الحكاية العاشرة
من الأساطير المتداولة بين هنود أمريكا الجنوبية أن الله خلق الناس في بدء الأمر، ورفع عنهم كلفة العمل، فما كانوا يشعرون بضرورة المسكن والملبس والطعام، وظلوا على ذلك زمنًا طويلًا حتى صاروا مائة إنسان، وكانوا إلى ذلك الوقت لم يشعروا بألم المرض وأوجاع العلل.
ثم أراد الله أن يرى كيف يعيش خلقه، فلما وقف على حالهم ألفاهم يقاتل بعضهم بعضًا، ووجد كلًّا منهم لا يعبأ بغيره، وإنما يهتم بأمر نفسه، مما يَحُول بينهم وبين الحياة السعيدة والعيش الرغد الذي ينتظره لهم؛ فقال: «إنما هذا البلاء جاءهم من طريق التفرق والانقسام، ومن اهتمام الواحد منهم بأمور نفسه فحسب.»
ولذلك غيَّر مجرى حياتهم — وقد كانت من غير عمل — بأن سلط عليهم البرد والجوع؛ ليجبرهم على نحت المغاور والكهوف يلتجئون إليها؛ اتَّقاء البرد، وليضطرهم إلى السعي في جمع الفواكه والثمار والحبوب؛ دفعًا لغائلة الجوع؛ إذ إن العمل يوجِدُ فيما بينهم رابطة الاتحاد والتآلف فقال: «لا يستطيع الرجل بمفرده أن يصنع كل ما يلزمه من الآلات والأدوات، ولا يمكنه أن ينقل ما يحتاج إليه من الخشب، ولا أن يبني وحده المساكن التي تقيه العواصف والزوابع، ولا أن يفلح الأرض فيجمع محصولها، ثم يغزل وينسج ويصنع الملابس والثياب؛ لأن كل هذه الأمور تستدعي المعاونة، وبذلك يتم لبني الإنسان الرابطة والائتلاف والاتحاد دون أن يشعروا بالدافع؛ فيتم سرورهم، وتكمل سعادتهم.»
ثم مرت أيام وأزمان ورغب الرب في أن يزور خلقه؛ ليرى هل هم سعداء في حياتهم الجديدة أم أشقياء تعساء؟ ولما أتاهم وجدهم في حالة أسوأ من الأولى.
لقد فعلوا ما قدره لهم واشتركوا في العمل، ولكنه كان اشتراكًا يعْتوِره النقص ولا يصل بهم إلى الغاية المطلوبة، فإنهم كانوا قد انقسموا إلى جماعات تفرقها الأهواء والغايات، تحاول أن تستأثر بالعمل، وإلى عرقلة مساعي الأحزاب الأخرى، فصاروا يتنافسون ويتزاحمون ويتباغضون بكل ما فيهم من بغض وقوة؛ فساءت حالتهم، واشتد كربهم.
وعمد الرب بعد ذلك إلى إصلاحهم من طريق آخر؛ فقدَّر عليهم الموت، وألا يعلموا وقت هذا القضاء، وأشعرهم بذلك قائلًا: «إذا ما عرفوا أن الموت لهم بالمرصاد يحافظون على أوقاتهم، ويضنون بأعمارهم؛ فلا يصرفونها إلا في الأعمال الصالحة.»
غير أن ذلك لم يثمر النتيجة المطلوبة، بل رأى الرب عند اطلاعه على حالهم في حياتهم الجديدة أنه لم يحدث تغيير في شأنهم ولا تبديل، بل بقي سوء الحال ملازمًا لهم؛ حيث اغتنم الأقوياء فرصة خضوع الإنسان لقانون الموت في أي وقت وأي حال، فأخضعوا لإرادتهم الضعفاء، بعد أن قتلوا من قاومهم، وتوعدوا المتمردين الباقين بالموت والهلاك.
فأصبح الأقوياء بهذه الوسيلة يجنون ثمرة كد الضعفاء، ونسج أعقابهم على هذا المنوال، فورثوا الاستئثار بجني الضعيف من أجدادهم، يعيشون على أكتاف الضعفاء من غير تعب ولا نصب.
ولكن الأقوياء ظلوا يشكُون البطالة، ويتململون من حياة الكسل، بينما الضعفاء يتألمون ويتذمرون من اشتغالهم بأكثر مما يطيقون، ويتضجرون من زيادة التعب وقلة الراحة، واتسعت حلقة الخلاف أثناء ذلك بين الفريقين، واشتدت أسباب العداوة والبغضاء، وهكذا صارت حياة الناس بعيدة عن غاية السعادة.
ورأى الرب كل ذلك، فعمد إلى إصلاح حالهم ومعالجة شأنهم بوسيلة أخرى، فسلط عليهم ضروب الأمراض وأنواع العلل؛ ظنًّا منه أنه متى تعرض الناس للعلل والأمراض على السواء تتحرك الرحمة في قلوب الأصحاء على المرضى؛ فيشفقون عليهم، ويواسونهم، ويمدون إليهم يد المعونة؛ ليقابلهم المرضى بالمثل إذا ما تعرضوا لسهام المرض.
وبعد زمن طويل عاد الرب إلى اختبار حالتهم الجديدة، فوجدهم أسوأ من ذي قبل، وأشد كربًا مما كانوا عليه في سالف العهد؛ لأن الأمراض التي سلطها عليهم لتكون واسطة لتأليف القلوب كانت سببًا في التفرقة والتباعد؛ إذ بقي الأقوياء يستخدمون الضعفاء وقت المرض، ولا يهتمون بشأنهم عندما تنتابهم العلل، وهكذا كان أولئك الضعفاء المساكين يعملون لمنفعة غيرهم طول حياتهم، ويخدمون سادتهم في حالتي الصحة والمرض، بينما هم لا يجدون فرصة لمداواة أمراضهم، ولا يَلقوْن عطفًا وعناية من أحد، لقد بنيت لهم بيوت خاصة يقيمون فيها أوقات المرض؛ فيحيون أو يموتون؛ لئلا يعكر منظرهم — وهم يعانون أوجاع المرض — صفو أولئك الأقوياء وسرورهم، فيُتركون في تلك المساكن الخاصة لعناية أناس مأجورين يمرِّضونهم بلا دافع عطف أو حنان، وفوق هذا كله حَمَلَ خوفُ العدوى الكثيرين على اجتناب الاختلاط بالمريض، والابتعاد عن كل من يخالطه.
ورأى الرب هذه الحالة فقال: «إذا كانت هذه الوسيلة لم تَكْفِ لإفهام الناس أين تكون السعادة؛ فليكن الألم في المستقبل مرشدًا لهم.»
ثم ترك أمور الناس لهم يتصرف فيها كيف شاءوا.
هذه هي أسطورة هنود أمريكا، وقد مرت على البشر عصور كثيرة قبل أن يدركوا كيف يكونون سعداء، وفي الأيام الأخيرة بدأ قليلون يشعرون بأن العمل ليس معناه استعباد الناس، وإنما هو وظيفة عامة مشتركة، يؤلف بين الناس ويجمع شملهم، وصاروا يفهمون أن الشيء الوحيد الذي نستطيع به أن نقابل تهديد الموت الواقف لنا بالمرصاد هو صرف أعمارنا في الاتحاد والألفة والمحبة والسلام، وأن العلل والأمراض أبعد ما تكون عن تفريق الناس وتشتيت شملهم، بل هي بالعكس الوسيلة التي تدفعهم إلى التحابب والتآلف.