضًا مشكلات الخبرة؛ فعادة ما يصل مخرجو الأفلام الوثائقية إلى قطاع أكبر بكثير من الناس بأعمالهم مقارنة بالمؤرخين الأكاديميين، لكن المخرجين نادرًا ما يكون لديهم مؤهلات المؤرخين، بل إن المخرجين غالبًا ما يتجنبون استشارة مجموعة من الخبراء؛ فكثيرًا ما قد يكون المؤرخون شديدي التمسك بالدقة في تسلسل الأحداث التاريخية، ومناقشة تأويلات متعددة، والحاجة لإقحام شخصيات ثانوية أو حقائق دقيقة، وهو ما يخالف هوى المخرجين، ويفسد وضوح القصة المصورة لقطاع عريض من الجماهير، وغالبًا ما يشترط تليفزيون الخدمة العامة وجود هيئات استشارية متخصصة، ولكن أعمال التليفزيون التجاري نادرًا ما تضع مثل هذه الاشتراطات.
أخيرًا، وعلى عكس المؤرخين الكتَّاب الذين يستطيعون الاستطراد، وإضافة تعليقات، وهوامش، يعمل مخرجو الأفلام الوثائقية في إطار شكل تخلق فيه الصور والأصوات محاكاة لواقع هو في حد ذاته تأكيد لحقيقة ضمنية، مما يصعب عليهم تقديم أي تأويلات بديلة للأحداث، أو حتى فكرة أننا في واقع الأمر نؤول الأحداث.
وغالبًا ما كان المخرجون الوثائقيون يختارون تجاهل تداعيات اختياراتهم: فقد يقبلون فكرة لا تتفق مع معايير النقد بأنهم يروون حقائق الماضي لا أكثر، أو قد يبنون نظرة متحزبة للماضي على نحو لا يتفق مع معايير النقد أيضًا، غير أن أعمالهم غالبًا ما تكون البوابة الأولى التي يمر من خلالها الناس لفهم الماضي.
القصص
يمكن توضيح حقيقة أن جميع الأفلام الوثائقية التاريخية هي قصص ﻟ «ماضٍ قابل للاستخدام» بأمثلة عديدة.
حين كانت الثورة الروسية في مهدها، قدمت المخرجة إسفير شب قصة نقدية عن تاريخ الحكم القيصري في فيلم «سقوط سلالة رومانوف» (١٩٢٧)، معتمدة اعتمادًا كليًّا على مشاهد من الأرشيفات القيصرية، بما في ذلك أفلام القيصر المنزلية الخاصة. لقد قدمت شب ما صار يعرف بعد ذلك ﺑ «الفيلم المجمع». وبالفعل كانت عائلة القيصر ستصاب بالصدمة لرؤية تسجيلاتهم لحياتهم المترفة بجوار صور تجسد الفقر والبؤس، لقد حوَّلت شب معنى المادة المصورة من خلال اختيارها للتجميع وتجاور المتناقضات، من تسجيلات محببة لعائلة موسرة إلى إدانة صريحة لحكومة أطيح بها.
تتضح أيضًا «قابلية استخدام» التاريخ من خلال القصص التاريخية للحرب الباردة المأخوذة من جهات متضادة، واستخدام الأرشيفات الحكومية التي ازدهرت واتسعت من خلال الاستثمار الضخم للحكومات في الدعاية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت القصص تروى بما يتناسب مع الجمهور — سواء أكان شيوعيًّا أو رأسماليًّا — وبما يتناسب مع الزمن؛ ففي ألمانيا الشرقية الجديدة، أنتج الثنائي الألماني أندرو ثورندايك (وهو ألماني يحمل الجنسية الأمريكية ولد ونشأ في ألمانيا) وأنيلي ثورندايك الكثير من الأعمال التي اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على المشاهد الأرشيفية، كان من ضمنها فيلم «المعجزة الروسية» (١٩٦٣)، وهو نظرة احتفالية وبانورامية على التاريخ الروسي. وفي الولايات المتحدة، تعاون هنري «بيت» سالومون، وهو ضابط متقاعد بالبحرية وكان يعمل بالعلاقات العامة بشبكات إن بي سي، مع البحرية واستخدم أفلامها المصورة لإنتاج «انتصار في البحر»، وهو مسلسل من ستة وعشرين جزءًا يحتفي بدور البحرية في المحيط الهادي في الحرب العالمية الثانية، عُرض لفترة طويلة. صور مسلسل «انتصار في البحر» — الذي جاء عنوانه ملائمًا تمامًا — الولايات المتحدة وحلفاءها وهم يحاربون بلا أنانية من أجل الحرية، ويُظهرون بطولة لا حدود لها، وبالطبع ينتصرون في النهاية، وقد وضع له موسيقى من تأليف ريتشارد رودجرز لبناء استجابة عاطفية للفيلم الصامت. لقد اجتهد كل من المخرجَين الألمانيَّين والمخرج الأمريكي لسرد قصص ذات معنى وثرية عاطفيًّا بصدق، وكانت أعمالهم أيضًا متناسبة تمامًا مع المهام الأيديولوجية لحكوماتهم وعصرهم. وفي السنوات اللاحقة، حينما تغيرت الافتراضات الأيديولوجية للعصر ومن ثم برزت على السطح الافتراضات السابقة، نُظر إليها باعتبارها مغرضة ومتحيزة.
كان مسلسل كين بيرنز «الحرب الأهلية» (١٩٩٠) أيضًا قصة مصطنعة بحرفية عالية، وليس مجرد سرد لحقائق. يخبرنا المسلسل، الذي يعد واحدًا من أشهر العروض شعبية في التليفزيون الأمريكي العام، أن الحرب الأهلية صنعت لأول مرة هوية وطنية أمريكية متكاملة، وهو يوظِّف مشاهد تأملية بكاميرا متحركة لصور ثابتة وشهادة الخبراء لإقامة هذه الحجة. وواقعية الصور، من بين أشياء أخرى، تمنح المشاهدين الإحساس بأن ما يشاهدونه ليس سوى سرد لحقائق.
قد يفند بعض الجنوبيين صحة الفكرة الرئيسية لمسلسل «الحرب الأهلية»، ولكن الفكرة — كما كتب جاري إدجارتون في كتاب «أمريكا بعيون كين بيرنز» — عكست محور تاريخ التوافق في ذلك العصر؛ ذلك «المنظور الليبرالي التعددي» الذي ركَّز على الحفاظ على الوحدة، وقد واجه بيرنز نقدًا من المؤرخين الذين كانوا يؤيدون تأويلات أخرى، ومن هؤلاء الذين قالوا إن خطيئة المسلسل الحقيقية هي إخفاء حقيقة أنه كان يسعى للتأويل والتفسير لا لسرد التاريخ، وتهرَّب بيرنز ببساطة من هذا النقد بوصف نفسه بأنه «عالم آثار عاطفيٌّ» لا مؤرخ؛ فقد قال إنه بحث في سجلات التاريخ عن «نوع العاطفة والتجانس الذي يذكِّرنا مثلًا بما دفعنا للاتفاق كشعب على التماسك والتوحد بعكس كل التوقعات». بعبارة أخرى، لقد اختار شخصيات وأحداثًا ساعدته على رواية القصة التي اختار أن يرويها عن الماضي.
تلعب الاعتبارات التجارية دورًا في تشكيل قرارات المخرجين الوثائقيين بشأن كلٍّ من الموضوع والقصة، فغالبًا ما كانت الأعمال الوثائقية التليفزيونية، التي تُعَد بهدف الترفيه والتسلية، تبرز الجانب الأكثر إشراقًا من الحياة، بما في ذلك صناعة الترفيه نفسها، وقد كانت الأعمال الخفيفة، مثل «هوليوود: السنوات الذهبية» لديفيد ولبر (١٩٦١) والمسلسل الفرنسي «العشرينيات المجنونة»، أمثلة لأعمال عصر التليفزيون. وفي عصر التليفزيون متعدد القنوات، ملأت الأعمال الوثائقية التاريخية ساعات كثيرة من ساعات الإرسال بتكلفة زهيدة، ودون أي ادعاء بتقديم رؤى شاملة أو متوازنة، أو تغطية أهم وأبرز الجوانب لأي حقبة تاريخية، وقد أدت سلسلة مشاهدها المحبوكة معًا والمستمدة من مواد ذات ملكية عامة من الحكومات، إلى جانب مواد أرشيفية زهيدة التكلفة (غالبًا ما تكون مقترنة بسرد رائع) إلى ظهور المصطلح التجاري «القصة الحديثة المجمعة من مواد قديمة».
تضع محدودية الوصول إلى المادة أيضًا قيودًا على اختيارات مخرجي الأعمال الوثائقية التاريخية، فمع امتداد أجل حقوق النشر والطبع لأجيال في المستقبل، ازدادت تكلفة إنتاج الأفلام الوثائقية التاريخية التي تستعين بعدد كبير من المشاهد الأرشيفية التي لا تقع في نطاق الملكية العامة. وطالما كانت الأفلام الوثائقية التي تخضع لأبحاث رسمية جزءًا من فئات الأفلام الوثائقية باهظة التكلفة، ولكن تكاليف إجازة حقوق النشر ارتفعت بسرعة صاروخية في نهاية القرن العشرين مع اندماج الأرشيفات ووضع شركات الإعلام الكبرى رقابة أكثر صرامة على مواردها في ظل التهديد الذي يشكِّله النسخ الرقمي، وقد أوضحتُ أنا وبيتر جاسزي في دراستنا «قصص لم تروَ» أن بعض المخرجين الوثائقيين كانوا يتخوفون حتى من الاضطلاع بمشروعات طموحة، وقد عالج المخرجون الوثائقيون في الولايات المتحدة هذه المشكلة بكتيب «بيان صنَّاع الأفلام الوثائقية لأفضل الممارسات في إطار الاستخدام العادل»، وهو دليل إرشادي أحدث زيادة مثيرة في قدرة المخرجين على استخدام حقوقهم في الاقتباس المجاني لقدر محدود من المواد التي لها حقوق نشر، ومن ثم توسيع نطاق إبداعهم.
أفلام السير الذاتية
تكشف وثائقيات السير الذاتية — وهي نوع خاص من الأفلام التاريخية — بجرأة نفس عملية اتخاذ القرار التي تظهر جميع الأعمال التاريخية كتفسير أو ترجمة لشيء ما. وتعد أفلام السير الذاتية نوعًا من الأفلام الوثائقية التي تحظى بشعبية هائلة؛ فهي تسلط الضوء على شخص معين، متعهدة للمشاهدين بأنهم سيتعرفون على شخص معروف بأنه مهم (سياسي، شخص مشهور، فنان، بطل رياضي)، أو شخص ذي أهمية لا يشوبها شك (مخترع غير معروف، شخص مجهول يعمل في مجال الخدمة الاجتماعية، فنان بسيط)، أو شاهد على التاريخ (أحد الناجين من الهولوكوست، سكرتيرة هتلر). وهذه القصص تحركها الشخصيات بحكم التعريف، ولكن لا بد أن يفسر المخرج أو يعرِّف الشخصية للمشاهد.
