الحكاية الرابعة
بَسمَ الدهر ذات صباح لقروي فقير فرزق طفلًا فرِح به فرحًا شديدًا وعلق عليه آمالًا كبيرة، وأسرع لوقته نحو جاره العزيز مستبشرًا فأخبره بالأمر، وطلب منه أن يكون عَرَّابًا للطفل، ولكن جاره العزيز أنف من ذلك، وردَّه خائبًا، فانصرف المسكين يتعثر بأذيال الخيبة والفشل، وقصد جاره الثاني، فالثالث، ثم الرابع، وهكذا، حتى طرق أبواب القرية على غير جدوى، لا لذنب أتاه أو لجرم اقترفه سوى أنه فقير معدم.
أظلمت الدنيا في وجهه أثر هذه الصدمة الشديدة، فسخط على الدهر وتبرم من جده العاثر، ثم خرج من قريته موليًا وجهه شطر القرية المجاورة؛ بغية أن يجد فيها من لا يأنف من أن يكون عرابًا لمولود فقير، فسار المسكين (في طريقه) تتناوبه الأحزان، وتتقاسمه الهموم والأشجان، لا يلوي في طريقه على شيء.
وما كاد يبلغ نصف الطريق حتى استوقفه رجل طارحه السلام وسأله عن وجهة مسيره، فأخبره بما وقع له ذلك اليوم، ثم ختم حديثه قائلًا: «وإني الآن ذاهب إلى القرية المجاورة عساني أجد رجلًا لا يأنف من أن يكون عرابًا لطفلي.» فابتسم الرجل المجهول، وقال: «أنا أكفيك مئونة البحث والتعب، دعني أكون عرابًا لولدك.» ما سمع القروي المسكين هذه الكلمات التي نزلت على قلبه بردًا وسلامًا حتى تهلل وجهه بالبشر، وتمتم بعض كلمات يشكر بها معروف الرجل، ولكن عاد فعبس ثانية كمنْ تذكر أمرًا فاته، فقال وصوته يتهدج حزنًا: «آه يا مولاي لم تنفرج الأزمة بعد، قل لي بربك، أين أجد امرأة طيبة القلب نظيرك تقبل أن تكون عرابته؟»
– «لا تحزن يا صاح، فأنا أرشدك إلى امرأة صالحة تقبل ذلك عن طيب خاطر، اذهب إلى المدينة، وهناك في الساحة العمومية تجد منزلًا مبنيًّا بالآجر، في مدخله حانوت، فاسأل عن صاحب هذا الحانوت، وعندما تقابله أخبره بالأمر، واطلب منه أن تكون ابنته عرابة لولدك، فإنه لا يردك خائبًا.»
فهز القروي كتفيه بيأس كمن يرتاب في أمر لا يرجوه، ثم خاطب الرجل قائلًا: «أمثْلي يطلب من تاجر غني أن تكون ابنته عرابة لابني؟! لا ريب في أنه سوف يهزأ بشأني ويزدريني إذا تجاسرت على مثل هذا الطلب.»
فأجابه الرجل بملء السكينة: «لا تدع اليأس يتطرق إلى فؤادك، بل كن واثقًا بأنه سيجيب طلبك، فأسرع يا عزيزي قبل فوات الوقت، وغدًا صباحًا تجدني حاضرًا في حفلة التنصير.»
فقفل القروي راجعًا إلى قريته، وامتطى فرسه وقصد المدينة يبحث عن حانوت التاجر، وعندما اهتدى إليه وترجل عن فرسه قابله التاجر بوجه باشٍّ وسأله عن حاجته، فأجابه والخجل يكاد يعقد لسانه: «اعلم يا سيدي أنه ولد لي في هذا الصباح طفل، وقد جئت أرجوك أن تتفضل بأن تكون ابنتك عرابته.» فسأله التاجر: «ومتى تكون حفلة التنصير؟»
– «غدًا صباحًا.»
– «حسنٌ، سوف تكون ابنتي عندك غدًا، فاذهب مطمئن البال.»
وفي اليوم الثاني حضر الرجل المجهول وحضرت ابنة التاجر، وبعد أن أتم الكاهن تنصير الغلام انصرف الرجل المجهول ولم يَعلم عنه شيئًا بعد ذلك اليوم.
•••
مضت أيام وشهور كبر أثناءها الطفل وترعرع، فأدخله والداه مدرسة القرية، فتعلم فيها كل ما يمكن أن يتعلم، وخرج منها شابًّا متين العضل، قوي البنية، تلوح على وجهه أمارات الجد والإقدام.
جاء عيد الفصح فأشرقت منازل القرية وأكواخها بالأنوار، وخرج القرويون زرافاتٍ ووحدانًا وعلى وجوههم سيماء البِشْر وأمارات السرور، أما طفل الأمس وفتى اليوم فكان يسير وحيدًا منفردًا مبتعدًا عن الضجيج، يفكر في عرابه المحبوب؛ ذلك الرجل الطيب القلب الذي رضي بكل ارتياح أن يكون عرابًا له في الوقت الذي أنف أهل قريته من هذا الأمر، ثم ناجى نفسه قائلًا: «آه لو استطعت مقابلة ذلك الرجل الطيب؛ إذن لكنت أوقف كل حياتي على خدمته واحترامه.»
ما كاد يصل من حديث نفسه إلى هذا الحد حتى التفت إلى يمينه، وإذا به يرى شيخًا يدب على عصاه، تلوح عليه الهيبة والوقار، وكان يدنو منه باسمًا وهو يقول: «تقدم يا بني ولا توْجل، أما كنت منذ هنيهة تحدث نفسك مستفهمًا عن مقر ذلك الرجل الذي رضي أن يكون عرابًا لك في طفولتك؟ فهذه المقادير جمعتك به لتقدم له تحية عيد الفصح.»
