ترجمة حياة مؤلف الكتاب
تمهيد
قد يتوالى كرُّ الجديدين، وتمرُّ الأيام والأعوام مر السحاب، طامسة بأقدامها رسوم الأجيال الماضية، والناس على ما هم عليه من فطرتهم الأصلية، مستسلمون لما ورثوه عن آبائهم من التقاليد والعادات مذمومة كانت أم مرضية، فاسدة أم صحيحة، ويظلون كذلك لا يفقهون معنى لما يرونه من المرئيات، ولا يحركون ساكنًا لما يمر عليهم من صنوف العظات، إلى أن يمنَّ الله عليهم بمن يميط اللثام عن سر ما جهلوه، ويكشف لهم الستار عن كُنْه ما لم يتحققوه، فينبههم من رقدتهم، ويرشدهم إلى ما كانوا عنه غافلين.
أولئك هم أقطاب العلم، ورسل التهذيب، ومهبط المدنية، ونور العرفان، بهم تهتدي الأمم، وعلى يدهم يتم صلاح الجماعات ونظام الشعوب، غير أن الدهر — وهو بخيل بأمثال هؤلاء الأقطاب — لا يكاد يجود بفرد منهم على رأس كل جيل حتى تنصبَّ عليه سهام اللعنات من كل صوب، وتتلقَّاه الناس بالعداوة والبغضاء، والسبب واضح جلي؛ فالناس إذا استسلمت مدة من الزمان إلى بعض العادات الفاسدة، وتوارثت طوال الأجيال العاهات والأمراض النفسية بعضها عن بعض، تصبح بينهم من الصفات اللازمة، ولا ينظرون إليها إذ ذاك كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية أنزلها الله على آدم، فإذا ظهر بينهم من هو خال منها غير متحل بما ظنوه ناقصًا ناصبوه العداء، ونابذوه الألقاب.
نظرة إلى كل من اشتهر بفضل أو عُرِفَ بشيء من النبل نعلم مقدار ما عانى من الدهر، وقاسى من مناوأة الناس في سبيل الحق، فهذه أئمة المسلمين وهداتهم؛ مثل: مالك، والشافعي، وفلاسفة هذه الأمة، ودعاة الصلاح فيها؛ كالمعري وابن رشد وابن تيمية، ومن تقدمهم وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا تزال أشخاصهم ماثلة في أذهاننا، ولا نزال نستضيء بنبراسهم، قد نَغَّصَ الدهر عليهم عيشهم، وضيق عليهم مذاهبهم؛ لشذوذهم عن المألوف، وخروجهم عن المعروف، ولم يرجعهم ما هم فيه عن سبيل رأوه هو سبيل الحق، بل ما زالوا في عراك وكفاح حتى لقوا ربهم فرحين بما قضوا من واجب الإرشاد عليهم، غير مكترثين بما لقوا في سبيل الواجب.
والكونت تولستوي الذي أقدم إلى القراء ترجمة حياته (مقتضبة من دائرة المعارف البريطانية، ومجلة الهلال الغراء، وبعض المجلات التركية) هو أحد أولئك الأفراد القلائل الذين لا يكاد الدهر يجود بواحد منهم حتى يتفانى الناس في تمجيد خصاله، ويغرقوا في إجلال ذكره، وإكبار شأنه؛ إذ يعمل الفرد منهم على إسعاد نوع الإنسان، وترقية حال بني البشر أكثر مما يعمله المئات بل الألوف من معاصريه:
نشأته الأولى
تشْغَل حياة تولستوي ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر وعشر سنين من فجر القرن العشرين؛ إذ كان ميلاده في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام ١٨٢٨ في قرية (ياسنايا بوليانا) في ولاية طولا من أعمال روسيا، فأنت ترى أن شمس حياته بزغت في فجر القرن التاسع عشر، وعاش معاصرًا لكثير من فحول العلماء والفلاسفة؛ مثل: هيجو، وغوته، وغيرهما من الذين ولدوا معه في فجر القرن، وغربت شموس حياتهم في أصيله.