وقد عرضت مسلسلات وثائقية كاملة عن السير الذاتية على شاشة التليفزيون، من أمثلتها: مسلسل «سادة أمريكا» بشبكة بي بي إس، ومسلسلات قناة بيوجرافي التابعة لشبكة إيه آند إي. وتتميز هذه المسلسلات بأساليب معروفة، ولم يكن بإمكانها أن تكون أكثر اختلافًا، فيقدم «سادة أمريكا» قصة عن شخصية أمريكية في إطار لحظة اجتماعية معينة؛ فالقصص الفردية توضع في موقع اجتماعي تحيطها معلومات عن الأحداث والاتجاهات التي تشكل التصرفات والاختيارات الفردية وتثار من خلالها، ولا تقوم القصة على أحداث حياة الشخص فحسب، بل على أهمية تلك الأحداث في إطار أوسع وأشمل؛ فعلى سبيل المثال، يعرِّف فيلم «آندي وارهول»، لدايان فون فورستنبرج ودانيال وولف، الفنان الأمريكي الذي اشتهر بأعماله الفنية وحفلاته الماجنة كفنان جاد لديه شغف نقدي بالثقافة الأمريكية، يدَّعي الفيلم، الذي يتسم بالاحترام ولكنه لم يكن وقورًا، أن المُشاهد سوف يكون قادرًا الآن على فهم أهمية وتراث آندي وارهول.
على الجانب الآخر، نجد أن أفلام السير الذاتية لشبكة إيه آند إي صور مبنية بناءً محكمًا لملامح الشخصيات، وتأتي في نوعين: المحبَّبة (وغالبًا ما تضم مشاهير مجال الترفيه) والمنفِّرة (المجرمين في الغالب). ويشير الباحث ميكيتا بروتمان إلى أن القصص تُجَمَّل وتُنَقَّى لتقديم المشاهير كمواطنين محبوبين ومستقيمين، وتُطْمَس الأدلة المناقضة لذلك؛ على سبيل المثال، في فيلم عن السيرة الذاتية لدين مارتن، الذي كان ضمن مسلسل عن فريق «رات باك» المكوَّن من مجموعة من المشاهير التفوا حول فرانك سيناترا، يُقدَّم مارتن كرجل مخلص لأسرته، على الرغم من وفرة الأدلة على ملاحقته للنساء وعربدته.
وعلى الرغم من اختلافها، فإن كل مسلسل من هذه المسلسلات يستخدم تقنيات فيلمية تهدف إلى مساعدة المشاهد على فهم الشخصية المجسَّدة، فيُستشهد بذوي السلطة والتأثير لتعزيز الخط الدرامي، وتُعرض بعض المشاهد التاريخية المختارة للتأكيد على الفكرة، وتُجَمَّع الأفكار معًا في نهاية الفيلم حتى يعرف المشاهدون خطورتها، وأهميتها، ومعناها في إطار حياة هذا الشخص. في المقابل، تستخدم بعض أفلام السير الذاتية تقنيات الفيلم لجذب الانتباه للطبيعة البنائية لفيلم السيرة الذاتية، وتحدي افتراضات المشاهد الثابتة الخالية من أي شك؛ على سبيل المثال، يُعتبر فيلم «دريدا» (٢٠٠٢) لكيربي ديك وآمي تزيرينج كوفمان، تحديًا للشكل السائد لوثائقيات السير الذاتية؛ فهو يجسد بمهارة الفارق بين التجربة والتوثيق، ويوضح قدرة الراوي على تأكيد الحقيقة، وهو ما يحدث جزئيًّا من خلال توضيح مدى صعوبة بناء قصة؛ فقد رفض جاك دريدا — الذي انشغل خلال حياته المهنية ﺑ «تفكيك» افتراضاتنا عن المعرفة — مرارًا التعاون مع صناع الفيلم، مما دفعهم إلى الكشف عن وجودهم كبديل، وهذه التصرفات في حد ذاتها تكشف أيضًا عن الشخصية ورؤيتها للفيلسوف. يضع الفيلم أمام المشاهد تحديًا بأن يطرح الأسئلة التي طرحها دريدا عن الحقيقة والتعبير. وتُظهر أعمال إيرول موريس أسلوبًا جديدًا لهدم الصلات الساذجة بين حقائق السيرة الذاتية للشخص والفيلم الوثائقي؛ على سبيل المثال، في فيلمه «ضباب الحرب» (٢٠٠٣)، يسمح موريس لروبرت ماكنامارا، وزير الدفاع في عهد الرئيسين كينيدي وجونسون، بوصف حياته الخاصة وقراراته السياسية والشخصية المثيرة للجدل بإسهاب، وبدون تعليق، ومن ثم تظهر تعقيدات وتناقضات حياة ماكنامارا أمام المشاهدين الذين سيصارعون حتمًا مع أحكامهم وآرائهم في ماكنامارا.
التعديلية
من الطرق المثيرة لرؤية مدى قوة الحكي أفلام التاريخ المعدل، وهي تلك الأفلام التي تتحدى النسخة السائدة من السجل التاريخي، وقد كان للأفلام الوثائقية التي شككت في المعرفة السائدة عن الحرب العالمية الثانية تأثير كبير على المعرفة العامة بهذه الفترة التاريخية، وفي غضون ذلك أنتجت وثائق جديدة من مصدر مباشر للمؤرخين، وفي بعض الحالات تكون بمنزلة سجلات فريدة لروايات بصيغة المتكلم عن التاريخ.
كان المسلسل البريطاني «العالم في حالة حرب» (١٩٧٣)، الذي أنتجه جيرمي إيزاكس للشبكة التليفزيونية التجارية تيمز تي في (خلال حقبة كانت الشبكات التجارية البريطانية مطالبة فيها بالقيام بقدر كبير من أعمال الخدمة العامة) — علامة على تحول تاريخي في ترجمة الحرب العالمية الثانية. ولا يزال المسلسل المكون من ٢٦ ساعة الذي يضم مشاهد تاريخية مع لقاءات مع شهود عيان، محبوبًا في بريطانيا وعُرض في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك قناة هيستوري، وقد كان المسلسل تعديليًّا من جوانب عدة؛ فقد تبنَّى «العالم في حالة حرب» نظرة عالمية للحرب، وليس نظرة قومية أو إقليمية، واعتمد على شهود العيان؛ فقد عثرت مجموعة من الباحثين التاريخيين المتفانين — بعضهم كانوا مؤرخين أكاديميين — على ضيوف لمحاورتهم استطاعوا الوصول لهدف إيزاكس المتمثل في توضيح «التأثير الفعلي للحرب على الأشخاص العاديين»، وقد كانت رسالته الأساسية هي أن الحرب جحيم، لا أن النصر كان حليفنا، وساعدت الصور الصادمة لمناظر الموت والفظائع الوحشية على إضفاء حيوية على تلك الرسالة، وقد كان له صدى قوي في فترة كان فيها الخوف من الحرب النووية التي تحركها القوى العظمى وواقع الحروب بالوكالة التي تحرِّض عليها القوى العظمى يمثلان جزءًا كبيرًا للغاية من روح العصر.
وفي نفس الوقت تقريبًا أعاد مخرج الأفلام الوثائقية الفرنسية مارسيل أوفولس صياغة الفهم العالمي لتجربة فرنسا في الحرب العالمية الثانية. كان منهج أوفولس هو التقرير الصحفي الاستقصائي، الذي طبَّقه في «الحزن والشفقة» (١٩٦٩) على إشكالية التعاون مع الهيمنة النازية، وكان قد وجد فيما سبق أعماقًا لم تُناقش لمسألة التعاون مع الفاشيين الذي لم يتطرق إليه أي شك. تألَّف الفيلم المثير للجدل — الذي مدته أربع ساعات ونصف — في الأساس من لقاءات في مدينة كليرمونت-فيراند، وأوضح أن الصورة البطولية للمقاومة الفرنسية كانت خرافة من وجهة نظر الطبقة الوسطى في فرنسا، وأن الطبقة العمالية الفقيرة هي من قاد جهود المقاومة (وقد انتُقد مخرج الفيلم فيما بعد لاختياره مدينة كان تمثيل الحزب الشيوعي فيها ضعيفًا على غير المعتاد؛ إذ كان الحزب الشيوعي منظمًا أساسيًّا لجهود المقاومة). وعلى الرغم من أن الفيلم كان إنتاجًا مشتركًا بين التليفزيون الحكومي الفرنسي بالتعاون مع كل من التليفزيون الحكومي بألمانيا الغربية وسويسرا وعُرض في ألمانيا وسويسرا، فقد أصدر رئيس الوزراء الفرنسي أمرًا بحظر عرضه على التليفزيون الفرنسي، وبعد جولة ناجحة له في الولايات المتحدة، عُرض في دور العرض الفرنسية وعلى شبكة بي بي سي البريطانية.
وعلى خطى هذا الأسلوب من إعادة التمحيص الصارم لتاريخ الحرب العالمية الثانية، سار كلود لانزمان، وهو يهودي فرنسي، حين أنتج مسلسلًا مدته حوالي عشر ساعات بعنوان «شواه»، بمعنى الهولوكوست، (١٩٨٥)، فمن خلال الاعتماد الكلي على لقاءات مع الناجين من الهولوكوست والموظفين الباقين على قيد الحياة — أغلبهم من التقنيين والمسئولين — بحث لانزمان بأسلوب منهجي في مسألة كيف حدثت الهولوكوست بالضبط (أو على الأقل كيف يتذكرها الناس)، وليس كيف يمكن أن تكون قد حدثت. لقد قدم «شواه» سجلًّا عامًّا محددًا على نحو غير مسبوق لآليات جريمة الاغتيال الجماعي تلك، ومن خلال أسلوبه الإجرائي، صدم الجماهير وحركهم، وأثار جدالًا حول المبادئ الأخلاقية للقاءات الحوارية. هل كان لوجود الكاميرات الخفية ما يبرره لأبطال الفيلم العنيدين؟ هل كانت إعادة تمثيل اللقاءات ملائمة؟ ما مقدار السياق الذي يمكن منحه للمشاهد؟
لم تقدم التعديلية منظورًا مختلفًا لتاريخ الحرب العالمية الثانية مصحوبًا بمعلومات جديدة فحسب، لكنها أدخلت أيضًا عناصر جديدة للقصة؛ ففي اليابان، تتبع فيلم «الجيش الإمبراطوري العاري يتقدم» (١٩٨٨) لكازو هارا — وعلى غرار أسلوب سينما الواقع — محاربًا قديمًا مهووسًا يحاول كشف انتشار أكل لحوم البشر بين القوات التي تُركت في غينيا الجديدة بعد انتهاء الحرب، وتحميل الإمبراطور مسئولية جرائم الحرب التي أُنكرت ببساطة بأسلوب مجازي غير صريح. ترمز قصة الفيلم أيضًا برهبتها وتفردها إلى إنكار جرائم الحرب عمومًا. وفي الولايات المتحدة، أخرجت المخرجة الأمريكية الداعمة للحركة النسوية كوني فيلد فيلمها «حياة المرأة العاملة وأزمنتها» (١٩٨٠)، وفيه سردت قصة خفية عن النساء اللاتي ساهمت وظائفهن خلال فترة الحرب في تغيير حياتهن، أرَّخ الفيلم أيضًا للمحاولات الحكومية المنسقة لدفع هؤلاء النساء إلى التخلي عن وظائفهن والعودة إلى المنزل بعد الحرب. لقد أدخلت فيلد النساء والعمال من جديد إلى تاريخ هيمن عليه الجنود والسياسيون الذكور.