وعند ذلك ارتبك الشاب لهذه المباغتة، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه وتقدم إلى الرجل باسمًا وشكره على معروفه السابق، وقدم له تحية العيد بأن قبله ثلاثًا كما هي العادة، ثم خاطبه قائلًا: «كم أكون مسرورًا يا سيدي إذا شرفتني بمعرفة اسمك ومكان إقامتك لأقوم نحوك بما يجب للابن نحو عرابه!»
– «لا سبيل إلى معرفة اسمي؛ إذ لا يهمك ذلك، وأما إذا رغبتَ أن تعلم مكان إقامتي فما عليك إلا أن تذهب غدًا إلى هذه الغابة المجاورة وتمشي فيها، حتى ينتهي بك المسير إلى ساحة صغيرة محاطة بالأشجار الباسقة، فتقف في ذلك المكان قليلًا تتأمل ما حولك، فترى طريقًا ينتهي بك إلى قصر شاهق تحيط به حديقة غنَّاء؛ هذا هو منزلي، وفي فناء هذا القصر تجدني في انتظارك.»
وما وصل الرجل من حديثه إلى هذا الحد حتى رفع الشاب رأسه ليتأمل وجه عرابه جيدًا، وإذا به لا يرى أمامه سوى الحقول الخضراء، وعلى بعد منه يسمع ضجيج أهل القرية في سرورهم وابتهاجهم بالعيد، فقفل راجعًا وهو كمنْ في حلم لا يصدق ما رآه، وأزمع المسير إلى الغابة صباح ذلك اليوم؛ ليتأكد صحة ما سمعه ورآه.
•••
ما كادت الشمس تشرق حتى كان الشاب في طريقه إلى الغابة يعدو في مشيته ونفسه تنزع إلى معرفة سر الرجل، حتى إذا انتهى به المسير إلى الساحة التي وصفها له عرابه وقف يتأمل برهة، فرأى طريقًا غاية في الإبداع تحفُّ به الأشجار على كلا الجانبين، وينتهي بقصر شاهق محاط ببستان جميل يتلألأ في تلك البقعة النضرة تلألؤ الكوكب المنير.
عند فناء هذا القصر البديع قابله عرابه بوجه باسم ومشى به إلى الحديقة أولًا ثم القصر ثانيًا متنقلًا به من جهة لأخرى، يريه مقاصير القصر، ويطلعه على محتوياته، وكان كلما مشى خطوة زاد تعجبه من محتويات القصر وفرشه الثمين، إلى أن انتهى بهما المسير إلى غرفة مقفلة فوقف العراب أمامها وأشار إليها قائلًا: «قد انتهينا الآن من طوافنا، وقد أطلعتك على كل ما في القصر، ولك أن تمرح فيه كيف تشاء وأنَّى شئت، ولكن حذارِ أن تدخل هذه الحجرة.»
وما كاد العراب يفرغ من كلامه هذا حتى اختفى عن الأنظار، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، فقضى الشاب ردحًا من الزمن وقد طابت له السكنى في القصر، فعاش هنيء البال، قرير العين مدة تقرب من الثلاثين عامًا مرت عليه كحول واحد؛ لاغتباطه وسروره.
مرت عليه تلك المدة الطويلة وهو في مقام كريم وعيشة راضية، ثم تسرب إليه الملل شيئًا فشيئًا، فصار يطوف القصر طول يومه يبحث عن شيء جديد يسلي به النفس، وإذا به واقف ذات يوم أمام الغرفة المقفلة، ثم تذكر وصية عرابه فتنازعه عاملان: عامل الفضول، وعامل احترام الوصية.
وأخيرًا تغلب عليه الفضول؛ ففتح الباب، ثم ولج الغرفة، وتقدم فيها بضع خطوات، فرأى نفسه في بهو فسيح يتوسطه عرش كبير، يصعد إليه المرء ببضع سلمات، فتقدم نحوه ورقيه ثم جلس يتأمل ما حوله، فوقع بصره على صولجان بديع الصنع بالقرب منه، فمد إليه يده ليمسكه، وما كاد الصولجان يستقر بين أصابعه حتى سمع ضجة وجلبة، وإذا بأركان الغرفة تهتز، ثم ارتفع جدران البهو، فنظر، وإذا به يرى العالم أجمع منبسطًا أمامه وهو ينظر إليه من عل.
نظر أمامه فرأى البحار والمحيطات تمخر فيها المراكب، وتشق عبابها السفن، ثم التفت يمنة فأبصر عوالم غريبة وأجناسًا مختلفة من البشر يخالفونه في الشكل واللباس، ثم أدار وجهه إلى جهة أخرى فرأى أناسًا يقاربونه في شكلهم ولباسهم يتكلمون بلغة يفهمها، فعلم أنهم روسيون مثله؛ فتهلل وجهه، وحدثته نفسه أن يبحث عن أهله وقريته بين مئات القرى.
