الحكاية التاسعة
يوجد على سواحل البحر الأبيض المتوسط، بين حدود الجمهورية الفرنساوية والمملكة الإيطالية — حكومة صغيرة تسمى (موناكو)، يكاد عدد سكانها يقل عن أصغر المدن في أوروبا؛ حيث لا يزيد السكان فيها عن سبعة آلاف نسمة، لو قسمت عليهم أرض المملكة جميعها لما أصاب أحدهم فدانًا واحدًا.
ويحكم هذه الحكومة الصغيرة ملك مستقل يتوَّج كما يتوج باقي الملوك، وله قصر وبلاط وحاشية ووزراء، بل وله أسقف وقواد وأيام للاحتفالات الرسمية واستعراض الجند ومجالس ومحاكم وقوانين ونظامات وجيش يبلغ عدده ستين جنديًّا، وفي هذه المملكة الصغيرة ضرائب كما توجد في البلاد الأخرى، تجبى من التبغ والنبيذ والمشروبات الروحية، وضريبة أخرى على الأفراد، غير أنه وإن كان الناس يدخنون ويتعاطون المسكرات كما يفعل الناس في البلاد الأخرى — إلا أن ما يتوفر من هاتين الضريبتين قليل يكاد لا يكفي للمحافظة على أبهة الملك ومظاهره ولإعاشة الحاشية والموظفين؛ ولذلك لم يَر الملك في تلك البلاد مندوحة من أن يفكر في إيجاد ضريبة جديدة مبتكرة تدر عليه بالأموال الوفيرة، وهذه الضريبة تأتي من بيت للقمار يَلعب فيه الناس اللعب المعروف بالروليت، فالناس تلعب وسواء أخسروا أم كسبوا فلصاحب الدار جزء معلوم من الداخل والخارج، ومن هذا الجزء يستوفي الملك مبلغًا كبيرًا من المال.
والسبب في حصوله على الجزء الأوفى أن دار القمار الموجودة في مملكته هي التي بقيت في جميع أوروبا، وقد كان بعض صغار الملوك من الألمان أباحوا تأسيس دور من هذا النوع في بلادهم كانت سببًا في ويلات على الناس والإنسانية، ورأى أهالي ألمانيا أنه كثيرًا ما يفد الرجل إلى دار من هذه الدور؛ ليختبر حظه فيقامر بكل ما يملكه من المال، حتى إذا ما خسر اقترض وقامر بأموال غيره ففقدها أيضًا، إلى أن يدب اليأس في نفسه فينزع إلى الانتحار؛ ولذلك ثاروا في وجوه ملوكهم، ووقفوا بينهم وبين اكتساب المال بهذه الطريقة الممقوتة، أما ملك موناكو فلم يعترضه معترض عن الاستمرار في إباحة المقامرة في بلاده، فظل سائرًا في سبيله حتى اليوم دون أن يلقى ممانعة أو معارضة، حتى أصبح محتكرًا لهذا النوع من العمل.
فكل إنسان يريد أن يقامر يجد أبواب موناكو مفتوحة له على مصراعيها، وسواء أكسب أم خسر، فلملك تلك البلاد نصيب مما في جيبه، يقول المثل: «إنك لا تستطيع أن تحوز قصورًا شامخة من طريق العمل الشريف»، وملك موناكو ليعلم تمامًا أن مورد رزقه ملوث دنس، ولكنه مضطر؛ لأنه يريد أن يعيش، ولأنه يعلم أن الأموال الأخرى التي يجبيها من ضرائب التبغ والخمور ليست أصفى ولا أطهر من أموال القمار، فهو بذلك يعيش ويحكم ويهب الجوائز والأعطيات، ويحافظ على أبهة الملك كسائر الملوك الحقيقيين.
فهو يتصدر للحكم ويقيم مهرجانات التتويج ويعطي الأوسمة ويجازي ويعفو، وله كذلك مجلس للوزراء وقوانين ومحاكم لإقامة قسطاس العدل كسائر ملوك العالم، ولكن بنسبة صغيرة، وقد اتَّفَق منذ بضع سنين أن وقعت جناية قتل في تلك المملكة الصغيرة؛ فقد اعتاد أهل تلك المملكة على السكينة والسلام، فلذلك لم يسبق لتلك الحادثة نظير في تلك البلاد، واجتمع القضاة اجتماعًا رسميًّا وبدءوا ينظرون في القضية، وكان هناك نواب عموميون، فتناقشوا في القضية بعد درسها، وأصدروا حكمهم بأن يقطع رأس القاتل كما ينص القانون، ثم رفعوا الحكم إلى الملك فقرأه ووقع عليه بهذه الجملة: «إذا كان المجرم يجب أن يُقتل فليقتل.»