وأسرته ألمانية الأصل، هاجرت في عهد بطرس الأكبر، واشتهر منها بطرس تولستوي الذي كان سفيرًا لروسيا لدى الدولة العثمانية، وأدخل في مصافِّ الأشراف عام ١٧٢٤، وكان لهذه الأسرة منزلة رفيعة بين الأسر الروسية؛ إذ اشتهر كثير من أبنائها بالسياسة، ونبغ آخرون منهم في فن الكتابة.
أما أمه فكانت من بيت مجد عريق في الحسب وشرف الأصل، يعرف بأسرة فولكون، وكانت القرية التي ولد فيها الفيلسوف مِلْكًا لها؛ فأقامته فيها ليقضي أيام طفولته، ولكن وافاها القدر المحتوم وهو في إبان نشأته، فعهد بتربيته إلى سيدة من ذوات قرابته، وانتقل به والده إذ ذاك إلى مدينة موسكو، حيث عاجلته المنية قبل أن يبلغ الكونت العاشرة من عمره، فعهد بتربيته إلى سيدة أخرى من ذوات قرابته تدعى بوشكوفا؛ فعادت به إلى قرية ياسنايا مقر ولادته، وهناك تلقى دراسته الأولية.
تعليمه
وما كاد يبلغ الخامسة عشرة حتى انتقل إلى مدينة قازان، وانتظم في سلك جامعتها مدة عامين، توفر أثناءهما على دراسة بعض العلوم العالية، وفيها درس أيضًا بعض اللغات الشرقية، غير أنه ما لبث أن عافت نفسه الجامعة ودروسها؛ لنفوره من أخلاق تلامذتها، فعاد إلى قريته ثانية، وأكب هناك على مطالعة كتب مشاهير المؤلفين والأدباء من الروسيين والفرنسيين والألمان؛ أمثال: روسو وهيجو وفولتير وديكنز وبوشكن وترجنيف وشيللر وغوطه، ولكنه كان أكثر تعلقًا بمؤلفات روسو، فعاش عيشة مستقلة لا يحتاج فيها إلى مرشد ولا مؤدب إلا الدهر وحوادث الأيام وتتبعاته الشخصية.
أوائل شبابه
وقد أخذت الاعتبارات الفلسفية تشغل أفكاره في أوائل شبابه؛ فكان شغله الشاغل أيام صباه هو التفكير في (ما هو الإنسان؟) و(من أين أتى؟) و(إلى أين مصيره؟) و(ما هي السعادة؟) إلى غير ذلك من المسائل الفلسفية العويصة التي كانت ترِد مخيلته تباعًا؛ آخذة بعضها برقاب بعض، حتى نشأ عنده ميل خاص للمباحثات والمناظرات، فكان يقضي طوال الساعات والأيام في مجادلة أقرانه ومناقشتهم فيما يعرض له من الأفكار.
انتظامه في سلك الجندية
وبينما كان الفيلسوف الشاب على الحال التي وصفناها لك حائرًا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار؛ إذ زاره شقيق له أكبر منه سنًّا في قرية (ياسنايا) وكان شقيقه هذا من ضباط الجند الروسي ببلاد القوقاز، فوصف له حالة الجند وما هم عليه من نضارة العيش ورفاهة الحال، وما زال به يحسِّن له حالته ويرغبه الانتظام بسلكهم حتى رضي وأطاع شقيقه فأصبح في عداد الضباط وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعند نشوب حرب القرم انتقل إلى الطونة وانضم إلى أركان حرب البرنس غورتشاكوف، ثم انتقل إلى سباستبول؛ حيث عين قائدًا لفرقة من المدفعية، وكان لانتقاله من بيئة لأخرى أثر كبير في إثارة قريحته، وتوسيع خياله، فتغيرت أطواره، وتحولت كليته، وتبطنت أعماق نفسه بانفعالات كثيرة ظهر على أثرها أهم مؤلفاته التي يصف فيها حالة الجند، وأهوال الحروب، وما يكابده الإنسان من فظائعها.