ومن أروع الأمثلة لإدخال عناصر جديدة على السجل التاريخي مسلسل «عيون على الجائزة» (١٩٨٧، ١٩٩٠) لهنري هامبتون. يتتبع هذا المسلسل — الذي يمثل طفرة وعُرِضَ على التليفزيون العام — حركة الحقوق المدنية كحركة تدعم أفضل القيم في الثقافة الأمريكية في مواجهة الأوضاع الراهنة آنذاك التي سيطرت عليها العنصرية ولا تخلو من الصراعات الداخلية العميقة، وقد صنعت فرق ثنائية من المنتجين الزنوج والبيض، كانوا يعملون مع المؤرخين الأكاديميين كمستشارين، قصصهم باستخدام مشاهد نادرة من أرشيفات كبيرة وصغيرة، ومجموعات المقتنيات الشخصية، وسراديب المحطات التليفزيونية المحلية. قدم المسلسل للمشاهدين المحليين صورًا وحوادث شاهدها جمهور الأخبار التليفزيونية المحلية ربما مرة واحدة في الماضي. وقد خلق وعيًا عامًّا على مستوى البلاد بالتأثير العميق لحركة الحقوق المدنية على التاريخ الأمريكي، وقد أصبح المسلسل مادة أساسية في المدارس الأمريكية وعمل كنموذج لمسلسلات التنقيح التاريخي اللاحقة مثل مسلسل «شيكانو!» (١٩٩٦) ذي الأربع ساعات، و«مسألة مساواة» (١٩٩٦)، الذي يتناول تاريخ حركات حقوق الشواذ والسحاقيات.
بالطبع قد يغفل مخرجو الأفلام الوثائقية المعدلة للتاريخ بعض المعلومات ذات الأهمية البالغة، سواء أكان ذلك عن عمد أم لا؛ على سبيل المثال، في الأفلام الوثائقية المستقلة التي نُفذت في السبعينيات والثمانينيات والتي تسترجع تاريخ الحركات السياسية في الثلاثينيات — مثل التنظيم النقابي (فيلم «فتيات النقابة» ١٩٧٦)، والإضرابات (فيلم «بالأطفال والأعلام» ١٩٧٨)، والحرب الأهلية الإسبانية (فيلم «المعركة الجيدة» ١٩٨٤) — غالبًا ما كان المخرجون الوثائقيون المنتمون إلى جيل الطفرة السكانية يوضحون حدود دور الحزب الشيوعي في الأحداث، أو يأخذون التقارير الذاتية لأعضاء الحزب الشيوعي على علتها. واعتمادًا على قصص التاريخ الشفهية لإنقاذ عناصر الماضي المطموسة، ومن منطلق رؤيتهم لأنفسهم باعتبارهم ورثة للناشطين السياسيين الذين يكنُّون لهم الإعجاب، كان بإمكان هؤلاء المخرجين بسهولة أن يصبحوا أسرى لقيود التاريخ الشفهي كمصدر وحيد للمعلومات.
أفلام الذكريات والتاريخ
مع تنامي أرشيفات الأفلام والفيديو المنزلية وظهور كاميرات فيديو أكثر بساطة، قدَّمت أفلام الذكريات أو الأفلام الشخصية إسهامات مهمة للفيلم الوثائقي التاريخي؛ ففي مثل هذه الأعمال، يُكشف عن الأمور الشخصية والخاصة، وأحيانًا ما توضع في مقارنة مع السجل الرسمي أو العام؛ إذ توضع الذكريات الفردية متجاورة مع التاريخ العام، وغالبًا ما تتحداه، فتطفو قصص جديدة على السطح، وتسهم الخبرة الفردية في إثراء الفهم العام للماضي.
يستخدم المخرجون مجموعة متنوعة من التقنيات والأساليب لتجسيد الذكرى، وهناك عبارة مجازية، وفقًا للمخرج ديفيد ماكدوجال، هي وضع «علامات الغياب» — صور لخسائر، أو أشياء مهجورة، أو صورة فوتوغرافية تحتاج إلى تفسير — في قلب الفيلم وقلب المشكلة التي ستُحل من خلال الذكرى؛ على سبيل المثال، بحث صناع فيلم «في أحضان الغرباء» (٢٠٠٤)، عن «برنامج نقل الأطفال» الذي نقل الأطفال اليهود إلى خارج ألمانيا النازية، بالبحث عن الأشياء الفعلية التي أحضرها الأطفال معهم واستخدموها كرموز، بدلًا من مجرد عرض شيء مشابه، وفي مرات عديدة، استخدم صناع الأفلام الشخصية أيضًا مقاربة ساخرة أو تأملية للأشياء أو الصور المألوفة، مما يفرض إعادة تحليلها: الملصقات، والصور البيضاء، ونص يثير الخوف أو يطرح أسئلة، والتكرار، وهي أشياء تدفع المشاهدين إلى التأمل في معنى صوت أو صورة ما أو إعادة تفسيرهما.
في بعض الحالات، نهل المخرجون من صناعة الأفلام الطليعية والتجريبية من عصور سابقة، وتقدم أعمال المخرجة الطليعية الأمريكية إيفون رينر العديد من الأمثلة الجيدة لذلك. أيضًا بنى المخرج الأمريكي المثلي ذو الأصل الأفريقي مارلون ريجز فيلمه «ألسنة غير معقودة» (١٩٨٩) كقصيدة مرئية اتبعت البنية القصصية الهرمية لرحلته نحو الاعتراف بهويته، أما أعمال روس ماكيلوي التي تتناول حياته («مسيرة شيرمان» ١٩٨٦؛ «نشرة أخبار الساعة السادسة» ١٩٩٦؛ «الأوراق اللامعة» ٢٠٠٣)، التي تتبع تطور إحساس المخرج (أو الشخصيات) بذاته، فهي تعتمد على التدريب الذي تلقاه ماكيلوي بين مخرجي الأفلام التجريبية مستخدمة أفراد المجموعة وحياتهم الشخصية كموضوعات لها.
وقد ساهمت الأفلام الشخصية في تطور حركات الهوية الثقافية في جميع أنحاء العالم في الثمانينيات والتسعينيات؛ فقد أفرزت التغيرات السياسية والعولمة الاقتصادية حركات الآسيويين الجنوبيين، والآسيويين الجنوبيين الشرقيين، و«الصينيين بالخارج»، والأفارقة، وهي حركات جديدة ومشتتة وضخمة. وبدأت ثقافات مشتتة واعية ذاتيًّا في الظهور والبحث عن التعبير الذاتي في الأفلام بدعم من المؤسسات التي تشجع هذا التعبير الذاتي. وفي بريطانيا تضافرت احتجاجات المخرجين المستقلين، ومطالب الأقليات العرقية في أعقاب أعمال الشغب، وإطلاق تليفزيون القناة الرابعة الجديدة الخاصة (وإن كانت قد مولت بعائدات حكومية) — في تكوين ورش العمل الخاصة لتشجيع ورعاية الأفلام التي تصنعها الأقليات.
كان من ضمن النتائج الناجحة ما يسمى بورش عمل الأفلام السوداء، من بينها ورشة سانكوفا التي يعد إيزاك جولين واحدًا من أشهر مخرجيها، وورشة بلاك أوديو كوليكتيف، وقد أثارت هذه الورش مجادلات سياسية ضخمة ومثمرة عن التجسيد الذاتي للأقليات المتعددة ودور النساء، وكان من أبرز نتائجها فيلم «أغنيات هاندسورث» (١٩٨٦) لجون أكومفرا. أعاد هذا الفيلم التجريبي الجريء — بأسلوب شاعري — استخدام صور أحداث الشغب، والأحياء الفقيرة، والجرائد السينمائية، والمشاهد التاريخية من فترة الاستعمار في مقال شخصي عن التاريخ والهوية. من الأعمال الأخرى التي استقبلت بحفاوة فيلم «الجسد الجميل» (١٩٩٠) لإنجوزي أونوورا، وهي ابنة لأب نيجيري وأم بريطانية. يجمع الفيلم ما بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، مستعينًا بممثلة لتجسيد دور المخرجة، فيما تلعب الأم الحقيقية دورها في الفيلم. يعقد الفيلم مقارنة بين صورة الجسم بالنسبة للأم والابنة وتاريخهما الشخصي استنادًا إلى تأثرهما بفعل التمييز العرقي والجنسي والعمري المألوف للمجتمع البريطاني.
أفرز أيضًا عصر ما بعد الاستعمار وما بعد الحرب الباردة الكثير من الأعمال التي جمعت بين النزعة لدمج السيرة الذاتية وإعادة تمحيص التاريخ، واتجه المخرجون إلى شكل المقال الشخصي لتحدي فجوة الذاكرة الرسمية في أفريقيا. كان والد ديفيد أشكار، الذي كان مسئولًا غينيًّا بارزًا، قد أُقصي من منصبه الرفيع وتوفي في السجن. ومزج أشكار في فيلمه «إرادة الله» (١٩٩١) إعادة التجسيد مع الخطابات العائلية، والأفلام المنزلية، وصور الجرائد السينمائية لتحدي الرواية الرسمية عن اختفاء والده. قدم الفيلم — الذي ينتمي لأفلام السيرة الذاتية بقدر ما ينتمي للأفلام التأملية — معارضة للهالة الأسطورية المحيطة بالقائد الثوري سيكو توريه، وأثار جدلًا في غينيا وفي جميع أنحاء العالم. قدم أيضًا المخرج الهاييتي راءول بيك، الذي كانت عائلته تخدم حكومة باتريس لومومبا في الكونغو، فيلم «لومومبا: موت رسول» (١٩٩٢). يعتمد الفيلم — الذي قدم بيك فيما بعد نسخة روائية منه تحمل نفس الاسم — على الأفلام المنزلية لعائلة بيك ويومياته المصورة بالفيديو في بحثه الذي لم يثمر عن شيء عن صور لومومبا الأرشيفية التي أخفاها موبوتو قاتل لومومبا وخليفته في الحكم، بجانب اللقاءات والمقاطع الإخبارية. أما الكاميروني جان ماري تينو، فقد قدم سلسلة من الأفلام الشخصية المصحوبة بتعليق صوتي حاد تربط التاريخ الاستعماري بفظائع الحاضر، ومن بينها «أفريقيا، سوف أنهبك» (١٩٩٢).
أثارت نهاية الديكتاتوريات الأمريكية اللاتينية أيضًا موضوع الذكريات والتاريخ؛ ففي فيلم «بعد عشرين عامًا» والمعروف أيضًا باسم «رجل على قائمة الموت» (١٩٨٤)، عاد البرازيلي إدواردو كوتينو إلى مكان ما حيث دَفن فريقُ فيلمه قبل عشرين عامًا على عجالة شرائط فيلم كان ضمن مشروع لأفلام السينما الجديدة عن مقتل فلاح كان قائدًا لإحدى حركات الإصلاح الزراعي للفلاحين، وتوقف المشروع فجأة بسبب تمرد عسكري. بعد ذلك توصل كوتينو لأرملة الفلاح وأبنائه الثمانية، وكانت النتيجة قصة عن جيل ضائع رويت من خلال تجارب عائلة محطمة. قدم المخرج التشيلي باتريشيو جوزمان في عام ١٩٩٧ أيضًا فيلم «تشيلي، الذكرى العنيدة»، وهو ترجمة لرحلته إلى الوطن لعرض فيلم «معركة تشيلي» — الذي كان محظورًا حتى ذلك الحين — لأول مرة لبني وطنه.