وما كاد يهتدي إليها حتى خطر بباله أن يتفقد حقل والده، فصوب نظره نحو الحقل، فرأى أكداس الحصيد منتشرة في طول الحقل وعرضه على أهبة النقل، ثم أبصر رجلًا يتسلل إلى الحقل بعربته، فظن أن والده جاء ليلًا ليحمل الغلال إلى مخازنه، ولكنه لم يكد يتبينه حتى علم أنه (واسيلي كوندارتشوف) جاء متسترًا بأثواب الليل ليسرق بعض القمح، وعند ذلك انتفض الشاب غضبًا وصاح بأعلى صوته: «قم يا أبت؛ فإن اللص يسرق القمح من مزرعتك.» وكان الوالد إذ ذاك نائمًا على بعد من المزرعة، فقام من فوره ينفض عن نفسه غبار النوم ويناجي نفسه قائلًا: «قد نبهني صوت هاتف يقول إن لصًّا يسرق الحنطة من الحقل، فسوف أذهب إلى هناك لأتحقق الأمر بنفسي.» قال ذلك وامتطى فرسه، ثم أسرع للحقل، وهناك رأى اللص (واسيلي) فأمسك بخناقه وساقه إلى السجن.
عند ذلك اطمأن بال الابن وصوب نظره إلى مدينة القرية؛ ليتفقد حال عرابته ابنة التاجر، فعلم أنها تزوجت من رجل تاجر، ثم نظر فرآها نائمة ورأى زوجها قد قام إلى الباب متسللًا، ثم خرج يمشي في طرقات المدينة ليلًا، فأتبعه النظر فرآه قد دخل عند امرأة أخرى علم أنها خليلته ذهب إليها في تلك الساعة من الليل ليخون امرأته، فاستفزه الغضب لهذا الأمر وصاح بعرابته ينبهها قائلًا: «ألا انتبهي أيتها الغافلة؛ فإن زوجك يسلك طريق الغواية.» فقامت المرأة من نومها فزعة وتلمست مكان زوجها فلم تجده، فتحققت صدق قول الهاتف، فلبست ثيابها مسرعة، وذهبت تبحث عنه، إلى أن اهتدت إليه وهو بين أحضان خليلته، فشب بينه وبينها عراك عنيف، ورجعت إلى بيتها مغضبة بعد أن أوسعت زوجها شتمًا وتوبيخًا.
عند ذلك اطمأن بال الشاب، وخطر بباله أن يتفقد حال أمه، فصوب نظره نحو البيت، فأبصر لصًّا يحاول كسر الصندوق الذي اعتادت أمه أن تضع فيه أمتعتها، ووجد أمه نائمة بالغرفة المجاورة، ثم نظر فرآها قد استيقظت على أثر صوت الكسر، ورأى أن اللص قد أمسك بيمينه فأسًا يريد أن يهوِي به على رأس أمه ليقتلها، فلم يتمالك الولد أن هوى بالصولجان على رأس اللص، فوقع لساعته قتيلًا، عند ذلك اهتز أركان العرش وسمع صوت الجدران تنزل ثانية، ثم نظر، وإذا بالغرفة قد عادت كما كانت، وبعد برهة فتح الباب ودخل عرابه متقدمًا نحو العرش، فأخذه بيده وأنزله منه وهو يقول: «هاأنذا أراك قد خالفت أمري، وارتكبت معصية الدخول إلى الغرفة مع تحذيري إياك، ثم أتبعتها بخطيئة أخرى عندما علوت العرش وتداخلت فيما لا يعنيك، وأخيرًا ختمت هاتين المعصيتين بجرم أفظع؛ إذ قتلت نفسًا بشرية، ولو تسنى لك أن تمكث هنا نصف ساعة أخرى لكنت تتلف نصف العالم.»
قال الرجل هذا القول وأمسك بيد الشاب وقاده ثانية إلى العرش وقبض بيده على الصولجان فارتفع الجدران ثانية وانكشف العالم أمامهما مرة أخرى، ثم أشار العراب بيده قائلًا: «انظر ماذا قدمت لوالدك من إساءة كنتَ تظنها مكرمة، ها هو واسيلي اللص قد أمضى سحابة عامه بين جدران السجن مهد الشر والموبقات، فازداد غلظًا وشراسة، وكانت فاتحة شروره بعد خروجه من السجن أن سرق فرسين لوالدك، وها هو الآن يضرم النار في أجران القمح؛ انتقامًا لنفسه من أبيك، كل هذه المصائب أنت السبب في جلبها لأبيك.» فنظر الشاب أمامه فرأى أكوام القمح تحترق، فهلع قلبه اضطرابًا، ولم يتمكن من إدامة النظر؛ لأن العراب التفت إلى جهة أخرى وأشار قائلًا: «انظر، ها هو زوج العرابة مضى عليه عام بعد هجر زوجته ولم يقلع بعد عن شروره وآثامه، أما خليلته فقد زادت انغماسًا في شهواتها، وها هي عرابتك تندب سوء حظها، وتقضي ليلها تعالج همومها بالمسكرات؛ بغية أن تجد الصبر والسلوان، فهل رأيت صنعك لعرابتك؟! والآن انظر لترى ما قدمته يداك لأمك المسكينة.» فنظر، وإذا به يرى والدته في كسر دارها قد أثقلت ظهرها الهموم وهي تقاسي الأمرين من تبكيت الضمير، وتندب حظها قائلة: «ويح نفسي! ما أشقاها! لقد كان الأَوْلى بي أن يقضي عليَّ اللص في تلك الليلة المشئومة من أن يحملني تلك الخطيئة.»