رحلته وزواجه
وفي العقد الرابع من سني حياته تطلع إلى السفر، فسافر سنة ١٨٦٢ وساح في بعض أنحاء أوروبا، ثم رجع إلى قريته واقترن في العام الثاني بالسيدة صوفيا ابنة الدكتور بيرس الألماني الذي كان يقيم في موسكو؛ فاضطر تولستوي أن يداول السكنى بينها وبين قريته، وكانت قد نضجت مواهبه واتسعت معلوماته؛ لكثرة ما شاهده واختبره بنفسه، وكانت الحكومة قد عينته قاضيًا في قريته، فبدأ بنشر تعاليمه، وأخذ يدعو الناس إلى السلام والفضيلة؛ سواء بالقدوة أو بالتعليم.
عيشته اليومية
وقد اشتهر بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة؛ فكان في قريته مع زوجته وأولاده في منزل بسيط محاط بغابة كثيفة ليس فيه من الأثاث إلا الضروري، فكان يقوم مبكرًا فيلبس ثوبًا بسيطًا مثل أثواب الفلاحين، وهو عبارة عن سراويل واسعة فوقها كساء كالقميص يتمنطق حوله بسير من الجلد.
وكان يتناول طعام الإفطار، ثم يذهب إلى العمل في حرث الأرض، وتعهد أشجارها، وبذر الحبوب، ومساعدة ضعفاء الفلاحين في أعمالهم.
سيرته بين فلاحيه
كانوا يعجبون بتواضعه ويستأنسون بدعته ولطف شمائله، فإذا وقع بينهم خلاف تقاضوا إليه وارتضوا حكمه، وكان قد أنشأ في قريته مدرسة ينفق عليها من ماله الخاص لتعليم أبناء الفلاحين، وكان يتولى تعليمهم بنفسه؛ فاشتهرت المدرسة وقصدها أهل المدائن الأخرى المجاورة يلتمسون الاستفادة من آرائه وفلسفته، وأنشأ لهم أيضًا مجلة تهذيبية تصدر باسم القرية، وقد بلغ من محبته لفلاحي قريته أنه أراد أن ينبذ فكرة الاستئثار بالملك الشخصي، وأَحَبَّ أن يوزع أملاكه بينهم بالتساوي فيشتغل كواحد منهم، ولكن زوجته وذوي قرابته أبوا عليه ذلك، تلك كانت حاله بالصيف، أما في الشتاء فكان يقيم في موسكو؛ فينقطع عن الأعمال البدنية، ويتفرغ للتأليف والتحبير؛ فيؤلف ويراسل ويكاتب.
حياته العلمية
لا نكاد نذكر اسم تولستوي حتى يخطر على البال مؤلفاته العديدة ورسائله المتنوعة؛ وأشهرها: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) و(القيامة) و(أين المخرج؟) و(الحب والزواج) و(بم يعيش الناس؟) و(ديانة المسيح) و(الحياة) و(مملكة الظلام)، غير أننا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن لرواياته الثلاث الأولى؛ وهي: (الحرب والسلم) و(البعث) و(حنا كرانينا) القدح المُعَلَّى، والمكانة السامية في عالم الأدب والتأليف، لا فى الروسيا فقط؛ بل في جميع العالم الأوروبي، ولا مِراء في أن هذه الروايات الثلاث هي الدرة اليتيمة وواسطة القلادة بين درر مؤلفاته وغوالي حكمه؛ فإن رواية (حنا كرانينا) تمتاز بدقة البحث في تصوير ما يحصل عادة في عالم الزواج من الآلام والاضطرابات التي مَنشؤها عدم التروِّي والمضي مع الأهواء النفسية، وفي روايته (البعث بعد الموت) وصف الأمراض الاجتماعية وصورها بكل ألوانها ومعانيها، مع ذكر كيف أن الناس في هذا العصر أصبحوا يتنشقون سموم الظلم والاستبداد، ويتجرعون كئوسًا ملؤها الكذب والرياء بدل استنشاقهم الهواء وشربهم الماء، وفي هذه الرواية يقول الناقد الفرنسي المعروف جول لومتر: «كَتَبَ تولستوي روايتيه (الحرب والسلم) و(حنا كرانينا)، ثم خجل من الشهرة وبُعد الصيت اللذين نالهما أثر ظهورهما فاحتجب في كسر داره، واختفى بين صحائف الإنجيل مدة خمسة عشر عامًا، ثم ظهر في عالم الأدب ثانية وفي يده أعجوبة مؤلفاته «كتاب البعث بعد الموت».»
