الحكاية الثانية
مشرب سورات
***
كان في مدينة سورات في الهند مشرب يجتمع فيه الكثير من الغرباء السائحين وأهل الأسفار المتجولين من مختلف الأقطار للسمر والحديث، وقد اتفق أن رجلًا فارسيًّا من علماء اللاهوت أمَّ هذا المشرب في أحد الأيام، وكان قد صرف أيام حياته يدرس كنه الإله وحقيقته، غير تارك بحثًا كتبه الأولون في ذلك الموضوع إلا قرأه وكتب عنه، وما زال هذا شأنه يفكر ويقرأ ويكتب حتى سلب عقله، واضطربت عقيدته، وانتهى به الأمر إلى إنكار وجود الخالق، ثم اتصل خبره بالشاه ملك فارس؛ فأمر بأن ينفى من مملكته.
لم يجنِ المسكين أي ثمرة من مجهود بحثه ودراسته في المسبب الأول، وبدل أن يفهم أنه فقد عقله سلك سبيل إنكار وجود إرادة عليا مسيطرة على عالمنا الأرضي.
كان لذلك العالِم عبدٌ أسودُ يتبعه حيثما سار، فلما ولج باب المشرب جلس العبد على حجر خارج الباب تحت أشعة الشمس، وأخذ يضرب أسراب الذباب التي كانت تطن حوله، أما سيده فجلس على أريكة مستطيلة داخل المشرب، وطلب فنجانًا من الأفيون وتجرعه، وبعد أن دب مفعول المخدر في تلافيف دماغه، أخذ يحادث الخادم من خلال الباب المفتوح قائلًا: «خبرني أيها العبد التعس، أتعتقد أن هنالك إلهًا أم لا؟»
فأجابه العبد بقوله: «لا ريب في أن هنالك إلهًا.»
ثم أخرج توًّا من منطقته صنمًا من خشب وهو يقول: «هذا هو الإله الذي حرسني منذ ولدت، كل إنسان في بلادنا يعبد الشجرة المقدسة التي من خشبها عمل هذا الإله.»
استرعت هذه المحاورة الدائرة بين اللاهوتي ومولاه انتباه ضيوف المشرب الآخرين، وقد أدهشهم سؤالُ العالِم، وزادهم جوابُ مولاه دهشةً، فانبرى برهمي من الحاضرين عند سماعه كلمات العبد، وقال: «أيمكن أن تصدق أيها البائس الأبله أن الإله يحمل في منطقة رجل؟! ليس هناك إلا إله واحد؛ هو برهما، هو أكبر من العالم بأسره؛ لأنه خالقه، إن برهما هو الإله الأحد القدير، وباسمه العظيم بنيت المعابد على ضفاف نهر الكنج؛ حيث يعبده الكهنة البرهميون الذين يعرفون دون سواهم الإله الحق، لقد مضت عشرات الألوف من السنين، وتوالت الانقلابات تلو الانقلابات، وهؤلاء الكهنة محتفظون بنفوذهم؛ ذلك لأن برهما الإله الأحد الحق باسط عليهم جناح حمايته.»
نطق البرهمي بهذا القول وهو يظن أنه أقنع كل إنسان، إلا أن سمسارًا يهوديًّا من الحاضرين رد عليه قائلًا: «كلا إن معبد الإله الحق ليس في الهند، وما كان الله ليحمي طائفة البراهمة، إن الإله الحق ليس هو إله البراهمة، بل هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهو لا يحمي سوى شعبه المختار؛ شعب إسرائيل، إن شعبنا وحده هو المحبوب عند الله منذ بدء الخليقة، وإذا كنا اليوم مشتتين في أنحاء الأرض، فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يبلونا؛ لأنه وعد أنه سيجمع شمل شعبه في يوم من الأيام في أورشليم، ويرجع حينذاك إلى البيت المقدس، أعجوبة الزمن القديم، مجده السالف، وسيكون إسرائيل يومئذ حاكم كل الشعوب.»
وبعد أن أتم اليهودي قوله انخرط في البكاء، ثم أراد إعادة الحديث، لولا أن قاطعه مبشر إيطالي كان هناك بقوله: «إن ما تقوله غير صحيح، وإنك لتفتري على الله؛ لأنه يستحيل أن يحب قومك أكثر من حبه سائر الأقوام، ولو كان حقًّا أنه فضل بني إسرائيل قديمًا فإنه قد مضى تسعة عشر قرنًا منذ أن أغضبوه وحملوه على تدميرهم وتفريقهم أيدي سبأ في مناكب الأرض، فلم يجلب لهم إيمانهم أدنى سعادة، هذا الإيمان طوته يد الفناء، اللهم إلا ما بقي منه حقيرًا هنا وهناك، إن الله لا يفضل قومًا على قوم، بل هو يدعو الجميع — مَن أراد منهم النجاة والفوز — للالتجاء إلى أحضان كنيسة روما الكاثوليكية التي لا يجد الخارجون عن حدودها خلاصًا.»