إلا أنه اعترضتهم عقبة وقفت في سبيل تنفيذ هذا الحكم، تَنَبَّهَ لها الوزراء فيما بعد، وهي عدم وجود آلة جيلوتين للإعدام، أو جلاد للمملكة، وبعد المداولة فيما بينهم قرروا أن يكتبوا للجمهورية الفرنسية يسألونها عما يكلفه جلب آلة جيلوتين، وجلاد من فرنسا إلى موناكو، وبعد أسبوع ورد إليهم الرد بأن إرسال الآلة ومأمورها يكلف ستة عشر ألف فرنك، فلما عرض الجواب على الملك دهش منه وقال مستغربًا: «ما هذا؟! إن الشقي لا يساوي هذا المبلغ؛ أندفع ستة عشر ألف فرنك دفعة واحدة؟! ألا توجد طريقة أرخص من هذه؟ إن المبلغ المطلوب لو وزعناه على سكان المملكة لأصاب الواحد منهم أكثر من فرنكين، وذلك لا يرضي الشعب، وسيُحدث — بلا شك — هياجًا في الأفكار والخواطر.» ثم دُعي مجلس الوزراء للاجتماع والنظر في المسألة من جديد، فقرروا أن يرسلوا كتابًا إلى مملكة إيطاليا؛ لما بينه وبين ملك البلاد من أواصر الأخوية في الملكية، وخليق بأن يلبي الطلب بثمن أقل وأرخص.
فأرسل الكتاب، وبعد زمن وجيز وردت الإجابة؛ فإذا فيها أن إيطاليا ترسل الآلة ومأمورها بسرور، ونظير نفقات تقدر بمبلغ اثني عشر ألف فرنك، وهو مبلغ أقل من الأول، إلا أنه لا يزال باهظًا بالنسبة لتلك المملكة الصغيرة، ومن أجل ذلك دعي الوزراء للالتئام مرة أخرى، فاجتمعوا وتداولوا في إيجاد طريقة أرخص من هذه، فقال بعضهم: «ألا يمكن لأحد من الجنود أن يقوم بذلك العمل ولو بطريقة خشنة؟» وسرعان ما ارتاح الحاضرون لهذه الفكرة، وعزموا على دعوة قائد الجند إليهم؛ لأخذ رأيه في الموضوع، فلما حضر إلى المجلس قالوا له: «ألا يمكن أن تجد لنا جنديًّا يستطيع أن يقطع رأس إنسان؛ فإن الجنود لا يبالون بقتل البشر في الحروب، وهم يدربون في الحقيقة على القتل، ويتمرنون عليه؟»
فاستمهلهم القائد بينما يعرض الأمر على جنوده؛ ليرى من فيهم يقدر على القيام بتلك المهمة، وعندما ذهب إليهم وفاتحهم في الأمر لم يقبل أحد منهم أن يؤدي تلك المهمة البشعة، وقالوا جميعًا: «إننا لا نستطيع أن نؤدي ما تدعونا إليه، وليس ذلك مما تعلمناه.»
فعاد الوزراء إلى التفكير في الأمر، واجتمعوا مرات متعددة، وقرروا أخيرًا استبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد؛ ظنًّا منهم أن هذا أحسن حل للمشكلة، وأرخص كلفة، وأقل نفقة، فضلًا عما فيه من مظهر الرحمة والشفقة، ولذلك لم يتردد الملك في قبول القرار والتصديق عليه، إلا أنه عقب صدور هذا القرار الثاني اعترضتهم مشكلة جديدة؛ ذلك أنه لم يكن في المملكة سجن يصلح لحبس المجرمين مدى الحياة، اللهم إلا سجن واحد بسيط كانوا يحبسون فيه أحيانًا بعض الناس حبسًا مؤقتًا، وبعد إمعان النظر طويلًا في الأمر توفقوا لإيجاد محل مناسب وضعوا فيه المجرم الشاب وعينوا له حارسًا ليحرسه وليحضر له الطعام من مطبخ القصر.