كانت الأفلام الشخصية أيضًا وسيلة لإحياء الذاكرة العامة لما لا يمكن تصوره أو تحمله، وكان إنتاج أفلام الهولوكوست وأفلام الذكريات غزيرًا خلال التسعينيات، نذكر منها بين أفلام أخرى عديدة: «ألماس في الجليد» (١٩٩٤) لميرا بينفورد، و«تانجو العبيد» (١٩٩٤) لإيلان زيف، و«المقاتل» (٢٠٠١) لأمير بار-ليف، و«الغميضة» (٢٠٠٤) لأورين رودافسكي ومناحم دوم. كان أحفاد الناجين من المحرقة، وأحيانًا الناجون أنفسهم، يبحثون عن إجابات أو نهاية أو قرار من خلال العودة إلى مواقع الأحداث، أو مقابلة ناجين آخرين، أو حتى مواجهة مع هؤلاء المنتمين للماضي. من الأعمال، أيضًا، التي تستكشف قدرة الذاكرة الخاصة على إثراء معرفة العامة بالماضي أعمال المجري بيتر فورجاش، الذي أعاد صياغة مشاهد عائلية ومشاهد بكاميرات هواة لخلق تأملات عن تاريخ أوروبا الشرقية خلال الثلاثينيات، الذي خضع للنسيان والطمس.
أخيرًا، امتزجت الأفلام التي يكون فيها الراوي مشاركًا في الأحداث والأفلام المنزلية في شكل أفلام تهدف إلى إعادة تمحيص الثقافة الشعبية، فتجد فيلم «دوج تاون وزي بويز» (٢٠٠١) لستاسي بيرالتا، الذي يجسد تاريخًا جذابًا ومثيرًا لثقافة التزلج بالألواح، ويتعقب تطورها من شوارع سانتا مونيكا الجانبية الحصوية إلى نشاط تجاري يقدر حجمه بالمليارات جاء بعض مشاهيره (منهم بيرالتا نفسه) من تلك الشوارع، وهو ينسج الأفلام المنزلية مع الذكريات ويقارن كليهما بمادة واقعية من عالم التزلج التنافسي ذي الإيقاع السريع والطابع التجاري. يصنع فيلم «تان تان وأنا»، للمخرج الدانماركي أندرز هوجسبرو أوسترجارد أيضًا، سيرة ذاتية نفسية حساسة للكاتب والفنان البلجيكي هيرجيه، مزاوجًا لقاءات صوتية شخصية للغاية من السبعينيات مع رسوم متحركة مستمدة من مشاهد مرئية حديثة لهيرجيه، إلى جانب إضفاء الحياة على رسوم كتبه الكوميدية. أيضًا يساهم فهم رحلة هيرجيه من كاثوليكي شديد المحافظة إلى الانتماء لحركة العصر الجديد خلال فترة الحرب الباردة في إعادة تحليل كتبه الكوميدية الشهيرة.
وقد دفع نمو الأفلام الوثائقية الشخصية الباحثين والدارسين إلى استكشاف علاقة الذكرى بالحقيقة، فتذهب ليندا ويليامز إلى أن مثل هذه الأفلام تتحدى المشاهدين لإدراك أن الحقائق توجد داخل سياق معين، فيما يتعلق بالأكاذيب، وتُختار من بين حقائق أخرى، ولكونها تتجاوز حدود التدبر الذاتي (بمعنى لفت الأنظار إلى حقيقة أن الفيلم هو فيلم)، تفترض مثل هذه الأفلام أن هناك حقائق مهمة يجب كشفها، وأنه من الممكن أن تُكشف على الرغم من — أو حتى بلفت الأنظار إلى — تحيز إدراكنا. وهكذا فإن مثل هذه الأفلام تقدم مقاربة أخرى للإشكالية المتمثلة في كيف يمكن للمخرجين الوثائقيين أن يكونوا صادقين. ويوضح بيل نيكولاس أن الأفلام الوثائقية الشخصية غالبًا ما «تعرض» الحالة الذهنية للمخرج وتداعي الأفكار لديه، موثقة نوعًا حميمًا وشديد الخصوصية للواقع. ويكتب مايكل رينوف أن النبرة التطهيرية عادة للأفلام الوثائقية تدخل المشاهدين على نحو نشط وفعال إلى بنية معنى الفيلم، مما يعلي مستوى التعاطف والتوحد الوجداني.
قابل للاستخدام لمن ولأي شيء؟
أحيانًا ما يغضب مخرجو الأفلام الوثائقية من فكرة أنهم لا بد أن يصبحوا مؤرخين لكي يقدموا أفلامًا تاريخية، غير أن مسئولية المخرج تجاه المستخدمين مسئولية كبيرة، فكل فيلم وثائقي لا يؤخذ كتجسيد دقيق للتاريخ الذي يعرضه من جانب المشاهدين ثم المخرجين فحسب، بل إن المعرفة التاريخية أيضًا تشكل إدراك المستخدمين لهويتهم في الحاضر؛ فقد قال جون إلس، من خلال إخراجه لفيلم «صحراء كاديلاك» (١٩٩٧)، عن سياسات المياه في الولايات المتحدة، إنه على الرغم من أن الكثير من السدود تبدو متشابهة، فقد أصر على تحري الدقة المطلقة لمعرفته أن المخرجين فيما بعد سوف يقتبسون من أعماله بدلًا من الرجوع إلى المصادر التي استخدمها في الأساس، فكل فيلم تاريخي تقع أحداثه داخل إطار أيديولوجي يستحق على الأقل استيعابه قبل تقديمه للمشاهدين.
إذا كان كل التاريخ قابلًا للاستخدام، إذن ما الجوانب المناسبة في كل قصة، ولمن هي مناسبة؟ ولماذا؟ تلك أسئلة جيدة يجدر طرحها على صناع الفيلم والمشاهدين على حد سواء.
الأفلام الإثنوجرافية
الفيلم الإثنوجرافي هو مصطلح ذو دلالات عديدة، فالقائمون على وضع برامج المهرجانات، كالمسئولين عن مهرجان مارجريت ميد للسينما الذي يقام كل عام في نيويورك بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، والذي يرسي المعايير في هذا الصدد، غالبًا ما يعرِّفون الفيلم الإثنوجرافي بأنه فيلم عن الثقافات الأخرى، أو الشعوب الغريبة، أو العادات والتقاليد، وعلى ضوء هذا المبدأ يتفق واضعو البرامج بالتليفزيون على الأفلام الوثائقية التي تعمل على الترفيه والتسلية، سواء بأسلوب ساحر أو صادم، من خلال مادة تتناول الشعوب الغريبة. ويسعد صناع الأفلام المستقلون مثل ليس بلانك، الذي استكشف الثقافات الفرعية الموسيقية والغذائية حول العالم بتعاطف واحترام، بعرض أعمالهم تحت هذه المظلة، ويود علماء الأنثروبولوجيا لو يرون المصطلح يستخدم بطريقة أكثر علمية، فيذهب عالم الأنثروبولوجيا جاي روبي إلى أنه فقط لو أنتج الفيلم على يد عالم إثنوجرافيا مدرب، باستخدام الوسائل الميدانية الإثنوجرافية، وبهدف تقديم مادة إثنوجرافية يقيِّمها خبراء في المجال، لوجب أن يطلق عليه فيلمًا إثنوجرافيًّا.
والرابط بين هذه التفسيرات المتعددة هو فكرة الآخرية؛ فكرة أن الفيلم الإثنوجرافي هو نظرة من الخارج على ثقافة ما، مانحًا إياك لمحة عما يدور داخله، ومثل هذا الادعاء من شأنه أن يزيد من المخاطر المتعلقة بالمسائل الأخلاقية المعتادة للفيلم الوثائقي؛ فالعلاقة بين مخرج الفيلم والبطل تكون مشحونة على نحو خاص في السينما الإثنوجرافية، لأن الأبطال في أغلب الأحيان يكونون أعضاء بجماعات ثقافية ذات نفوذ أقل في المجتمع والإعلام من مخرج الفيلم. ويجد علماء الأنثروبولوجيا متعة في القصة التي رواها عالم الأنثروبولوجيا والمخرج سول وورث عن سام يازي. كان وورث يدير مشروع أفلام نافاهو في السبعينيات، بالاشتراك مع جون أدير، وكان هدف المشروع تعليم هنود نافاهو تقنيات صناعة الأفلام دون فرض مرشحات جمالية أو أيديولوجية. عند وصف المشروع، تساءل العجوز سام يازي: «هل ستضرُّ صناعة الأفلام بالأغنام؟» وحين طمأنه المخرجون بأن ما من ضرر سيلحق بالأغنام، تساءل يازي: «هل ستدرُّ صناعة الأفلام منفعة على الأغنام؟» فأجابا: «حسنًا، كلا.» فأجاب: «إذن لمَ نصنع أفلامًا؟» وقد كتب وورث يقول: «لا يزال سؤال سام يازي يراودني.»
صنع المال
كانت الإجابة الأولى على سؤال «لمَ نصنع أفلامًا؟» مباشرة وصريحة: من أجل صنع المال. في تلك الفترة، ترسخت أفلام المغامرات الغريبة المقترنة بنقاط تقاطع مع الممارسة الأنثروبولوجية (التأريخ للثقافات البدائية، والتعايش مع الأبطال، وإشراك الأبطال في صياغة القصة)، وكان «نانوك ابن الشمال» لفلاهرتي مصدر إلهام لصناع الأفلام الأنثروبولوجيين، فقام مريان سي كوبر، الذي كان قد شارك في إنتاج فيلم رحلات رائع ولكنه فشل ماليًّا، وهو فيلم «المرعى» (١٩٢٥)، عن إحدى القبائل البدوية، بتقديم فيلم «التغيير» في عام ١٩٢٧ الذي حقق نجاحًا على مستوى شباك التذاكر، وأنتج فيلم «كينج كونج» (١٩٣٣) الذي حقق نجاحًا ضخمًا. استُوحي فيلم «التغيير» من الإقامة لمدة ثمانية عشر شهرًا مع اللاويين في شمال تايلاند، وقد بنى قصة سهلة على المُشاهد من واقع الحياة اليومية؛ إذ يقاوم القرويون تهديدات موجهة لهم من فهد ونمر، وبعد فرار جماعي للأفيال البرية (وهو حدث جرى تمثيله)، يروِّض القرويون الأفيال ويستخدمونها لإعادة بناء حياة يعمها السلام في الغابة.
وقد قادت أفلام المغامرات الغريبة إلى الأفلام السينمائية الزاخرة بالفانتازيا عن الأدغال، وكذلك «الأفلام الوثائقية الصادمة»، مثل فيلم «قصبة موندو» المنتج عام ١٩٦٢ وأجزائه. في «قصبة موندو»، انتقلت الكاميرا من المشاهد الصادمة، مثل قيام رجال القبائل في غينيا الجديدة بضرب خنزير حتى الموت، إلى مشاهد هزلية مثل قيام الطلاب الأكبر سنًّا بتعلم رقصة الهولا بأسلوب أخرق ومرتبك مصحوبة بسرد وموسيقى تصويرية للتخفيف من التناقضات.