ثم أشار إليه عرابُه أن انظر، فنظر، وإذا به يرى دار السجن وأمامها ثلة من الجنود، فقال له: «أترى هذا الرجل؟ إنه سفك دماء عشرة من الأبرياء، وكان لا محيص له من أن يكفِّر عن سيئاته بنفسه، ولكنك عجلت عليه بالقتل، فحملك جريرة دمه ودم الذين جار عليهم بالقتل، فهل رأيت الآن نتيجة عملك وما جلبته لنفسك بطيشك ونزقك؟! أمامك الآن ثلاثون عامًا تقضيها في هذا العالم تضرب بقدمك في فسيح أرجائه، وتعمل جهدك على تكفير ذنبك، وإذا لم تتمكن من تكفير ذنوبك قبل انقضاء هذه المدة تنال من الجزاء ما كان سيناله هذا اللص.» فسأله الشاب وقد أكمد لونه وارتسمت على وجهه علامات الخوف والجزع: «بربك قل لي كيف أكفر ذنوبي؟»
فأجابه: «ذلك ميسور لك إذا تلافيت من شرور هذا العالم بالقدر الذي جلبته إليه، وبذلك تكفر عن خطئك وخطايا اللص معًا.»
– «وكيف السبيل إلى محو الشر من العالم؟!»
– «أنا مرشدك إلى ذلك، قم الآن وسِر في الأرض نحو المشرق، وبعد مسير بضعة أيام تصل إلى مزرعة فيها بعض رجال فراقب ما يعملون، ثم أخلص لهم النصح بما تعلمته في سفرك، وأتم مسيرك نحو المشرق أيضًا إلى أن ينتهي بك المسير إلى غابة كذا، وفيها تجد كهفًا يسكنه شيخ معتكف، فقُصَّ على هذا الشيخ كل ما تراه وتتعلمه في طريقك إليه، فهو مرشدك إلى ما يكون فيه تكفير ذنبك — إن شاء الله.»
وبعد أن ودَّع الشاب عرابه سار يتبع مشرق الشمس كما أمره وهو يناجي نفسه بهذه الأقوال: «كيف يتسنى لي محو الشر من هذا العالم؟ وكيف يستطيع المرء ذلك دون أن يتحمل خطايا البشر؟ وهل لأدواء الإنسانية وشرورها علاج غير ذلك؟» أخذ يفكر في ذلك طول طريقه علَّه يجد حلًّا لهذه المشكلة، ولكن على غير جدوى، وكان قد وصل إلى مزرعة كبيرة، ورأى القمح فيها ناميًا، وقد طالت سوقه ولم يبق على حصده إلا القليل، ثم لمح على بعد منه عجلًا صغيرًا يعدو في الحقل، وقد طار وراءه بعض الرجال يطاردونه بغية إخراجه من الحقل قبل إتلاف سوق القمح، ثم رأى في الطرف الآخر من المزرعة امرأة تعول وتصيح قائلة: «يا للداهية! إنهم سوف يقتنصون العجل فلا يلبث أن يقع صريعًا بين أرجل جيادهم.» عند ذلك ناداهم ابن العراب بقوله: «ما هذا الحمق؟! تنحوا عن العجل ودعوا المرأة تناديه فلا يكبح جماحه غيرها.»
فأصغى الرجال لقوله وتنحوا عنه واقتربت المرأة من الحقل تنادي عجلها بقولها: «إليَّ يا (براوني)، إليَّ يا عزيزي الصغير.» فوقف العجل قليلًا يرهف أذنيه نحو الصوت، ثم ما لبث أن عدا نحوها وارتمى في أحضانها فرحًا.
فاغتبط الرجال وفرح العجل، وعلى هذه الصورة الجميلة انحل المشكل، ففكر الشاب في نفسه يقول: «حقًّا إن الشر لا يعالَج بمثله، وقد دلني الاختبار أن الناس يزيدون نار الشر اضطرامًا كلما حاولوا إخماده بالجبر والعسف، ها قد أطاع العجل سيدته باللين واللطف، ففكر في ذلك طويلًا دون أن يهتدي إلى حل معقول، وكان قد ترك الحقل متممًا مسيره حتى وصل إلى قرية صغيرة، وما كاد يصل آخر القرية حتى أخذ التعب منه مأخذه، فتلفت يبحث عن مكان يرتاح فيه ليلته، فرأى منزلًا صغيرًا في آخر القرية، فسار إليه وطلب أن يؤذن له بالمبيت تلك الليلة، فاستقبلته صاحبة المنزل بالترحاب وأجلسته بالقرب من الموقدة ليستدفئ، ثم أخذت تتمم ما كانت فيه من تنفيض أثاث المنزل وترتيبه، وكانت قد أتمت كل عملها تقريبًا، ولم يبق عليها إلا تنظيف مائدة الأكل؛ استعدادًا ليوم الأحد، فمسحتها مسحًا جيدًا، ثم أحضرت خرقة قذرة تريد تنشيفها، وما كادت تضع الخرقة على المائدة حتى اتسخت ثانية، فأعادت غسلها ورجعت تنشفها بالخرقة عينها فاتسخت مرة أخرى.
وكان ابن العراب يراقب عملها بكل انتباه، وأخيرًا لم يتمالك من أن يقول لها: «ماذا تصنعين يا سيدتي؟» فأجابته: «ألا تراني أستعد للغد، وقد أتممت كل عمل إلا هذه المائدة، فقد أعياني أمر تنظيفها.» فأجابها: «عبثًا تحاولين يا سيدتي تنظيف المائدة بتلك الخرقة القذرة، إنما يجب تنظيف الخرقة أولًا ثم تمسحين بها وهي نظيفة.» فامتثلت لقوله وتم الأمر كما تشتهي السيدة، فشكرته على نصيحته، وعند الصباح شكر حُسن ضيافتها وسار في قصده حتى انتهى إلى غابة رأى عند مدخلها بضعة رجال يصنعون إطار العجلات، وعندما اقترب منهم رآهم يدورون حول قطعة من الخشب دون أن يتمكنوا من إحنائها، فنظر إلى قطعة الخشب، فرأى أنها غير ثابتة في الكتلة التي يدورون حولها.