هنا أراد اللاهوتي الفارسي الذي كان من شيعة علي أن يعترض، لولا أن ارتفع إذ ذاك ضجيج الحاضرين من مختلفي العقائد ومتبايني الأديان، فقد كان فيهم — عدا من ذكرنا — مسيحيون من الحبشة، ولاميون من التيبت، وإسماعيليون، وعباد نار، فتناقشوا كلهم في حقيقة الإله الحق، وكيف يجب أن يعبد، فتجادلوا واشتدت حدتهم؛ فكان كل واحد منهم يؤكد أن الإله الحق لم يعرف ولم يُعبد كما يجب في غير بلاده، إلا رجل صيني من أتباع كونفوشيوس كان جالسًا جلسة هادئة في زاوية من زوايا النادي يحتسي كئوس الشاي وهو مصغٍ لما يقوله الآخرون، ولا ينبس ببنت شفة، فلاحظه التركي جالسًا هنالك، فتقدم إليه يقول: «إنك تستطيع أن تثبت ما قلته أيها الصيني الصالح، إنك تحافظ على هدوئك وسكينتك، ولكن أعلم أنك ستؤيد رأيي. إن تجارًا من مواطنيك الذين يأتون إليَّ ملتمسين مني المساعدة أخبروني أن بالصين أديانًا كثيرة، إلا أنكم — معاشرَ الصينيين — تَعُدون دين محمد خيرها جميعًا وتُقبلون على اعتناقه باشتياق زائد، تفضل إذن وأيِّد قولي، بَيِّنْ لنا ما اعتقادك في الإله الحق وفي رسوله.»
فقال الباقون: «نعم، نعم.» ملتفتين إلى الرجل الصيني قائلين له: «ماذا ترى؟ دعنا نسمع رأيك في هذه المسألة.»
عند ذلك أطبق الرجل الصيني عينه وفكر برهة، ثم فتحها ثانية وقال بصوت هادئ رزين بعد أن أخرج يديه من كميه الواسعين وربعهما على صدره: «سادتي يخيل إلي أن الكبرياء خاصة هي التي تقف حجر عثرة في سبيل الاتفاق على مسائل الأديان، وإذا تفضلتم علي بالإصغاء فسأقص عليكم حكاية تشرح مسألة هذا الاختلاف.
لقد جئت هنا من الصين على ظهر سفينة إنكليزية طافت العالم، وقد اتفق أن فرغ الماء منا فاضطررنا أن نرسو في سواحل سومطرا الشرقية؛ لنتزود ماءً، فاغتنم بعضنا هذه الفرصة ونزل إلى اليابسة، وكان الوقت ظهرًا، جلسنا تحت ظلال صف من أشجار جوز الهند على بعد من إحدى قرى الجزيرة، وقد كنا من أجناس مختلفة، ولم يكد يستقر بنا المقام حتى أبصرنا رجلًا أعمى يقترب منا، وعلمنا بعد ذلك أنه فقد باصرتيه من كثرة تحديقه بالشمس وهو يحاول أن يعرف ما هي؛ لأجل أن يقبض على نورها، وقد صرف وقتًا طويلًا لتحقيق هذه الأمنية بتحديقه المستمر في الشمس، ولكنه لم يجنِ من ذلك أي نتيجة سوى إصابة عينيه من شدة الضوء حتى أصبح ضريرًا، فقال حينئذ يخاطب نفسه: إن نور الشمس ليس سائلًا؛ لأنه لو كان كذلك لأمكن صبه من إناء لآخر، ولوجب أن يحركه الهواء كما يحرك الماء، وليس هو نارًا؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يطفئه الماء، وليس هو روحًا؛ لأنه يرى بالعين، ولا مادة؛ لأنه لا يمكن تحريكه، وما دام نور الشمس غير سائل، ولا نار، ولا روح، ولا مادة، فهو لا شيء.
على هذا المنوال أخذ في القياس والجدل، وكانت النتيجة التي جناها من كثرة إحداقه بالشمس وتفكيره في ماهيتها أن فقد بصره ثم عقله، وقد ازداد رسوخًا في عقيدته بعد عماه.