عرضت الأفلام الأعلى مستوى على المشاهدين تجارب تتعلق بالثقافات الأخرى، دون ادعاء أنها تقدم رؤية إثنوجرافية، وإن كانت غالبًا ما تستفيد من هذه الصلة، ففي «الطيور النافقة» (١٩٦٣)، عن الحياة والموت في إيريان جايا الغربية، استخدم الفنان روبرت جاردنر رخصة مكتسبة من فلاهرتي بنسج «قصة حقيقية» من «أحداث واقعية». استقبل النقاد حسه الشعري وقدرته على استعراض موضوعات عالمية بحفاوة، وغالبًا ما كانوا يطلقون على أعماله إثنوجرافية (وهو الشيء الذي لم يسبق لجاردنر فعله قط). وفي فيلم «غابة النعيم» (١٩٨٥)، عن طقوس الموت والحياة اليومية في بيناريس وما حولها، صنع جاردنر رؤية تأملية فريدة ولكنها جذابة، وأحيانًا مرعبة، عن الموت ومعنى الحياة. وقد عُرض للجماهير في نصف الكرة الشمالي، الذين كانوا يجهلون إلى حد بعيد الممارسات المعروضة في الفيلم، وقد حزن الآسيويون الجنوبيون، والهندوس، وعلماء الأنثروبولوجيا لغياب السياق الثقافي.
الصراع مع التقاليد
مع ازدهار سوق البث التليفزيوني في الستينيات والسبعينيات، ازدهرت أيضًا المسلسلات التي تتناول الثقافات الغريبة؛ مثل مسلسل قناة جرانادا تي في البريطانية «عالم يختفي» (١٩٧٠–١٩٩٣)، ومسلسل محطة نيبون تي في اليابانية «عالمنا الرائع» (من منتصف الستينيات حتى عام ١٩٨٢)، وغالبًا ما كان المشاهدون يُشجَّعون — على الرغم من صيحات الخبراء الأنثروبولوجيين وأحيانًا أعضاء الجماعات الثقافية أنفسهم — على التصديق بأنهم يشاهدون عادات ثقافية خالصة من الممكن بلمسة واحدة من العالم الحديث أن تتعرض للدمار.
معظم الأفلام الوثائقية التي تتناول قضايا الاختلاف الثقافي اليوم لا تقدم ادعاءات واضحة بشأن هدفها، فهي عادة ما تعرض على الجماهير في نصف الكرة الشمالي متناولة أناسًا في أجزاء أخرى من العالم، وبعض هذه الأفلام تعمل على الترفيه من خلال شخصيات حسنة الطلعة، وممارسات نابضة بالحيوية، وقصص تحركها الأزمات، أو الوحشية، أو الكوارث، وغالبًا ما تدعي أنها تنقذ لمحة أخيرة لثقافة غريبة في طريقها للاندثار من أجل عرضها للمشاهدين المتحضرين، كما يفعل فيلم «قصة الجمل الباكي»، فيعرض مسلسل قناة ناشيونال جيوجرافيك «الممنوع» (منذ عام ٢٠٠٣ حتى الآن) للمشاهدين في أحد الأسابيع العادات الغريبة في تزيين الجسم حول العالم، ويعرض الأطعمة الغريبة التي يتناولها الناس في الأسبوع الذي يليه، وتجتهد أعمال أخرى لاصطحاب المشاهدين إلى داخل تجربة أحد الأشخاص بأسلوب بسيط بعيد عن التكلف؛ على سبيل المثال، يتتبع المخرج الهولندي ليونارد ريتيل هلمريش في فيلم «شكل القمر» (٢٠٠٤)، بأسلوب سينما الواقع، أرملة مسيحية في جاكرتا عند تحول ابنها إلى الإسلام، مانحًا المشاهدين الغربيين لمحة عن الصراعات الثقافية التي ربما لم يكونوا يتخيلونها.
ويجد معظم المنتجين لأفلام موضوعات تباين الثقافات أنفسَهم مقيدين بتقاليد وسائل الإعلام، التي تعمل ضد الرؤية التأملية، والتجريب، والتأويل المفتوح. وتعتبر أعمال الأستراليَّين روبين أندرسون وبوب كونيلي مشوقة باعتبارها صراعًا صحيًّا مع قيود الإعلام التجاري؛ ففي فيلمهما الأول الذي حظي بعرض على نطاق واسع «اللقاء الأول» (١٩٩٣)، أحضرا للقرويين في غينيا الجديدة مشاهد لأول لقاء جمعهم بالبيض، وكانوا مجموعة من المكتشفين الذكور، وهكذا جرت رؤية توثيق المكتشفين لرحلتهم الاستكشافية مرة أخرى من خلال أعين القرويين. يتعقب الفيلم أيضًا العواقب المستمرة في التوسع لهذا اللقاء الذي جلب للبابويين ما لم يسعوا له طلبًا من علاقات غير مشروعة، وأمراض، وماكينات، واقتصاد سياحي.
ويرجع الإبهار في «اللقاء الأول»، الذي كان له جزآن، إلى تلاعبه البارع والرشيق بالرؤية التأملية داخل حدود تقاليد الواقعية؛ فهو يطلب من المشاهدين أن يعيدوا تمحيص المشاهد الأولى بأسلوب نقدي، ويطمئنهم أيضًا على ثبات المعنى في مشاهد أندرسون وكونيلي، من خلال مونتاجها، وتركيزها القصصي الضيق، وتوضيحاته الصريحة والضمنية لما رآه المشاهدون.
علمية؟
كان علماء الاجتماع في البداية يتخيلون أن الفيلم الإثنوجرافي أداة علمية، وقد قدم علماء الأنثروبولوجيا الأوائل، أمثال فرانز بواز (مؤسس المجال)، ومارجريت ميد، وجريجوري باتسون، أفلامًا قصيرة ذات طابع وصفي بحت بقوانين ونظم منفصلة، وعلى مدار عقود، كان معهد جوتنجن للأفلام العلمية في ألمانيا يتفق على تصوير مشاهد مدتها خمس دقائق، مصحوبة بنصوص مكتوبة، عن الطقوس الخاصة وتقنيات الإنتاج. وتوجد أرشيفات ضخمة لمثل هذه المواد اليوم على نطاق عالمي، غير أن هذه الأرشيفات تثير أسئلة لم تكن دائمًا واضحة لمن كانوا يسجلون الصور في ذلك الوقت. ما الذي تعنيه هذه القوانين للأشخاص القائمين بها؟ ما نوع الاستفسار الذي تخدمه هذه المعلومات؟ هل كان هؤلاء الأشخاص يعيدون تجسيد شيء أم كانوا يُضبطون متلبسين بفعل شيء دائمًا ما يفعلونه؟
وسرعان ما بدأ علماء الأنثروبولوجيا والمخرجون المدربون تدريبًا أنثروبولوجيًّا في استكشاف هذه الأسئلة. أصبح الأمريكي جون مارشال لأول مرة على معرفة لبدو كالاهاري حين كان مراهقًا موسرًا في رحلة سفاري مع والده، وبعد بضع سنوات قدَّم فيلم «الصيادون» (١٩٥٧) مستعينًا بمشاهد صامتة كان قد أخذها مع السان (وكانوا يعرفون بالبوشمن لدى البيض في جنوب أفريقيا آنذاك). كان يتطلع جهارًا لأن يكون فلاهرتي كالاهاري، والاحتفاء بالكفاح الناجح للبدو في مواجهة الطبيعة. حقق الفيلم نجاحًا تجاريًّا، وشوهد على نطاق واسع في حجرات الدراسة، ولكنه أيضًا انتُقد لرومانسيته، وقد دفعته المجادلات التي نشبت إلى إعادة التفكير، وهذا حدا به إلى إعادة تقطيع المشاهد إلى سلسلة من الأفلام التعليمية بالتعاون مع المصور الشاب تيموثي آش — من بين آخرين — الذي كان آنذاك يسعى للحصول على درجة علمية في الأنثروبولوجيا، وأصبحت الأفلام القصيرة ذات التركيز الأحادي والمصحوبة بمادة نقاشية شائعة في التدريس.
اتجه مارشال للعمل مع رواد حركة سينما الواقع، من ضمنهم فريد وايزمان (الذي صور له فيلم «حماقات تيتيكت»)، ودي إيه بينبيكر، وتلميذ فلاهرتي ريتشارد ليكوك. وفي عام ١٩٨٠، قدم مارشال مع أدريان ليندن فيلم سيرة ذاتية عن إحدى بطلاته في جنوب أفريقيا، ودمج فيه مشاهد كان قد التقطها لها على مدار ثلاثة عقود كانت فيها حقوق السان منهارة إلى حد سيئ. كان الفيلم بعنوان «ناي: قصة امرأة من الكونج» (١٩٨٠)، وأُنتج لمصلحة التليفزيون العام الأمريكي، وتعرض لمقارنة حادة مع العزلة الرومانسية لفيلمه الأول، وأرَّخ لتزايد وعي مارشال بنفوذ وقوة المخرج بالنسبة للبطل.
بعد عمله مع مارشال، اتجه تيم آش للتعاون مع عالم الأنثروبولوجيا نابليون تشاجنون، الذي عمل في منطقة الأراضي المنخفضة بالبرازيل مع قبيلة يانومامي، وهناك أنتج بالتعاون مع تشاجنون مجموعة كبيرة من الأعمال، واستكشف أيضًا كيفية تجسيد فهمهم وخبرتهم مع ثقافة يانومامي. وقد كان فيلم «معركة الفئوس» (١٩٧٥) انتصارًا لتعاونهما ونقدًا لمناهج الفيلم الإثنوجرافي حتى تلك الفترة. في الفيلم، يشاهد آش وتشاجنون ثلثي معركة بالفئوس في إحدى القرى ويصورانها، وقد قدم آش عدة نسخ لما صوره: عرضًا بسيطًا لكل المشاهد التي بحوزته، ونسخة استخدم فيها التصوير البطيء والأسهم الإرشادية لإظهار المشاركين والأحداث على نحو أوضح، وتحليلًا لعلاقات النسب، وقصة ممنتجة بحرفية تذكِّر بما اعتاد الطلاب أن يروه. وهكذا أجبر «معركة الفئوس» المشاهدين على أن يسألوا أنفسهم كيف كانوا سيفسرون ما رأوه. وعلى الرغم من أنه لم يسفر عن أي أعمال محاكية (ربما لعدم صلاحية النموذج للتطبيق تجاريًّا)، فقد فجر جدالًا أنثروبولوجيًّا عن الكيفية المثلى لاستخدام السينما.
جان روش
منذ الستينيات خلق التحرر من ادعاءات الموضوعية العلمية اضطرابًا في فرع الأنثروبولوجيا، وفي الوقت نفسه، انبهر مخرجون ذوو ميول إثنوجرافية بسينما الواقع، ومن بين من امتطوا هاتين الموجتين عالم الأنثروبولوجيا والمخرج جان روش، أحد أكثر القوى إبداعًا وابتكارًا في مجال الأفلام الإثنوجرافية وواحد من أنشط المجددين فيه.
كان روش مهندسًا، دفعه عمله في غرب أفريقيا إلى دراسة الأنثروبولوجيا عند عودته إلى فرنسا ليقدم في النهاية أكثر من مائة فيلم، العديد منها كان بالتعاون مع أبطاله. وقد استمد الإلهام من كل من فلاهرتي وفيرتوف، فقد احترم العلاقة الودودة بين فلاهرتي وأبطاله ومنهجه القائم على المشاركة، وأعجب بفيرتوف لشغفه بتصوير الحياة كما هي، ثم استغلال الحق في مونتاج ذلك الواقع، مجبرًا المشاهد على الاعتراف بوجود صانع الفيلم.