فكانوا كلما داروا دار الخشب معهم، فتقدم منهم الشاب وطارحهم السلام، ثم سألهم عما يصنعون، فأجابوه: «ألا ترى أننا نضع إطارًا للعجلات، وكثيرًا ما حاولنا إحناء هذه القطعة، ولكن على غير جدوى.» فأجابهم بقوله: «كان عليكم أن تتأكدوا من ثبات الخشب في الكتلة أولًا، ثم تشرعون في العمل؛ وإلا تدور معكم كما تدورون.» فعملوا بإشارته وتم الأمر على أحسن حال.
وأمضى الشاب ليلته معهم، وعند الصباح قام يضرب بقدميه على الأرض ثانية حتى وصل إلى كلأ من الأرض فيه بعض الرعاة وقد انتشرت مواشيهم ذات اليمين وذات الشمال، فاقترب منهم فرآهم يحرقون بعض الأعشاب؛ بغية إضرام النار، ولكن النار ما كانت لتشتعل حتى كانوا يرمون عليها بعض الأعشاب الندية فتخمد لوقتها، ثم أعادوا العمل بنفس الطريقة فأصابهم من الفشل ما أصابهم في المرة الأولى، فتقدم إليهم الشاب قائلًا: «أراكم أيها الرفاق تستعجلون بوضعكم الأعشاب الندية قبل شبوب النار، وإنما عليكم أن تنتظروا ريثما تشب النار تمامًا فتضيفوا إليها قدر ما تريدون من العشب.»
فعملوا بإشارته وتركوا النار حتى شبت تمامًا ثم أضافوا إليها أعشابًا أخرى فاشتعلت واستخدموها فيما يريدون، ثم أقام الشاب بينهم ريثما استراح، وقام يتمم مسيره ثانية مفكرًا في كل ما صادفه في طريقه وهو يحاول أن يجد له معنًى ولكن لم يهتدِ إلى شيء.
وفي اليوم التالي وصل إلى أجمة أخرى، وفيها أبصر الكهف الذي يسكنه الراهب المعتكف، فضرب عليه الباب، فسمع صوتًا ضعيفًا يقول: «من هذا الواقف على الباب؟»
فأجابه الشاب: «رجل مجرم أثقلته ذنوبه فجاء يكفر عنها.»
ففُتح الباب وخرج منه شيخ عجوز أحنت الأيام قوس ظهره، وسأله عن جلية أمره فأفضى إليه الشاب بكل ما وقع له في بيت عرابه، وأخبره كذلك بما رآه في المزرعة؛ حيث كانت الرجال تطارد العجل، وكيف نصحهم، ثم ختم حديثه قائلًا: «ومن ذلك الوقت علمت أن الشر لا يدفع بالشر، ولكن لم أهتدِ حتى الآن إلى الطريقة المثلى التي يجب اتباعها لدفع الشر، فهل لك يا سيدي أن ترشدني لذلك؟»
فأجابه الراهب: «امضِ في حديثك يا بني وأخبرني بما رأيته أيضًا.»
فعاد الشاب إلى حديثه وحكى له ما رآه في بيت المرأة، وقص عليه أمر الرجال الذين كانوا يصنعون إطار العجلات، ثم أخبره بما وقع له مع الرعاة.
كل ذلك والراهب مطرق برأسه يصغي إليه جيدًا، وعند انتهاء الحديث دخل إلى كهفه، وعاد ثانية وبيده فأس صغير كالذي يستعمله الحطابون، ثم قاده إلى وسط الأجمة وأشار إلى شجرة هناك، ثم قال: «اقتلع هذه الشجرة من أصولها ثم اقطعها بالفاس إلى قطع ثلاث.»
ففعل ابن العراب كما أمره الراهب، وعند انتهاء العمل ذهب الراهب إلى كهفه ورجع إليه بقطعة خشب مشتعلة وأمره أن يحرق بها القطع الثلاث حتى تصير كل منها كالفحمة السوداء، وبعد أن فعل ذلك أيضًا أمره بغرس القطع المحروقة في الأرض حتى النصف.
وعند انتهائه من العمل وضع الراهب يده على كتف الشاب وخاطبه بقوله: «أترى هذا النهر الصغير عند سفح الجبل؟ عليك أن تنقل منه الماء بفمك لسقي هذه الأعواد الثلاث، اسق العود الأول كما علمت المرأة، وأسق الثاني كما أشرت على صانعي العجلات، والثالث كما أشرت على الرعاة، واستمر على سقيها وتعهدها حتى ترى أن هاته الأعواد الثلاث تنمو وتينع وتصبح كل منها شجرة تفاح صغيرة، عند ذلك تكفر عن خطيئتك، وتعلم في الوقت نفسه كيف يمكن اقتلاع بذور الشر من جوانب الإنسان.»
وعندما انتهى الراهب من حديثه قفل راجعًا إلى الكهف وترك الشاب غارقًا في بحار التفكير يضرب أخماسًا لأسداس، ويقلب وجوه الرأي عساه يهتدي إلى معنًى لكل ما رآه، وأخيرًا لم يرَ بدًّا من إطاعة أمر الراهب إطاعة عمياء كما أوصاه عرَّابه، فصار ينقل الماء بفمه ويسقي الأعواد طول يومه حتى أعياه التعب وأخذ منه الجوع كل مأخذ، فسار إلى الكهف ليطلب منه ما يسد به الرمق، ولكنه ما كاد يدخل الكهف حتى رأى الراهب جثة هامدة، فهاله الأمر وأسقط في يده لا يدري ما يصنع.