ومر على ذلك عام كامل، وجاء اليوم الذي يعرض فيه حساب نفقات القصر على الملك، فلما عرض عليه رأى في قائمة الحساب نفقات جديدة تحت عنوان «نفقات المحافظة على السجين وإطعامه» تربو على ستمائة فرنك، وأنكى ما في المسألة أن السجين شاب يتمتع بصحة جيدة تدل على أنه سيعيش على الأقل خمسين عامًا أخرى، ولذلك دعا الملك وزراءه إزاء هذا الأمر الخطير وقال لهم: «يجب أن تجدوا طريقة أرخص من هذه لنعامل بها هذا الخبيث، إن في الطريقة الحاضرة غبنًا كبيرًا، وإسرافًا فاحشًا، فابحثوا لنا عن طريقة تنقذنا منه.» فاجتمع الوزراء بصفة غير عادية، ونظروا في الأمر وفكروا فيه، فسنحت لأحدهم فكرة عرضها على زملائه بقوله: «إنني أرى أيها السادة أن نعزل الحارس ونستغنى عنه.»
فاعترضه بعض الوزراء قائلًا: «ولكن السجين سيفر حينذاك.» فأجابه صاحبه: «ليفر إلى حيث يريد فنستريح منه.» وتم الاتفاق على هذا الرأي، وأقره الملك.
وفي اليوم التالي أمروا الحارس بأن يتنحى عن السجين وانتظروا ليروا ماذا يحدث، إلا أن السجين لم يحقق أملهم؛ فإنه بقي في سجنه حتى وقت الغذاء، فلما تأخر مجيء الطعام عن ميعاده فتح باب السجن لينظر الحارس فلم يجده، فذهب بنفسه إلى مطبخ الملك وأخذ من هناك طعامه ثم عاد إلى سجنه.
وفي الأيام التالية فعل ذلك أيضًا، واستمر على هذه الطريقة دون أن تبدو عليه أمارة تدل على عزمه على الفرار، فأسقط في يد الوزراء هذه المرة أيضًا، وفكروا في كيفية الخلاص من هذه الحال، ففكروا فيما بينهم واستقر رأيهم بأن يقولوا له: «يجب عليك بأن تغادر السجن إلى حيث تشاء؛ لأننا لا نريد بأن تبقى فيه.» فأرسل إليه وزير الحقانية وأحضره بين يديه وقال له: «لِمَ لا تهرب يا هذا؟! إنه لا حارس يحرسك الآن، فتستطيع أن تذهب إلى حيث تشاء من غير أن يؤاخذك الملك.»
فأجاب الرجل: «أعلم يقينًا أن الملك لا يهتم بالأمر إن أنا فررت، ولكنني لا أجد مكانًا أهرب إليه، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أعمل عملًا؛ لأنكم شوهتم سمعتي، وأفسدتم أخلاقي بحكمكم الذي أصدرتموه ضدي، وجعلتم الناس يولوني ظهورهم حيثما حللت، وفوق هذا كله فقد عُطِّلت أشغالي وعاملتموني معاملة سيئة، لقد حكمتم عليَّ بالموت في بادئ الأمر وكان يجب أن تعدموني، ولكنكم لم تفعلوا فلم أتذمر، ثم حكمتم عليَّ بعد ذلك بالحبس المؤبد، وعينتم لي حارسًا يحضر لي طعامي فلم أتأفَّفْ، وبعد زمن طردتموه وأرغمتموني على أن أنقل طعامي بنفسي، فما شكوت من ذلك أيضًا، وها أنتم اليوم تريدون مني أن أهرب، الأمر الذي لا أرضاه ولا أقبل به، فاعملوا بي ما شئتم؛ فإنني لن أهرب أبدًا!»
انعقد المجلس لينظر في الطريقة التي يجب اتباعها بعد ذلك؛ فرأى أن خير الطرق أن يعين له راتب سنوي بشرط أن يرحل من أرض المملكة ولا يسكنها، وعرضوا الأمر على الملك قائلين له: «إنه لا يوجد حل آخر لهذه المشكلة إذا أردنا أن نتخلص منه.» فوافق جلالته على إعطاء الرجل ستمائة فرنك في كل سنة؛ بشرط ألا يسكن في أراضي الملك.
وعلى هذه الصورة انتهى الأمر واستلم الرجل ثلث مرتبه السنوي مقدمًا وغادر تلك البلاد إلى بقعة تبعد عن الحدود نحو ربع ساعة في القطار؛ حيث ابتاع له قطعة من الأرض جعلها بستانًا، فهو يعيش الآن برخاء، ويذهب في أوقات معينة ليقبض راتبه، وبعد أن يتناوله يمر ببيت القمار فيلعب بفرنكين أو ثلاثة؛ فإما أن يخسرها، أو يربح مثلها، ثم يعود إلى مسكنه حيث يعيش بسلام واطمئنان.
وقد كان من حسن حظه أنه لم يرتكب جريمة في بلاد لا يبالي أهلها بما يكلفه إعدام الرجال، أو بما يلزم لسجنهم المؤبد من النفقات.