كان لأول أفلام روش الكبرى دوره في دفعه لإعادة التفكير في منهجه الأولي، فقد اصطحب فيلمه «الأسياد المجانين» (١٩٥٥) إلى داخل أحد الطقوس الروحانية لعطلة نهاية الأسبوع، يدخل فيه عمال مهاجرون من غرب أفريقيا في غانا في حالة من الغشية، متقمصين أدوارًا يقلدون فيها المسئولين الاستعماريين. وقد أشار سرد روش الختامي إلى أن هذا الطقس كان تعبيرًا عن واقعهم الاستعماري وتحررًا مؤقتًا منه. سبَّب الفيلم صدمة للأوروبيين وفزعًا للأفارقة الذين خشوا أن ينظر إليهم الأوروبيون كشعوب غير متحضرة. وبعد انتهاء الاستعمار، وجه النقاد نقدًا قاسيًا للخاتمة باعتبارها استعلائية.
ومع أن روش لم يتبرأ مطلقًا من الفيلم، فقد بدأ في العمل بمزيد من التعاون مع أبطال أفلامه، وأيضًا لم يتوقف عن تجاربه لمعرفة كيفية استكشافه ذاتيتهم، وغالبًا ما كان يلجأ إلى الخيال والفانتازيا وتقمص الأدوار؛ على سبيل المثال، في فيلم «أنا أسود» (١٩٥٧) تقمص شباب من السونجاي أدوار الشخصيات التي صنعوها — من نسيج حياتهم — في فيلم صنع بجهود تعاونية عن أسبوع في حياة عامل مهاجر، وشرع روش في صياغة منهج استخدم الكاميرا كأداة تحريك أو عامل حفز لكشف التوتر الاجتماعي، وهو المنهج الذي اتبعه في النظر إلى «قبيلته» من الباريسيين في «يوميات صيف».
لا يوجد أي حدود تقريبًا بين الفيلم الوثائقي والأفلام الروائية؛ فالسينما، فن الازدواج، هي مرحلة انتقالية من العالم الواقعي إلى العالم الخيالي، والإثنوجرافيا، علم نُظُم تفكير الآخرين، هو نقطة عبور دائمة من عالم مفاهيمي إلى آخر؛ ألعاب أكروباتية أقل مخاطرها أن يفقد المرء موطئ قدمه.
قدم روش أفلامًا عن أشخاص آخرين لثلاثة أسباب؛ أولها بالطبع أنه كان يصنعها لنفسه، والسبب الثاني أنه كان يصنعها لجماهير عامة، أما السبب الثالث لتقديمه هذه الأفلام، فهو أن «السينما هي الوسيلة الوحيدة التي أملكها لإظهار شخص آخر كيفما أراه أنا»، وحبذا لو كانت تشاركية. لقد أصبحت السينما وسيلة لتغيير العلاقة الأنثروبولوجية: «بفضل التغذية الراجعة، لم يعد عالم الأنثروبولوجيا عالم حشرات يلاحظ الشخص موضوع بحثه كما لو كان حشرة (محقرًا من شأنه)، ولكن يلاحظه كما لو كان محفزًا لبناء تفاهم متبادل (مما يضفي عليه جلالة وكرامة).» حتى اليوم لا يزال المهتمون بمسائل القوة والمعنى في الفيلم الإثنوجرافي يعودون إلى جان روش كمرجعية.
صنعت بواسطة …
بنى صناع الأفلام الإثنوجرافية على إبداع روش الشجاع في إيجاد طرق لرأب فجوة السلطة بين البطل والمخرج، وجرَّبوا أيضًا إبداعهم الخاص. وقد أنتج ديفيد وجوديث ماكدوجال — اللذان درسا الأنثروبولوجيا وتخرجا بالفعل وعملا في مجال الأفلام — أعمالًا مميزة ورصينة تجسد وتعترض على نظرية «السينما التشاركية»، وهو مصطلح يفضلانه على مصطلح «سينما الواقع» على الرغم من أن أعمالهما كانت تسجيلية من الطراز الأول. ويجمع بين أفلام الزوجين ماكدوجال احترام علني للعادات الثقافية والاختيارات الثقافية لأبطال الفيلم، دون مطالبة المشاهدين بحبها أو التعاطف معها؛ ففي فيلم «جِمال الزفاف: زواج توركانا» (١٩٧٦)، تتبع الزوجان ماكدوجال العملية التي يجري من خلالها التفاوض على حفل زفاف بين جماعة في كينيا كانا على معرفة وثيقة بها. يكشف الفيلم مفهومًا للزواج يختلف اختلافًا عميقًا عن المفهوم الغربي المعاصر. في الوقت نفسه، تعبِّر اختيارات الزوجين ماكدوجال أيضًا عن قناعاتهما: فأفلامهما عن قبائل التوركانا هي تأييد ضمني لحق الرعاة في العيش كرعاة. ويقول ديفيد ماكدوجال إنه يرغب في «أن يجعل الفيلم الوثائقي وسيلة للتلاحم مع العالم، يواجه الحقيقة على نحو فعال، وفي غضون ذلك يتحول إلى صيغة للاستقصاء والتحقيق في حد ذاته».
كانت مشاركة الأبطال أيضًا جزءًا من نشاط مضاد للاستعمار، وهو ما يوثقه جيدًا فيلم «التقاط الصور» (١٩٩٦)، عن جيل من صناع الأفلام الإثنوجرافية في أستراليا ونيوزيلندا، ففي الستينيات والسبعينيات، عندما بدأ الأستراليون في إعادة النظر في علاقتهم بالسكان الأصليين ومع حصول غينيا الجديدة على استقلالها في عام ١٩٧٥، نظر علماء الأنثروبولوجيا وصناع الأفلام إلى أنفسهم كتقدميين يعملون لدى الشعوب الأصلية، وأحيانًا معهم، لاستعادة كبريائهم وصورتهم الذاتية، وقد أثارت هذه المشروعات الكثير من التساؤلات التي كان صناع الأفلام وعلماء الأنثروبولوجيا يواجهونها خلال قيامهم عليها.
تعاون عالم الأنثروبولوجيا الأسترالي جيري ليتش، والمخرج جاري كيلديا، ومنظمة سياسية من جزيرة تروبرياند (وهي جزء من غينيا الجديدة) لإنتاج فيلم «كريكيت تروبرياند» (١٩٧٩). يتعقب الفيلم لعبة الكريكيت التي أخذها سكان الجزيرة عن سادتهم الاستعماريين السابقين وعدلوها تعديلًا كليًّا، حتى إنها أصبحت تعبيرًا راقيًا عن ثقافتهم الخاصة. لقد استخدموا اللعبة للانتقال من الحرب المهلكة إلى حرب رمزية قائمة على اللعب؛ فهم مجددون ثقافيون مبدعون، شأنهم شأن أبطال روش، وبعيدون كل البعد عن كونهم ضحايا بحاجة لتوثيق إثنوجرافي لما تبقى من ثقافتهم. لقد تحدث الفيلم إلى البيض بواسطة البيض، وإلى سكان جزيرة تروبرياند عن أنفسهم. يستطيع صناع الأفلام أيضًا أن يعكسوا الكاميرا، فقد عمل الأسترالي دينيس أورورك مع البابويين لتقديم الفيلم الساخر اللاذع «جولات آكلي لحوم البشر» (١٩٨٧)، الذي كان فيه الأبطال الغرباء هم السياح الذين جاءوا لزيارة غينيا الجديدة، والذين كانوا كثيرًا ما يحيرون السكان الأصليين بعاداتهم الغريبة.
صنعت على يد …
أدى الاهتمام بالمشاركة والتقاسم في صناعة الأفلام الإثنوجرافية، إلى جانب تصاعد مطالب مجموعات السكان الأصليين والدول الجديدة، إلى نمو الإنتاج المحلي، وأيضًا أحدث تغييرًا في مجال الأنثروبولوجيا المرئية؛ فقد بدأ فاي جينسبرج وآخرون في الدفع بأن المجال لا بد أن يشغل نفسه بأنثروبولوجيا الإعلام، وكان أحد التساؤلات الكبرى في إطار هذا الموضوع هو قدرة العناصر التقليدية للعمل الإثنوجرافي على صناعة الإعلام الخاص بها. وقد كان جينسبرج، وإريك مايكلز، وجورج ستوني، ولورنا روث أنصارًا لتعبير الشعوب الأصلية عن أنفسهم بقدر ما كانوا محللين له.
تبلور تمكين المبدعين المحليين في شكل حركة خلال السبعينيات دعمت من جانب حركة «فورث وورلد»، أو «فيرست نيشنز»، أو الحركات المحلية الناشطة، وبذلك انخفضت تكاليف تصوير الفيديو، ففي كندا، قام برنامج تحدي التغيير التابع للمجلس القومي للسينما — الذي يهدف إلى تدعيم وحدة المجتمع وقدرة المجتمعات ذات التمثيل الضعيف في كندا على تمثيل أنفسها — بالعمل مع الناشطين المحليين، وهناك أفلام قدمت واستخدمت كجزء من حملات لاستصلاح الأراضي وحقوق استغلال الأراضي، مثل «أنت على الأراضي الهندية» (١٩٦٩)، وهو توثيق لوقفة احتجاجية قام بها هنود الموهوك احتجاجًا على انتهاك إحدى المعاهدات، وكذلك فيلم «صيادو كري من ميستاسيني» (١٩٧٤)، وهو احتفاء بثقافة مجتمع الصيد وجمع الثمار لقبائل كري الشمالية التي كانت تواجه تهديدًا من مشروع كهرومائي. وقد تعلمت الشعوب الكندية الأصلية من هذه التفاعلات عندما كانوا يتفاوضون من أجل إنشاء شبكات اتصالات للمنطقة التي أصبحت مستقلة في عام ١٩٩٩.
وفي أمريكا اللاتينية، تعلم الهنود البرازيليون استخدام الفيديو لتوثيق الثقافة التقليدية من خلال مشروع الفيديو في القرى. لقد استخدموه لإحياء الممارسات التقليدية، وإنتاج سجل لمفاوضاتهم مع البيض، وأخيرًا لسرد أساطير وقصص عن حياتهم للآخرين. واستخدمت بعض الأعمال، الموجهة للغرباء، منظورًا ساذجًا عن عمد، مثل صيغة رسالة الفيديو المستخدمة في فيلم «من أطفال إيكبينج إلى العالم» (٢٠٠٤)، وفي حالات أخرى، كان الهنود يروون أساطير أو يسجلون شعائر لأهداف معينة مثل الحفاظ على المعرفة وتعزيز الوعي بثروتهم الثقافية، وفي حالات أخرى، كما في فيلم «رائحة فاكهة البيكي» (٢٠٠٦)، يربط الهنود (هنود الكويكورو هذه المرة) الماضي الأسطوري بشعائر الحاضر والحياة اليومية.
وفي أستراليا، أنتجت الجماعات الأصلية أعمالًا تصف كفاحهم، مثل فيلم «قانونان» (١٩٨١) الذي أنتج بمساعدة من إحدى المجموعات الاجتماعية، عن الحاجة للاعتراف بالقوانين والعادات الخاصة بالسكان الأصليين. وقد أبدع الفنانون الأصليون أمثال تريسي موفات أعمالًا لم توثق التجربة فحسب، بل استخدمت المناهج التجريبية والروائية لتحقيق ذلك، كذلك أبدع الشباب الأصليون، في فريق أس موب، مشروع فيديو متواصل وموقع عبر الإنترنت وجمعية. وفي فنلندا، عرض المخرج السامي بول أندرز سيما في فيلم «تراث التندرة» للغرباء ثقافة رعاية الأيائل تحت الظروف البيئية السيئة.