وأخيرًا تمالك روعه، وأخذ ينقب في أطراف الكهف حتى إذا أصاب شيئًا من الخبز الناشف أكله ونام ليلته بالقرب من جثة الراهب، وعند الصباح قام إلى فأسه وحفر قبرًا للراهب بالقرب من الكهف، وبينما هو في عمله رأى جمعًا من الناس جاءت لتزور الراهب ومعهم بعض الزاد كعادتهم، فأخبرهم بموته، فأسفوا عليه وعاونوه بدفنه في الحفرة التي أعدها له من قبل، ثم ودَّعه الحاضرون بعد أن تركوا ما معهم من الزاد، وقد وعدوه بزيارته من حين لآخر كما كانوا يزورون ساكن الكهف سلفه.
ومن ثم اشتهر أمره بين سكان الجهات المجاورة للغابة بأنه لا ينفك عن نقل الماء بفمه من النهر حتى الكهف؛ رياضة للنفس، وكبحًا لجماح الهوى، فتقاطروا إليه من كل صوب للتبرك به ومعهم كثير من الهدايا الثمينة، فكان يبقي لديه الضروري منها ويوزع الباقي على الفقراء والمساكين، وكان يُمضي نصف يومه في نقل الماء وسقي الأعواد، والنصف الآخر في استقبال زواره العديدين.
مضى عليه حولان لم ينقطع أثناءهما يومًا واحدًا عن نقل الماء وسقي الأعواد، ولكنها كانت على حالها السابق لم تتغير مطلقًا، وبينما كان ذات يوم جالسًا في كهفه سمع وقع حوافر جواد وصوت إنسان يغني، فقام إلى الباب ليستطلع الأمر، وإذا به يرى شابًّا مفتول العضل، عليه سيما الشراسة والشر، فسأله ابن العراب عن نفسه، وعن وجهة قصده، فأجابه الرجل وقد أمسك بزمام فرسه يوقفه: «أنا لص أقطع الطريق على الناس، وكلما قتلت إنسانًا كلما ازددت ابتهاجًا، فأردد على الدوام الأناشيد التي تردد صداها هذه الجبال.»
ففكر ابن العراب في نفسه يقول: «هذا رجل قد جُبِل على الإجرام، وطبع على محض الشر، فكيف السبيل إلى إرشاده؟ إنه من السهل إرشاد أولئك الذين يأتون إليَّ بمحض إرادتهم يعترفون لي بذنوبهم، ويطلبون الصفح والغفران، ولكن كيف الطريق إلى نزع ما كمن في نفس هذا اللص من الشر وهو يفتخر بذنوبه ويتيه عجبًا بما يقترفه من الآثام؟!» ثم فكر ثانية وقال في نفسه: «رباه كيف العمل؟ فقد يأوي هذا اللص إلى جهة قريبة من الكهف فيوقع الرعب في قلوب زائريه، وبذلك تضيع الثمرة، فلا أدري كيف أعيش بعدها.» ثم التفت إلى اللص وخاطبه قائلًا: «اعلم يا هذا أن الناس يحضرون عندي يلتمسون التوبة والغفران باعترافهم عن ذنوبهم، فلا يفتخرون بها مثلك، فأقلع أنت أيضًا عن شرورك وآثامك والتمس التوبة قبل فوات الفرصة إن كنت ممن يخافون الله، وإن لم تك ثمة ندامة في قلبك فلا تقترب هذه الجهة؛ لأن ذلك يوقع الرعب في قلوب الذين يفدون عليَّ، فإن لم ترعوِ فإن الله كفيل بعقابك.»
فأجابه اللص: «أنا لا أخاف الله ولا أصغي لهذيانك؛ إذ ليس لك عليَّ أقل سلطان، أنت تعيش بزهدك، وأنا أعيش باللصوصية، فكلانا يعمل ليعيش، وإذن فالغاية واحدة وإن اختلفت الواسطة، وحري بك أن تدخر ما في نفسك من النصائح للعجائز اللواتي يحضرن مجلسك، أما أنا فلا أُخدع بزخارف الأقوال، ولكن بما أنك ذكَّرتني بعقاب الله فلا يشرق صباح الغد حتى أكون قتلت نفسين ذكرى لهذه النصيحة، وكان بودي أن أقتلك، ولكن لا أريد ذلك الآن، والويل لك إن اعترضت طريقي بعد اليوم.»
ما كاد اللص يتم حديثه ووعيده حتى لوى عنان فرسه وغاب عن الأنظار، ولم يسمع له خبر بعد ذلك، فأقام ابن العراب في كهفه ثمانية أعوام أخرى في هدوء وسلام.
•••
جلس ابن العراب في كهفه ذات مساء بعد أن فرغ من سقي الأعواد كعادته مترقبًا قدوم زائر، ولكن لم يحضر إليه أحد ذلك المساء، فاكتأب لذلك واستولت على نفسه الهموم والأحزان، وأخذ يفكر في معيشته الجديدة في الكهف، ثم تذكر قول اللص، وكيف عاب عليه التعيُّش بالزهد والمسكنة، فأنب نفسه ورجع يوبخ ضميره قائلًا: «ويح نفسي! ما أشقاها! جئت هنا لأكفر عن خطيئتي، وإذا بي أضاعف ذنوبي وآثامي، نعم قد صدق اللص في قوله: «كلانا يعمل ليعيش؛ أنت بزهدك، وأنا بسفك الدماء، وقتل نفوس الأبرياء.» ليست هذه هي المعيشة التي أتمسك بها لأكفر عن سيئات نفسي، ولم تكن هذه الخطة التي أنتهجها كفيلة بغسل آثامي بماء الطهر والتوبة، فقد كان عليَّ أن أكتفي باليسير من الخبز، ولكن مَلَكَ الغرورُ عليَّ نفسي فأصبحت أرتاح لمدح الناس إياي بالزهد والتقوى، وها أنا ذا قد استولى عليَّ الهم؛ لأني لم أجد بين يدي من يتقرب إلي بالمدح والثناء، كلا، كلا! علي أن أفر من وجه الناس وألتمس المعيشة في ركن آخر من هذه الغابة حيث لا يصل إلي أحد منهم.»