- (١)
أحبوا بعضكم بعضًا.
- (٢)
لا تقابلوا الشر بمثله.
مقارنة بينه وبين أبي العلاء
ذهب بعض كتَّاب أوروبا إلى وجود الشبه بين تولستوي وبين روسو، وعزز رأيه بأدلة لا محل لذكرها في هذه المقدمة الوجيزة، وإنا نرى أنه من الظلم أن نختم مقدمتنا دون أن نذكر ما رأيناه من وجوه الشبه بين حياة صاحب الترجمة وحياة أبي العلاء المعري المولود سنة ٩٧٣م، فكلا الرجلين عاش زاهدًا في الحياة، وكلاهما ناله من اضطهاد رجال الدين ما نغص عليه عيشه، وضيق دونه المذاهب، ولكليهما آراء في الحياة، ونظرات في الاجتماع تتفق معنى ومبنى.
اشتهر تولستوي بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة على نحو ما مر بك في مقدمتنا هذه؛ كذلك كان أبو العلاء زاهدًا في الحياة متخليًا عن ملذاتها؛ يردد قوله:
إلا أنهما وإن زهدا في كل لذات الحياة، فقد رغبا في العلم والتأليف اللذين قد ملكاهما، واستأثرا بهما، ولا شك أن ذلك كلفهما معاشرة الناس ومجاملتهم إلى حد معلوم؛ فإن أبا العلاء كان مضطرًّا إلى عشرة الناس؛ لاحتياجه إلى من يقرأ له، ويكتب عنه، ولذلك لم يكد يستقر في المَعَرَّة حتى اشتغل بالتعليم؛ فالتف حوله الطلاب من جميع الأطراف، كذلك كان تولستوي مضطرًّا لمجاملة زواره العديدين الذين كانوا يقصدونه من أقاصي البلاد يلتمسون الاستفادة من فلسفته وآرائه.
كان تولستوي يرى أن نظام الاجتماع فاسد يحتاج إلى إصلاح، وأن فساده ناجم عن الرئاسات الدينية والسياسية، كذلك كان يرى أبو العلاء وصرَّح بهذا الرأي غير مرة في اللزوميات وسقط الزند؛ فمن ذلك قوله:
وكذلك قوله:
رأي تولستوي في المرأة قبيح؛ لأنه يسيء الظن بها في كل أطوارها، ويرى أن تقطع كل علاقة بينها وبين الحياة العامة؛ فمن ذلك قوله: «على الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حريةٍ واسعة للمرأة.» وقال في موضع آخر في الزواج: «إن الزواج أصبح في عصرنا هذا بيننا محضَ خداعٍ وغشٍّ، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرًّا من أسرار الدين؛ كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.»
ولأبي العلاء رأي في المرأة كثير المطابقة لرأي تولستوي، فهو كثير الظن بها ويرى أن تعيش بمعزل عن الحياة العامة، وتشدد في طلب الحجاب كما أشار في قوله:
وكذلك قوله:
ومنه قوله في التائية:
ذكرنا آنفًا كيف أن تولستوي نبذ الاعتقاد القائل بالاستئثار الشخصي، وأراد أن يقسم أملاكه بين فلاحيه ويشتغل كواحد منهم، فكأنه بذلك يعزز رأي أبي العلاء القائل:
وأقواله في هذا المعنى كثيرة يقف عليها القارئ في أكثر (لزومياته).
إلى هنا ننتهي من المقارنة بين أفكار بطلي القرن التاسع والقرن العشرين بعد الميلاد، وإلى هذا الحد نكون قد أنجزنا ما وعدنا به القارئ من ترجمة حياة فيلسوف روسيا العظيم (الكونت لاون تولستوي) الذي أفل نجم حياته في ٢٠ نوفمبر عام ١٩١٠، ليكون على بينة من تاريخ حياة أحد رجال العالم العظماء الذين أفادوا النوع الإنساني بأفكارهم الصالحة، وسيرتهم المبرورة، وسريرتهم الطاهرة.