وغالبًا ما كان الناس في الثقافات السائدة يقلقون بشأن تأثير الإنتاج الإعلامي على الثقافات الأصلية، وعادة ما كان صناع الأفلام والناشطون المحليون يجدون هذا التخوف محيرًا أو مهينًا، فعادة ما كان هذا التخوف يعتمد على مفهوم متحجر للثقافة التقليدية، بدلًا من النظر إلى الثقافة باعتبارها الجلد الاجتماعي المرن الذي يتخذ أشكالًا جديدة مع ظهور معلومات جديدة، كما ظهر في فيلم «كريكيت تروبرياند». ويذهب الناشطون المحليون إلى أنهم يُقصفون لا محالة بوابل من وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، ولا بد أن يتاح لهم التعبير كما يتاح لهم الاستهلاك. في الوقت نفسه إذا افتقد السكان الأصليون القدرة على سرد ونقل قصصهم الخاصة (بما أنهم لا يملكون سوى قدر ضئيل من السيطرة على الكثير من وسائل الإعلام التي تصلهم)، يمكن أن تصبح وسائل الإعلام ما يطلق عليه فاي جينسبرج «عقدًا مع الشيطان» يبيعون بموجبه أرواحهم الثقافية مقابل الوصول إلى الإعلام. وكما هو الحال مع كل التباينات الاجتماعية، فإن اختلال ميزان القوة نادرًا ما يُحل بحل تقني.
لمن ولأي غرض؟
هل الفيلم الإثنوجرافي موجه للعلماء، أم لأبطاله، أم لجماهير التليفزيون؟ هل يمكن أن يكون هناك تداخلات أو أهداف مشتركة؟ لا يزال ذلك سؤالًا يدور حوله جدال ساخن، فحتى الآن لم يجد علماء الأنثروبولوجيا تمويلًا أو دعامة فكرية من أجل إيجاد منهج علمي، ودائمًا ما يستخدم المعلمون الأعمال التي نفذت لمصلحة سوق التليفزيون التجاري أو شبه التجاري. وغالبًا ما كان السكان الأصليون يملكون أسبابًا عملية ومحددة بوضوح لأعمالهم: وضع سجل، تحذير السلطات، تبادل معلومات ثقافية مع مجموعات ثقافية أخرى، تعليم البيض، غير أنهم نادرًا ما يصلون إلى وسائل الإعلام والجماهير العريضة في نصف الكرة الشمالي.
إن التحديات التي تواجهها الأفلام الوثائقية التي تتناول القضايا والممارسات الثقافية في عبور الحدود الثقافية، مع كل من الأبطال والمستهلكين، هي التحديات التي عالجها جان روش بتفاؤل لم ينضب، والتي طالما كانت في قلب الأنثروبولوجيا.
أفلام الطبيعة
كانت الحيوانات من بين الأبطال الأوائل لصناع الأفلام؛ الحيوانات المنزلية اللطيفة، وغنائم الصيد الميتة، والمخلوقات الغريبة، ومع تنامي الأهمية التجارية للفيلم الوثائقي، تنامت أيضًا أهمية الحيوانات كأبطال؛ نظرًا لقلة تكلفتها مقارنة بالممثلين. وقد أصبحت أفلام الطبيعة الوثائقية — التي يطلق عليها أيضًا الأفلام البيئية، أو الأفلام الداعية إلى صيانة البيئة، أو أفلام الحياة البرية — أحد الأنواع الفرعية الأساسية، وجزءًا ثابتًا من جدول البث، وفئة ديناميكية. وتعرض وثائقيات الطبيعة، التي تبدو للوهلة الأولى مباشرة ومحايدة أيديولوجيًّا، افتراضاتنا بشأن علاقاتنا ببيئتنا.
أفلام الترفيه التعليمي
كانت أفلام الطبيعة الأولى مدفوعة بهدفين يبدوان متناقضين: العلم والترفيه. وعلى مر الزمن، اندمج الدافعان معًا في ادعاء الترفيه التعليمي الذي يتسم بالمرونة والمطاوعة.
في أواخر القرن التاسع عشر ساهمت التجارب العلمية في التصوير الفوتوغرافي — من بينها اختراع قام به طبيب فرنسي لتصوير الطيور أثناء الطيران — في التعجيل بظهور الأفلام السينمائية، واستغل العلماء السينما كوسيلة لتوثيق ملاحظاتهم بموضوعية، ولكنهم لم يمنتجوا ويصمموا فحسب أفلامهم (وهو الشيء الذي لم يكن واضحًا على نحو دائم للعلماء الآخرين)، مما خفف من الطابع التسجيلي البحت لها، ولكنهم أيضًا أضفوا امتيازًا على الجانب المرئي للملاحظة العلمية. وقد عملت الأفلام الوثائقية الموجهة للمصلحة العامة على نشر المعرفة العلمية، وكانت سلسلة الأفلام القصيرة البريطانية المبكرة، التي عرضت من عام ١٩٢٢ حتى عام ١٩٣٣، بعنوان «أسرار الطبيعة»، نذيرًا بظهور سلسلة لاحقة من أفلام الطبيعة.
في الوقت نفسه، اعتبر العاملون بمجال الترفيه السينما بمنزلة الخطوة التالية بعد عروض الشرائح لأفلام الرحلات وبعثات الصيد، وكان لفيلم «صيد الدب الأبيض» (١٩٠٣) أحد أوائل الأفلام الوثائقية، دوره في إثارة موجة من أفلام المطاردة، وكان بعض هواة رحلات السفاري يحضرون معهم مخرجيهم الشخصيين لوضع سجلات لغنائم الصيد. أيضًا أبرز فيلم المصور البريطاني — الذي يوثق لرحلة السفاري التي قام بها تيودور روزفلت، والذي كان بعنوان «روزفلت في أفريقيا» (١٩١٠) — غنائم الصيد، ولكن المشاهدين كانوا يفضلون الحركة. وكما كان متوقعًا، بدأ صناع الأفلام في اصطناع أو تمثيل المشاهد وذبح الحيوانات لصناعة مشاهدهم (لإلقاء نظرة نقدية على أفلام الرحلات الأولى، شاهد الفيلم المجمع «من القطب إلى خط الاستواء» المنتج عام ١٩٨٦، الذي يربط أفلام السفاري بالمغامرات الضخمة الأخرى).
عقب نجاح فيلمَي «نانوك ابن الشمال» و«التغيير»، أنشأ مارتن وأوسا جونسون شركة تجارية ناجحة للغاية لإنتاج أفلام الطبيعة، بما في ذلك سلسلة إعلانات تجارية بملابس المغامرات، وموَّل مستثمرون أثرياء رحلة إلى أفريقيا لمدة أربع سنوات، نتج عنها فيلم «سيمبا» (١٩٢٨). في الفيلم، صوَّر الزوجان جونسون أنفسهما وهما يعيشان حياة بسيطة قبل العصر الصناعي على «بحيرة باراديس»، وقد أطلقا أسماء على الحيوانات التي ظهرت في الفيلم — من بينها الأسد النبيل — وحوَّلا حياة الأفارقة أنفسهم إلى حياة برية كوميدية أيضًا. حقق «سيمبا» نجاحًا ضخمًا في دور العرض، وكان مصدر إلهام لأفلام أخرى أقل تكلفة.
لم تتلاشَ إثارة مشاهدة الحيوانات الخطيرة قط، فقد اعتمد البرنامج التليفزيوني البريطاني «صائد التماسيح» لستيف إروين، الذي حقق نجاحًا عالميًّا حتى وفاته في عام ٢٠٠٦، على خوضه المجازفة.
على عكس أفلام السفاري المليئة بالعنف، تأتي الأفلام التي تبرز التوازن الرائع للطبيعة، والتي كان فيها الإنسان هو الدخيل الذي يشكل خطورة. وقد كانت أعمال المخرج السويدي أرن ساكسدورف، الذي حققت أفلامه الوثائقية الشاعرية التي تتناول الطبيعة نجاحًا عالميًّا، تمثل هذا الأسلوب وتصقله، وقد أظهر أشهر أفلامه الوثائقية «المغامرة الكبرى» (١٩٥٣)، الرؤية الشاعرية لصبي صغير للطبيعة، وكانت أعمال ساكسدروف مصدر الإلهام لأفلام رعوية أخرى، لعل أشهرها فيلم «فاربيك» (١٩٤٦) لجورج روكيه، الذي يسجل تعاقب الفصول على مزرعة فرنسية.
أفلام الطبيعة من ديزني
جمع استوديو والت ديزني موضوعات الخطر، والبدائية النبيلة، والتوقير في السلسلة الرائدة لأفلام مغامرات الحياة الواقعية، التي بدأت مع الفيلم القصير الحاصل على جائزة الأوسكار عام ١٩٤٨ «جزيرة الفقمة»، وانتهى الحال بأفلام ديزني، التي لم تستطع في البداية إيجاد موزع لها، مما أجبر شركة ديزني على افتتاح استوديوهات بوينا فيستا الخاصة بها، بالعرض على التليفزيون، وقد أصبح لهذه الأفلام شهرة ضخمة وأدرَّت أرباحًا هائلة في جميع أنحاء العالم. وفي الواقع قد تكون هذه السلسلة هي من أنقذ استوديوهات ديزني من الانهيار بعد الفشل الذي منيت به أفلامها المتحركة ذات التكاليف الضخمة في شباك التذاكر.
في هذه الأفلام، كانت القصة مدفوعة برؤية داروينية بحتة، غير أن مشهد الموت كان يعالج بحذر وتروٍّ لتمريره إلى الجماهير العامة، ودائمًا كان وراء الموت غرض؛ على سبيل المثال، يتجاهل فيلم «جزيرة الفقمة» حقيقة أن ذكور الفقمة أحيانًا تسحق الفقمات الصغيرة بأقدامها دون قصد، وقد كانت الدراما في أفلام مغامرات الحياة الواقعية — التي كان أولها فيلم «الصحراء الحية» (١٩٥٣) — يحركها تقنيات السينما الروائية؛ فتجد مشاهد بانورامية واسعة وساحرة تخطف العقول على شاشات عريضة لبث الروع، وإيقاعًا متقنًا لضمان الإثارة، والموسيقى فخمة ورنانة أو خافتة.
لا وجود للبشر في هذه الأفلام، ولكن الحيوانات تلعب أدوارًا إنسانية على نحو غريب مثل دور عائلة أمريكية نموذجية بإحدى الضواحي في فترة ما بعد الحرب؛ أمهات حاميات، وآباء مهتمون، وأطفال مشاكسون صعاب المراس.
تقع أحداث أفلام مغامرات الحياة الواقعية في مكان وزمان منزوعين بيسر وهدوء من مكان وزمان المشاهد؛ فكان أي أثر للبشر يمحى بحذر ودقة، وكان المصورون يُوجهون إلى اختيار مواقع ليس بها أي نفحة للتمدن والحضارة، فقد كان السرد في فيلم «المراعي المتلاشية» (١٩٥٤) يحمل وعدًا باصطحاب المشاهدين إلى مكان في «زمن ليس له توثيق أو ذكرى، حين كانت الطبيعة وحدها هي صاحبة السيادة على عالم المراعي».