وما وصل من حديث نفسه إلى هذا الحد حتى قام من مكانه وعلى وجهه أمارات العزم الصادق، ثم احتمل سلة الخبز، وأمسك محراثه بيمينه ليحفر لنفسه كهفًا آخر في ركن مهجور من الغابة، وفيما هو في طريقه قابله اللص؛ ففزع منه ابن العراب وولَّى الأدبار، إلا أن اللص أسرع فأمسك به وسأله عن قصده، فأجابه أنه يريد اعتزال الناس في ركن من الغابة، فعاد اللص وسأله: «ومن أين لك ما تتبلغ به إذا أنت اعتزلتهم؟»
فقال: «ذلك لا يهمني، بل أعيش بما يقدره لي رب العالمين.»
فسكت اللص ثم أعمل بمهمازه في الجواد واختفى بين أشجار الغابة.
فقال ابن العراب في نفسه: «ما علي لو نصحته مرة ثانية؟! فإنه اليوم ألين عريكة من ذي قبل.» ثم صاح بأعلى صوته: «ما زال أمامك متسع من الوقت للتوبة والندامة فارجع عن غيك يا هذا.» فرجع إليه اللص مشهرًا خنجره يريد قتله، ففرَّ ابن العراب من بين يديه وأخذ يعدو في الغابة بملء فروجه، فوقف اللص عن ملاحقته واكتفى بقوله: «هذه هي المرة الثانية وأنت تقف في وجهي أيها العجوز، فحذارِ؛ فإنك لا تفلت من يدي في المرة الثالثة.»
وفي مساء ذات اليوم عندما ذهب ابن العراب ليسقي الأعواد كعادته كانت إحداها — وهي الأولى — موضع إعجابه واندهاشه؛ لأنه رآها قد اخضر عودها، ودبت الحياة فيها، وافترت عن شجرة تفاح صغيرة، فأشرق جبينه، وعاد إليه الأمل، وقد أيقن أنه سائر في سبيل التكفير عن خطاياه، ونظر ذات يوم إلى السلة التي احتملها من الكهف السابق وإذا بها فارغة ليس بها شيء من الخبز، فتسلل إلى الغابة يبحث عن نبات أو ثمر يعيش عليه، وإذا به يرى سلة أخرى من الخبز معلقة على أحد الأغصان، فأخذها وعاد إلى كهفه وعاش عليها مدة من الزمان لا يعكر صفو حياته إلا وعيد اللص؛ إذ كلما تذكر تهديده ترتجف أعضاؤه فرقًا؛ خوفًا من أن يقضي اللص عليه قبل تكفير ذنوبه، إلا أنه فكر في نفسه ذات يوم فقال: «أنا أجرمت، ومع ذلك أهاب الموت، ألا يمكن أن تكون إرادة المولى أن أكفر عن خطيئتي بالموت؟»
وما وصل من مناجاة نفسه إلى هذا الحد حتى سمع صوت اللص يصخب ويلعن كمن يخاطب شخصًا آخر، فقال في نفسه: «إنما الخير والشر بيد الله.» وقام لوقته يريد مقابلة اللص فرآه ممتطيًا فرسه وقد أردف خلفه رجلًا آخر مكبل اليدين والرجلين يوسعه لكمًا وضربًا ويستنزل عليه اللعنات طول الطريق، فوقف ابن العراب في وجهه وصاح به: «إلى أين أنت ذاهب بهذا الرجل؟»
– «هذا ابن أحد التجار أبى أن يعترف لي أين أموال أبيه، ولكني سوف أذيقه كل صنوف العذاب حتى يقر لي بالمكان.»
ثم أَعملَ المهماز في جواده يريد السير، ولكن ابن العراب كان ممسكًا بالفرس بكل قوته، فلم يدعه يمر وقال له بلهجة الغاضب: «دع هذا الرجل وشأنه.»
عند ذلك استشاط اللص من الغضب، ورفع يده يريد لطمه وهو يقول: «أتريد أن تذوق طعم العذاب الذي أعددته لهذا الرجل؟! تنحَّ عن طريقي وإلا قتلتك شر قتلة.»
ولكن ابن العراب لم يتزعزع من مكانه، بل وقف ثابت الجأش وأجاب اللص بقوله: «لا أدعك تنقل خطوة واحدة دون أن تمر على جثتي وتطأها بسنابك جوادك، فأنا لا أخاف سوى رب العالمين؛ فهو الذي يثبت قدميَّ الآن لأجاهد في سبيل الخير، فلتكن مشيئة الله.»
فأطرق اللص واجمًا! ثم أخرج سكينًا صغيرًا قطع به قيود الشاب، ونظر إلى الرجل وابن العراب وهو يقول: «اغربا الآن عن وجهي، وحذارِ أن تقف في طريقي مرة أخرى أيها العجوز.»
فقفز ابن التاجر وانطلق يعدو في الغابة، أما اللص فكان على وشك أن يعلو جواده ثانية حينما أمسك الراهب بطرف ثوبه وأخذ في نصحه وإرشاده، وكان اللص في هذه المرة مطرقًا لا ينبس ببنت شفة، إلا أنه عاد فهز رأسه ثانية، وركض بجواده نحو الغابة.