وكان مع ذلك الأعمى عبد يقوده، فلما وصل به إلى الظل أجلسه في مكان ثم التقط جوزة كانت ملقاة على الأرض وشرع في عمل سراج منها، فلف فتيلة من أليافها، ثم عصر منها زيتًا في قشرتها، وغمسها فيه، وبينما كان العبد عاكفًا على عمله تنهَّد الأعمى وقال له: ألم أكُ محقًّا عندما أخبرتك أنه لا توجد شمس، ألا ترى ما أشد الظلام، ومع ذلك فإن الناس ما زالوا يقولون: إن هناك شمسًا! إذا كان ما يقولونه حقًّا؛ فليقولوا لي ما هي تلك الشمس؟ فقال له عبده: «أنا لا أعرف الشمس، ولا يعنيني أن أعرفها، ولكن أعلم ما هو النور، وها قد صنعت لنفسي سراجًا أستطيع بواسطته أن أخدمك، وأن أجد ما أريده في كوخنا.» ثم رفع العبد قشرة الجوز قائلًا: «هذه شمسي.»
فضحك لهذا القول رجل أعرج له عكازان كان جالسًا على مقربة منهما وقال: «إنك على ما يظهر قضيت كل حياتك ضريرًا، لا تعرف ما هي الشمس، إني سأخبرك عن ماهيتها، إنها كرة من نار تطلع كل صباح من جوف البحر، وتغيب بين جبال جزيرتنا في كل مساء، وكلنا نشاهد ذلك ونراه، ولو كنت بصيرًا لرأيته أيضًا.»
فقال صياد كان يستمع حوارهما: «يظهر أنك لم تخرج من هذه الجزيرة قط، فلو كنت غير أعرج، ولو كنت خرجت إلى ما وراء الجزيرة كما أخرج أنا في قارب الصيد؛ لعلمت أن الشمس لا تغرب بين جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من المحيط كل صباح، تغرب كذلك في البحر كل مساء، إن ما أقوله لك حق؛ لأنني أراه كل يوم بعيني رأسي.» فقاطعه حينذاك هندي من جماعتنا قائلًا: «إنه ليدهشني أن يقول رجل عاقل مثلك نظير هذه الترهات، قل لي كيف يمكن أن تنزل كرة من النار في الماء ولا تنطفئ؟! إن الشمس ليست كرة من نار، بل هي الإله (ديفا) الذي يركب مركبة تدور حول الجبل الذهبي (مرد) أبد الدهر، وقد يحدث في بعض الأحايين أن الثعبانين الشريرين (راغو) و(كتو) يهاجمان ديفا ويبتلعانه فتظلم الأرض إذ ذاك، ولكن كهنتنا يصلُّون لأجل خلاصه فيخلص، إن الجهَّال الذين على شاكلتك، والذين لم يتجاوزوا حدود جزيرتهم يتصورون أن الشمس تشرق في بلادهم فقط.»
وجاء الدور لرُبَّان مركب مصري كان حاضرًا فقال: «لا. إنك أنت أيضًا مخطئ، فإن الشمس ليست إلهًا، ولا تدور حول الهند فقط وحول جبلها الذهبي، إنني ركبت كثيرًا من البحار فطفت البحر الأسود، وسواحل جزيرة العرب، وزرت مدغشقر والفلبين، فرأيت الشمس تضيء الأرض كلها، لا الهند وحدها، وشاهدتها لا تدور حول جبل، بل تطلع من أقصى الشرق وراء جزائر اليابان، وتغرب في أقصى الغرب وراء الجزر البريطانية، وهذا هو السبب في تسمية اليابان لبلادهم (نيفون)؛ أي مطلع الشمس، إنني أعرف هذا حق المعرفة؛ لأنني رأيت بنفسي كثيرًا، وسمعت أكثر من جدي الذي وصل برحلاته إلى أقصى تخوم البحار.» كان المصري يوَدُّ أن يستمر في كلامه لولا أن بحَّارًا إنكليزيًّا من طائفة سفينتنا قاطعه فقال: «إنه لا توجد بلاد يعرف أهلها الشيء الكثير عن الشمس وحركاتها كإنجلترا، إن الشمس — كما يعلم كل واحد في إنجلترا — لا تطلع من مكان ولا تغرب في مكان، بل هي تدور دائمًا حول الأرض، ونحن على ثقة من هذا؛ لأننا طفنا العالم فكنا حيثما توجهنا نرى الشمس تبرز للأنظار في النهار، وتختفي في الليل كما هو الحال هنا.»