أفلام معالم الطبيعة الوثائقية وإيماكس
حفزت أفلام مغامرات الحياة الواقعية إنتاج سلسلة أفلام عالمية مثل سلسلة الأفلام البريطانية «الطبيعة» (١٩٨٢)، وأصبح ما يسمى أفلام معالم الطبيعة الوثائقية جزءًا أساسيًّا من الإنتاج العالمي من الأفلام الوثائقية الموجهة للتليفزيون. تجسد مثل هذه الأفلام الحيوانات الضخمة، وغيابًا للبشر أو التأثير البشري، وقصة درامية محورها التناسل والضراوة (الجنس والعنف). ومن الأمثلة الممتازة على ذلك مسلسل «الكوكب الأزرق»، وهو مسلسل أنتجته بي بي سي/ديسكفري في عام ٢٠٠١. يستكشف هذا المسلسل المثير المليء بالسحر التكنولوجي والعجائب الطبيعية، محيطات العالم دون الإشارة كثيرًا إلى أن النشاط البشري يغير من ظروف الحيوانات الرائعة التي يبرزها.
تعتمد أفلام إيماكس ذات القطع الكبير على افتراضات أفلام معالم الطبيعة الوثائقية من أجل جذب جماهير المتاحف والفعاليات إلى عروضها على الشاشات الكبيرة؛ فأفلام الحشرات (فيلم «البق! بالأبعاد الثلاثية» ٢٠٠٣)، والحيوانات الضخمة (فيلم «الدلافين!» ٢٠٠٠)، ومجموعة من الأفلام التي تتناول أسماك القرش كلها تغمر المشاهدين في قصص الأعاجيب الطبيعية بقدر ضئيل من التدخل البشري. وكان مما دعم تزايد شعبية الأفلام الوثائقية في دور العرض في بدايات القرن الحادي والعشرين أيضًا الدراما الموجودة في أفلام معالم الطبيعة الوثائقية. ويقدم الفيلم الفرنسي «الهجرة المجنحة» (٢٠٠١) لجاك بيرين للمشاهدين لقطات قريبة مدهشة للطيور أثناء استعدادها للطيران، وأثناء طيرانها وهبوطها للقيام بهجراتها الموسمية، غير أن فريق الإنتاج كانوا يطلقون الطيور بأنفسهم لكيلا تخاف الحيوانات من الآلات المزعجة، فيما يعد ابتعادًا عن تصوير الطبيعة كما هي. أيضًا يسجل الفيلم الناجح الذي حقق شهرة عالمية «مسيرة البطاريق»، وهو فرنسي أيضًا، للوك جاك، معاناة البطاريق الموسمية للتناسل تحت وطأة ظروف القارة القطبية الجنوبية. وفكرة قصة الحب التي يقوم عليها الفيلم تتجاهل استراتيجيًّا الحقائق الأساسية عن البطاريق مثل حقيقة أنها تتزاوج لموسم واحد فقط، وتتجنب هذه الفكرة مناقشة تهديد الاحترار العالمي لوجود الطيور.
أفلام البيئة
في نفس الوقت الذي أطلقت فيه أفلام مغامرات الحياة الواقعية، ولدت الحركة البيئية من خلال جهود الحفاظ على البيئة، وقد نجح المسلسل التليفزيوني «الأرض الحية» المنتج في الخمسينيات، الذي دعمته جمعية الحفاظ على البيئة، في اختراق السوق التعليمية للمرحلتين الابتدائية والثانوية. شددت هذه الأفلام الوثائقية على تأثير الأنشطة البشرية على توازن الطبيعة، ومع تنامي الوعي البيئي، أصبحت هذه الموضوعات والأفكار أكثر شيوعًا. على الرغم من ذلك، دخل قدر كبير من الاصطناع حتى في وضع برامج الحفاظ على البيئة، فمعظم البرامج من هذه النوعية تستخدم الواقعية لتجسيد العلاقات التي تعرضها، موظِّفة التمثيل الاستراتيجي، والمونتاج بالإخفاء، والنص لرواية قصصها؛ فقد يتألف مشهد لحيوان واحد من لقطات لعدة حيوانات، وقد يستثار سلوك الحيوان للحصول على مشاهد مثيرة، فيما تعتمد معظم أفلام القرش على استثارة أسماك القرش من أجل مشاهد الحركة الخاصة بها. والكثير من أفلام الطبيعة تقلل من دور المخرجين أو تمحوه، فيما تحولهم أخرى إلى قادة مقدامين لرحلات السفاري الحديثة، مثلما تفعل سلسلة شبكة بي بي سي «القطط الكبيرة».
غير أن بعض المخرجين المستقلين تحدوا المشاهدين للتفكير في علاقتهم بالحيوانات وبالبيئة الطبيعية؛ فقد صنع الأسترالي الخارج عن السائد مارك لويس مشوارًا مهنيًّا من الأفلام المثيرة للدهشة — والمضحكة للغاية — عن الأشخاص والحيوانات، فيبحث فيلم «ضفادع القصب» (١٩٨٨) في عواقب إدخال ضفدع القصب إلى أستراليا بكوميديا سوداء فظة، فلم يكن لهذا الضفدع السام أي تأثير على الخنافس الذي استُورد من أجل القضاء عليها، ولكنه أصبح وباء خطيرًا، أما فيلماه «الفأر» (١٩٩٨) و«التاريخ الطبيعي للدجاج» (٢٠٠٠)، فيؤرخان للعلاقة الخاصة والمقززة وغير المألوفة التي تجمع الناس بحيواناتهم المنزلية. يستعرض فيلم «الرجل الدب» (٢٠٠٥) لفيرنر هيرتزوج أيضًا النهاية المروعة لتيموثي تريدويل، وهو مخرج وثائقي مضطرب عقليًّا عاش في قرية للدببة، وكان يخلط بين أصدقائه وبين الدببة وقُتل على يد أحدها. يقارن هيرتزوج عاطفية تريدويل المضللة بفلسفته العدمية وإيمانه بالقسوة الغريزية للطبيعة؛ إنه يطابق نرجسية تريدويل بنرجسيته وينجح في إظهار الدببة أكثر جلالًا ومهابة من أي من البشر في الفيلم.
ثمة فيلم من أنجح الأفلام الوثائقية السينمائية على الإطلاق يمكن اعتباره من أفلام الطبيعة، وهو فيلم «حقيقة مقلقة» (٢٠٠٦) لديفيز جوجنهايم؛ يبرز الفيلم نائب الرئيس الأسبق آل جور وهو يلقي محاضرة مزودة بصور توضيحية نابضة بالحيوية عن الاحترار العالمي، ويضع المشاهدين في قلب قصة عن كارثة طبيعية، فمن خلال استخدام صور مثيرة لذوبان الجليد، ومحاكيات لفيضان الماء وهو يغمر مانهاتن، ورسوم متحركة لدب قطبي يغرق، ومخططات ورسوم بيانية مدهشة، يوضح جور مدى إلحاح المشكلة، وينسج داخل كل ذلك ذكريات شخصية له؛ مزرعة والده، والنهر المحلي، والحادث الذي كاد يودي بحياة ابنه، ووفاة شقيقته، ويكشف أيضًا عن فشله في إقناع الساسة بالتحرك للتعامل مع مشكلة الاحترار العالمي، قائلًا إنهم بحاجة للاستماع من ناخبيهم. وهذا المزيج من البيانات العلمية، والجمال الطبيعي، وصور الكارثة المثيرة للذهول، والتحول الشخصي، إنما يجهز المشاهدين للأخبار السارة التي تأتي في النهاية وهي أن: «التحرك البشري يمكن أن ينقذ كوكبنا.»
إن هذه الأفلام تختلف اختلافًا مدهشًا عن تقاليد السفاري وتقاليد ديزني في أفلام الطبيعة، لأنها تركز على النشاط والتفاعل البشري؛ ليس فقط مع الحيوانات، ولكن أيضًا مع النظم البيئية التي نعيش جميعًا داخلها، وتساعدنا أيضًا على رؤية ما لا يوجد في الكثير من برامج وأفلام الطبيعة، وتقدم لنا نماذج لمقاربات جديدة لتناول قصص بيئتنا.
الأهمية والأخلاقيات
ركَّز كثير من النقد على الأفلام المشهورة والمسلسلات التليفزيونية التي تبرز الحيوانات الضخمة (مثل «أسبوع القطط الكبيرة» بشبكة بي بي سي، و«أسبوع القروش» على قناة ديسكفري)، طارحًا أسئلة عن معاملة الحيوانات، ودقة التجسيد، وادعاءات القصة. ويعتقد ديريك بوزيه أن معظم أفلام الحياة البرية مصطنعة على نحو كبير، حتى إنها تتحول فعليًّا إلى أفلام روائية، وعلى الجانب الآخر، يعتقد جريج ميتمان أن تحديات أفلام الطبيعة الوثائقية في تجسيد الواقع ليست أكثر تعقيدًا مما هي عليه في الأشكال الأخرى للفيلم الوثائقي.
تساءل النقاد أيضًا عما إذا كان أشهر أفلام الطبيعة الوثائقية لها قيمة تعليمية إيجابية. بالتأكيد قد يغفل المشاهدون بسهولة عن أي رسالة تتعلق بحماية البيئة. لقد كان ستيف إروين مدافعًا صريحًا عن البيئة، ولكن بعد أن قتلته سمكة من فصيلة الراي اللاسع، قتل محبوه أسماك الراي اللاسع ومثلوا بها على طول الخط الساحلي الأسترالي. ويوجه بيل ماكيبن اتهامًا بأن الأفلام عندما تعرض الفصائل المعرضة للخطر من قريب، فإنها تنقل الرسالة المعاكسة؛ فكأنها تقول: يوجد الكثير من الفهود، انظروا إليها! إلى جانب أنها تخلق توقعات بأن الحيوانات في موقعها الطبيعي تكون في حالة دائمة ومثيرة من الحركة. وقد قال منتج أفلام «معالم الطبيعة» الوثائقية المحنك ديفيد أتينبورو ذات مرة إن فيلمًا «عن دغل لا يحدث فيه شيء ليس بالفيلم الذي يجعلك تشاهد التليفزيون»، فمثل هذه الأفلام لا تأخذ إلا شقًّا صغيرًا جدًّا من حياة الحيوانات — الثدييات الكبيرة في الأغلب — على الكوكب على محمل الجد، ويذهب ماكيبن إلى أن «المحصلة النهائية للتوعية بالطبيعة من جانب التليفزيون هي ولع عميق بفصائل معينة وافتقاد عميق لفهم الأنظمة، أو السياسات التي تدمر تلك الأنظمة».
إن أزمة الاحترار العالمي قد لا تحفز اتجاهًا في أفلام الطبيعة الوثائقية للتركيز على الحيوانات فقط، بل تركز أيضًا على الأنظمة التي تدعم الحياة، وعلى دور البشر في التأثير على النظام. لقد تطور المجال تطورًا ملحوظًا بالفعل، ولا شك أن قسوة وتصنُّع أفلام الطبيعة الوثائقية الأولى سوف يكونان ممقوتين اليوم.
ومع ملء أفلام الطبيعة الوثائقية لقنوات وفئات جديدة كاملة في النشاط الممتد للتليفزيون، سوف تستمر، سواء عن عمد أم لا، في تأريخ علاقتنا بالبيئة، وصحة هذا الشكل الفرعي ترتبط الآن ارتباطًا وثيقًا بصحة النظام البيئي العالمي.