وفي اليوم التالي لهذه الحادثة وجد الراهب أن الحياة دبت في العود الثاني ونَمَتْ شجيرة تفاح أخرى بجانب الأولى.
مرت على هذه الحادثة عشرة أعوام وقد جلس ابن العراب ذات يوم في كهفه بطمأنينة وسلام وقلبه يطفح بشرًا وسرورًا، ولا يعكر صفو هنائه خوف أو طمع، وكان يفكر في نعم المولى على عباده، وكيف أن الله — جلَّت قدرته — هيأ لهم كل ما فيه غبطتهم وسعادتهم، وأنهم هم الذين يوردون أنفسهم موارد البؤس والشقاء، ويعملون على تعكير صفو الحياة بأطماعهم وشرورهم، ثم انتقل بفكره إلى الإنسان وما جُبل عليه من شر، وإلى الحياة الاجتماعية وما فيها من أمراض وآلام فقال في نفسه: «عار عليَّ ألا أبرح مكاني هذا، بل عليَّ أن أسعى في الأرض أرشد الناس إلى الطريقة المُثلى لنزع الشر من بين جوانبهم!»
وبينما هو غارق في هذه الهواجس إذا باللص يمر من أمامه، فتركه يمر دون أن يتعرض له، بل قال في نفسه: «إن الكلام مع مثله لا يجدي نفعًا؛ لأنه لا يفقه لما أقول معنى.» ولكنه ما لبث أن غير عزمه وقام مسرعًا خلف اللص فرآه مغبرَّ اللون، مطرق الرأس، خاشع البصر؛ فأشفق عليه ووضع يده على ركبته وخاطبه قائلًا: «كن رحيمًا بنفسك يا أخي، إنك طالما عثت في الأرض فسادًا، وأهلكت نفوسًا بريئة، وكنت شرًّا ووبالًا على الإنسانية، ومع ذلك فإن الله رحيم بعباده، يقبل توبة التائب، ويعفو عن إساءة المسيء، فهلا رجعت عن ضلالك، وأشفقت على البقية الباقية من حياتك؟»
فوجم اللص لا يتكلم ثم عاد يريد السير ثانية وهو يقول: «دعني وشأني.» ولكن ابن العراب لم ييأس، بل طفرت من عينه دمعة سخينة مسحها بطرف ردائه، وأقبل على إرشاده ونصحه، فنظر اللص إليه طويلًا، ثم رمى نفسه عن جواده، وركع أمامه يقول: «ها أنت يا سيدي قد ملكت عليَّ نفسي وظفرت بها أخيرًا بعد أن قاومتك عشرين عامًا، فافعل بي ما تشاء، فإني رهن إشارتك؛ إذ لا طاقة لي بأكثر من ذلك، قد استفزني الغضب عندما وقفتَ في طريقي تريد نصحي وإرشادي في المرة الأولى، ولكن ما كدتَ تعتزل الناس وتزهد في أعطياتهم؛ حتى أخذتُ أقدر أقوالك ونصائحك حق قدرها؛ إذ علمت أنك لم تنصحني لغاية أو فائدة، وإنما قلتَ ما قلتَه لمحض الخير والإحسان، ومنذ ذلك اليوم قدرت جهادك حق قدره، وساقني عامل الإعجاب بك إلى إحضار الخبز إليك في سلة كنت أعلقها على غصن إحدى الأشجار القريبة من كهفك.»
فتذكر ابن العراب عند ذلك تلك الحادثة التي مرت به عندما كان بضيافة المرأة، وكيف أنها لم تتمكن من تنظيف المائدة إلا بعد أن غسلت تلك الخرقة التي كانت تمسح بها، كذلك هو لم يتمكن من تطهير قلب غيره إلا بعد أن طهر ذات نفسه، ثم استطرد اللص حديثه قائلًا: «ولكن حتى ذلك الوقت كنت معجبًا بك فقط، ولم تؤثر نصائحك في نفسي تأثيرها المطلوب إلا بعد ما علِمت أنك لا تهاب الموت.»
فتذكر ابن العراب حينئذ ما رآه من أمر الصناع الذين كانوا يحاولون إحناء القطعة الخشبية، وأنهم لم يتمكنوا من ذلك إلا بعد أن ثبتوا الكتلة في مكانها تمام الثبات، فعلم أن نصائحه لم تؤثر في اللص ذلك التأثير البليغ إلا بعد أن طرح عن نفسه رداء الخوف من الموت، وأشعَرَ قلبه حلاوة الإيمان الصادق، ثم ختم اللص حديثه قائلًا: «ولكن لم يحترق قلبي بنار التوبة والإخلاص إلا حينما رأيتك تشفق علي وتبكي لأجلي!»
عند ذلك أخذ ابن العراب بيده وذهب به حيث الأعواد الثلاثة فرأى أن الحياة قد دبت في الثالثة أيضًا، فأشرق شعاع الأمل بين جوانب نفسه، وعلم أن الله قد تقبل توبته، وغفر خطيئته، وتذكر كيف أن الرعاة لم تتمكن من إحراق الأعشاب وإضرامها إلا بعد أن ذكت النار تمامًا، فعلم أن اللص لم تتم توبته إلا بعد أن ذكت نفس مرشده تمامًا، عند ذلك قضى نحبه قرير العين هنيء البال، بعدما أفضى إلى اللص بكل ما علِمه وتعلَّمه، ثم أوصاه بإرشاد الناس إلى طريق الخير بالقدوة الصالحة والمثل الطيب.