ثم أخذ البحار عصًا وشرع يخط على الرمل دوائرَ محاولًا أن يصور حركات الشمس في السموات ودورانها حول الأرض، إلا أنه كان عاجزًا عن توضيح ذلك، فأشار إلى دليل السفينة وقال: «إن هذا الرجل أكثر مني علمًا بالأمر، وهو يستطيع أن يوضحه لكم تمامًا.»
وكان الدليل متوقد الذهن إلا أنه كان صامتًا منذ البداية، مصغيًا إلى كل ما قيل، فلم ينبس ببنت شفة حتى دعي للقول، فقال والكل مصغٍ إليه: «إنكم جميعًا يخدع بعضكم بعضًا وتغشون أنفسكم، إن الشمس لا تدور حول الأرض، ولكن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وهي في أثناء دورانها هذا تدور حول نفسها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، وفي تلك المدة لا تُرى الشمس في بلاد اليابان والفلبين وسومطرا فحسب؛ بل ترى أيضًا في أفريقيا وأوروبا وأميركا، وكثير من البلاد الأخرى، إن الشمس لا تشرق على بعض الجبال، أو على بعض الجزر، أو على البحار حتى، ولا على أرض واحدة فقط، بل هي تشرق على السيارات الأخرى كما تشرق على أرضنا، ولو أنكم نظرتم إلى السموات فوقكم، عوضًا عن أن تنظروا إلى الأرض التي تحت أرجلكم — لاستطعتم أن تعرفوا ذلك كله، ولما تماديتم في الاعتقاد بأن الشمس تشرق عليكم فقط، أو على بلادكم وحدها.» هذا ما قاله ذلك الدليل العاقل الذي ضرب في أنحاء الأرض، وأكثر من رصد السموات العليا.
ولما بلغ الصيني تلميذ كونفوشيوس إلى هذا الحد قال: «وهكذا مسائل الاعتقاد والإيمان، إن الكبرياء والعناد هما سبب الاختلاف بين الناس، كما حصل من اختلاف أولئك القوم في حقيقة الشمس، إن كل واحد في الأرض يريد أن يكون له إله خاص به؛ على الأقل خاص بوطنه وقومه، وكل أمة تريد أن تحصر المعبود الحق في معابدها، وهو الذي لا تسعه السماوات، أيستطيع معبد من المعابد أن يضاهي ذلك المعبد العظيم الذي شاده الله ليوحد الناس ويجمعهم على عقيدة واحدة ودين واحد؟!
إن كل المعابد البشرية شيدت على مثال هذا المعبد الذي هو دنيا الله، إن لكل معبد جرنَ ماء معموديته وسقفه المعقود ومصابيحه وصوره أو دماه ونقوشه وكتب تشريعه وذبائحه ومذابحه ورهبانه، ولكن في أي معبد من المعابد يوجد جرن للمعمودية يشبه البحر المحيط، وسقف معقود كالسموات، ومصابيح كالشمس والقمر والنجوم؟! وأي رسوم تماثل الأحياء الطافحة قلوبهم بالحب الذين يعاون بعضهم بعضًا؟ وأين البركات الكنسية من تلك العطايا الإلهية السهلة الفهم التي يمنحها الله لسعادة الإنسان؟ وأين يوجد قانون ناصع جلي يفهمه كل إنسان مثل ذلك القانون المنقوش في قلوب البشر وضمائرهم؟ وأي ضحية تساوي إنكار الذات الذي يفعله الرجال المحبون والنساء المحبات كل منهما للآخر؟ وأي مذبح يساوي قلب الرجل الصالح الذي يقبل الله الضحية عليه؟ إن قربى المرء من الله تكون بقدر سمو اعتقاده به تعالى، فكلما سما اعتقاد المرء بالله كلما كان أقرب منه وأدنى لتقليد كماله — جل شأنه — والتأسي برحمته ومحبته للإنسان، لهذا يجب أن يمتنع ذلك الذي يرى نور الشمس بأسره مالئًا أرجاء الكون عن أن يلوم أو يحتقر الرجل الخرافي الذي يرى في صنمه شعاعًا من ذلك النور في نفسه، بل وأن يمتنع أيضًا عن لوم أو احتقار الملحد الذي هو أعمى لا يبصر شعاع الشمس مطلقًا.»
هكذا تكلم الصيني تلميذ كونفوشيوس؛ فشمل السكوت كل من في النادي، وكان ذلك آخر العهد بينهم وبين المجادلة في الأديان والعقائد.